إن أشد ما يثيرني ويؤلمني هو نسيانك أنني شاب، فتطالبني بأكثر مما يطيقه الشباب، حين تقيسني بسنك، وحين تفترض أن لي من التجارب والعلم ما لك، ثم تحاول أن تحصي عيوبي، وتغمرني بالنصائح والأوامر والتوجيهات، آملا أن يكون عقلي مثل عقلك، وتدبيري للأمور مثل تدبيرك، ناسيا أن ابنك ما زال شابا، له من الحيوية والنشاط ما يدفعه دائما لمواجهة الحياة ليستمد منها خبرته وتجاربه، وناسيا أن للشباب الحق أن يسير في طريق مخالف للطريق الذي سار فيه آباؤهم من قبل، وأن يجربوا حياة غير الحياة التي خاضها آباؤهم في شبابهم.
لقد قرأت مرة قولا للطفي باشا السيد: «دعوا الشباب ينعم بحريته، دعوه يجرب فتفيده تجاربه، ويخطئ فيعرف أسباب خطئه، أما النصح والإرشاد فهو كثير في الكتب السماوية.»
حقا، إن أهم ما يحتاج إليه الشباب المصري هو أن يترك ليجرب الحياة بنفسه، إنه سيخطئ بلا شك، ولكن هذا الخطأ لن يكون شيئا إذا ما قيس بتلك المصائب الناتجة من فقد الشباب لحريته، وانحلال شخصيته، وفقده الثقة بالنفس.
ليترك الآباء أبناءهم يجربون ويخطئون، فهذا مما يقوي شخصيتهم، ويزيدهم ثقة بأنفسهم، ويجعلهم جديرين بتحمل المسئولية الملقاة على أعناقهم.
إن هذا الضعف في الشخصية، والهرب من تحمل المسئولية، نجده في الطالب الذي يقوم والداه بجميع أعبائه، ويحرمانه من كل تجربة. ونجده في الطالب الذي يقوم أساتذته بتحضير محاضراته وإملائها لها، ويحرمونه من البحث والدراسة، فيصبح هم الجميع أن ينال الطالب شهادته، ويصبح موظفا في الحكومة، ولا يهم مطلقا ما يصاب به من ضعف في الشخصية، وانحلال في الخلق، وغيرهما من الأخلاق التي تنتقل مع الشباب من المدارس والجامعات إلى دور أعمالهم، فيفقدون كل ثقة بأنفسهم، ويهربون من كل مسئولية تلقى على عاتقهم، في الوقت الذي يتعلم فيه الشاب الأوروبي والأمريكي كيف يعتمد على نفسه في البحث والدراسة، وفي مواجهة الحياة العملية ليستمد منها خلاصة تجاربه ومعلوماته.
أبي!
ليس أسهل على الآباء من توجيه النصائح، وإحصاء الأخطاء على أبنائهم، ولكن الحديث في الأخطاء وتوجيه النصائح لا يمكن أن يؤدي إلى تغيير مجد، أو إلى تحسين ظاهر، بل وربما أدى إلى عكس ذلك؛ لأن النفس من طبيعتها تكره النصائح والتوجيه؛ إنما المجدي حقا أن يعلم الآباء كيف تكونت أخطاء أبنائهم، وما هي الظروف التي اضطرتهم إلى أن يخطئوا، ثم يبدأوا في إزاحة هذه الظروف عن طريق الأبناء، وتوفير ظروف أخرى صالحة. وليس هذا بالشيء الهين، ولا بالأمر اليسير، وإنما يحتاج إلى صبر طويل، وتضحيات عديدة من الآباء، حتى يهيئوا جوا ملائما للتربية الصحيحة.
أبي!
لقد دلتنا المشاهدات على أن مسئولية التربية تقع معظمها على عاتق الآباء، فهم أكثر الناس قدرة على إخراج أبناء صالحين، وهم أكثر الناس قدرة على توفير الجو الصالح لتكوين أسرة سعيدة صالحة، فإن عجزوا عن عمل هذا فالذنب ليس ذنب الأبناء، ولا داعي مطلقا لزجرهم وتأنيبهم ونقدهم نقدا جارحا، ولا داعي مطلقا لاستعمال ألفاظ الضجر والشكوى، وإنما الذنب يقع على الآباء الذين فشلوا في تهيئة الظروف الملائمة لإخراج شباب صالح.
إن إخراج الأطفال إلى العالم أمر خطير، يتطلب قوة على تحمل المسئولية، وبعدا عن الأنانية، وعلما بقواعد التربية الصحيحة، وخلقا متينا، وتضحية عظيمة.
Page inconnue