الإدارة الإسلامية
إدارة الرسول
إدارة الخلفاء الراشدين
إدارة الأمويين
إدارة العباسيين
الإدارة الإسلامية
إدارة الرسول
إدارة الخلفاء الراشدين
إدارة الأمويين
إدارة العباسيين
الإدارة الإسلامية في عز العرب
الإدارة الإسلامية في عز العرب
تأليف
محمد كرد علي
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه محاضرات ثمان في الإدارة الإسلامية على عهد عز العرب، حاضرت بها في قاعة الجمعية الجغرافية الملكية، تحت إشراف كلية الآداب من فروع الجامعة المصرية: جمهورا من الطبقة المستنيرة في القاهرة، في شهر رمضان سنة (1352ه / 1933م). وكان ممن حضر هذه المسامرات من أولها إلى آخرها صاحبة العصمة السيدة المهذبة قوت القلوب هانم الدمرداشية، من ربات البيوتات المصرية الشريفة، وسليلة البيت الكريم بيت أبي عبد الله المحمدي الشهير، فراقها أسلوبها في البحث. وبالاتفاق مع عميد كلية الآداب العلامة الدكتور منصور فهمي بك رأت طبع هذه المحاضرات على نفقتها لتعم فائدتها العالم الإسلامي. فكان عمل هذه العقيلة النبيلة برهانا آخر على نهضة المرأة المصرية المسلمة، وحرصها على مساهمة الرجال في الأخذ بمذاهب الثقافة العربية، فأضافت مكرمة أخرى إلى مكارم أهلها. جزاها الله عن عملها الصالح أفضل الجزاء.
محمد كرد علي
القاهرة، في 21 شوال، سنة 1352، و6 فبراير سنة1934م
الإدارة الإسلامية
نظر في الموضوع
كثيرا ما حاول بعض الباحثين في شئون الإسلام على عهده الأول أن يصوروا العرب في غير صورتهم ذهابا مع أهواء النفوس، وأن يستنتجوا استنتاجات ناقصة في أحكامهم على الرسول عليه الصلاة والسلام، ويغضوا من بعض أصحابه، وينحوا إنحاء شديدا على المدنية الإسلامية، زاعمين أن العرب حتى في الإسلام لم يعملوا عملا يذكر في باب التمدين، وأنهم مقلدون في جميع أعمالهم ما زادوا على ما تعلموه من الروم والفرس من أساليب الحضارة. ولو صح ما قالوا لكانت قوانين فارس والروم صالحة للبقاء وافية بالغرض، ولما استطاع العرب أن ينزعوا سلطان تينك الأمتين العظميتين عن أجمل أصقاع الأرض، ويحكموها وينظموها على مثال مبتكر لم تكد تشهد البلاد مثله.
وسنثبت في سلسلة هذه المحاضرات في الإدارة الإسلامية على عهد التفوق أن الإسلام ابتكر وأبدع في الحرب والإدارة والسياسة كما اخترع وأبدع في العلم والتشريع وأسباب المدنية على نحو ما يتجلى في صفحات التاريخ الإسلامي، ونأتي بالبراهين التي لا يسع منصفا عارفا إنكارها، ونكتفي الآن بأن نقول: إن من أهم المعجزات المحمدية بعد القرآن هذه الطبقة العالية من الصحابة الكرام الذين خرجوا من تلك البوتقة الطاهرة ذهبا إبريزا، وكانوا من أجمل أدوات الإبداع فأبانوا في كل مواقفهم عن عقول مثقفة، ونفوس شريفة، وبعد نظر في إدارة الشعوب والممالك.
ولقد قضى هذا الضعيف الواقف بينكم زمنا طويلا يتأمل ما كتب في تراجم الصحابة، وتاريخ أعمالهم وتعليلها وحلها فما رأى - علم الله - بعد طول النظر واستعمال العقل النقاد إلا ما يعجب منه. وإذا كانت هناك بعض هنات قليلة نسبت لبعضهم فإنها ناشئة من خطأ في الاجتهاد. ومن الميسور أن يجاب عنها لأن الصحابة كانوا بشرا أيضا، وحب الدنيا قد لا يخلو منه أمثل الناس أخلاقا. بيد أن التربية التي ورثها الصحابة من الشارع الأعظم قد هيأتهم لممارسة الأعمال العظيمة، لما أخرجهم بهديه من الظلمات إلى النور، فكانوا عظاما في كل مظاهرهم حتى أدهشوا الأمم بجميل صنعهم، وأنشأوا في نحو مائة سنة مملكة عظيمة لم يسبق لأمة قبلهم أن دانتهم في مثل ما تم على أيديهم.
أوكان يقوم كل هذا لولا أن الصحابة كانوا على استعداد فطري تام لتلقي فضائل صاحب هذا الوحي العظيم؛ فساروا بسيرته، وعملوا بشريعته في كل أرض وطئتها أقدامهم وارتفعت على ربوعها أعلامهم؟ إن ما نقله العرب عن غيرهم من تراتيب المماليك معروف ومعترف به، والإنصاف يقضي أن يسجل لهم قسطهم من الأعمال المنبعثة مباشرة من قرائحهم المزينة بأخلاق عالية ما عهد فيما نظن مثلها كثيرا في الأمم السالفة ولا الخالفة.
وها هنا نحن أولاء نبدأ الليلة في الكلام على الإدارة في عهد الرسول، وعمدتنا فيما نقتبس كتب الثقات والأمهات المعتبرة، وخطتنا أن نتحامى الاستنتاج بالمقياس الواسع إذا كانت الوثائق التي لدينا غير كافية. ومن الصعب على من يتوخى العدل أن يحكم على الشبهة ويجسم الصغير ، وإذا فعل يكون الحق في واد وهو في واد آخر، وهذا مما لا يليق بباحث غرضه الوصول إلى النور، وإيصاله إلى من يهمهم أن يستصبحوا به في موضوعات يشق على كل إنسان خوض عبابها.
إدارة الرسول
دعا الرسول إلى الإسلام لأول مبعثه ثلاث سنين سرا، ولما اضطهد المشركون من قريش أصحابه أرادهم على التفرق في البلاد، وأشار إليهم بالهجرة مع نسائهم إلى أرض الحبشة؛ علما منه بأن صاحبها يحسن جوارهم ولا يظلمهم ويعنتهم، ثم دعا المسلمين إلى المهاجرة الثانية فرارا بدينهم من أذى قريش الذين اشتدوا عليهم، ومن جملة هذا الأذى أنهم كانوا يلبسون المستضعفين من المؤمنين برسالة الرسول أدراع الحديد، ثم يصهرونهم في الشمس، فبلغ منهم الجهد ما شاء الله أن يبلغ من حر الحديد والشمس. وكانوا يلصقون ظهر بعضهم بالرضف
1
حتى ذهب لحم متنه. وعن ابن عباس: «والله إن كان المشركون ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه، حتى ما يقدر على أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، وحتى يقولوا له: آللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم.» فكان الأمر بالهجرة أولا وثانيا أول تدبير إداري من الرسول، أنقذ به أصحابه من عنت المشركين، ريثما تستحكم قواه فيعود على أعدائه يعرفهم أقدارهم، ويناقشهم أوزارهم.
وصححوا حديث: «لا هجرة بعد الفتح.» وقالوا: إن الهجرة
2
كانت واجبة في أول الإسلام على ما دل عليها الحديث، ثم صارت مندوبا إليها غير مفروضة، وذلك قوله تعالى:
ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما
3
كثيرا وسعة
نزلت حين اشتد أذى المشركين على المسلمين عند انتقال رسول الله إلى المدينة، وأمروا بالانتقال إلى حضرته ليكونوا معه، فيتعاونوا ويتظاهروا إن حزبهم أمر، وليتعلموا من أمر دينهم ويتفقهوا فيه، وكان أعظم الخوف في ذلك الزمان من قريش وهم أهل مكة، وكان جميع من لحق بأرض الحبشة من المسلمين سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغارا أو ولدوا بها نيفا وثمانين رجلا وثمان عشرة امرأة . وقال الرسول: «أنا بريء من كل مسلم مع مشرك.» قيل: لم يا رسول الله؟ قال: «لا تراءى ناراهما.»، أي: يلزم المسلم ويجب عليه أن يباعد منزله عن منزل المشرك، ولا ينزل بالموضع الذي أوقدت فيه ناره تلوح وتظهر لنار المشرك إذا أوقدها في منزله، ولكن ينزل مع المسلمين في دارهم. وإنما كره مجاورة المشركين لأنهم لا عهد لهم ولا أمان، وحث المسلمين على الهجرة.
ولما ظهر الإسلام على الشرك طفق الرسول يدعو إلى دينه جهرة، وأخذ يرسل أمثل من دخلوا في الإسلام من الرجال لتلقين العرب الدين وأخذ الصدقات منهم. وإذا وفد عليه وافد يعهد إليه أن يعلم قومه دينهم و«إمام كل قبيلة منها لنفور طباع العرب أن يتقدم على القبيلة أحد من غير أهلها»، وإذا كان الوافد من رءوس قبيلة يوسد إليه جباية الفيء، ويأمره أن يبشر الناس بالخير، ويعلمهم القرآن، ويفقههم في الدين، ويوصيه أن يلين للناس في الحق، ويشتد عليهم في الظلم، وأن ينهاهم إذا كان بين الناس هيج عن الدعاء إلى القبائل والعشائر؛ ليكون دعاؤهم إلى الله وحده لا شريك له، وأن يأخذ خمس الأموال وما كتب على المسلمين في الصدقة، وأن من أسلم من يهودي أو نصراني إسلاما خالصا من نفسه ودان دين الإسلام؛ فإنه من المؤمنين، له مثل ما لهم وعليه مثل ما عليهم، ومن كان على نصرانيته أو يهوديته فإنه لا يفتن
4
عنها. وبعث معاذا إلى اليمن
5
فقال له: «إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله تعالى، فإذا عرفوا الله تعالى فأخبرهم أن الله تعالى فرض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فخذ منهم، وتوق كرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب.» وكتب إلى عمرو بن حريث عامله على نجران كتابا في الفرائض والسنن والصدقات والديات. واكتفى الرسول بأخذ الجزية من أهل نجران وأيلة وهم نصارى من العرب، ومن أهل دومة الجندل وهم نصارى وأكثرهم عرب .
6
وبلغ أناسا من المشركين ممن لم يكن لهم عهد ولم يوافوا الموسم أن رسول الله أمر بقتال المشركين ممن لا عهد لهم، فقدموا على الرسول ليجددوا حلفا، فلم يصالحهم الرسول إلا على الإسلام وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فأبوا فخلى سبيلهم حتى بلغوا مأمنهم، وكانوا نصارى من قيس بن ثعلبة فلحقوا باليمامة، حتى أسلم الناس، فمنهم من أسلم ومنهم من أقام على نصرانيته.
ولما كان الهدف الأسمى نزع الشرك من نفوس العرب أولا، رأينا الشارع إلى الرفق بأهل الكتاب لا يباديهم الشر إلا إذا قاوموه. وقد أحسن معاملة نصارى نجران، وفدوا عليه ستين راكبا فيهم العاقب أمير القوم وذو رأيهم وصاحب مشورتهم، والذي يصدرون عن رأيه وأمره، وفيه ثمالهم وصاحب رحلهم ومعهم أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدراسهم
7
فعاهدوه على أداء الجزية. وقال الرسول: «من ظلم معاهدا أو انتقضه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفسه فأنا حجيجه يوم القيامة.» وقال: «من قتل قتيلا من أهل الذمة لم يرح رائحة الجنة.» وقال: «من قتل نفسا معاهدة بغير حلها حرم الله عليه الجنة أن يشمها.» وجعل دية المعاهد كدية المسلم
8
ألف دينار، وعن مالك بن الوليد قال: أوصاني الرسول أن لا أخطو إلى إمارة خطوة، ولا أصيب من معاهد إبرة فما فوقها، ولا أبغي على إمام بالسوء.
ولم يحارب الرسول اليهود في خيبر وغيرها إلا لأنهم خانوا عهده، وأرادوا قتله، وكشفوا ستر سيدة من الأنصار. ويهود بني النضير
9
وبني وائل هم الذين حزبوا الأحزاب عليه، خرجوا حتى قدموا على قريش مكة فدعوهم إلى حربه، وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله. فقطع نخل بني النضير، ثم صالحهم وحرق على أن يحقن لهم دماءهم، وأن يخرجهم من أوطانهم، ويسيرهم إلى أذرعات الشام، وجعل لكل ثلاثة منهم بعيرا وسقاء على أن لهم ما أقلت الإبل إلا الحلقة،
10
وطاوله يهود خيبر وماكسوه
11
ثم صالحوه على حقن دمائهم وترك الذرية، على أن يجلوا ويخلوا بين المسلمين وبين الأرض والصفراء والبيضاء والبزة إلا ما كان منها على الأجساد ، وأن لا يكتموه شيئا، ثم قالوا للرسول: «إن لنا بالعمارة والقيام على النخل علما فأقرنا.» فأقرهم. وفي بني النضير نزلت سورة الحشر، وأبيد بنو قريظة لنقضهم العهد ومظاهرتهم المشركين على الرسول. فأمر بقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم واستفاءة
12
أموالهم.
ووضع الرسول على المسلمين وغيرهم وعلى الأرضين والثمار والماشية أموالا بين الكتاب العزيز أصنافها في عدة آيات، وبين حكم إنفاقها فقال:
ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة
13
بين الأغنياء منكم ،
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ،
يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ،
إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم .
فالفيء: خراج يؤخذ من أرض العنوة
14
والخراج: ما يؤخذ من أرض الصلح
15
ومما فتح عنوة وأكثر أهله عليه، والجزية: مال يتقاضى من أهل الكتاب، والعشر: ما يؤخذ من زكاة الأرض التي أسلم أهلها عليها كأرض العرب، وما أسلم عليه أهله، أو فتح عنوة وقسم بين الغزاة، وما كانت الجزية تقبل من غير الكتابيين في الأرض العربية،
16
ولا يقبل من المشركين عبدة الأصنام إلا الإسلام. ومن الأرض ما صولح أهله على النصف من ثمارهم كأهل فدك، وجعل النبي فدك له خاصة؛ لأنه لم يوجف
17
عليها المسلمون بخيل ولا ركاب. والأنفال: الغنائم في القتال. والصدقة أنواع هي: الزكاة وهي عشر الغلات التي تأتي من الأرض التي خلت من سكانها أو كانت مواتا فأحيوها، وصدقات الماشية هي زكاة السوائم من الإبل والبقر والغنم دون العوامل والمعلولة، والصدقات عروض التجارة. قال ابن حبيب:
18
أول ما بعث الله نبيه بالدعوة بعثه بغير قتال ولا جزية، فأقام على ذلك عشر سنين بمكة بعد نبوته يؤمر بالكف عنهم، ثم أنزل الله عليه:
أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا
الآية، وأمره بقتال من قاتله والكف عمن لم يقاتله، وقال الله عز وجل:
فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا
ثم نزلت براءة لثمان سنين من الهجرة فأمره بقتال جميع من لم يسلم من العرب من قاتله أو كف عنه إلا من عاهده، ولم ينتقض من عهده شيئا فقال:
فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم ، وكل ذلك كان يؤخذ ممن اهتدوا إلى الدين الجديد، ومن بقوا على دينهم من اليهود والنصارى بعدل لا شطط فيه، يدفعه المسلمون والمعاهدون طيبة نفوسهم ولم يتبرم به أحد.
19
شكا يهود خيبر
20 - «وكانت قرية الحجاز ريفا ومنعة ورجالا» وكان فيها عشرون ألف مقاتل
21 - عبد الله بن رواحة، وكان الرسول يبعثه كل عام يخرص
22
عليهم تمرهم، ثم يقول: إن شئتم فلكم وإن شئتم فلي، فكانوا يضمنونه فشكوا إلى الرسول شدة خرصه
23
وأرادوا أن يرشوه؛ جللوا له حليا من حلي نسائهم فقالوا: هذا لك، وخفف عنا، وتجاوز في القسم. فقال عبد الله: يا معشر اليهود، إنكم لمن أبغض خلق الله تعالى إلي، وما ذاك بحاملي على أن أحيف عليكم، وأما ما عرضتم علي من الرشوة فإنها السحت وإنا لا نأكلها. فقالوا: بهذا قامت السموات
24
والأرض.
ولقد كان الرسول يتخير عماله من صالحي أهله وأولي دينه وأولي علمه، ويختارهم على الأغلب من المنظور إليهم في العرب ليوقروا الصدور، ويكون لهم سلطان على المؤمنين وغيرهم، يحسنون العمل فيما يتولون، ويشربون قلوب من ينزلون عليهم الإيمان، ويكشف أبدا عملهم أي يفتشهم، ويسمع ما ينقل إليه من أخبارهم، وقد عزل العلاء بن الحضرمي عامله على البحرين لأن وفد عبد القيس شكاه، وولى أبان بن سعيد، وقال له: «استوص بعبد القيس خيرا وأكرم سراتهم.»
25
وكان يستوفي الحساب على العمال
26
يحاسبهم على المستخرج والمصروف، وقد استعمل مرة رجلا على الصدقات، فلما رجع حاسبه، فقال: هذا لكم وهذا أهدي إلي. فقال النبي: «ما بال الرجل نستعمله على العمل بما ولانا الله فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي! أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فنظر أيهدى إليه أم لا.» وقال: «من استعملناه على عمل ورزقناه رزقا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول.»
27
وما أنفك الرسول من استشارة أهل الرأي والبصيرة ومن شهد لهم بالعقل والفضل، وأبانوا عن قوة إيمان، وتفان في بث دعوة الإسلام، وهم سبعة من المهاجرين وسبعة من الأنصار، منهم حمزة وجعفر وأبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وسليمان وعمار وحذيفة وأبو ذر والمقداد وبلال. وسموا النقباء؛ لأنهم ضمنوا للرسول إسلام قومهم، والنقيب الضمين، وكان له عرفاء أي رؤساء جند. ويكتب له بعض جلة الصحابة من الكملة،
28
والكملة في الجاهلية وأول الإسلام: هم الذين كانوا يكتبون بالعربية، ويحسنون العوم والرمي.
