شعرت بذهول ودارت بي الأرض، فاستندت على المكتب فقال لي: اقعدي من فضلك، واضح إنك زعلتي، بس ما تخافيش إنتي لسه صغيرة وتقدروا تخلفوا تاني. - إحنا اتطلقنا. - أنا آسف، في البداية كنت فاكر إن جوزك ضربك وكان السبب في نزول الجنين، وبعد إنقاذك كنت مصمم أعمل له محضر، بس أخوكي رفض وقال مش عايزين فضايح، ولما قريت مذكراتك عرفت إن السبب خيانته، بس كنت فاكر إنك عارفة بالحمل وكنتي عايزاها مفاجأة.
سكت للحظات ثم قلت: أنا هامشي. - بس إنتي شكلك تعبان، ممكن أكلم أخوكي يجي ياخدك، أو استنيني ساعة أخلص شغلي وأوصلك. - لا شكرا، أنا هاخد تاكسي. - طيب دا رقمي هنا وفي العيادة ورقم موبايلي، من فضلك أول ما توصلي طمنيني عليكي، ولو تعبتي أي وقت كلميني. - حاضر عن إذنك.
خرجت وأنا أتعجب من ترتيب القدر، فلو كنت عرفت بحملي لكنت بقيت من أجل طفلي مع عصام، لكني فقدت الطفل حتى لا أظل مرتبطة به لأي سبب. عدت للبيت وأنا أشعر بالصداع الرهيب فاتصلت بنادر وطمأنته، فطلب مني أن ألتزم بالراحة وأن أستشير طبيب نفسي وأشار علي ببعض الأكفاء منهم، فوعدته أن أذهب. كنت أمضي أيامي التالية بين النوم والقراءة ولا أرغب في عمل أي شيء، فأصرت أمي على زيارتي للطبيب النفسي، واستجبت لها. بعد عدة جلسات مع الطبيب النفسي تحسنت حالتي واستعدت رغبتي في الحياة، حتى إخوتي من أبي بدأت أتواصل معهم رغم جفائهم في معاملتي، لكني لم أهتم، إنما كنت أهتم بسعادة أبي بذلك التواصل. أصر الطبيب النفسي على عودتي للعمل لتأثير ذلك الإيجابي على نفسيتي، لكنه طلب مني الاستعانة بطبيب متخصص لمعرفة سبب الصداع المستمر الملازم لي.
اتصلت بدكتور نادر وأخبرته بطلب الطبيب فقال: عدي علي بكرة في المستشفى ونشوف رأي الدكاترة الكبار إيه.
في اليوم التالي بينما أستعد لعمل الفحص تلقينا فاجعة موت أبي المفاجئ، كان الخبر صدمة بالنسبة لي، فما إن تحسنت العلاقات بيننا يتدخل القدر ليحرمني من أبي، وكأنني كلما أخذت خطوة في طريق السعادة، تبتعد عني هي بعشر خطوات. شعرت أني طفلة صغيرة تاهت عن والدها، وبمجرد أن وجدته خطفه القدر من بين يديها، فبكيت يتما كتب علي عمري كله، ومشاعر أفتقدها ولن أجدها، بكيت أبا لم يكن موجودا في حياتي سوى بالاسم وعندما عاد لي كاملا فقدته مجددا. كنت أتخبط في مشاعري تائهة حتى ضمتني أمي لصدرها وقالت: الله يرحمه، ادعيله ربنا يغفر له. - إنتي اللي بتقولي كده؟ - يا بنتي كلنا بشر لنا ميزاتنا وعيوبنا، وزي ما شفت مع أبوكي الوحش شفت معاه الحلو، وولاد الأصول اللي ساعة الفراق بينسوا كل الوحش وما يفتكروش غير العمل الطيب. - الله يرحمه ويغفر له.
شعرت ببعض التعزية لأني حاولت إسعاده قبل وفاته بمسامحته والتواصل مع إخوتي وأهله الذين أوصانا على وصلهم دائما.
اتصل بي نادر كثيرا ولكني لم أجبه، فظن أن مكروها أصابني فاتصل بسليم، فلما عرف بوفاة والدي حضر العزاء، وبعد عدة أيام اتصل بي؛ ليجدد موعدي للفحص الطبي. ذهبت في اليوم التالي وأجريت عدة تحاليل وأشعة، وبعد يومين قال لي: أنا عايزك تيجيلي بكرة المستشفى. - ليه! نتيجة التحاليل فيها إيه؟ - الغريب إن مافيهاش حاجة، فعايزين نعمل أشعة مقطعية على المخ. - ليه؟ - ممكن الوقعة اللي وقعتيها سببت كدمة وهي اللي عاملة الصداع دا. - بس أنا بكرة كنت رايحة أعمل مقابلة شغل جديد. - هتخلصي إمتى؟ - تقريبا الساعة 3. - هاستناكي بس متتأخريش. - طيب ما أنا ممكن أعملها في أي مركز بره وأبقى أجيبهالك. - زي ما تحبي، واضح إن متابعتي لكي مضايقاكي. - لا أبدا، أنا بس مش عايزة أعطلك. - لا متخافيش، مافيش أي تعطيل، أنا بكرة ماعنديش حاجة بعد المستشفى. - متشكرة يا دكتور.
تساءلت، هل هذا اهتمام عادي من طبيب بحالة يتابعها، أم إنه اهتمام خاص بشخصي؟ لا بد ألا أقع فريسة الأوهام؛ فهو مجرد طبيب مجتهد يتابع مريضة، كما أن طريقة تعامله وكلامه كلها لا تدل على غير ذلك. ذهبت لإجراء المقابلة، والحمد لله تم قبولي في العمل، فذهبت مسرعة للمستشفى والتقيت بنادر الذي اصطحبني لإجراء الأشعة، وبعدها سألني عن المقابلة فأخبرته بقبولي فهنأني ببروده المعتاد، فودعته وانصرفت.
وتتوالى الأحزان
في الصباح وجدت على هاتفي رسالة من نادر مختصرة وجافة: «لما تصحي كلميني.» فقمت وتوضأت وصليت وتناولت إفطاري، ثم اتصلت به فقال: عايز أتكلم معاكي لوحدنا، ينفع نتقابل فين؟ - ليه إيه السبب؟ - مش هينفع في التليفون. - وأنا ما أقدرش أقابلك غير في المستشفى، أنا مطلقة، وكل تحركاتي محسوبة علي من الناس. - خلاص تمام، هاستناكي في المستشفى.
Page inconnue