فأخرج إليه الحلبية والنقابين والحجارين وجماعة من عظماء دولته وأمراء مملكته وأمرهم بهدمه ووكّلهم بخرابه فخيّموا عندها وحشروا عليها الرجال والصنَّاع ووفروا عليهم النفقات، وأقاموا نحو ثمانية أشهر بخيلهم ورجلهم يهدمون كل يوم بعد بذل الجهد واستفراغ الوسع الحجر والحجرين، فقوم من فوق يدفعونه بالأسافين والأمخال، وقوم من أسفل يجذبونه بالقلوس والأشطان، فإذا سقط سُمع
له جلبة عظيمة من مسافة بعيدة حتى ترتجف له الجبال وتزلزل الأرض ويغوص في الرمل فيتعبون تعبا آخر حتى يخرجوه ثم يضربون فيه الأسافين، بعد ما ينقبون لها موضعا ويبيتونها فيه، فيتقطع قطعا فتسحب كل قطعة على العجل حتى تُلقى في ذيل الجبل وهي مسافة قريبة، فلما طال ثواؤهم ونفذت نفقاتهم وتضاعف نصبهم ووهنت عظامهم وخارت قواهم، كفّوا محسورين مذمومين لم ينالوا بغية ولا بلغوا غاية، بل كانت غايتهم أن شوهوا الهرم وأبانوا عن عجز وفشل،
وكان ذلك في سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة، ومع ذلك فإنّ الرائي لحجارة الهدم يظن أنَّ الهرم قد استؤصل، فإذا عاين الهرم ظن أنه لم يهدم منه شيء وإنما جانب قد كشط بعضه، وحينما شاهدتُ المشقّة التي يجدونها في هدم كل حجر، سألت مقدّم الحجارين، فقلت له: لو بُذل لكم ألف دينار على أن تردّوا حجرًا واحدًا إلى مكانه وهندامه، هل كان يمكنكم ذلك، فأقسم بالله تعالى أنهم ليعجزون عن ذلك ولو بذل لهم أضعافه.
وبإزاء الأهرام من الضفة الشرقية مغاير كثيرة العدد كبيرة المقدار عميقة الأغوار متداخلة، وفيها ما هو ذو طبقات ثلاث وتسمّى المدينة، حتى لعلّ الفارس يدخلها برمحه ويتخللها يوما أجمع ولا ينهيها لكثرتها وسعتها وبُعدها، ويظهر من حالها أنّها مقاطع حجارة الأهرام، وأما مقاطع حجارة الصوان الأحمر فيقال أنها بالقلزم وبأسوان، وعند هذه الأهرام آثار أبنية جبارة ومغاير كثيرة متقنة وقلما ترى من ذلك شيئا إلّا وترى عليه كتابات بهذا القلم المجهول.
وعند هذه الأهرام بأكثر من غلوة صورة رأس وعنق بارزة من الأرض في غاية العِظَم، يسمّيه الناس أبا الهول، ويزعمون أن جثّته مدفونة تحت الأرض، ويقتضي المقياس أن تكون جثّته بالنسبة إلى رأسه سبعين ذراعًا، وفي وجههِ حمرةٌ ودهانٌ أحمر يلمع، عليه رونق الطراءة
1 / 26