كان كاتب العهود إذا عاهد والصلح إذا صالح علي بن أبي طالب، وممن كتب له أبو بكر وعمر وعثمان والزبير، وخالد وأبان ابنا سعيد بن العاص وحنظلة الأسيدي والعلاء بن الحضرمي وخالد بن الوليد وعبد الله بن رواحة ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن أبي سلول والمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان يكتب فيما بينه وبين العرب، وجهيم بن الصلت وشرحبيل بن حسنة وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وبلغ كتاب الرسول اثنين وأربعين رجلا، وكان صاحب سره حذيفة بن اليمان، وكان الحارث بن عوف المري على خاتمه، وخاتمه من حديد ملون عليه فضة نقش ثلاثة أسطر: «محمد» سطر، و«رسول» سطر، و«الله» سطر. ويضع خاتمة أيضا عند حنظلة بن الربيع بن صيفي بن أخي أكثم، ويكون خليفة كل كاتب من كتاب النبي غاب عن عمله، فغلب عليه اسم الكاتب، وكان معيقيب بن أبي فاطمة يكتب مغانم الرسول، وكذلك كعب بن عمرو بن زيد الأنصاري كان يقال له صاحب المغانم، وحذيفة بن اليمان يكتب خرص تمر الحجاز، والعلاء بن عتبة وعبد الله بن الأرقم يكتبان بين الناس في قبائلهم ومياههم وفي دور الأنصار بين الرجال والنساء. وكان عبد الله بن الأرقم يجيب الملوك عن الرسول، والزبير بن العوام وجهيم بن الصلت يكتبان أموال الصدقات، والمغيرة بن شعبة والحصين بن نمير يكتبان المداينات والمعاملات، وشرحبيل بن حسنة يكتب التوقيعات إلى الملوك.
ومن شرائعه: حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، انتدبهم لهجو المشركين. وخطيبه: ثابت بن قيس. وكان زيد بن ثابت ترجمانه بالفارسية والرومية والقبطية والحبشية واليهودية. وناجية الطقاوي ونافع بن ظريب النوفلي يكتبان المصاحف، وشفاء أم سليمان بن أبي حنتمة تعلم النساء الكتابة، وعبادة بن الصامت يعلم أهل الصفة القرآن، وكانت دار مخرمة بن نوفل بالمدينة تدعى دار القرآن، وأول قاض في المدينة عبد الله بن نوفل، ومقرئ المدينة مصعب بن الزبير، وأول لواء عقد في الإسلام لواء عبد الله بن جحش، وعقد لسعد بن مالك الأزدي راية على قومه سوداء وفيها هلال أبيض. وكان لواؤه أبيض أو أصفر أو أغبر وله راية تدعى العقاب من صوف أسود مكتوب على رايته: لا إله إلا الله محمد رسول الله. وأول مغنم قسم في الإسلام مغنم عبد الله بن جحش. ومن عماله: أبو دجانة الساعدي وسباغ بن عرفطة عاملاه على المدينة، وكان ثلاثة أرباع عماله من بني أمية؛ لأنه إنما طلب للأعمال
29
أهل الجزاء من المسلمين والغناء، ولم يطلب أهل الاجتهاد والجهل بها والضعف عنها كما قال معاوية. واستعمل أبا سفيان بن حرب على نجران فولاه الصلاة والحرب، ووجه راشد بن عبد الله أميرا على القضاء والمظالم.
وكان الرسول كثيرا ما يقول: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم علي، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي بن كعب، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح.» وقال: «خذوا القرآن من أربعة؛ من عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة.» وجمع القرآن أي حفظه جميعه من الأنصار: أبي ومعاذ وزيد بن ثابت وأبو قيس بن السكن، هؤلاء أهم رجال الإدارة والقضاء والفقه والقرآن. وهناك طبقة أخرى تتولى الأعمال مثل: عتاب بن أسيد الذي استعمله واليا على مكة، ورزقه كل يوم درهما فقام يخطب ويقول: أيها الناس أجاع الله كبد من جاع على درهم فقد رزقني رسول الله درهما كل يوم، فليست بي حاجة إلى أحد. وهذا الراتب من أول ما وضع من الرواتب للعمال، وقد يكون رزقهم ما يطعمون منه على نحو ما أجرى على قيس بن مالك الأرحبي من همذان لما استعمله على قومه عربهم وحمورهم
30
ومواليهم فأقطعه من ذرة نسار مائتي صاع ومن زبيب خيوان
31
مائتي صاع جار له ذلك ولعقبه من بعده أبدا أبدا أبدا.
أما كبار الصحابة: فكانوا يعطون ما يتبلغون به من الغنائم وغيرها، ومنهم من كان غنيا في الجاهلية والإسلام فجهز من ماله جندا في سبيل الله، بل منهم من أنفق كل ماله في هذا الغرض وهو راض مغتبط.
ولقد آخى الرسول بين المهاجرين والأنصار بأخوة الإسلام والإيمان، ولطالما أقطع القطائع،
32
وكان يتألف على الإسلام، ويعطي من الصدقات من يريد تأليف قلوبهم، فدعي من يأخذون ذلك «المؤلفة قلوبهم» وهم واحد وثلاثون رجلا من سادة العرب، تألفهم وتألف بهم قومهم، ليرغبوهم في الإسلام، ولئلا
33
تحملهم الحمية مع ضعف نياتهم على أن يكونوا إلبا مع الكفار على المسلمين، وما منهم إلا الشريف المسودد والعالم والخطيب والشاعر والداهية الباقعة، وكل منهم سيد في قومه مطاع فيهم، قال صفوان بن أمية: لقد أعطاني رسول الله يوم حنين وإنه لمن أبغض الناس إلي، فما زال يعطيني حتى إنه لمن أحب الناس إلي. وقال الرسول: «إني لأعطي قوما أتألف ظلعهم
34
وجزعهم وأكل قوما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغنى.» وكان يعامل المسلمين بقواعد المساواة التامة، ويفضل مثلا من الأزد الأنصار وهم الأوس والخزرج أبناء حارثة بن عمرو بن عامر وهم أعز الناس نفسا وأشرفهم، وهم لم يؤدوا إتاوة قط إلى أحد من الملوك.
كانت الحكمة في تأليف من قضت المصلحة بتأليفهم، وأعطى كل واحد من المؤلفة قلوبهم في إحدى غزواته مئة من الإبل ومقدارا من الفضة، فلما دخل الناس في الدين أفواجا، وظهر المسلمون على جميع أهل الملل بطل العطاء للمؤلفة قلوبهم، ودخل بعضهم في خدمة الدولة وتولوا العمالات وقيادة الجيوش، ولم يبق عربي بعد واقعة حنين والطائف
35
إلا أسلم، ومنهم من قدم على الرسول ومنهم من لم يقدم، وقنع بما أتاه به وافد قومه من الدين، ولما فتحت مكة دانت العرب لقريش، وعرفوا أن لا طاقة لهم بحرب الرسول ولا عداوته، فدخلوا في دينه، وقل أن دخل فيه إلا من اعتقد صدق صاحبه، وقد جاء قيس بن نشبة السلمي فأسلم ورجع إلى قومه فقال: يا بني سليم، قد سمعت ترجمة الروم وفارس وأسفار الرهاب والكهان ومقاول
36
حمير، وما كان كلام محمد يشبه شيئا من كلامهم. وقال أبو سفيان بن حرب: ما رأيت أحدا يحب أحدا من الناس كحب أصحاب محمد محمدا.
37
وكثرت الوفود في السنة التاسعة للهجرة حتى سمي عام الوفود، وبعث رسله إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام، وفي سنة سبع بعث دحية الكلبي بكتاب إلى عظيم بصرى فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل ليدفعه إلى قيصر، وبعث عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى، وعمرو بن أمية إلى النجاشي، وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس ملك الإسكندرية، والعلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى ملك البحرين، وشجاع بن وهب الأسدي إلى الحرث بن أبي شمر الغساني، والمهاجر بن أبي أمية إلى الحرث ملك اليمن. وجاءت وفود العرب من كل وجه، وكان الرسول يكرمهم ويفضل عليهم بعطائه، ومنهم من يضيفه عشرة أيام كوفد عبد القيس، ومنهم من يبالغ في إكرامه كملوك اليمن، وإنما سموا ملوكا
38
لأنه كان لكل واحد منهم واد يملكه بما فيه، وكانت كتبه إلى ملوك الأطراف خارج الجزيرة بلغة مضر وفصيح ألفاظها وكلها موجزة، واستعمل ألفاظا في بعض كتبه إلى أهل اليمن وغيرهم غير معروفة للعرب كافة إلا في قبيل واحد ؛ وذلك إرادة إفهام القوم ومخاطبتهم بمألوفهم من العبارات.
39
قال علي للرسول وقد سمعه يخاطب وفد بني نهد: يا رسول الله نحن بنو أب واحد، ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره. فقال: «أدبني ربي فأحسن تأديبي، وربيت في بني سعد.» فكان يخاطب العرب على اختلاف شعوبهم وقبائلهم بما يفهمون.
ولم يكن للرسول بيت مال، وكان يخبأ الأموال في بيته وبيوت أصحابه، وفي الغالب أن الفيء يقسم من يومه، خصوصا إذا كان من الناطق كالإبل والشياه والخيل والبغال. والرسول يعطي الآهل
40
من الفيء حظين والعزب حظا.
41
وما كانت تأخذه بالمشركين هوادة لا سيما بعد أن فتحت مكة، وأطاعت الحجاز واليمن واليمامة وغيرها من أصقاع الجزيرة، وما كان هوى من رسخ الإسلام في قلوبهم في شيء من حطام الدنيا، فقد بلغ من تبادل الثقة
42
والحب بين المسلمين في صدر الإسلام أنهم كانوا خلطاء بالمال، يأخذ فقيرهم من مال الآخر؛ مصداقا لقوله تعالى:
ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، ولقد أهديت لعبادة بن الصامت
43
هدية وإن معه في الدار اثني عشر من أهل بيته، فقال عبادة: اذهبوا بهذه إلى آل فلان فهو أحوج إليها منا. قال الوليد بن عبادة: فأخذتها فكنت كلما جئت أهل بيت يقولون اذهبوا بها إلى آل فلان فهم أحوج منا إليها. حتى رجعت الهدية إلى عبادة قبل الصبح، وأسلف عبد الله بن جعفر الزبير بن العوام ألف ألف درهم، فلما قتل الزبير قال ابنه عبد الله لعبد الله بن جعفر: إني وجدت في كتب أبي أن له عليك ألف ألف درهم، فقال: هو صادق فاقبضها إذا شئت. ثم لقيه فقال: يا أبا جعفر وهمت المال لك عليه فهو له. قال: لا أريد ذاك. قال: فاختر إن شئت فهو له وإن كرهت ذلك فله فيه نظيره ما شئت، وإن لم ترد ذلك فبعني من ماله ما شئت.
مثال آخر من هذا الإيثار: كان بالمدينة في زمن النبي شاب يقال له مالك بن ثعلبة الأنصاري ولم يكن بالمدينة شاب أغنى منه، فمر بالنبي والنبي يتلو هذه الآية:
والذين يكنزون
إلى قوله:
فذوقوا ما كنتم تكنزون
فغشي على الشاب، فلما أفاق دخل على النبي فقال: بأبي أنت وأمي، هذه الآية لمن كنز الذهب والفضة؟ فقال له النبي: «نعم يا مالك.» قال: والذي بعثك بالحق ليمسين مالك ولا يملك دينارا ولا درهما. قال: فتصدق بماله كله.
وما كان أصحاب رسول الله بالمنخرقين
44
ولا المتماوتين،
45
يتناشدون الأشعار، ويجلسون في مجالسهم، ويذكرون جاهليتهم، فإن أريد إنسان منهم على شيء من أمر دينه دارت عيناه فترى حماليقها
46
غضبا؛ بل كان منهم من إذا ارتكب كبيرة يعاقب عليها الإسلام يأتي الرسول بطلب إقامة الحد الشرعي عليه، أو يسمع منه ما ينقلب به إلى أهله مسرورا، يأخذ حكمة تثلج بها نفسه، ويعتقد أنه تحلل من ذنبه واستغفر له الرسول.
وأراد النبي مرة إحصاء المسلمين فقال: اكتبوا لي من تلفظ بالإسلام من الناس، فكتبوا له ألفا وخمسمائة رجل، وما كان يجمع المسلمين في أول أمرهم كتاب حافظ أي ديوان مكتوب،
47
وكان إذا نودي للزحف وتخلف عنه أحدهم لعذر أو شبه عذر، يلومه الرسول وأصحابه، وإذا تبين أنه تعمد أن يكون مع المتخلفين عن القتال يعاتب ويقاطعه الجماعة ويجتنبونه لا يكلمه أحد. ولما أمر الرسول بالتهيؤ لغزو الروم في تبوك، تثاقل المسلمون عنها وأعظموا غزوهم، فنافق من نافق من المنافقين، حين دعوا إلى ما دعوا إليه من الجهاد، وكان «ذلك في زمن عسرة
48
من الناس وشدة من الحر وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذي هم فيه.» وجاء المتخلفون عن هذه الغزاة وكانوا ثمانين رجلا فقبل الرسول منهم علانيتهم وأيمانهم، واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله، وفي هذه الغزوة حض الرسول أهل الغنى على النفقة والحملان في سبيل الله فحمل رجال من أهل الغنى واحتسبوا، وكان من أفضل القربات أن يجهز أرباب اليسار أناسا للغزو يتكفلون بطعامهم وإطعام ذويهم، ويعطونهم السلاح والكراع واللباس ليغزوا ويرابطوا،
49
وكان المسلمون كلهم جندا يقاتلون للدين، وكان لا يزال فيهم أبدا من يبذل شطرا صالحا من ماله في وجوه البر والقرب لا يريدون على إسلامهم ونصرهم للرسول جزاء.
وجميع ما غزا الرسول بنفسه سبع وعشرون غزوة، وكانت بعوثه وسراياه ثمانيا وثلاثين بين بعث وسرية، وكان يوري بغزواته، وقل أن يعين لأصحابه الوجهة التي يقصدها في غزاته، وكتب مرة لأحدهم كتابا وأمره أن لا يقرأه حتى يبلغ مكان كذا وكذا، ولا يستكره من أصحابه أحدا أي يندبهم للعمل قسرا، وذلك ليترصد بذلك قريشا ويعلم له من أخبارهم.
ولم يكن للمسلمين سلاح جاهز، وسلاحهم: القوس والنبل والحربة والسيف والدرع، ثم اتخذ أنواع السلاح التي كانت موجودة إذ ذاك عند الأمم. واستعار الرسول يوم هوازن
50
مئة درع بما يكفيها من السلاح من صفوان بن أمية ليلقى بها العدو على أن تكون عارية مضمونة حتى يؤديها إليه، ورأى الرسول أن اتساع الفتوح يقضي بأن يتعلم بعض أصحابه صنعة الدبابات والمجانيق والضبور؛
51
أي صنائع القتال، فأرسل إلى جرش اليمن اثنين من أصحابه يتعلمانها. وكان أهل الطائف أول من رمي بالمنجنيق، وأخذ المسلمون بعيد ذلك يعدون لأعدائهم ما استطاعوا من قوة ومن رباط الخيل؛ لأنهم قادمون على فتح الشام والعراق على ما بشرهم به الرسول، فقال لعدي بن حاتم: «لعلك يا عدي إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذ، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عددهم وقلة عددهم فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها تزور هذا البيت لا تخاف، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وايم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم.» وقال مرة: «أبشروا وأملوا ما يسركم؛ فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوا فيها فتهلككم كما أهلكتهم .»
رأينا الرسول في طور ضعفه، ثم في طور قوته، يحرص على رجاله حرصه على أعز شيء لديه، ولما دخل عمر في الإسلام اعتز به، وترك به المسلمون التقية في دينهم، بل إنه كان إذا سقط في يده أحد أذكياء المشركين أبقى عليه، مهما كان من إيذائه للمسلمين أو له خاصة؛ عل في حياته ما يستفيد منه الإسلام إذا أسلم. أما من قتلوا النفس التي حرم الله فهؤلاء لا تأخذه بهم رحمة؛ قدم عليه نفر
52
من العرب قد ماتوا هزالا فأسلموا واجتووا المدينة، فأمرهم الرسول أن يأتوا إبل الصدقة يشربوا من ألبانها، ففعلوا وصحوا وسمنوا، فارتدوا وقتلوا الراعي واستاقوا الإبل، فبعث في آثارهم فما ترجل
53
النهار حتى جيء بهم، وأوقع عليهم أشد العقوبة الشرعية.
وكان يحسن معاملة النساء عامة كما يحسن معاملة أزواجه خاصة، فيؤثرن أي تأثير في الرجال، ويجعل منهن أدوات صالحة له يبث بواسطتهن دعوته، ويرعى مصالح المسلمين، وقد أوصى بهن أجمل وصاة في خطبته يوم حجة الوداع. وهذا غاية في حسن الإدارة والسياسة؛ لأن حل المسائل بدون مشاكل أنفع من حلها بطرق جافة. والنساء في هذا المعنى من أفعل أسباب الدعوة، وخصوصا إذا كن كالصحابيات يأخذن بمجامع القلوب بجميل عاطفتهن وجمال بلاغتهن. وكان يسمح باستخدام النساء في حروبه وغزواته؛ يخدمن الجرحى، ويأخذن من العطاء، ويتولين من الرجال ما يصلحن له كالطعام والإسقاء، ويحمسن من يحتاج إلى تحميس. وجعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة يقال لها رفيدة في مسجده كانت تداوي الجرحى وتحبس نفسها على خدمة من كان فيه ضيقة من المسلمين. وكذلك كانت أخت رفيدة واسمها كعبة بنت سعيد الأسلمية. ومنهن من كن يخطن القرب؛ فالنساء في حكومته ممرضات طاهيات ساقيات خياطات محمسات داعيات. وأمر الرسول أن لا يقتل النساء في الحرب. فكان بذلك يستفيد من كل قوة في بلده يستعين بها على الظهور على المشركين.
ومن خطبه الإدارية ما ورد في الثقات أنه قعد على بعير له وأخذ إنسان بخطامه أو بزمامه فقال: «أي يوم هذا ؟» قال من حضر: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. فقال: «أليس يوم النحر؟» قلنا: بلى. قال: «فأي شهر هذا؟» قال: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. فقال: «أليس بذي الحجة؟» قالوا: بلى. قال: «فأي بلد هذا؟» قال: فأمسكنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. فقال: «أليس بالبلد الحرام؟» قلنا: بلى. قال: «فإن دماءكم وأعراضكم (وفي رواية: وأموالكم) بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا ليبلغ الشاهد الغائب.»
هذا جملة ما يقال في تدبير الرسول في الإدارة من بث دعوة وجهاد عدو، وأخذ غنائم وصدقات وجزى وعشور، وقسمتها بين المجاهدين وأهل البلاء من المهاجرين والأنصار، ثم على فقراء المسلمين، وما كان من توزيعه العمل بين عماله ومعاملته لهم وللوفود والنساء، إلى غير ذلك من أسباب القوة واتخاذ الجند والمحاربين، واشتداده في الحق ولينه إذا دعت الحال إلى اللين، وإغضائه أحيانا لما يلحق به من الأذى، يرتقب الفرص لمن يكيد للمسلمين.
