لقد قررت يا أبي أن أتخلص من حياتي ومن عذابي؛ فلم تعد لدي القدرة على تحمل المزيد من جراح الروح التي لا تلتئم، ولا آلام القلب التي لا تنتهي، لقد تعبت وسئمت تلك الحياة، فهي مناسبة للقساة المخادعين، ولا تلائم الصادقين والمخلصين في الحب أمثالي، سأغادر حياتكم لعلي أجد الراحة في الحياة الأخرى، وأنا أرجو من الله أن يغفر لي، فهو وحده يعلم كم قاسيت وكم قتلتني طعنات الغدر وبعثرت أشلائي، فوداعا يا أبي يا أغلى من أحببت.
من كانت يوما ابنتك ومدللتك وحبيبتك.
نهلة.
تركت نهلة دفتر أوراقها الذي أحضره لها سليم بجوارها ومدت يدها أسفل الوسادة والتقطت المشرط وأمسكته بيدها للحظات، فشعرت بالخوف وفكرت في التراجع لكنها تذكرت مشهد أمها وانهيارها بعد زواج أبيها، وتذكرت مشهد خيانة زوجها، من وثقت به فخان عهدها وذبحها ولم يهتم بآلامها، فقررت المضي فيما اعتزمت عليه ووضعت المشرط فوق شريان يدها واغمضت عينيها وشعرت بالآلام والدم اللزج ينساب من شريانها، فأغمضت عينيها وظلت تهمس: سامحني يا رب، أنت وحدك عالم أنا تعبت أد إيه، عارفة إن اللي باعمله دا غلط، لكني طمعانة في كرمك ورحمتك، سامحني يا رب.
ظلت ترددها حتى غابت عن الوعي.
الجزء الثاني
يا لها من شخصية غريبة تحمل بداخلها عوامل الضعف والقوة في آن واحد! كنت في البداية أراها إحدى النساء المدللات اللاتي يصبن بالصدمة من مجرد مشكلة بسيطة في حياتهن، لكن عندما قرأت ما كتبته في دفترها بعد أن أنقذت حياتها، أدركت حينها أنها تمر بأزمة فقدان ثقة بنفسها وبكل من حولها، قررت التخلص من حياتها في لحظة ضعف. تعاطفت معها، ولكن جزءا مني ناقم عليها؛ فلقد تقابلت مع شخصيات تعرضت لآلام أكثر بكثير منها وتحملت ولم يفكروا في الانتحار. أنا مثلا طبيب ممارس عام لكن ظروفي كانت تدفعني بقوة لأكون منحرفا أو مدمنا للمخدرات، لكني سعيت بقوة لتحقيق حلمي لأكون طبيبا وأتخصص في علاج الأورام لأنقذ المرضى، فأمي ماتت بالسرطان وحرمت من حبها وأنا طفل في الثامنة وتزوج أبي بامرأة لم تتحمل وجودي، فتركني لجدتي لأمي لتعتني بي، وفي الحقيقة كنت أنا من اعتنى بها، فهي كبيرة في السن وهدها المرض والحزن على وفاة أمي. كنت أرى أبي كل أول شهر عندما يأتي ليترك لنا بضعة قروش كمصروف لي ولنفقاتي، وكنت أعاني من الذل عندما أطلب منه مبلغا إضافيا بسبب الدروس. كنت في أعماق نفسي أكرهه لتخليه عني ولتقتيره علي؛ لذا قررت أن أعمل وأنا لم أتجاوز العشر سنوات عند أصحاب المحلات المجاورة حتى يتوفر لدي مال فلا أتذلل لأبي، ورغم ظروفي تلك من عمل وعناية بجدتي - الحضن الوحيد الذي يضمني بحب وحنان ليمسح عني آثار قسوة الزمن - فقد كنت من المتفوقين دراسيا، فكان أمامي هدف واحد هو كلية الطب ولن أحيد عنه؛ لذلك لم أسقط في براثن غوايات مرحلة المراهقة وأصدقاء السوء حتى لا أضل عن طريقي الذي حددته. حصلت في الثانوية على مجموع يؤهلني لدخول كلية الطب، وعندها ماتت جدتي وفقدت الحضن الدافئ الذي طالما احتواني وخفف عني همومي، وكأنها سلمت أمانتها بمجرد اطمئنانها أني خطوت أول خطوة في طريق الحلم. كانت نفقات الكلية باهظة وتكفل أبي بنصفها فقط، فكان علي أن أعمل لأسدد باقي النفقات، فعملت في الصيدلية التي كان صاحبها صديقا لخالي المهاجر لأستراليا، وكثيرا ما ساعدته جدتي وأمي لاستكمال دراسته، فأراد أن يرد الجميل بعملي معه في الوقت الذي تسمح به ظروف دراستي، كما كان يمدني بالكتب والمراجع من أصدقائه الأطباء، وحينما حاولت الرفض قال: دا دين في رقبتي باسدده، كان خالك مصطفى بيخليني أذاكر معاه في كتبه، وأمك الله يرحمها كانت بتصور لي الأجزاء المهمة على حسابها، وجدتك كانت بتديني مصروف في السر من ورا الكل؛ لأن معاش والدي الله يرحمه كان يدوب مكفينا أكل وبس، وكان حلم أمي أبقى دكتور، فساعدوني أبقى دكتور صيدلي، أنا مهما عملت ما أردش جميلهم يا نادر.
وقبل تخرجي بعامين توفي والدي وانقطع عني حتى القليل الذي كان يمنحه لي، وقالت لي زوجته إنها لا تريد أن تراني أو أن يكون لي صلة بها أو بأولادها، وأن أبي تركهم مدينين، وممتلكاته ستخصص لتسديد الديون.
ضاقت بي الدنيا، وفكرت في الانتحار مثل نهلة، لكني فوجئت بخالي مصطفى يتصل بي - بعد أن عرف ما جرى لي من صديقه - ووعدني أن يتكفل بكل نفقات دراستي حتى التخرج، عندها سجدت لله شكرا، وأدركت أنه لن يتخلى عني. بذلت كل جهدي حتى تخرجت، وبجوار عملي الحكومي فأنا أعمل في مستشفى خاص ملك لأحد أساتذتي المقدر لنجاحي وتفوقي. لو كل إنسان ضعف أمام الابتلاءات القوية لما بقي أحد على قيد الحياة.
المواجهة
Page inconnue