فهذا بابٌ آخرُ عظيم يَحتاج إِلى فِراسةِ عظيمة، وفِطنةٍ وافرة، وقريحةٍ باهرة، ودُربةٍ مساعدة، وإِعانةٍ من الله تعالى عاضدة، فهذا كلُّه محتاجٌ إِليه بعد تحصيلِ الفتاوى، فقد يكون الأقضى أقلَّ فُتيا حينئذٍ، فلا تناقُض بين قولهِ ﷺ: "أقضاكم علي"، وبين قولهِ ﷺ: "أعلمُكُم بالحلال والحرام مُعاذُ بن جبل".
وظهَرَ حينئذٍ أنَّ القضاءَ يَعْتمِدُ الحِجاج، والفُتيا تَعتمدُ الأدلَّة، وأنَّ تصرُّفَ الِإمامةِ الزائدَ على هذين يَعتمدُ المصلحةَ الراجحة أو الخالصةَ في حقّ الأُمَّة، وهي غيرُ الحُجَّة والأدلَّة.
وظَهر أنَّ الِإمامة جُزؤها القضاءُ والفُتيا. ولهذا اشتُرِطَ فيها من الشروط ما لم يُشترط في القُضاة والمفتين، من كونِه قُرَشيًا، عارفًا بتدبير المصالح وسياسة الخلق، إِلى غيرِ ذلك مما نَصَّ عليه العلماء في الإِمامة شَرْطًا وكمالًا. ولذلك قال ﷺ: "الأئمَّةُ من قريش" (١). ولم يقل: القضاةُ من قريش. وما ذلك إِلاَّ لعمومِ السلطان واستيلاء التصرُّفات والاستقلالات. وذلك لِعظَمِ أمرِها وجلالةِ خطرها.
وهو دأبُ صاحبِ الشرع، متى عَظُمَ أمرٌ كثَّرَ شَروطَه، ألا ترى أنَّ