ومما يصح التمثل به في باب اللين: أنه رضي يوم الحديبية أن يدخل وأصحابه مكة ثلاثة أيام فقط على أن يكونوا بجلبان
54
السلاح، وصالح سهيل بن عمرو أخا بني عامر بن لؤي فدعا علي بن أبي طالب. فقال: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم.» فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب باسمك اللهم. فقال رسول الله: «اكتب باسمك اللهم.» فكتبها، ثم قال: «اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو.» فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فقال رسول الله: «اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه، وأن بيننا عيبة مكفوفة وأنه لا إسلال ولا إغلال
55
وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه ...» إلخ. فاستاء المسلمون من هذا العهد بعد أن فازوا على أعدائهم؛ وأحب الرسول حقن الدماء فقبل من خصمه هذا العنت، وكانت العاقبة له ولقومه.
هوامش
إدارة الخلفاء الراشدين
سار أبو بكر بسيرة الرسول في الإدارة الإسلامية، واحتفظ بالعمال الذين استعملهم صاحب الشريعة، والأمراء الذين أمرهم، ومن العمال من أبى أن يعمل لغير رسول الله فاعتزل العمل، ولما وسدت الخلافة إلى الصديق قال له أبو عبيدة: أنا أكفيك المال. وقال عمر: وأنا أكفيك القضاء. فمكث عمر سنة لا يأتيه رجلان، ولم يخاصم إليه أحد؛ وذلك لأن الناس كانوا أول ظهور الإسلام يرون من الطبيعي أن يعطي الإنسان الحق ويأخذ الحق، ويقف عند حدود الله لا يقارف منكرا ولا يسرف على نفسه، ويبعد عن الزور وأكل أموال الناس بالباطل، ويجعل رائده الصدق في أقواله وأفعاله.
كان إذا نزل بالصديق أمر يريد فيه مشاورة أهل الرأي وأهل الفقه، ودعا رجالا من المهاجرين والأنصار، دعا عمر وعثمان وعليا وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت، وكل هؤلاء كان يفتي في خلافة أبي بكر، وإنما تصير فتوى الناس إلى هؤلاء. على أن أبا بكر كان جد عالم بالشريعة وأخبار الناس وأيامهم وأنسابهم وسياساتهم، إلى ما رزق من صدر رحب يطلب من كل صاحب إدارة، واختار من القضاة ما اختاره الولاة غالبا، وكان ولاة المدينة
1
هم الذين يختارون القضاة ويولونهم، ويكتب لأبي بكر علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت، ويكتب له الأخبار عثمان بن عفان
2
ويكتب له من حضر
3
ومن عماله: عتاب بن أسيد، وعمرو بن العاص، وعثمان بن أبي العاص، والمهاجر بن أبي أمية، وزياد بن عبيد الله الأنصاري، ويعلى بن منية، وأبو موسى الأشعري، ومعاذ بن جبل، والعلاء بن الحضرمي، وجرير بن عبد الله، وعبد الله بن ثور، وعياض بن غنم، وأبو عبيدة بن الجراح، وشرحبيل بن حسنة، ويزيد بن أبي سفيان، وخالد بن الوليد.
ما تجاوزت رقعة الملك الإسلامي في أيام أبي بكر أكثر من جزيرة العرب؛ قسمت إلى ولايات أو عمالات، وهي مكة والمدينة والطائف وصنعاء وحضرموت وخولان وزبيد ورمع والجند ونجران وجرش والبحرين، أما القواد الآخذون بفتح الشام والعراق فيولون عمالا من عندهم في الأرض التي يفتحونها. بمعنى أن الحجاز قسم إلى ثلاث ولايات، واليمن إلى ثمان، والبحرين وما إليها ولاية.
ولما ولي أبو بكر قال: قد علم قومي أن حرفتي لم تكن لتعجز عن مئونة أهلي، وقد شغلت بأمر المسلمين، وسأحترف للمسلمين في مالهم، وسيأكل آل أبي بكر من هذا المال. فجعلوا له ألفين، وفي رواية ثلاثة دراهم كل يوم من بيت المال.
4
ثم قال: زيدوني فإن لي عيالا، وقد شغلتموني عن التجارة. فزادوه خمسمائة، ولما مات ابنه في خلافته ترك سبعة
5
دنانير فاستكثرها أبو بكر، ولم يفرض أبو بكر ولا الرسول من قبل عطاء مقررا للجند،
6
وكانوا إذا غزوا وغنموا أخذوا نصيبا من الغنائم قررته الشريعة لهم، وإذا ورد المدينة مال من بعض البلاد أحضر إلى مسجد الرسول وفرق فيهم يصيب منه الأنصار والمهاجرون وكل مسلم بحسب غنائه في نصرة الدين. جرى الأمر على ذلك مدة خلافة أبي بكر، وكان لأبي بكر
7
بيت مال بالسنح من ضواحي المدينة إلى أن انتقل إلى المدينة، فقيل له: ألا تجعل عليه من يحرسه؟ قالوا: فكان ينفق جميع ما فيه على المسلمين فلا يبقى منه شيء، ولما قضى نحبه ذهب عمر في نفر من الصحابة لاستلام بيت المال فلم يجدوا فيه شيئا.
وجرى أبو بكر على كشف أحوال العمال، وكان كصاحبه يختار أكثرهم علما وعملا، ولما عزل خالد بن سعيد أوصى به شرحبيل بن حسنة وكان أحد الأمراء فقال: انظر خالد بن سعيد فاعرف له من الحق عليك مثل ما كنت تحب أن يعرف لك من الحق عليه لو خرج واليا عليك. وقد عرفت مكانه من الإسلام، وأن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
توفي وهو له وال، وقد كنت وليته ثم رأيت عزله، وعسى أن يكون ذلك خيرا له في دينه ما أغبط أحدا بالإمارة. وقد خيرته في أمراء الأجناد فاختارك على غيرك، اختارك على ابن عمه، فإذا نزل بك أمر تحتاج فيه إلى رأي التقي الناصح، فليكن أول من تبدأ به أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل، وليك خالد بن سعيد ثالثا. فإنك واجد عندهم نصحا وخيرا، وإياك واستبداد الرأي عنهم أو تطوي عنهم بعض الخبر.
وشغل أبو بكر بقتال أهل الردة فوطد دعائم الدولة بإظهار قوة المسلمين لمن خالفهم، فجمع الشمل الذي كان يخشى من انبتاته، وبدا منه حزم عجيب وإدارة شديدة رشيدة، وخالف جميع أصحابه في قتال من أخلوا بشروط الإسلام فأصر على قتالهم. ولقد قال عمر: إن العرب لما ارتدت
8
ومنعت شاتها وبعيرها أجمع رأينا كلنا - أصحاب محمد - أن قلنا لأبي بكر: إن رسول الله كان يقاتل العرب بالوحي والملائكة يمده الله بهم، وقد انقطع ذلك فالزم بيتك ومسجدك، فإنه لا طاقة لك بقتال العرب. فخالفهم كلهم أبو بكر وأعلن هذه الحرب على المرتدين حتى أذعنت العرب بالحق. استبد أبو بكر برأيه فكان رأيه الصواب، وقضى بصادق عزيمته وبعيد نظره قضاء مبرما على آخر أثر من آثار الوثنية في الأرض العربية، ولما أرسل الصديق الأمراء لقتال أهل الردة أوصاهم أن يقتصدوا بالمسلمين، ويرفقوا بهم في السير والمنزل، ويتفقدوهم ويستوصوا بهم في حسن الصحبة ولين القول، وأمر قواده في المرتدين أن لا يقاتلوا أحدا ولا يقتلوه حتى يدعوه إلى الله، فمن استجاب لهم وأقر وكف وعمل صالحا قبل منه وأعين عليه، ومن أبى يقاتل على ذلك، ولا يبقون على أحد منهم قدروا عليه، وأن يحرقوهم بالنار ويقتلوهم كل قتلة، ويسبوا النساء والذراري، ولا يقبل من أحد إلا الإسلام.
ومن وصايا أبي بكر ليزيد بن أبي سفيان لما أرسله إلى الشام: «إذا دخلت بلاد العدو فكن بعيدا من الحملة فإني لا آمن عليك الجولة، واستظهر بالزاد وسر بالأدلاء، ولا تقاتل بمجروح فإن بعضه ليس منه، واحترس من البيات فإن في العرب غرة،
9
وأقلل من الكلام فإنا لك ما وعي عنك، وإذا أتاك كتابي فأنفذه فإنما أعمل على حسب إنفاذه، وإذا قدمت عليك وفود العجم فأنزلهم معظم عسكرك، وأسبغ عليهم النفقة، وامنع الناس عن محادثتهم ليخرجوا جاهلين كما دخلوا جاهلين، ولا تلحن في عقوبة فإن أدناها وجع، ولا تسرعن إليها وأنت تكتفي بغيرها، واقبل من الناس علانيتهم، وكلهم إلى الله في سرائرهم، ولا تجسس عسكرك فتفضحه ولا تهمله فتفسده.»
ولم يحدث أبو بكر في أيامه أحداثا جديدة، والفتوح لم تقف مع حروب الردة، ووجه وجهته نحو الشام، وكان آخر جيش جهزه جيش اليرموك، جهزه بكل حكمة، وبذل في تنظيمه أقصى الجهد، وجعل فيه قاضيا، وجعل أبا سفيان بن حرب قاصا يسير في الجماعة ويقول: الله الله عباد الله انصروا الله ينصركم، اللهم هذا يوم من أيامك، اللهم أنزل نصرك على عبادك، يا نصر الله اقترب يا نصر الله اقترب. وقصاص الجند يقصون عليهم أخبار الوقائع والفروسية ليقووا قلوبهم، وقيل: إن تميما الداري كان أول من قص في مسجد الرسول في عهد عمر، كان يذكر المسلمين بالله، ويقص عليهم قصصا وأحاديث عن الأمم الماضية وأساطير وحكايات. •••
كانت أول خطبة خطبها عمر بن الخطاب لما ولي الخلافة: «أيها الناس، إنه والله ما فيكم أحد أقوى عندي من الضعيف حتى آخذ له الحق، ولا أضعف عندي من القوي حتى آخذ الحق منه.» وما كان عمر ممن أولع بإلقاء الخطب كثيرا على بلاغة فيه مستحكمة وعلم غزير، ولا يرتقي المنبر إلا إذا قضت الضرورة وأراد بيان أمر ذهبت فيه نزوات النفوس مذهبا لا يرضاه، وكثيرا ما قال: إن هذا الأمر لا يصلح فيه إلا اللين في غير ضعف، والقوي في غير عنف. وكذلك كان عمر يجمع بين اللين والشدة، وهو إلى هذه ولا سيما على عماله أقرب. وإذا كان أكبر رجال الإدارة تحصى عليهم عشرات من الأغلاط فإن عمر لا يستطيع أكبر الناقدين أن يحصي عليه غلطتين أو ثلاثا، وقد يجاب عليها بأن ذلك محض اجتهاد منه، والمجتهد قد يصيب ويخطئ. والحكم الآن على مسائل لم تتجل كل التجلي بما نقله الناقلون، وما أحاط بها من أحوال دقيقة غير مرئية، يدعونا إلى أن نمسك عن إرسال القول في النقد، ولا سيما نقد رجل عقمت أمم كثيرة أن تنبغ أفضل منه وأعظم.
وطريقة عمر في الإدارة طريقة أبي بكر وصاحبه من قبل؛ إطلاق الحرية للعامل في الشئون الموضعية، وتقييده في المسائل العامة، ومراقبته في خلوته وجلوته. «وكان
10
علمه بمن نأى عنه من عماله ورعيته، كعلمه بمن بات معه في مهاد واحد وعلى وساد واحد، فلم يكن له في قطر من الأقطار ولا ناحية من النواحي عامل ولا أمير جيش إلا وعليه له عين لا يفارقه ما وجده، فكانت ألفاظ من بالمشرق والمغرب عنده في كل ممسى ومصبح. وأنت ترى ذلك في كتبه إلى عماله وعمالهم حتى كان العامل منهم ليتهم أقرب الخلق إليه وأخصهم به.» وكان كما قال المغيرة بن شعبة: أفضل من أن يخدع وأعقل من أن يخدع.
كان إذا استعمل العمال خرج معهم يشيعهم
11
فيقول: إني لم أستعملكم على أمة محمد على أشعارهم ولا على أبشارهم، وإنما استعملتكم عليهم لتقيموا بهم الصلاة وتقضوا بينهم بالحق، وتقسموا بينهم بالعدل، لا تجلدوا العرب فتذلوها ولا تجمروها
12
فتفتنوها، ولا تغفلوا عنها فتحرموها، جودوا القرآن وأقلوا الرواية عن محمد
صلى الله عليه وسلم
وأنا شريككم. وكان يقص من عماله، وإذا شكي إليه عامل جمع بينه وبين من شكاه، فإن صح عليه أمر يجب أخذه به أخذه. وكان إذا بعث أمراء الجيوش يوصيهم بتقوى الله، وأن لا يعتدوا، ولا يجبنوا عن اللقاء، ولا يمثلوا عند القدرة، ولا يسرفوا عند الظهور، ولا يقتلوا هرما ولا امرأة ولا وليدا، وأن يتوقوا قتلهم إذا التقى الزحفان وعند حمة النهضات وفي شن الغارات، وأن لا يغلوا عند الغنائم، وينزهوا الجهاد عن عرض الدنيا.
وكان عمال عمر عرضة لكشف أحوالهم مهما بلغ من منزلتهم، وكان إذا شكي
13
إليه عامل أرسل محمد بن مسلمة يكشف الحال، وله عدة طرق في كشف سيرة عماله، منها أن يأمر عماله أن يوافوه بالموسم، فإذا اجتمعوا قال: «أيها الناس، إني لم أبعث عمالي عليكم ليصيبوا من أبشاركم ولا من أموالكم، إنما بعثتم ليحجزوا بينكم، وليقسموا فيئكم بينكم، فمن فعل به غير ذلك فليقم.» فما قام إلا رجل واحد فقال: إن عاملك فلانا ضربني مائة سوط، قال: فيم ضربته؟ قم فاقتص منه. فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين، إنك إن فعلت هذا يكثر عليك، ويكون سنة يأخذ بها من بعدك. فقال: أنا
14
لا أقيد، وقد رأيت رسول الله يقيد من نفسه. قال: فدعنا فلنرضه، قال: دونكم فأرضوه. فافتدى منه بمائتي دينار كل سوط بدينارين، وقال من ظلمه عامله بمظلمة فلا إذن له علي إلا أن يرفعها إلي حتى أقصه منه. فقيل له: أرأيت إن أدب أمير رجلا من رعيته أتقصه منه؟ فقال: وما لي لا أقصه منه، وقد رأيت رسول الله يقص من نفسه.
وكان يستدعي عماله ليطلع على مطاوي نفوسهم، ويكشف بنفسه إن كانوا أخذوا أنفسهم بأسباب النعيم؛ لأن عمر يؤثر الخشونة
15
ويريد عماله أن يتبعوه في سائر أفعاله وشيمه وأخلاقه، فكان كل يتشبه به من غاب أو حضر، وهو يلبس الجبة الصوف المرقعة بالأديم وغيره، ويشتمل بالعباءة، ويحمل القربة على كتفه مع هيبة قد رزقها، وكذلك كان عماله مع ما فتح الله عليهم من البلاد وأوسعهم من الأموال، وكان ينهى عماله عن جيد الملبوس والمركوب والمأكول، ويلتف في
16
كسائه، وينام في ناحية المسجد، فلما ورد بالهرمزان صاحب تستر عليه، جعلوا يسألون عنه، فيقال: مر ههنا آنفا. فيصغر في قلب الهرمزان إذ رآه كبعض السوقة حتى انتهى إليه وهو نائم في ناحية المسجد فقال الهرمزان: هذا والله الملك الهنيء. يقول: لا يحتاج إلى حراس ولا عدد، فلما جلس عمر امتلأ قلب العلج
17
منه هيبة لما رأى عنده من الجد والاجتهاد، وألبس من هيبة التقوى. قالوا: وكان أبا العيال
18
يسلم على أبوابهن، ويقول: ألكن حاجة، وأيتكن تريد أن تشتري شيئا؟ فيرسلوه معه بحوائجهن، ومن ليس عندها شيء اشترى لها من عنده، وإذا قدم الرسول من بعض الثغور يتبعه بنفسه في منازلهن بكتب أزواجهن، ويقول: أزواجكن في سبيل الله وأنتن في بلاد رسول الله، إذا كان عندكن من يقرأ وإلا فاقربن من الأبواب حتى أقرأ لكن. ثم يقول: الرسول يخرج يوم كذا وكذا فاكتبن حتى نبعث بكتبكن. ثم يدور عليهن بالقراطيس والدواة، يقول: هذه دواة وقرطاس فادنين من الأبواب حتى أكتب لكن. ويمر إلى المغيبات فيأخذ كتبهن فيبعث بها إلى أزواجهن.
وكان إذا استعمل عاملا أوصاه بتقوى الله وإصلاح الرعية، وكتب عليه كتابا، وأشهد عليه رهطا من الأنصار أن لا يركب برذونا، ولا يأكل نقيا، ولا يلبس رقيقا، ولا يغلق بابه دون حاجات المسلمين، ثم يقول اللهم اشهد. وكتب إلى عماله: «أما بعد، فإياكم والهدايا فإنها من الرشا.» اهتدى إلى عظيم ضرر الهدايا مما بدر من رجل
19
كان يهديه فخذ جزور فخاصم إليه رجلا فقال: يا أمير المؤمنين اقض بيننا قضاء فصلا كما يفصل الرجل من سائر الجذور، فقضى عليه عمر، ثم كتب إلى عماله: إن الهدايا هي الرشا. وكان عمر إذا قدم العمال يأمرهم أن يدخلوا نهارا ولا يدخلوا ليلا كي لا يحتجنوا شيئا من الأموال. وكان يعس بنفسه، ويرتاد منازل المسلمين، ويتفقد أحوالهم، ويتعهد أهل البؤس والفاقة بنفسه.
كتب إلى أبي موسى الأشعري عامله على العراق يأمره بالقدوم عليه هو وعماله وأن يستخلفوا جميعا، يريد أن يعرف حالتهم بعد أن تبنكوا
20
في النعيم، وعهدت إليهم مصالح الناس، فأدرك عامل البحرين من بين كثير من العمال أن عمر يرغب في الخشونة، وعرف أنه سيدعوهم إلى طعامه فتجوع له واتخذ خفين مطارقين
21
ولبس جبة صوف ولاث
22
عمامته على رأسه فدعاهم عمر إلى خبز وأكسار
23
بمير فجعلوا يعافونه؛ لأنهم حديث عهدهم بلين العيش، وعمر يلحظهم، ولفت عامل البحرين نظر عمر، وتهافته على تناول الطعام، فسأله عمر عن عمله ثم عن جعله فأجاب إنه يرزق ألفا، فقال له عمر: إنه كثير، ما تصنع به ؟ قال: أتقوت منه شيئا وأعود به على أقارب لي فما فضل عنهم فعلى فقراء المسلمين. فأمر عمر أبا موسى أن يستبدل بأصحابه، وأبقى عامل البحرين في عمله؛ لأنه رآه مقلا متقشفا لا يخشى أن يسرف في المال. وولى عمر رجلا بلدا فوفد عليه
24
فجأة مدهنا حسن الحال في جسمه عليه بردان فقال له عمر: أهكذا وليناك؟ ثم عزله، ودفع إليه غنيمات يرعاها، ثم دعا به بعد مدة فرآه باليا أشعث في ثوبين أطلسين
25
وذكر عند عمر بخير فرده إلى عمله، وقال: كلوا واشربوا وادهنوا فإنكم تعلمون الذي تنهون عنه.
