الفصل العاشر
ماتت 3 مرات
لماذا دفناه يا جلجل؟ رجعت أنا للبيت، هنا، وقلت: يا ربي، أنا مت ثلاث مرات، خذني وارحمني. لكن الله لم يرحمها.
كانت أم مصطفى في الخامسة والسبعين، ضامرة، عجفاء، ولم يبق لها في الدنيا غير الذكريات، وكان مسكنها غرفة مظلمة في بدروم، ولم يكن يؤنسها غير القط «جلجل» الذي كان يعيد إليها هذه الذكريات.
ولم يعد لها من سبيل إلى البقاء سوى تلك الكسرات من الخبز التي يتصدق بها عليها السكان المجاورون، وكانوا أحيانا يهملون، فتبيت على الطوى هي وجلجل، ولم يكن لها أسنان؛ ولذلك كانت تبل الكسرات بالماء، وتهرسها بأصابعها، ثم تبلعها بعد مضغ مزيف، وكانت تمضغ اللقمة بعد اللقمة، وتعطيها لجلجل؛ لأنها وجدت أنه لا يستمرئ الخبز المبلل فقط بالماء.
وكان جلجل يثير هواجسها وأشجانها، وكانت تخاطبه، وتتحدث إليه، وتناقشه، كما لو كان قريبا أو صديقا؛ فقد حرمت الأصدقاء والأقرباء، وكانت الغرفة تطبق عليها بظلامها وصمتها.
وكانت تستريح إلى الحديث معه؛ لأن شهوة البوح وبث النجوى كانا يخففان عنها؛ فكانت أحيانا تضحك وأحيانا تبكي، وفي كلتا الحالتين راحة، وكانت تقول: - إنت يا جلجل نسيت راجي؛ راجي ابن مصطفى، عيب عليك، والله عيب!
ومصطفى هذا كان ابنها، وكان يسمى مصطفى القهوجي، وكان له مقهى صغير يبيع فيه فنجان القهوة بربع قرش ، وكان ربحه الصافي من هذا المقهى لا يزيد على عشرة قروش في اليوم.
وكان هذا المبلغ يملأ المنزل بالخبز والفول المدمس والفجل والجرجير، وهذا إلى أيام كانت كالأعياد؛ حين كان يشتري سقط الخروف أو أكارع العجل، وعندئذ تفوح روائح الطبيخ الدسم في الغرفة، ويأتي مصطفى فيأكل مع زوجته فاطمة الفتة الساخنة مع بعض اللحم المريء.
وكانت أم مصطفى تزعم أنها لا تستطيع أن تمضغ اللحم، وكانت بالطبع تكذب، ولكنها كانت تفرح عندما كانت تعرف أن ابنها مصطفى قد أكل وشبع، وأن راجي، ابنه الصغير الذي لم يكمل السنتين، قد أكل أيضا وشبع قبل أن ينام.
Page inconnue