وكان إذا قدم عليه الوفد سألهم عن حالهم وأسعارهم، وعمن يعرف من أهل البلاد وعن أميرهم هل يدخل إليه الضعيف؟ وهل يعود المريض؟ فإن قالوا نعم، حمد الله تعالى، وإن قالوا لا، كتب إليه: أقبل. وكان من سنة
26
عمر وسيرته أن يأخذ عماله بموافاة الحج في كل سنة للسياسة وليحجرهم بذلك عن الرعية، وليكون لشكاتهم وقت وغاية ينهونها إليه. كتب إلى أبي موسى الأشعري: «أما بعد؛ فإن للناس نفرة فأعوذ بالله أن تدركني وإياك عمياء مجهولة، وضغائن محمولة، أقم الحدود ولو ساعة من نهار، وإذا عرض لك أمران أحدهما لله والآخر للدنيا، فآثر نصيبك من الله فإن الدنيا تنفد والآخرة تبقى، وأخيفوا الفساق واجعلوهم يدا يدا ورجلا ورجلا، وعد مرضى المسلمين، واشهد جنائزهم، وافتح لهم بابك، وباشر أمورهم بنفسك، فإنما أنت رجل منهم غير أن الله جعلك أثقلهم حملا، وقد بلغني أنه فشا لك ولأهل بيتك هيئة في لباسك ومطعمك ومركبك ليس للمسلمين مثلها، فإياك يا عبد الله أن تكون بمنزلة البهيمة مرت بواد خصيب فلم يكن لها هم إلا السمن وإنما حتفها في السمن، واعلم أن العامل إذا زاغ زاغت رعيته، وأشقى الناس من شقي الناس به، والسلام.» وهذا من كتبه الممتعة في الإدارة وطريقته فيها.
وبلغ عمر أن أبا عبيدة عامله في الشام يسبغ على عياله، وقد ظهرت شارته، فنقصه من عطائه الذي كان يجري عليه، ثم سأل عنه فقيل له قد شحب لونه، وتغيرت ثيابه، وساءت حاله، فقال: يرحم الله أبا عبيدة ما أعف وأصبر. فرد عليه ما كان حبس عنه وأجراه عليه، ودخل عمر منزل أبي عبيدة فلم ير إلا لبدا وصحفة وشنا، وسأله طعاما فأخرج له من جونة
27
كسيرات فبكى عمر، وقال: غيرتنا الدنيا كلنا غيرك يا أبا عبيدة. وأرسل إليه أربعمائة دينار، وسأل من أرسله أن يقف على ما يفعل بها فوزعها أبو عبيدة كلها، وأرسل مثلها إلى معاذ بن جبل فوزعها إلا أشياء قليلة سألته امرأته إياها لحاجتها. فقال عمر لما أخبر بذلك: الحمد لله الذي جعل في الإسلام من يصنع هذا.
وكان معظم عمال عمر على غرار أبي عبيدة ومعاذ من التقشف والتبلغ باليسير، وكان إذا لم تقنع نفسه بحسن سيرهم على الصورة التي لا يرى غيرها لا يتلكأ عن عزلهم. فقد شكا أهل حمص عاملهم سعيد بن عامر، وسألوه عزله؛ لأنه لا يخرج للناس حتى يرتفع النهار، ولا يجيب أحدا بليل، وله في الشهر يوم لا يخرج فيه، فلما أيقن عمر أن عامله يعجن كل يوم خبزه ويجلس حتى يختمر فيخبزه، ثم يخرج للناس، وأنه يجعل الليل كله للعبادة، وأنه يشتغل مرة في الشهر بغسل ثيابه، بعث إليه عمر ألف دينار يستعين بها، فوزعها على جيش من جيوش المسلمين.
وقدم سعيد بن عامر على عمر بالمدينة فلم ير معه إلا عكازا وقدحا فقال له عمر: ليس معك إلا ما أرى؟ فقال له سعيد: ما أكثر من هذا، عكاز أحمل عليه زادي وقدح آكل فيه. وكان من عماله عمير بن سعد
28
وفيه يقول عمر: وددت لو أن لي رجلا مثل عمير بن سعد أستعين به على أعمال المسلمين. وعمير هذا هو الذي قال على منبر حمص: «لا يزال الإسلام منيعا ما اشتد السلطان، وليس شدة السلطان قتلا بالسيف ولا ضربا بالسوط، ولكن قضاء بالحق وأخذا بالعدل.» وهذا من أبعد مرامي الإدارة العادلة إذا أحس أهل عمل من عاملهم العدل لا يحتاج في سياستهم إلى شيء من الشدة. كتب عمر إلى عمير أيام كان عمله على حمص: «أقبل بما جبيت من فيء المسلمين.» فسأله عمر عما عمله قال: بعثتني حتى أتيت البلد فجمعت صلحاء أهلها فوليتم جباية فيئهم، حتى إذا جمعوه وضعته مواضعه، ولو نالك منه شيء لأتيتك به. قال فما جئتنا بشيء؟ قال: لا. قال: جددوا لعمير عهدا. فقال عمير: لا عملت ولا لأحد بعدك، والله ما سلمت بل لم أسلم، لقد قلت لنصراني أي أخزاك الله. فهذا ما عرضتني له يا عمر، وإن أشقى أيامي يوم خلقت معك يا عمر. وكان إذا استعمل عاملا كتب عهده:
29 «وقد بعثت فلانا وأمرته بكذا ...» فلما استعمل حذيفة بن اليمان على المدائن كتب في عهده أن اسمعوا له وأطيعوه وأعطوه ما سألكم. فلما قدم المدائن استقبله الدهاقين، فلما قرأ عهده، قالوا: سلنا ما شئت. قال: أسألكم طعاما آكله وعلف حماري ما دمت فيكم. فأقام فيهم، ثم كتب إليه ليقدم عليه. فلما بلغ عمر قدومه كمن له في الطريق فلما رآه عمر على الحال التي خرج من عنده عليها أتاه فالتزمه وقال: أنت أخي وأنا أخوك.
فعمر إذا لم يختر للأعمال إلا أفاضل الرجال ممن كانوا على سمته وزهده. وكان كثيرا ما يستعمل قوما ويدع أفضل منهم لبصرهم بالعمل، ويقول: أكره أن أدنس هؤلاء بالعمل. وكان يشاور
30
في كثير من الوقائع حتى قال يوما لأصحابه أشيروا علي ودلوني على رجل أستعمله في أمر قد دهمني، فقولوا ما عندكم، فإني أريد رجلا إذا كان في القوم وليس أميرهم كان كأنه أميرهم، وإذا كان أميرهم كان كأنه واحد منهم. فقالوا: نرى لهذه الصفة الربيع بن زياد الحارثي فنشير على أمير المؤمنين به، فأحضره وولاه، فوفق في عمله، وقام فيه بما أربى على رجاء عمر فيه وزاد على عمله، فشكر عمر من أشاروا عليه بولاية الربيع.
كتب إلى عامله على البحرين العلاء بن الحضرمي أن سر إلى عتبة بن غزوان فقد وليتك عمله، واعلم أنك تقدم على رجل من المهاجرين الأولين الذين سبقت لهم من الله الحسنى، وإني لم أعزله ألا يكون عفيفا صليبا شديد البأس، ولكن ظننت أنك أغنى عن المسلمين في تلك الناحية؛ فاعرف له حقه. ولما سير عمر عتبة بن غزوان إلى البصرة ليقاتل من بالأبلة من فارس قال له: انطلق أنت ومن معك حتى تأتوا أقصى مملكة العرب وأدنى مملكة العجم. وأمره أن يشاور عرفجة بن هرثمة؛ لأنه ذو مجاهدة للعدو وذو مكايدة، وعزل عن بعض ولاية الشام شرحبيل بن حسنة، واستعمل بدلا منه معاوية بن أبي سفيان، واعتذر على رءوس الأشهاد أنه لم يعزله عن شيء هجنه به بل أراد رجلا أقوى من رجل. وبعث المغيرة بن شعبة عاملا على الكوفة لأنه قوي شديد، وكان عمر سأله عن الضعيف والقوي، فقال: أما الضعيف المسلم فضعفه عليك وعلى المسلمين وفضله له، وأما القوي المشدد فقوته لك وللمسلمين وشداده عليه. وعزل عامله على ميسان النعمان بن عدي؛ لأنه بلغه أنه قال أبياتا في التشبيب تشير إلى أنه يتعاطى الراح، مع أنه عارف بأن ذلك لم يكن وإنما هو قول شاعر. وعزل زياد بن أبي سفيان فقال زياد: أعن عجز عزلتني يا أمير المؤمنين أم عن خيانة؟ فقال: لا عن ذاك ولا عن هذا، ولكني كرهت أن أحمل على العامة فضل عقلك. وكتب إلى سعد بن أبي وقاص أن شاور طلحة الأسدي وعمرو بن معدي كرب في أمر حربك، ولا تولهما من الأمر شيئا، فإن كل صانع هو أعلم بصنعته. وكتب إلى النعمان
31
بن مقرن أن قبلك رجلين هما فارسا العرب عمرو بن معدي كرب وطليحة بن خويلد فشاورهما في الحرب ولا تولهما شيئا من الأمر. وبعث مع أبي عبيد بن مسعود سليط بن قيس لفتح العراق، وقال له: لولا عجلة فيك لوليتك، ولكن الحرب زبون لا يصلح لها إلا الرجل المكيث.
وسأل عمر عمرو بن معدي كرب عن خبر سعد بن أبي وقاص نفسه فقال: متواضع في حبائه، عربي في نمرته، أسد في تأموره،
32
يعدل في القضية ، ويقسم بالسوية، ويبعد في السرية، ويعطف علينا عطف الأم البرة، وينقل إلينا حقنا نقل الذرة. ولما شكا أهل الكوفة سعدا عزله عمر ولم تأخذه به هوادة؛ لأن الغاية إنفاذ العمل النافع للناس على يد أي كان من عماله، وأن لا يفتح للمسلمين بابا للشكوى. وخير ضروب السياسة أن يكون عمل العاملين فيها أكثر من قول القائلين، وسعد هذا هو الذي كان أجمع الصحابة على توسيد حرب العراق إليه، فأوصاه عمر بقوله: يا سعد سعد بني وهيب، لا يغرنك من الله أن قيل خال رسول الله وصاحب رسول الله، فإن الله - عز وجل - لا يمحو السيئ بالسيئ ولكنه يمحو السيئ بالحسن، وليس بين الله وبين أحد نسب إلا طاعته، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء، الله ربهم وهم عباده، يتفاضلون بالعافية ويدركون ما عنده بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت النبي منذ بعث إلى أن فارقنا فالزمه فإنه الأمر. هذه عظتي إليك إن تركتها ورغبت عنها حبط عملك وكنت من الخاسرين. وذهب سعد بهذه النصيحة فكان على يده فتح العراق.
كان عمر على شدة فيه مع عماله إذا أحس باعتداء أو شبه اعتداء وقع على أحدهم يشتد على المعتدين في تلك الناحية؛ ليبقى للعامل هيبة توقره في الصدور، ومهابة يلجم بها العامة والخاصة. وقع له مرة أن حصب
33
أهل العراق إمامهم، وقد كان عوضهم إماما مكان إمام كان قبله فحصبوه، فغضب وقال لأهل الشام: تجهزوا لأهل العراق فإن الشيطان قد باض فيهم وفرخ. ودعا عليهم؛ ذلك لأن شكوى العراقيين عاملهم كانت باطلة، وهو الذي يتحرى في انتقاء عماله ولا يستسلم لأحد منهم، بل يجعل بعضهم رقيبا على بعض، وله عليهم سلطان دونه كل سلطان. شكا عتبة بن غزوان
34
تسلط سعد بن أبي وقاص عليه فسكت عنه عمر، فأعاد عتبة ذلك مرارا، فلما أكثر على عمر قال: وما عليك يا عتبة أن تقر بالإمرة لرجل من قريش له صحبة مع رسول الله وشرف. فقال له عتبة: ألست من قريش والرسول يقول: «حليف القوم منهم.» ولي صحبة مع رسول الله قديمة لا تنكر ولا تدفع؟ فقال عمر: لا ينكر ذلك من فضلك. قال عتبة: أما إذا صار الأمر إلى هذا فوالله لا أرجع إليها أبدا. فأبى عمر إلا أن يرده فرده فمات بالطريق، وهذا من تأثير عمر في عماله ومعاملته لهم كما تريد المصلحة لا كما يريدون. مثال آخر يخالف هذا - والإدارة تختلف باختلاف الأزمان والبلدان - خالف معاوية وهو أمير الشام عبادة بن الصامت في شيء أنكره عبادة فأغلظ له معاوية في القول. فقال عبادة: لا أساكنك بأرض واحدة أبدا. ورحل إلى المدينة، فقال عمر: ما أقدمك؟ فأخبره. فقال: ارجع إلى مكانك يفتح الله أرضا لست فيها أنت ولا أمثالك. وكتب إلى معاوية لا إمرة لك عليه. ذلك أن عمر لم يكن يستغني عن خدمة معاوية ولا عن فضل عبادة.
كان عمر وهو خليفة لا يميز نفسه عن جمهور الناس بشيء في لباسه ومركبه وحركته، يختلط بالشعب كأنه واحد منهم، ومع هذا كان الناس يخافونه، ولو وقع مثل هذا التواضع أو التبذل من أحد أفراد الناس؛ لجسروا عليه وضعف سلطانه عليهم إن كان من أرباب السلطان. ولقد كلم الناس عبد الرحمن بن عوف أن يكلم عمر في أن يلين لهم؛ فإنه قد أخافهم حتى إنه أخاف الأبكار في خدورهن. فقال عمر: إني لا أجد لهم إلا ذلك؛ إنهم لو يعلمون ما لهم عندي لأخذوا ثوبي عن عاتقي. وقال عمر: قد ألنا وإيل علينا أي ولينا وولي علينا. معناه قد ولينا فعلمنا ما يصلح الوالي، وولي علينا فعلمنا ما يصلح الرعية.
وما أرانا نبعد عن الصواب إذا حكمنا أن شطرا عظيما من وقت عمر في ولايته كان يصرفه في سياسة العمال، وكشف حالهم، وانتقاء أصلحهم، وتسليكهم في الإدارة والسياسة والقضاء على أسلوب محكم لا تكاد تلحق به في هذا القرن أعرق الدول الحديثة في المدنية وأفضلها بنظمها الإدارية والدستورية. ولعل في الناس من يقول إذا عرضنا هنا لمصادرات عمر، وهذا أيضا من باب الشدة المتناهية والحجر على حرية العمال، وإدخال الخوف عليهم بالضرب على أيديهم على صورة تحرمهم متع الحياة، ولا توليهم منه غير الجفاء والخشونة في المعاملة. نعم، هكذا كان عمر، وهكذا وضع أساس الملك الإسلامي، هو لا يجوز إغناء أفراد بإفقار أمة، ولا إسعاد فئة بإشقاء مجموع. كان ممن يشترون رضا العامة بمصلحة الأمراء،
35
فكان الوالي في نظره فردا من الأفراد، يجري حكم العدل عليه كما يجري على غيره من سائر الناس، فكان حب المساواة لا يعدله شيء في أخلاقه. إذا اشتكى العامل أصغر الرعية جره إلى المحاكمة حيث يقف الشاكي والمشكو منه يسوي بينهم في الموقف حتى يظهر الحق فإن توجه قبل العامل اقتص منه إن كان هناك داع إلى القصاص أو عامله بما تقضي به الشريعة أو عزله. ومن عادة عمر أن يكتب أموال عماله إذا ولاهم، ثم يقاسمهم ما زاد على ذلك وربما أخذه منهم. مر ببناء يبني
36
بحجارة وجص فقال: لمن هذا؟ فذكروا عاملا له على البحرين فقال: أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها! وشاطره ماله، وكان يقول: لي على كل خائن أمينان الماء والطين.
ولقد صادر عمر عامله على مصر عمرو بن العاص؛ لأنه فشت له فاشية من متاع ورقيق وآنية وحيوان لم تكن له حين ولي مصر، فادعى عمرو أن أرض مصر أرض مزدرع ومتجر، وأنها أثمان خيل تناتجت، وسهام اجتمعت، وأنه يصيب فضلا عما يحتاج إليه لنفقته، ومع ذلك قاسمه عمر ماله. وصادر أبا هريرة عامله على البحرين؛ لأنه اجتمعت له عشرة آلاف وقيل عشرون ألفا، وادعى أن خيله تناسلت، وسهامه تلاحقت، وأنه اتجر، فقال له عمر: انظر رأس مالك ورزقك فخذه، واجعل الآخر في بيت المال. يريد بذلك أن يحصر العامل وكده في خدمة أهل عمله، أما الاتجار وتثمير الأموال فهذا ليس من شأن عمال الدولة؛ فإن لهؤلاء ما يتبلغون به من رزق. وكان يرى في مصادرة العمال وقهرهم ترويضا لهم على الطاعة وترك التبجح والإدلال على الرعية، وممن شاطرهم أيضا النعمان بن عدي عامله على ميسان، ونافع بن عمرو الخزاعي عامله على مكة، ويعلى بن منية عامله على اليمن، وسعد بن أبي وقاص عامله على الكوفة، وخالد بن الوليد عامله في الشام، وآخذ خالد بن الوليد؛ لأنه أمره أن يحبس المال على ضعفة المهاجرين فأعطاه ذا البأس وذا الشرف وذا اللسان فأجاز الأشعث لشعره؛ فغضب عمر، وكان أحد الشعراء كتب إليه يقول:
نحج إذا حجوا ونغزو إذا غزوا
فأنى لهم وفر ولسنا بذي وفر
إذا التاجر الهندي جاء بفأرة
من المسك راحت في مفارقهم تجري
فدونك مال الله حيث وجدته
سيرضون إن شاطرتهم منك بالشطر
فشاطرهم عمر أموالهم وتولى ذلك منهم محمد بن مسلمة لثقته به
37
ولم ينتطح في عمله عنزان. شاطر عمر سعدا وعمرا وخالدا وهم ممن يفتخر بهم الإسلام، استكثر عليهم أن ينعموا وإن كان الأول فاتح العراق والثاني فاتح مصر والثالث فاتح الشام.
وقيل لعمر: إن عياض بن غنم - وهو من كبار الفاتحين ورجال الإدارة في حكومته - يتوسع كثيرا في إعطاء المال بحيث لا يقل في هذا المعنى عن خالد بن الوليد، فقال: إن ذلك من شأن أبي عبيدة، وعياض من أقرباء أبي عبيدة. وعياض بن غنم هذا جلد صاحب دارا حين فتحت فأغلظ له هشام بن حكيم القول حتى غضب عياض، ثم مكث ليالي فأتاه هشام فاعتذر إليه، ثم قال هشام لعياض: ألم تسمع رسول الله يقول: «إن من أشد الناس عذابا أشدهم للناس عذابا في الدنيا.» فقال عياض: قد سمعنا ما سمعت ورأينا ما رأيت، أولم تسمع رسول الله يقول: «من أراد أن ينصح لذي سلطان عامة فلا يبد له علانية ولكن ليخل به فإن قبل منه فذاك وإلا كان قد أدى الذي عليه.» وإنك يا هشام لأنت الجريء إذ تجترئ على سلطان الله فهلا خشيت أن يقتلك السلطان فتكون قتيل سلطان الله.
كان عمرو بن العاص يبعث إلى عمر بالمال
38
بعد حبس ما كان يحتاج إليه، والمال يجبى من أموال الجزية وما يؤخذ من الخراج، وكان النصارى واليهود أقروا على ما في أيديهم من الأرض يعمرونها ويؤدون خراجها. ووضع في مصر عمر على كل حالم دينارين جزية إلا أن يكون فقيرا، وألزم كل ذي أرض مع الدينارين ثلاثة أرادب حنطة وقسطي زيت وقسطي عسل وقسطي خل رزقا للمسلمين تجمع في دار الرزق وتقسم فيهم. وأحصى عمرو بن العاص المسلمين فألزم جميع أهل مصر لكل رجل منهم جبة صوف وبرنسا أو عمامة وسراويل وخفين في كل عام أو بدل الجبة الصوف ثوبا قبطيا. واستبطأ عمر في بعض السنين خراج مصر فكتب إلى عمرو: «أما بعد، فإني فكرت في أمرك والذي أنت عليه، فإذا أرضك أرض واسعة عريضة رفيقة، وقد أعطى الله أهلها عددا وجلدا وقوة في بر وبحر، وأنها قد عالجها الفراعنة، وعملوا فيها عملا محكما مع شدة عتوهم وكفرهم، فعجبت من ذلك، وأعجب مما عجبت أنها لا تؤدي نصف ما كانت تؤديه من الخراج قبل ذلك على غير قحوط ولا جدوب ...» إلى آخر ما قال له، وهز أعصابه بكلمات قاسية، فأجابه عمرو: «لقد عملت لرسول الله ولمن بعده فكنا بحمد الله مؤدين لأمانتنا حافظين لما عظم الله من حق أئمتنا، نرى غير ذلك قبيحا، والعمل به سيئا ...» وقال: «فامض في عملك فإن الله قد نزهني عن تلك الطعم الدنية والرغبة فيها.» فكتب إليه: «إني لم أقدمك إلى مصر أجعلها لك طعمة ولا لقومك، ولكني وجهتك لما رجوت من توفيرك الخراج وحسن سياستك، فإذا أتاك كتابي هذا فاحمل الخراج فإنما هو فيء المسلمين، وعندي من قد تعلم قوم محصورون ...» فأجابه عمرو: «إن أهل الأرض استنظروني إلى أن تدرك غلتهم فنظرت للمسلمين فكان الرفق خيرا من أن نخرق
39
بهم فيصيروا إلى بيع ما لا غنى بهم عنه.»
ومع هذه الهيمنة من عمر على عماله نراه يشهد لعمرو بن العاص بحسن السياسة دليلا على تقديره عامله قدره، وكان من رأي عمرو بن العاص في سياسة مصر أن الذي يصلح هذه البلاد وينميها، ويقر قاطنيها فيها، ألا يقبل قول خسيسها في رئيسها، ولا يستأدى خراج ثمرة إلا في أوانها. وأن يصرف ثلث ارتفاعها في عمل جسورها وتربتها، وكان عمر يقول إذا رأى رجلا يتلجلج في كلامه: خالق هذا وخالق عمرو بن العاص واحد. وعمرو بن العاص المثل السائر في حسن السياسة بين رجال العرب، دهش قبط مصر بجميل عمله، فدخلوا في الإسلام كثيرا، وأدى به التسامح أن رفع رجل نصراني إليه أن غرفة بن الحارث الكندي من أصحاب الرسول الذين سكنوا مصر ضربه فوق أنفه، فقال عمرو للصحابي: إنا قد أعطيناهم العهد. كأنه يريد أن يؤاخذ الصحابي بما فعل، فقال غرفة: معاذ الله أن نعطيهم العهد على أن يظهروا شتم النبي، وإنما أعطيناهم العهد على أن نخلي بينهم وبين كنائسهم يقولون فيها ما بدا لهم، وأن لا نحملهم ما لا يطيقون، وإن أرادهم عدو بسوء قاتلنا دونهم، وعلى أن نخلي بينهم وبين أحكامهم إلا أن يأتونا راضين بأحكامنا فنحكم بينهم وإن عيبوا عنا لم نتعرض لهم. فقال عمرو: صدقت. خطب يوما في الجابية من حوران فمما قاله: ألا وإني ما وجدت صلاح ما ولاني الله إلا بثلاث: أداء الأمانة، والأخذ بالقوة، والحكم بما أنزل الله، ألا وإني ما وجدت صلاح هذا المال إلا بثلاث: أن يؤخذ من حق، ويعطى في حق، ويمنع من باطل. كتب معاوية إلى عمر يصف له سوء حال الشام فكتب إليه في مرمة حصونها وترتيب المقاتلة فيها، وإقامة الحرس على مناظيرها واتخاذ المواقيد
40
لها.
جاء عمر الشام مرات أربعا يكشف حال عمالها، ويعنى بقسمة الأرزاق، ويسمي الشواتي والصوائف أي غزوات الشتاء والصيف، ويسد الفروج والمسالح
41
في كل كورة، ويستعمل أناسا على السواحل من كل كورة أو يقسم المواريث بعد طاعون عمواس، وكان هلك فيه من المسلمين خمسة وعشرون ألفا. وقيل إن عماله استقبلوه مرة بأبهة فنزل وأخذ بالحجارة ورماهم بها، وقال: ما أسرع ما رجعتم عن رأيكم إياي؛ تستقبلون في هذا الزي، وإنما شبعتم منذ سنتين! وبالله لو فعلتم هذا على رأس المائتين لاستبدلت بكم غيركم. واعتذر له معاوية عامله في الشام عن الموكب الثقيل الذي كان له قائلا: إنا في بلاد لا تمتنع فيها من جواسيس العدو فلا بد لهم مما يرهبهم من هيبة السلطان فإن أمرتني بذلك قمت عليه، وإن نهيتني عنه انتهيت. فلم يأمره به ولم ينهه عنه. فقال عبد الرحمن بن عوف لعمر: لحسن ما صدر من هذا الفتى عما أوردته فيه فقال: لحسن مصادره وموارده جشمناه ما جشمناه. وقيل: إنه قدم معاوية على عمر من الشام
42
وهو أبض
43
الناس، فضرب عمر بيده على عضده فأقلع عن مثل الشراب أو مثل الشراك فقال: هذا والله لتشاغلك بالحمامات، وذوو الحاجات تقطع أنفسهم حسرات على بابك. وقال عمر: لئن عشت - إن شاء الله - لأسيرن في الرعية حولا فإني أعلم أن للناس حوائج تقطع عني، أما هم فلا يصلون إلي، وأما عيالهم فلا يرفعونها إلي، فأسير إلى الشام فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى مصر فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى البحرين فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى الكوفة فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى البصرة فأقيم بها شهرين.
وخصلة أخرى أيضا لعمر، تعد من بدائع إدارته الحسنة، وهو أنه ما كانت تفوته مسألة فيها تقوية قلوب الأمة والاعتماد على نفسها خطب مرة فقال: «أعطوا الحق من أنفسكم، ولا يحمل بعضكم بعضا على أن تحاكموا إلي؛ فإنه ليس بيني وبين أحد من الناس هوادة، وأنا حبيب إلي صلاحكم، عزيز علي عتبكم، وأنتم أناس عامتكم حضر في بلاد، وأهل بلد لا زرع فيه ولا ضرع إلا ما جاء الله به إليه.» يريد أن يعلم الناس أن لا يكثروا من الرجوع إلى الحاكم للفصل بينهم في خصوماتهم؛ ليصرف وقته في التفكير في أمورهم الخطيرة، وأن يعتمدوا على أنفسهم لا على صاحب السلطان، وأن يعرفهم حالة الحاضر والبادي منهم، ويعلمهم أن يعملوا ولا يسرفوا لأنهم فقراء. ولطالما قال لقومه أصلحوا أموالكم التي رزقكم الله، ولقليل في رفق خير من كثير في عنف. يريد أن يسوق الناس إلى المدنية بتؤدة على صورة فيها تدريج. وكان يقول: من كان له مال فليصلحه، ومن كانت له أرض فليعمرها، وإنه يوشك أن يجيء من لا يعطي إلا من أحب. ونظر إلى رجل مظهر للنسك متماوت فخفقه بالدرة وقال له: لا تمت علينا ديننا أماتك الله. وكان يقول: ليس قوم أكيس من أولاد السراري؛ لأنهم يجمعون عز العرب ودهاء العجم.
وكان غرام عمر أبدا أن يلقن قومه العمل ويبعد بهم عن حياة الكسل، ولطالما قال لكتابه وعماله: إن القوة على العمل أن لا تؤخروا عمل اليوم لغد، فإنكم إذا فعلتم ذلك تذاءبت
44
عليكم الأعمال فلا تدرون بأيها تبدءون ولا بأيها تأخذون. وما كان يرى إبعاد العامة عن المجالس العالية؛ لئلا تفوتهم الفوائد، وليتربوا على أيديهم بما يسمعون وينقلون عنهم، ويوزع الأعمال بين الكفاة وأرباب التخصص، ويقول: أيها الناس من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أبي بن كعب، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني، فإن الله جعلني له خازنا وقاسما.
وكتب عمر الناس على قبائلهم أي أحصاهم، ففرض الفروض وأعطى العطايا على السابقة، بدأ بالأقرب فالأقرب من الرسول، وفرض لأهل بدر ولمن بعدهم إلى الحديبية وبيعة رضوان، ثم لمن بعدهم، ولأهل القادسية واليرموك، وأعطى نساء النبي وغيرهم، ورزق الصبيان والأئمة والمؤذنين والمعلمين والقضاة والشعراء. وحلف على أيمان ثلاث فقال: والله ما أحد أحق بهذا المال من أحد وما أنا أحق به من أحد، والله ما من المسلمين من أحد إلا وله في هذا المال نصيب إلا عبدا مملوكا، ولكنا على منازلنا من كتاب الله تعالى، وقسمنا من رسول الله، فالرجل وبلاؤه في الإسلام، والرجل وقدمه في الإسلام، والرجل وغناؤه في الإسلام، والرجل وحاجته، والله لئن بقيت لهم ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال وهو يرعى مكانه.
جمع عمر المسلمين لأول عهده، وقال: ما يحل للوالي من هذا المال؟ فقالوا جميعا: أما لخاصته فقوته وقوت عياله، لا وكس ولا شطط، وكسوتهم وكسوته للشتاء والصيف، ودابتان إلى جهاده وحوائجه وصلاته وحجه وعمرته، والقسم بالسوية، وأن يعطي أهل البلاء على قدر بلائهم، ويرم أمور الناس بعد، ويتعاهدهم عند الشدائد والنوازل حتى تنكشف، ويبدأ بأهل الفيء. وكان عمر إذا احتاج أتى صاحب بيت المال فاستقرضه فربما عسر فيأتيه صاحب بيت المال فيتقاضاه فيلزمه فيحتال له عمر، وربما خرج عطاؤه فقضاه. وطلب من أحد أصحابه أن يقرضه مالا، فقال له: ما يمنعك أن تقترض من بيت المال؟ فأجابه: إنه إذا مات وهو له مدين ربما غفلوا عن تقاضي ما اقترض، أما صاحبه فإنه لحرصه على ماله يطالب الورثة بماله فيستوفيه وتبرأ ذمة عمر.
ومما تعلقت به همة عمر: إحداث أوضاع جديدة اقتضتها حالة التوسع في الفتوح؛ فهو أول من حمل الدرة
45
وهو أول من دون الدواوين على مثال دواوين الفرس والروم، دونها له عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم، وكانوا من نبهاء قريش لهم علم بالأنساب وأيام الناس. والديوان الدفتر أو مجتمع الصحف والكتاب يكتب فيه أهل الجيش وأهل العطية. وعرفوا الديوان بأنه موضع لحفظ ما تعلق بحقوق السلطنة من الأعمال والأموال ومن يقوم بها من الجيوش والعمال، وأطلق بعد حين على جميع سجلات الحكومة وعلى المكان الذي يجلس فيه القائمون على هذه السجلات والأضابير والطوامير. وثبت أنه كان له سجن
46
وأنه سجن الحطيئة على الهجو، وسجن ضبيعا على سؤاله عن الذاريات والمرسلات والنازعات وشبههن، وضربه مرة بعد مرة ونفاه إلى العراق، وكتب أن لا يجالسه أحد فلو كانوا مائة تفرقوا عنه حتى كتب إليه عامله أن حسنت توبته، فأمره عمر فخلى بينه وبين الناس. وكانت أعمال عمر جدا كلها لا يجوز لأحد أن يجلس في المسجد في غير أوقات الصلاة، وبنى في المسجد رحبة تسمى البطيحا، قال: من كان يريد أن يلغط أو ينشد شعرا أو يرفع صوته فليخرج إلى الرحبة. وما كان المسجد في أيامه لغير الصلاة والقضاء، وكان الخلفاء الراشدون يجلسون في المسجد لقضاء الخصومات. ولما كثرت الفتوحات وأسلمت الأعاجم وأهل البوادي وكثر الولدان أمر عمر ببناء بيوت المكاتب، ونصب الرجال لتعليم الصبيان وتأديبهم.
47
وضع عمر أول ديوان في الإسلام للخراج والأموال بدمشق والبصرة والكوفة على النحو الذي كان عليه قبل. وقيل: إن أول ديوان وضع في الإسلام هو ديوان الإنشاء
48
ودواوين الشام تكتب بالرومية، ودواوين العراق بالفارسية، ودواوين مصر بالقبطية، يتولاها النصارى والمجوس دون المسلمين. والسبب في تدوين الدواوين: أن عامل عمر على البحرين أتاه يوما بخمسمائة ألف درهم فاستعظمها، وجعل عليها حراسا في المسجد، فأشار عليه بعض من عرفوا فارس والشام أن يدون الدواوين يكتبون فيها: «الأسماء وما لكل واحد، وجعل الأرزاق مشاهرة» وجعل عمر تابوتا أي صندوقا لجمع صكوكه ومعاهداته. وجند الأجناد أي ألف الفيالق، فصير فلسطين جندا والجزيرة جندا، والموصل جندا وقنسرين
49
جندا، وأصبح كل جند في الشام والعراق يتألف من مقاتلة المسلمين، يقبضون أعطياتهم من البلد الذي نزلوه، فأصبحت الجندية خاصة بفئة من المسلمين، ويسير الناس بقضهم وقضيضهم إلى الزحف عند الحاجة حتى النساء والأولاد. وما كان الجند يجعلون كلهم في المسالح بل يترك بعضهم في البلاد يكونون على استعداد للوثبة عند أول إشارة، والغالب أنه كان يترك فضل في بيوت الأموال خارج الحجاز يستخدم في طارئ إذا طرأ، وما كانت الصوافي تحمل كلها إلى الحجاز، بل يدخر بعضها في بيوت الأموال في الشام والعراق ومصر، وجزء عظيم من دخل الدولة يصرف في الوجوه التي أشرنا إليها.
وعمر هو أول من لقب بأمير المؤمنين، وأول من استقضى القضاة، وأول من أحدث التاريخ الهجري فأرخ سنة ست عشرة بهجرة رسول الله من مكة إلى المدينة، فكان أول من أرخ الكتب وختم على الطين. قال اليعقوبي: وأمر زيد بن ثابت أن يكتب الناس على منازلهم، وأمره أن يكتب لهم صكاكا من قراطيسه ثم يختم أسافلها، فكان أول من صك وختم أسفل الصكاك،
50
وغير أسماء المسلمين بأسماء الأنبياء،
51
وكان أول من مصر الأمصار ، مصر المصرين البصرة والكوفة ، وكان إذا جاءته الأقضية المعضلة
52
قال لعبد الله بن العباس: إنها قد طرت علينا أقضية وعضل فأنت لها ولأمثالها. ثم أخذ بقوله، وما كان يدعو لذلك أحدا سواه، وكان من المسائل العامة يسأل الناس في المسجد عن آرائهم، ثم يعرض رأيه ورأيهم على مجلس شوراه وهم من كبار الصحابة، فما استقر عليه رأيهم أمضاه، فكانت أعماله ثمرة ناضجة من الآراء الصائبة، ولذلك ندرت هفواته في الإدارة بالقياس إلى غيره؛ لأنه يتروى ويعمل بآراء أهل الرأي. ولما أرسل عبد الله بن مسعود إلى العراق وزيرا ومعلما مع عمار بن ياسر الذي ولاه الإمارة كتب إلى أهل العراق: «وقد جعلت على بيت مالكم عبد الله بن مسعود، وآثرتكم به على نفسي.» وقد يبعث إلى بعض الأقطار عاملا على الصلاة والحرب ويسميه أميرا
53
وعاملا على القضاء وبيت المال ويسميه معلما ووزيرا كما فعل في العراق، أو يجمع للعامل بين الصلاة والخراج كعامل مصر. وتقسيم العمالات في الشام يختلف عن اليمن، وعامل البحرين لا يكون كعامل اليمامة، وقد يبعث أناسا لمساحة الأرض، وأناسا لتقدير الخراج، وآخرين لإحصاء الناس، وقال لعاملين له توليا مساحة العراق ووضع الخراج على سوادها: أخاف أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيقه، لئن سلمني الله لأدعن أرامل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبدا. وقال: اللهم إني أشهدك على أمراء الأمصار فإني إنما بعثتهم ليعلموا الناس دينهم وسنة نبيهم، ويعدلوا عليهم، ويقسموا فيئهم بينهم، ويرفعوا إلي ما أشكل عليهم من أمورهم.
وكان يرزق العامل بحسب حاجته وبلده، ولما استعمل زيد بن ثابت على القضاء فرض له رزقا، وكان يرزق عامله على حمص عياض بن غنم كل يوم دينارا وشاة ومدا. وبعث إلى الكوفة عمار بن ياسر على الثغر، وعثمان بن حنيف على الخراج، وعبد الله بن مسعود على بيت المال، وأمر هذا أن يعلم الناس القرآن ويفقههم في الدين، وفرض لهم شاة كل يوم، وجعل شطرها وسواقطها لعمار بن ياسر، والشطر الآخر بين عبد الله بن مسعود وعثمان بن حنيف . كان أبو بكر يساوي
54
الناس في العطاء ولا يفضل أهل السابقة، ويقول: إنما عملوا لله فأجورهم على الله، وإنما هذا المال عرض حاضر يأكله البر والفاجر وليس ثمنا لأعمالهم. وكان عمر يقول: لا أجعل من قاتل رسول الله كمن قاتل معه. ولم يقدر عمر الأرزاق إلا في ولاية عمار فأجرى عليه ستمائة درهم مع عطائه لولاته وكتابه ومؤذنيه ومن كان يلي معه في كل شهر. وكان عطاء عثمان بن حنيف خمسة آلاف درهم، وأجرى على عبد الله بن مسعود مائة درهم في كل شهر وربع شاة في كل يوم، وأجرى على شريح القاضي مائة درهم في كل شهر وعشرة أجربة، وإنما فضل عمارا لأنه كان على الصلاة. قال الحسن: وكان عطاء سلمان خمسة آلاف وكان على زهاء ثمانين ألفا من الناس. وأتاه
55
عبد الله بن عمر السعدي فقال له عمر: ألم أحدث أنك تلي من أعمال المسلمين أعمالا فإذا أعطيت العمالة كرهتها؟ فقال: بلى. فقال عمر: ما تريد إلى ذلك؟ قال: إن لي أفراسا وأعبدا، وأنا بخير، وأريد أن تكون عمالتي صدقة على المسلمين. فقال عمر: لا تفعل فإني كنت أردت الذي أردت، وكان رسول الله يعطيني العطاء فأقول: أعطه أفقر إليه مني. فقال النبي: خذه فتموله وتصدق به، فما جاءك من هذا المال من غير مسألة ولا إشراف فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك.
كان عمر يأمر الناس بالتفقه في الدين، ويجد في إرسال الفقهاء إلى الأمصار يفقهون المؤمنين ويعلمونهم دينهم، وقد لا يرسلهم إلا بعد أخذ رأيهم، ولما أراد أن يرسل سعد بن عبيد، وكان لا يسمى القارئ من الصحابة غيره قال له: هل لك في الشام فإن المسلمين نزفوا وإن العدو قد ذأروا
56
عليهم، وذلك بعد طاعون عمواس. وكان يقول حين خرج معاذ
57
بن جبل إلى الشام: لقد أخل خروجه بالمدينة وأهلها بالفقه، ولقد كنت كلمت أبا بكر - رحمه الله - أن يجلسه لحاجة الناس إليه فأبى علي، وقال: رجل أراد جهادا يريد الشهادة فلا أجلسه.
وفي كتب عمر إلى قضاته وعماله كأبي موسى الأشعري والقاضي شريح وأبي عبيدة ومعاوية وغيرهم قوانين في التشريع والإدارة سنها للمسلمين لا تزال إلى يوم الناس هذا هي المعول عليها، ورسالته في القضاء إلى أبي موسى الأشعري جمع فيها «جمل
58
الأحكام، واختصرها بأجود الكلام، وجعل الناس بعده يتخذونها إماما، ولا يجد محق عنها معدلا، ولا ظالم عن حدودها محيصا.» ولقد قالوا: «إذا
59
اختلف الناس في أمر فانظر كيف قضى عمر؛ فإنه لم يكن يقضي في أمر لم يقض فيه قبله حتى يشاور.» وكان أبدا يأخذ آراء أصحابه لا يقطع أمرا عظيما من دون استشارتهم ويقول: الرأي الفرد كالخيط السحيل، والرأيان كالخيطين المبرمين، والثلاثة مرار لا يكاد ينتقض. هذا ولو وضع علم عمر في كفة - كما قال ابن مسعود - ووضع علم أحياء العرب في كفة لرجح بهم علم عمر. وأنشد عمر ذات يوم شعر زهير بن أبي سلمى فلما بلغ قوله:
فإن الحق مقطعه ثلاث
يمين أو
60
نفار أو جلاء
جعل يتعجب من علمه بالحقوق وتفصيله بينها ويقول: لا يخرج الحق من إحدى ثلاث، إما يمين أو محاكمة أو حجة.
وكانت المدينة في أيامه أشبه بمدرسة يتخرج به فيها القضاة والعمال والقواد والأمراء، فلا يبعث إلى الأمصار إلا من اختبره في الجملة، وقلما أخطأت فراسته في الناس، وهو المثل الأمثل في جده. كان كعب بن سور جالسا عند عمر فجاءته امرأة تشتكي زوجها فقال لكعب: اقض بينهما، فلما قضى بما أعجبه وما لم يخطر له ببال قال لكعب: اذهب قاضيا على البصرة. ساوم عمر بفرس فركبه ليشوره
61
فعطب فقال للرجل: خذ فرسك. فقال الرجل: لا. قال: اجعل بيني وبينك حكما. قال الرجل: شريح. فتحاكما إليه فقال شريح: يا أمير المؤمنين خذ ما ابتعت، أو رد كما أخذت. فقال عمر: وهل القضاء إلا هكذا، سر إلى الكوفة. فبعثه قاضيا عليها. قالوا: وإنه لأول يوم عرفه فيه، وبقي شريح قاضيا هناك ستين سنة.
ومن الفقهاء في أيامه: أبو موسى الأشعري، وسلمان بن ربيعة الباهلي، وأبو قرة الكندي، وأبو الدرداء، وأبو سعيد الخدري، وعبد الله بن عباس. ومن عماله: نافع بن عبد الحارث الخزاعي، وسفيان بن عبد الله الثقفي، وعبد الله بن أبي ربيعة، وعبادة بن الصامت، وشداد بن أوس، وقتادة بن النعمان، وعمير بن عوف، وعمير بن وهب بن خلف الجمحي، وعتبة بن مسعود، وعدي بن أبي الزغباء الجهني، وعويم بن ساعدة، وسهيل بن رافع، ومسعود بن أوس بن زيد الأنصاري، وواقد بن عبد الله التميمي، ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهم. من كل من هو فرد في علمه، متميز بحسن سياسته وإدارته. كتب إلى أبي
62
موسى الأشعري: إنه لم يزل للناس وجوه يرفعون حوائج الناس فأكرم وجوه الناس، فبحسب المسلم الضعيف من العدل أن ينصف في الحكم والقسمة. يعني أن عمر أوصى بالأعيان، وإن كان يكره الشفاعة والوساطة. فقد توسط مولى عمر بأن يكتب كتابا إلى عامله في العراق ليكرم أحد من قصدوا إليها، فانتهره عمر وسبه، وقال: أتريد أن يظلم الناس؟ وهل هو إلا رجل من المسلمين يسعه ما يسعهم؟
كان ابن الخطاب يفحص أمورا لا تخطر ببال أحد. كتب إلى أبي موسى الأشعري: «إني قد بعثت إليك مع غاضرة بن سمرة العنبري بصحف فإذا أتاك لكذا وكذا فأعطه مائتي درهم، وإن جاءك بعد ذلك فلا تعطه شيئا، واكتب إلي في أي يوم قدم عليك.» يريد بذلك أن يعلم من يستعملهم الجد والاهتمام والحرص على الأوقات وضبط المواعيد، هو يعطي من أرسله بالصحف مائتي درهم إذا جد فوصل البلد الذي عين له في الأجل المضروب وإلا فيحرم أجرته، وكتب إلى أبي موسى الأشعري أيضا
63
إذا أتاك كتابي هذا فاضرب كاتبك سوطا واعزله عن عمله. وذلك أن كاتب أبي موسى كتب إلى عمر: «من أبو موسى.» وكان عليه أن يقول: «من أبي موسى.» ودبر عام الرمادة (17-18) تدبيرا إداريا ناجعا عندما رأى الناس يهلكون من المجاعة، فكتب إلى أمراء مصر والشام والعراق أن يوافوه بالميرة؛ فأتته القوافل تحمل طعاما كثيرا وغيره، فوسع على الناس، وكان قطع الطعام عن نفسه وأطعم الجياع، ولولا تدابيره هذه لهلك أهل الحجاز جميعهم.
ومن جملة تدابيره الإدارية أنه
64 «حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج من البلدان إلا بإذن وأجل فشكوه فبلغه فقام فقال: ألا إني قد سننت الإسلام سن البعير، يبدأ فيكون جذعا ثم ثنيا ثم رباعيا ثم سديسا ثم بازلا، ألا فهل ينتظر بالبازل إلا النقصان، ألا فإن الإسلام قد بزل
65
ألا وإن قريشا يريدون أن يتخذوا مال الله معونات دون عباده، ألا فأما وابن الخطاب حي فلا. إني قائم دون شعب الحرة آخذ بحلاقيم قريش وحجزها أن يتهافتوا في النار.»
هذا مجمل من إدارة عمر، وقد كان شديدا في إقامة الحدود يقيمها على أقرب الناس إليه: حد في الخمر ابنه، وعاقب ابن عمرو بن العاص عامل مصر؛ لأن أحد قبطها استعداه عليه. قال السائب بن يزيد كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله وإمارة أبي بكر وصدر من خلافة عمر، فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرجلنا وأرديتنا، حتى كان آخر إمرة عمر فجلد أربعين، حتى إذا عتوا وفسقوا جلدوا ثمانين، ولما ضعف نصاب الشهادة على المغيرة بالزنا سري عنه؛ لأنه ما أراد أن يرجم أحد الصحابة
66
وأراد أن يحد جبلة بن الأيهم من ملوك غسان؛ لأن رجلا فزاريا
67
في الحج وطئ على إزاره فلطمه جبلة فهشم أنفه، وشكاه الفزاري فأراد عمر جبلة على أن يفتدي نفسه أو يأمر الرجل بلطمه، فقال جبلة: كيف ذلك وأنا ملك وهو سوقة؟ فقال: إن الإسلام جمعكما، وسوى بين الملك والسوقة في الحد. ففر جبلة والتحق بالروم. وكان يساوي بين الناس في القضاء مهما علت منزلتهم، وبلغه عن بعض عماله وهو في دار الحرب أنه تعدى حدا من حدود الله فأغضى عنه لئلا يعتصم ببلاد الروم.
وكان يعرف أن الرسول قال: لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلما، فسكت عمر عنهم، وراعى العهود التي أعطاها الرسول لهم، ولما كان من جملة شروط نصارى نجران أن لا يأكلوا الربا أمر بإجلائهم، واشترى منهم أرضهم وأوصى بهم أهل الشام والعراق، ولما انطلق نصارى بني تغلب هاربين من الجزية أضعفها عليهم
68
وشرط عليهم أن لا ينصروا أولادهم، ولم يسمع لقول أحد بني تغلب أنهم قوم عرب يأنفون من الجزية وهم قوم لهم نكاية، وقوله له مهددا: لا تعن عدوك عليك. وكان يتحامى استعمال النصارى، وعرضوا عليه كتابا منهم فأبى أن يستعملهم، وكان إذا أراد
69
أن يأمر المسلمين بشيء أو ينهاهم عن شيء مما فيه صلاحهم بدأ بأهله وتقدم إليهم بالوعظ لهم، والوعيد على خلافهم أمره، وما كان يميز أحدا من آل بيته في شيء، وربما هضم بعض حقهم وأعطاه من هو أجد منهم. قسم
70
عمر مروطا
71
بين نساء المدينة فبقي فيها مرط جيد فقال له بعض من عنده: يا أمير المؤمنين، أعط هذا ابنة رسول الله التي عندك
72
فقال: أم سليط أحق به فإنها ممن بايع رسول الله، وكانت تزفر
73
لنا القرب يوم أحد. وقال أحدهم لعمر: اتق الله يا أمير المؤمنين، فقال: لا خير فيكم إن لم تقولوها لنا، ولا خير فينا إذا لم نقبلها منكم. وردت عليه امرأة فرجع إليها وقال: رجل أخطأ وامرأة أصابت.
وكان لا يقرب الشعراء، ولكنه يجرى عليهم رزقا يكفيهم. كتب مرة إلى المغيرة بن شعبة أن استنشد من قبلك من الشعراء ما قالوا في الجاهلية والإسلام
74
فأرسل إلى الأغلب العجلي فقال: إنه على استعداد لأن ينشده، ثم أرسل إلى لبيد بن ربيعة فقال: أنشدني. فقال: إن شئت أنشدتك مما عفي عنه من شعر الجاهلية، قال: لا، أنشدني ما قلت في الإسلام. فانطلق إلى أديم فكتب فيه سورة البقرة فقال: أبدلني الله مكان الشعر هذا. قال فكتب بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر: إنه لم يعرف أحد من الشعراء حق الإسلام إلا لبيد بن ربيعة، فأنقص من عطاء الأغلب خمسمائة واجعلها في عطاء لبيد. •••
نهج عمر بن الخطاب لمن يخلفه النهج الذي يجب السير عليه في تدبير الملك، وأوصى الخليفة بعده أن يقر عماله سنة فيما قيل، وأوصاه
75
بتقوى الله لا شريك له، وبالمهاجرين الأولين خيرا، وأن يعرف لهم سابقتهم، وأوصاه بالأنصار خيرا يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، وأوصاه بأهل الأمصار خيرا فإنهم ردء العدو وحياة الفيء، وأن لا يحمل فيئهم إلا عن فضل منهم، وأوصاه بأهل البادية خيرا فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام، وأن يأخذ من حواشي أموال أغنيائهم فيرده على فقرائهم، وأوصاه بأهل الذمة خيرا، وأن يقاتل من ورائهم ولا يكلفهم فوق طاقتهم إذا أدوا ما عليهم للمؤمنين طوعا أو عن يد وهم صاغرون، وأوصاه بالعدل في الرعية والتفرغ لحوائجهم وثغورهم، وأن لا يؤثر غنيهم على فقيرهم، وأن يشتد في أمر الله وحدوده ومعاصيه على قريب الناس وبعيدهم، ثم لا تأخذه في أحد رأفة حتى ينتهك منه مثل ما انتهك من حرم الله، ويجعل الناس عنده سواء لا يبالي على من وجب الحق، ثم لا تأخذه في الله لومة لائم، وأوصاه أن لا يرخص لنفسه ولا لغيره في ظلم أهل الذمة، وأنشده الله أن يرحم جماعة المسلمين، ويجل كبيرهم، ويرحم صغيرهم، ويوقر عالمهم، وأن لا يضربهم فيذلوا، ولا يستأثر عليهم بالفيء فيغضبهم، ولا يحرمهم عطاياهم عند محلها فيفقرهم، ولا يجمرهم في البعوث فيقطع نسلهم، ولا يجعل المال دولة بين الأغنياء منهم، ولا يغلق بابه دونهم فيأكل قويهم ضعيفهم.
ولما أفضى الأمر إلى عثمان بن عفان حافظ على الأوضاع التي وضعها عمر، وكان أول كتبه إلى أمراء الأجناد: «قد وضع لكم عمر ما لم يغب عنا بل كان على ملأ منا، ولا يبلغني عن أحد منكم تغيير ولا تبديل فيغير الله ما بكم، ويستبدل بكم غيركم.» وكان أول كتبه إلى عماله: «فإن الله أمر الأئمة أن يكونوا رعاة، ولم يتقدم إليهم أن يكونوا جباة، وإن صدر هذه الأمة قد خلقوا رعاة ولم يخلقوا جباة، وليوشكن أئمتكم أن يصيروا جباة ولا يكونوا رعاة، فإذا عادوا كذلك انقطع الحياء والأمانة والوفاء. ألا وإن أعدل السيرة أن تنظروا في أمور المسلمين وفيما عليهم ، فتعطوهم ما لهم وتأخذون بما عليهم، ثم تثنوا بالذمة فتعطوهم الذي لهم وتأخذوهم بالذي عليهم.» وكتب إلى عمال الخراج: «أما بعد فإن الله خلق الخلق بالحق، فلا يقبل إلا الحق، خذوا الحق وأعطوا الحق، والأمانة الأمانة قوموا عليها ولا تكونوا أول من يسلبها فتكونوا شركاء من بعدكم إلى ما اكتسبتم، والوفاء الوفاء لا تظلموا اليتيم ولا المعاهد فإن الله خصم لمن ظلمهم.» وكتب في الأمصار أن يوافيه العمال في كل موسم ومن يشكوهم، وكتب إلى الناس في الأمصار أن «ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، ولا يذل المؤمن نفسه فإني مع الضعيف على القوي ما دام مظلوما إن شاء الله.»
واعتمد عثمان لأول ولايته في مشورته على من اعتمد عليهم الشيخان من قبل، وفي الولايات على بعض من كانوا عمالا لعمر، ثم على أناس من أهله وعشيرته، وممن اعتمد عليهم مروان بن الحكم. وكان مروان في ولايته على المدينة يجمع أصحاب الرسول يستشيرهم، ويعمل بما يجمعون له عليه. ولم يكن عثمان مبتدعا بل كان متبعا؛ اتبع سيرة العمرين
76
في الحكومة، وما عزل أحدا إلا من شكاة أو استعفاء من غير شكاة. وكثر المال في أيامه فكان لا يتوقف في إنفاقه. قيل: إنه باع غنائم إفريقية بخمسمائة ألف دينار وأعطاها مروان ولم يطالبه بها، ولم يزل المال متوفرا حتى لقد بيعت الجارية بوزنها ورقا، وبيع الفرس بعشرة آلاف دينار، وبيع البعير بألف، والنخلة الواحدة بألف، وأعطى عبد الله بن الأرقم - وكان عمر استعمله على بيت المال - ثلاثمائة ألف درهم فأبى أن يقبلها وقال: عملت لله وإنما أجري على الله.
وكان عثمان جوادا ويحث عماله على الجود. قدم المدينة ابن خاله عبد الله بن عامر فاتح خراسان وأطراف فارس وسجستان وكرمان وزابلستان وهي أعمال غزنة، فقال له عثمان: صل قرابتك وقومك. ففرق في قريش والأنصار شيئا عظيما من الأموال والكسوات،
77
وأرسل إلى علي بن أبي طالب
78
بثلاثة آلاف درهم وكسوة، فلما جاءته قال: الحمد لله أنا نرى تراث محمد يأكله غيرنا. فبلغ ذلك عثمان فقال لابن عامر : قبح الله رأيك أترسل إلى علي بثلاثة آلاف درهم؟ قال: كرهت أن أغرق ولم أدر ما رأيك. قال: فأغرق. قال: فبعث إليه بعشرين ألف درهم وما يتبعها. قال: فراح علي إلى المسجد فانتهى إلى حلقة وهم يتذاكرون صلات ابن عامر، هذا الحي من قريش. فقال علي: هو سيد فتيان قريش غير مدافع. وكان ذلك من سياسة عثمان وحسن إدارته.
ومن ذلك أن عامله على الكوفة كتب إليه أن أهل الكوفة قد اضطرب أمرهم، وغلب أهل الشرف منهم والبيوتات والسابقة والقدمة، والغالب على تلك البلاد روادف ردفت وأعراب لحقت حتى ما ينفر إلى ذي شرف ولا بلاء من نازلتها ولا نابتتها. فكتب إليه عثمان: «أما بعد؛ ففضل أهل السابقة والقدمة ممن فتح الله عليه تلك البلاد، وليكن من نزلها بسببهم تبعا لهم، إلا أن يكونوا تثاقلوا عن الحق وتركوا القيام به وقام به هؤلاء، واحفظ لكل منزلته، وأعطهم جميعا بقسطهم من الحق فإن المعرفة بالناس بها يصاب العدل.» ا.ه.
وكانت
79
مغازي أهل الكوفة في زمنه الري وآذربيجان، وكان بالثغرين عشرة آلاف مقاتل من أهل الكوفة ستة آلاف بآذربيجان وأربعة بالري، وكان بالكوفة إذ ذاك أربعون ألف مقاتل، وكان يغزو هذين الثغرين منهم عشرة آلاف في كل سنة، فكان الرجل يصيبه في كل أربع سنين غزوة.
وضعفت الإدارة في النصف الأخير من عهد عثمان لشيخوخته، ولأنه لا يستطيع من كان في سنه أن ينظر في جميع المسائل. واشتغل بعض كبار العمال بأطماعهم في الولايات، وشاغب المحرومون على المنصوبين، وكثيرا ما كان يصر على تنفيذ أوامره لا يبالي كثيرا بالشكاوى؛ لعلمه بأنها صادرة على الأكثر عن أغراض شخصية، وما نفع اللين ولا الشدة يوم حم القضاء فكان من قتله ما كان.
ومن أهم الأسباب في مقتله غلطة إدارية بدرت منه ساق إليها الغضب والعجلة. قالوا: إنه اجتمع
80
أناس من أصحاب النبي كتبوا كتابا ذكروا فيه ما خالف فيه عثمان من سنة رسول الله، وما كان من تطاوله في البنيان، وما كان من إفشائه العمل والولايات في أهله وبني عمه من بني أمية أحداث وغلمة، لا صحبة لهم من الرسول ولا تجربة لهم بالأمور، وما كان من الوليد بن عقبة بالكوفة؛ إذ صلى بهم الصبح وهو أمير عليها سكران أربع ركعات، ثم قال لهم: إن شئتم أن أزيدكم ركعة زدتكم، وتعطيله الحد عليه وتأخيره ذلك عنه «جلده حين شهد عليه بشرب الخمر، وأنه تعاطاها» وتركه المهاجرين والأنصار لا يستعملهم على شيء، ولا يستشيرهم واستغنى برأيه عن رأيهم، وما كان من الحمى الذي حمى حول المدينة، وما كان من إدراره القطائع والأرزاق والأعطيات على أقوام بالمدينة ليست لهم صحبة من النبي ثم لا يغزون ولا يذبون، وما كان من مجاوزته الخيزران إلى السوط، وأنه أول من ضرب بالسياط ظهور الناس، وإنما كان ضرب الخليفتين قبله بالدرة والخيزران.
ثم تعاهد القوم ليدفعن الكتاب في يد عثمان، وكان ممن حضر الكتاب عمار بن ياسر والمقداد بن الأسود وكانوا عشرة، فلما خرجوا بالكتاب ليدفعوه إلى عثمان والكتاب في يد عمار، جعلوا يتسللون عن عمار حتى بقي وحده، فمضى حتى جاء دار عثمان فاستأذن عليه فأذن له في يوم شات، فدخل عليه وعنده مروان بن الحكم وأهله من بني أمية فدفع إليه الكتاب فقرأه فقال له: أنت كتبت هذا؟ قال: نعم. قال: ومن كان معك؟ قال: كان معي نفر تفرقوا فرقا منك. قال: ومن هم؟ قال: لا أخبرك بهم. قال: فلم اجترأت علي من بينهم؟ فقال مروان: يا أمير المؤمنين، إن هذا العبد الأسود - يعني عمارا - قد جرأ عليك الناس، وإنك إن قتلته نكلت به من وراءه. قال عثمان: اضربوه. فضربوه وضربه عثمان معهم حتى فتقوا بطنه، فغشي عليه فجروه حتى طرحوه على باب الدار، وغضب فيه بنو المغيرة وكان حليفهم؛ ذلك لأن عمارا كان من أعظم الصحابة، ومن النقباء في مجلس شورى الرسول، ومناقبه كثيرة في الإسلام، فمثل هذا لا يضرب على هذه الصورة البشعة، ومكانته مكانته بين المسلمين. والمثل العربي يقول: العبد يقرع بالعصا والحر تكفيه الملامة أو الإشارة، ومعاملة عمار بهذه القسوة ساقته إلى أن كان من أعظم من ألب الناس على عثمان، وخدم عليا ضروب الخدم حتى قتل في صفين.
ومن عمال عثمان: عبد الله بن الحضرمي، والقاسم بن ربيعة، وعبد الله بن عامر، وحبيب بن مسلمة الفهري، وأبو الأعور الأسلمي، وعلقمة بن حكيم، وجابر بن فلان المزني، وسماك الأنصاري، والقعقاع بن عمر، وجرير بن عيلان، والأشعث بن قيس، وعتيبة بن النهاس، ومالك بن حبيب، وسعيد بن قيس، والسائب بن الأقرع، وعقبة بن عامر، ومعاوية بن أبي سفيان، والغالب عليه مروان بن الحكم، وكان عثمان ست سنين في ولايته وهو أحب إلى الناس من عمر بن الخطاب، وكان عمر رجلا شديدا
81
قد ضيق على قريش أنفاسها لم ينل أحد معه من الدنيا شيئا إعظاما له وإجلالا وتأسيا به واقتداء، فلما وليهم عثمان وليهم رجل لين، ثم أنكر الناس عليه أشياء أشرا وبطرا. قال ابن عمر: لقد عيبت عليه أشياء لو فعلها عمر ما عيبت عليه.
أما طريقة علي بن أبي طالب فكانت أيضا في الإدارة طريقة من سبقوه إلى الإمامة: يولي العامل، ويطلق يده على الجملة، ويكشف حاله، ويدعو عماله إلى التبلغ بميسور العيش والرفق بالرعية، ويضع لهم المنهاج الذي يسيرون عليه. أوصى أحد عماله بأهل عمله فقال: إذا قدمت عليهم فلا تبيعن لهم كسوة شتاء ولا صيفا، ولا رزقا يأكلونه ولا دابة يعملون عليها، ولا تضرب أحدا منهم سوطا واحدا في درهم، ولا تقمه على رجله في طلب درهم، ولا تبع لأحد منهم عرضا في شيء من الخراج، فإنما أمرنا أن نأخذ العفو منهم. ومما كتبه إلى الأشتر النخعي وهو مما لم ينفذ وبقي في حيز الأقوال؛ لمقتل الأشتر قبل أن يبلغ مصر قوله: «وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله فإن في إصلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم؛ لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله، وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج؛ لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد، وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلا ... وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنما يعوز أهلها لإشراف الولاة على الجمع، وسوء ظنهم بالبقاء، وقلة انتفاعهم بالعبر.»
ومما جاء في هذا الكتاب: «ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختبارا، ولا تولهم محاباة وأثرة؛ فإنهم جماع من شعب الجور والخيانة، وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المتقدمة؛ فإنهم أكثر أخلاقا، وأصح أعراضا، وأقل في المطامع إشرافا، وأبلغ في عواقب الأمور نظرا، ثم أسبغ عليهم الأرزاق فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم إن خالفوا أمرك، أو ثلموا أمانتك. ثم تفقد أعمالهم، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية، وتحفظ من الأعوان فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك، اكتفت بذلك شاهدا، فبسطت عليه العقوبة في بدنه ...» وجاء في هذا الكتاب أيضا: «ثم إن للوالي خاصة وبطانة، فيهم استئثار وتطاول وقلة إنصاف في معاملة، فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال، ولا تقطعن لأحد من حاشيتك وحامتك
82
قطيعة، ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤنته على غيرهم.»
ومن وصية لعلي بن أبي طالب كان يكتبها لمن يستعمله على الصدقات، وهي أشبه بالأوامر العامة: «انطلق على تقوى الله وحده لا شريك له، ولا تروعن مسلما، ولا تجتازن عليه كارها، ولا تأخذن منه أكثر من حق الله في ماله. فإذا قدمت على الحي فانزل بمائهم، من غير أن تخالط أبياتهم. ثم امض إليهم بالسكينة والوقار. حتى تقوم بينهم فتسلم عليهم، ولا تخدج
83
بالتحية لهم، ثم تقول: عباد الله أرسلني إليكم ولي الله وخليفته لآخذ منكم حق الله في أموالكم، فهل لله في أموالكم من حق فتؤدوه إلى وليه. فإن قال قائل: لا. فلا تراجعه، وإن أنعم لك منعم فانطلق معه من غير أن تخيفه، أو توعده، أو تعسفه أو ترهقه. فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضة. فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلا بإذنه، فإن أكثرها له، فإذا أتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلط عليه، ولا عنيف به، ولا تنفرن بهيمة ولا تفزعنها، ولا تسوءن صاحبها فيها، واصدع المال صدعين ثم خيره، فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره. ثم اصدع الباقي صدعين ثم خيره. فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره. فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق الله في ماله، فاقبض حق الله منه، فإن استقالك فأقله، ثم اخلطهما ثم اصنع مثل الذي صنعت أولا حتى تأخذ حق الله في ماله. ولا تأخذن عودا
84
ولا هرمة ولا مكسورة ولا مهلوسة
85
ولا ذات عوار. ولا تأمنن عليها إلا من تثق بدينه، رافقا بمال المسلمين حتى يوصله إلى وليهم فيقسمه بينهم، ولا توكل بها إلا ناصحا شفيقا وأمينا حفيظا. غير معنف ولا مجحف ولا ملغب ولا متعب.
86
ثم أحدر إلينا ما اجتمع عندك نصيره حيث أمر الله، فإذا أخذها أمينك فأوعز إليه أن لا يحول بين ناقة وبين فصيلها، ولا يمصر
87
لبنها فيضر ذلك بولدها، ولا يجهدنها ركوبا، وليعدل بين صواحباتها في ذلك وبينها، وليرفه على اللاغب، وليستأن بالنقب والظالع،
88
وليوردها ما تمر به من الغدر، ولا يعدل بها عن نبت الأرض إلى جواد الطرق، وليروحها في الساعات، وليمهلها عند النطاف
89
والأعشاب، حتى تأتينا بإذن الله بدنا منقيات
90
غير متعبات ولا مجهودات، لنقسمها على كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وآله - فإن ذلك أعظم لأجرك وأقرب لرشدك إن شاء الله.»
ومن كتاب له إلى بعض عماله، وفيه جماع سياسة المخالفين والموافقين إذا جعله كل عامل دستوره في عمله قال: «أما بعد، فإن دهاقين
91
أهل بلدك شكوا منك غلظة وقسوة واحتقارا وجفوة، ونظرت فلم أرهم أهلا لأن يدنوا لشركهم، ولاأن يقصوا ويجفوا لعهدهم، فالبس لهم جلبابا من اللين تشوبه بطرف من الشدة، وداول لهم بين القسوة والرأفة، وامزج لهم بين التقريب والإدناء، والإبعاد والإقصاء إن شاء الله.» وكتب إلى زياد وكان عامله على فارس: «أما بعد، فإن رسولي أخبرني بعجب؛ زعم أنك قلت له فيما بينك وبينه أن الأكراد هاجت بك فكسرت عليك كثيرا من الخراج، وقلت له: لا تعلم بذلك أمير المؤمنين. يا زياد، وأقسم بالله إنك لكاذب، ولئن لم تبعث بخراجك لأشدن عليك شدة تدعك قليل الوفر ثقيل الظهر، إلا أن تكون لما كسرت من الخراج محتملا.» وكتب إلى كعب بن مالك: «أما بعد، فاستخلف على عملك، واخرج في طائفة من أصحابك حتى تمر بأرض كورة السواد فتسأل عن عمالي، وتنظر في سيرتهم فيما بين دجلة والعذيب.»
قال اليعقوبي:
92
إن عليا حكم بأحكام عجيبة حتى إنه حرق قوما ودخن على آخرين، وقطع بعض أصابع اليد في السرقة، وهدم حائطا على اثنين وجدهما على فسق، وكان يقول: استتروا ببيوتكم والتوبة وراءكم، من أبدى صفحته للحق هلك، إن الله أدب هذه الأمة بالسوط والسيف، وليس لأحد عند الإمامة هوادة. قالوا في القرآن أربعة سيوف: سيف على المشركين حتى يسلموا أو يؤسروا فإما منا بعد وإما فداء، وسيف على المنافقين وهو سيف الزنادقة، وقد أمر الله بجهادهم والإغلاظ عليهم في سورة براءة وسورة التحريم وآخر سورة الأحزاب، وسيف على أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، وسيف على أهل البغي وهو المذكور في سورة الحجرات، ولم يسل الرسول هذا السيف في حياته وإنما سله علي في خلافته. وكان يقول: أنا الذي علمت الناس قتال أهل القبلة، وله
صلى الله عليه وسلم
سيوف أخرى منها سيفه على أهل الردة وهو الذي قال فيه: «من بدل دينه فاقتلوه.» وقد سله أبو بكر من بعده في خلافته على من ارتد من قبائل العرب، ومنها: سيفه على المارقين وهم أهل البدع كالخوارج، وروي عن علي أن النبي أمر بقتال المارقين والناكثين والقاسطين، وقد حرق علي طائفة من الزنادقة فصوب ابن عباس قتلهم، وأنكر عليه تحريقهم بالنار فقال علي: ويح ابن عباس لبحاث عن الهنات.
وقالوا: إن
93
عليا كان يقسم ما في بيت المال كل جمعة حتى لا يترك فيه شيئا، ودخل مرة إلى بيت المال فوجد الذهب والفضة فقال: يا صفراء اصفري، ويا بيضاء ابيضي وغري غيري، لا حاجة لي فيك. وانتهى إليه أن أحد عماله يفرق ويهب الأموال وكان عليها، ولامه أن قسم فيء المسلمين في قومه ومن اعتراه من السألة والأحزاب وأهل الكذب من الشعراء كما يقسم الجوز. فأجابه عامله أنه منذ ولي العمل لم يرزأ من عمله دينارا ولا درهما ولا غيرها، وأن العزل أهون عليه من هذه التهمة. وقال علي: لئن بقيت لنصارى بني تغلب لأقتلن المقاتلة ولأسبين الذرية، فإني كتبت الكتاب بينهم وبين رسول الله على أن لا ينصروا أولادهم. ورأى علي دارا للقاضي شريح عمرها فقومت عليه بثمانين دينارا فوعظه وبكته ضمنا مع أنه كان يرزق خمسمائة درهم، وكان يقبل الهدية ويكافئ بمثلها، وهو من أكبر قضاة الصدر الأول.
ومن مجموع هذه الفقرات من كتب علي بن أبي طالب عرفنا منزعه في تدبير الملك، وشدته على من يطيل يده بالأذى إلى الرعية وإلى أموال الدولة، وكان هديه هدي أصحابه الثلاثة من قبل، ولكن التوفيق أخطأه، استغرقت الفتن أيامه، أكثر من التنظيم والإدارة، وفقد الاستقرار في البلاد للنزاع الذي قام بينه وبين خصومه. قال الجاحظ: لا يعلم رجل في الأرض متى ذكر السبق في الإسلام والتقدم فيه، ومتى ذكرت النخوة والذب عن الإسلام، ومتى ذكر الفقه في الدين، ومتى ذكر الزهد في الأمور التي يتناصر الناس عليها، كان مذكورا في هذه الخلال كلها إلا علي.
ومما يعد من خطيئاته الإدارية: مبادرته إلى عزل جميع عمال عثمان، ولم يتربص بالأمر وصول البيعة إليه من أهل الأمصار،
94
ولم يصخ إلى تحذير المحذرين، ولا نصح الناصحين، بل أبى من الإبقاء عليهم أو أحدا منهم إباء تاما كأنه قد وقر في نفسه أن هؤلاء العمال لا يصلحون لأن يلوا شيئا من أمر المسلمين، وأن الإبقاء على واحد منهم يوما كاملا نقص في دينه، ولو أنه اتأد في الأمر، وعالجه برفق وأناة، واصطبر حتى استتب له الأمر وبايعه أهل الأمصار لما كان في عزل الولاة شيء؛ لأن الخليفة هو الذي يعطي الولاة سلطانهم، فهو حر في اختيار عماله. ولما طالبه أصحاب الرسول بإقامة الحد على من شرك في دم عثمان بين لهم أن القوم الذين في أيديهم دم عثمان يملكون أهل المدينة وأهل المدينة لا يملكونهم، وقد ثارت إليهم العبدان وفاءت إليهم الأعراب، وبأيديهم الحول والطول بالمدينة، وأهلها لا يقدرون منهم على شيء، وطلب إليهم إنظاره حتى تهدأ الحال، ويتمكن من أخذ المجرمين بذنوبهم.
ومن عماله: عبد الله بن عباس، وكان واليه على البصرة، وإليه الصدقات والجند والمعاون، وقثم بن العباس، وعبيد الله بن عباس، وأبو الأسود الدؤلي، وسهل بن حنيف وغيرهم.
هوامش
إدارة الأمويين
الإدارة على عهد معاوية بن أبي سفيان
ما عرفت للحسن بن علي طريقة في الإدارة؛ لأنه لم يطل أمره غير بضعة أشهر وذلك في العراق والحجاز، أما سائر الأقطار فكانت في يد معاوية، ولكن عبد الله بن عباس من أعظم أنصار علي كتب إلى الحسن أن يولي أهل البيوتات والشرف يستصلح بهم عشائرهم حتى تكون الجماعة؛ فإن بعض ما يكره الناس ما لم يتعد الحق، وكانت عواقبه تدعو إلى ظهور العدل وعز الدين، خير من كثير مما يحبون، إذا كانت عواقبه تدعو إلى ظهور الجور ووهن الدين. حتى إذا كان عام الجماعة، ونزل الحسن عن الخلافة، وأجمع المسلمون على استخلاف معاوية (41ه) التفت هذا إلى سياسة الملك بحزم شديد وعزم أكيد، وقد كان من قبل يسوس الناس تحت سلطان أعظم من سلطانه، فأصبح يسوسهم بسلطانه مباشرة، ولا يطلب منه حساب لغير نفسه وديانه. وساعد معاوية على حسن إدارة الملك سابقة له من تجربة طويلة، ابتدأت منذ كان كاتب وحي رسول الله يشهد روعة الرسالة، ويأخذ من البيئة النبوية، فتثقف على أتم ما يكون من الكمال، ورأى منه أبو بكر وعمر ما رآه منه صاحبهما من الغناء فولي الشام عشرين سنة تمرس
1
خلالها بالسياسة، واتسع أمامه أفق جديد من النظر، فأدهش من تولى أمره بحلمه وعلمه وثاقب رأيه وفرط دهائه، وكان أبوه من قبل يعالج شئون الناس ويتألفهم ويعرف ما يصلحهم، وعنه أخذ شيئا في هذا المعنى، والناشئ في مثل هذه الأعمال يتحنك في الإدارة، ويكون إماما في صناعته.
حافظ معاوية على أصول الرسول والراشدين في الإدارة، وما حاد عنها إلا فيما قضت به المصلحة، ودعا إليه المحيط الجديد، مثل إخراج الإدارة من سذاجة البداوة إلى بحبوحة الحضارة، وعرف فوائد الشورى فما كان يصدر في المهمات إلا عن مشورة، فهو يرى من الطبيعي أن يأخذ بآراء أشراف القوم، وينزل على حكم وفود
2
البلاد، وله ولآل بيته مجالس يعقدونها في المسجد الجامع، تدور أبحاثها على سياسة البلاد وحكمها في الأكثر، ومجالس الأمويين أشبه بمجالس النواب والشيوخ والولايات، وما كان الأمويون إلى الاستبداد بالرأي في معظم حالاتهم، ولا سيما فيما له مساس بإصلاح الراعي والرعية.
كان معاوية يفض مشاكله بالحسنى، يلين للناس، ويشفع المجاملة بالإحسان، يوليه كل ناب
3
نابه في قومه، سيد مسود في أهله، ولا تلين قناته لمن يحاول قلب الخلافة وإخراجها عن بيته بعد أن آلت إليه، وما كان مع من يظلم رعاياه إلا شديدا، ويستميل القلوب بالعطاء وبالإقناع أو بالإغضاء أو بالمجادلة بالتي هي أحسن، وبلغ من سعة الصدر ووافر الحلم أن ضرب المثل بحلمه، وكان إذا لم تنجع في الناس وسائله اللينة، يعمد بعد التماس كل حيلة إلى القوة، وهو القائل: لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت. وقيل: وكيف ذاك؟ قال: كنت إذا مدوها خليتها، وإذا خلوها مددتها. وقال: إني لا أحول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين سلطاننا. ومن المستحيل كم
4
الأفواه أو تنطق بما يراد، ورضا الناس غاية لا تدرك. فما دام الأمر يفض بالكلام، ولا يقوم رجل جد يقلقل أمر الجماعة فالعالم أحرار في أقوالهم، ومتى لجئوا إلى القوة وتطالوا إلى الفتنة انكفأ عليهم بقوته، وما برحت همته منذ تولى الحكم مصروفة إلى سياسة الدولة، وما عدا ذلك فالناس وما يختارون من الآراء والمذاهب، وهو يستشير أرباب الرأي من أنصار دولته، ولا يأتمن في إدارة الولايات والأعمال إلا الكفاة من آل بيته، فإذا اتفق أن كان فلا ينزع إلى كذا أو يحب فلانا من خصومه أو يغلظ في بيان رأي يخالفه، فهذا مما لا يتعلق به كبير أمر عنده.
فالسياسة هي كل ما حصر فيه معاوية وكده، ومن أجل توطيد دعائمها لجأ إلى طرق في الدعوة مؤثرة، فجعل القصاص أو الوعاظ في المساجد والمعسكرات يدعون لدولته، وينفرون من أعدائها، وذلك لما رأى عليا
5
عند منصرفه من صفين قنت في الصلاة ودعا على من خالفه. فوقع في نفس معاوية أن يعامل عليا بالمثل، وأمر من يقص بعد الصبح وبعد المغرب أن يدعو له ولأهل الشام، وحمل الأمصار على احتذاء مثاله في عاصمته، فأحدث قصص الخاصة، عهد بها إلى رجال يهتمون بسلطانه. وظل قصاص العامة يجتمع إليهم النفر من الناس يعظونهم ويذكرونهم، ويقصون عليهم ما يرق قلوبهم، وكان القصاص إذا سلم الإمام من صلاة الصبح جلس فذكر الله وحمده ومجده وصلى على نبيه، ودعا للخليفة ولأهله ولأهل بيته وجنوده، وعلى أهل حربه وعلى الكفار كافة. ومن القصاص من كانوا يرفعون أيديهم في قصصهم كما كان سليم بن عتر قاص الجند زمان عمرو بن العاص.
ويقول من أمعنوا في درس تاريخ معاوية أن دعوى سنه لعن علي
6
عقبى كل خطبة
7
لم يقم عليها دليل ثابت يركن إليه، وما من أثر يدل على أن هذا اللعن تقدم مروان بن الحكم، وبذلك يبرأ معاوية من هذه الوصمة، وجلب لعن الأمويين عليا من
8
البغضاء المستترة أكثر مما نالهم من الفائدة الحقيقية، كما أخطأ معاوية بإطلاق يد زياد في سياسة القمع في العراق على صورة هائلة تخالف ما كانت عليه سياسة معاوية من اللين، وكان عليه أن يطبق بنفسه هذه السياسة مباشرة، وانتشر لعن الطالبيين للأمويين ولعن الأمويين للطالبيين في كل مكان، وقد لعن الأمويون عليا على منابرهم نحو ألف شهر، ولم تبطل هذه البدعة السيئة إلا في عهد عمر بن عبد العزيز، استعاض عنها بآية:
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان
الآية، وقيل: بل جعل مكان ذلك:
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر
وقيل بل جعلهما جميعا، وكان العلويون يقنتون عقب الصلوات يلعنون بني أمية يشفون بذلك نفوسهم الثائرة، من أجل دماء مطلولة، وطوائل
9
طويلة، وملك مستأثر به.
واقتفى معاوية فعل عمر بن الخطاب في العلم بأخبار رجاله ورعيته فانتظم له أمره، وكذا كان زياد بن أبيه وعبد الملك والحجاج. قال الجاحظ: ثم لم يكن بعد هؤلاء أحد في مثل هذه السياسة حتى ملك المنصور، ونقل عن زياد أن رجلا كلمه في حاجة، وجعل يتعرف إليه، ويظن أن زيادا لا يعرفه فقال: أنا فلان بن فلان، فتبسم زياد وقال له: أتتعرف إلي وأنا أعرف منك بنفسك؟ والله إني لأعرفك وأعرف أباك وأمك وأعرف جدك وجدتك وأعرف هذا البرد الذي عليك وهو لفلان وقد أعارك إياه، فبهت الرجل وأرعد
10
حتى كاد يغشى عليه.
قلنا: إن معاوية كان يتخير عماله من كفاة أهل بيته أو من غيرهم من رجال دولته وأنصار دعوته، وقد انتهى إلى علمه أن ابن أخته عبد الرحمن بن أم الحكم عامله على الكوفة قد أساء السيرة في إمارته فعزله وأقصاه عن الحكم، وقيل: إن سبب عزله أن عبد الله بن همام السلولي قال شعرا وكتبه في رقاع ألقاها في المسجد الجامع وهي:
ألا أبلغ معاوية بن صخر
فقد خرب السواد فلا سوادا
أرى العمال أقساء علينا
بعاجل نفعهم ظلموا العبادا
فهل لك أن تدارك ما لدينا
وتدفع عن رعيتك الفسادا
وتعزل تابعا أبدا هواه
يخرب من بلادته البلادا
إذا ما قلت أقصر عن هواه
تمادى في ضلالته وزادا
وكان معاوية إذا أراد أن يولي رجلا من بني حرب ولاه الطائف، فإن رأى منه خيرا وما يعجبه ولاه مكة معها، فإن أحسن الولاية وقام بما ولي قياما حسنا جمع له معهما المدينة. فكان إذا ولى الطائف رجلا قيل هو في أبي جاد، فإذا ولاه مكة قيل هو في القرآن، فإذا ولاه المدينة قيل هو قد حذق.
11
وأوصى أحد أقاربه ممن استعمله فقال: لا تبيعن كثيرا بقليل، وخذ لنفسك من نفسك، واكتف فيما بينك وبين عدوك بالوفاء تخف عليك المؤنة وعلينا منك، وافتح بابك للناس. وقال لآخر: إذا أعطيت عهدا فف به، ولا تخرجن منك أمرا حتى تبرمه، فإذا خرج فلا يردن عليك، ولا تطمعن أحدا في غير حقه ولا تؤيسن أحدا من حق له. قواعد وضعها معاوية لعماله وفيها شيء من الأساليب لكف الناس بعضهم عن بعض، وإرضاء كل واحد بحقه، وتوفير ثقة الرعايا بولاتهم؛ ليعتقدوا أنهم لا يكذبون، وأنهم إذا قالوا فعلوا.
ومن يمن الدولة الأموية أن كانت لا تستعمل من العمال إلا من ثبتت كفاءته ونجدته في تأييد سلطانها، يمحضونها النصح، ولا يغفلون عن تعهد حال الناس، وكشف ظلاماتهم، واتخاذ الطرق المفضية إلى ما فيه راحتهم وهناؤهم، وإذا تبرم أهل قطر بتدابير من وليهم ينقله الخليفة إلى قطر آخر يستعيض عنه أكفأ منه أو من كان على شاكلته أو ألين منه عريكة، يريد عاملا حقيقيا للعمل لا عملا لعامل يرزقه، يتطلب عاملا إذا عرضت له المعضلات أن يفتق له وجه الحيلة ما يتوجه له فيه وجه. أوعز زياد إلى والي خراسان أن يصطفي لمعاوية الصفراء والبيضاء فلا يقسم في الناس ذهبا ولا فضة؛ عملا بكتاب ورد عليه من الخليفة. فكتب والي خراسان إلى زياد: بلغني ما ذكرت من كتاب أمير المؤمنين وإني وجدت كتاب الله تعالى قبل كتاب أمير المؤمنين، وإنه والله لو أن السماء والأرض كانتا رتقا
12
على عبد ثم اتقى الله جعل له مخرجا، والسلام. وقسم الفيء بين الناس من الذهب والفضة، ولم ينفذ ما أمر به الخليفة من أمر يجحف بأرباب الاستحقاق في العطاء من الجند والعمال؛ ذلك لأنه رأى في ولايته ما لم يره الخليفة ولا عامله الأكبر زياد. وهذا مما يشعر بما كان للعامل الأمين في عهد معاوية من الحرية فيما يرتئيه لإصلاح عمله. والإدارة في قطر قد لا تصلح لقطر آخر، والحاضر يرى ما لا يراه الغائب.
قال زياد: ما غلبني أمير المؤمنين إلا في واحدة، طلبت رجلا فلجأ إليه وتحرم
13
به. فكتب إليه: إن هذا فساد لعملي إذا طلبت رجلا لجأ إليك وتحرم بك. فكتب إليه معاوية: إنه لا ينبغي أن نسوس الناس بسياسة واحدة فيكون مقامنا مقام رجل واحد، ولكن تكون أنت للشدة والغلظة، وأكون أنا للرأفة والرحمة، فيستريح الناس بيننا. وأعظم بمثل هذا الدهاء! وقديما قالوا: الدهاة أربعة؛ معاوية للروية، وعمرو بن العاص للبديهة، والمغيرة بن شعبة للمعضلات، وزياد لكل كبيرة وصغيرة. وقال بعضهم: دهاة العرب وذوو الرأي والمكيدة: معاوية وعمرو والمغيرة وقيس بن سعد وعبد الله بن بديل بن ورقاء. وأربعة ممن ذكر دبروا ملك بني أمية والآخران كانا من جماعة علي.
علمنا أن معاوية ما كان يستخدم الحسام، إذا أجزأه
14
الكلام، رمى أهل مصر بعمرو بن العاص لأنهم اشتركوا في مقتل عثمان، كما اشتركت الكوفة والبصرة وبعض أهل المدينة، ولما هلك ولى مصر أخاه عتبة بن أبي سفيان،
15
وكان والي عمر على الطائف وصدقاتها، وهو من بلغاء الخطباء، قيل: لم يكن في بني أمية أخطب منه. فاشتد على أهل مصر وطأمن من جماحهم، وأدخل الرهبة على قلوبهم. ومن جملة ما خطبهم، وفيه نموذج من خطته وخطة أخيه، قوله:
يا أهل مصر، خف على ألسنتكم مدح الحق ولا تفعلونه، وذم الباطل وأنتم تأتونه، كالحمار يحمل أسفارا أثقله حملها ولم ينفعه علمها، وإني والله لا أداوي أدواءكم بالسيف، ولا أبلغ السيف ما كفاني السوط، ولا أبلغ السوط ما كفتني الدرة، ولا أبطئ عن الأولى إن لم تصلحوا عن الأخرى، ناجزا
16
بناجز، ومن حذر كمن بشر، فدعوا قال ويقول، من قبل أن يقال فعل ويفعل، فإن هذا اليوم الذي ليس فيه عقاب، ولا بعده عتاب. وخطب الناس بمصر عن موجدة
17
فقال: يا حاملي ألأم آنف
18
ركبت بين أعين، إني إنما قلمت
19
أظفاري عنكم ليلين مسي لكم، وسألتكم صلاحكم؛ إذ كان فسادكم باقيا عليكم، فأما إذا أبيتم إلا الطعن على السلطان، والتنقص للسلف، فوالله لأقطعن بطون السياط على ظهوركم، فإن حسمت أدواؤكم وإلا فإن السيف من ورائكم، فكم من حكمة منا لم تعها قلوبكم، ومن موعظة منا صمت عنها آذانكم، ولست أبخل عليكم بالعقوبة، إذ جدتم بالمعصية، ولا أويسكم من مراجعة الحسنى، إن صرتم إلى التي هي أبر وأتقى.
واستخلف عتبة هذا عاملا له على أهل مصر، وكانت له شدة، فامتنع عليه بعض أهلها فكتب إلى عتبة. فقدمها فدخل المسجد ورقي المنبر، وقال: يا أهل مصر، قد كنتم تعذرون ببعض المنع منكم لبعض الجور عليكم، وقد وليكم من إن قال فعل، فإن أبيتم درأكم
20
بيده، فإن أبيتم درأكم بسيفه، ثم جاء في الآخر ما أدرك في الأول: إن البيعة شائعة، لنا عليكم السمع، ولكم علينا العدل، وأينا غدر فلا ذمة له عند صاحبه. فناداه المصريون من جانب المسجد: «سمعا سمعا.» فناداهم: «عدلا عدلا.» تهديد نافع هدد به عتبة أهل مصر ليحملهم على الطاعة، ويدفع عن البلاد غائلة الفتن بموعظته في خطبته، وأسلوب جميل في الإدارة من أنفع الطرق التي تنجع فيها الخطابة السياسية.
وكلما لمح عتبة شرارة الفتنة خطب القوم بما يطفئها من معين بلاغته. احتبست كتب معاوية حتى أرجف أهل مصر بموته، ثم ورد كتابه بسلامته؛ فصعد عتبة المنبر والكتاب بيده وقال: «يا أهل مصر، قد طالت معاتبتنا إياكم بأطراف الرماح وظبات
21
السيوف حتى صرنا شجى في لهواتكم
22
ما تسيغنا حلوقكم، وأقذاء
23
في أعينكم ما تطرف عليها جفونكم، فحين اشتدت عرى الحق عليكم عقدا، واسترخت عقد الباطل منكم حلا؛ أرجفتم بالخليفة وأردتم توهين السلطان، وخضتم الحق إلى الباطل، وأقدم عهدكم به حديث؟ فاربحوا أنفسكم إذ خسرتم دينكم، فهذا كتاب أمير المؤمنين بالخبر السار عنه، والعهد القريب منه، واعلموا أن سلطاننا على أبدانكم دون قلوبكم، فأصلحوا لنا ما ظهر نكلكم إلى الله فيما بطن، وأظهروا خيرا وإن أسررتم شرا، فإنكم حاصدون ما أنتم زارعون، وعلى الله نتوكل وبه نستعين.» ا.ه.
وخطب عتبة في الموسم في سنة إحدى وأربعين، وعهد الناس حديث بالفتنة، فاستفتح ثم قال: «أيها الناس إنا قد ولينا هذا الموضع الذي يضاعف الله فيه للمحسن الأجر، وعلى المسيء الوزر، فلا تمدوا الأعناق إلى غيرنا، فإنها تنقطع دوننا، ورب متمن حتفه في أمنيته، اقبلوا العافية ما قبلناها منكم وفيكم.» وقد عرفنا بهذه النموذجات من الخطب كيف أخذ بنو أمية يصفون البلاد من كدورات الفتنة، وبعتبة وبأمثاله أدخلوا الناس في الطاعة، وكانوا ركبوا رءوسهم
24
في الغوائل وأوغلوا، وبعتبة وبأمثاله من العمال الذين كانوا يعملون للجماعة بعقولهم وقلوبهم، وهم على اقتناع من صحة دعواهم، دفعوا الناس إلى الانقطاع إلى أعمالهم، واضطروهم إلى أن يتركوا الخوض في سياسة الملك، إلى من يحسن القيام عليها. ومن نظر في سيرة أولئك العمال يأخذه العجب من عفتهم عن الأموال، وتبلغهم بالقليل، وإنفاقهم بلا حساب لتأليف الشارد واستمالة الخصم المعاند؛ فقد ذكر المؤرخون أن عمرو بن العاص الذي ولي مصر مرتين، وجعلها له معاوية في المرة الثانية طعمة بعد الإنفاق على مرافقها إذا هو ساعده على قتال علي. إن هذه الطعمة لم تعد على عمرو بثروة تذكر، وما اشتد عمرو على أهل مصر اشتداد عتبة لأن هذا كان في سن الكهولة وعمرو في سن الشيخوخة، والشيوخ في الإدارة أقرب إلى الحنكة
25
والروية من الشباب على الأغلب. أما سائر عمال الدولة فكانوا بحسب الحال: على طريقة عتبة الناطقة أو على طريقة عمرو الصامتة.
كانت العراق بعد حوادث علي تغلي غليان المرجل
26
بالثوار، وتعج بأرباب الشغب، فرماهم معاوية بزياد بن أبي سفيان فخطب أهلها قائلا: «حرام علي الطعام والشارب حتى أسويها بالأرض هدما وإحراقا، إياي ودلج
27
الليل، فإني لا أوتى بمدلج إلا سفكت دمه، وإياي ودعوى الجاهلية فإني لا أجد أحدا دعا بها إلا قطعت لسانه، وقد أحدثتم أحداثا وأحدثنا لكل ذنب عقوبة، فمن غرق قوما أغرقته، ومن أحرق قوما أحرقته، ومن نقب بيتا نقبت عن قلبه، ومن نبش قبرا دفنته فيه حيا، فكفوا أيديكم وألسنتكم أكف عنكم، وقد كانت بيني وبين أقوام أشياء قد جعلتها دبر أذني وتحت قدمي، فمن كان محسنا فليزدد، ومن كان مسيئا فلينزع. إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعا، ولم أهتك له سترا، حتى يبدي لي صفحته
28
فإذا فعل ذلك لم أناظره، فأعينوا على أنفسكم وأتنفوا
29
أمركم.» ومعنى هذا أن زيادا أعلن في العراق الإدارة العرفية العسكرية، وصرح بأنه يتناسى ما سبق للقوم من الخطيئات للدولة ولنفسه، إذا أحسنوا السيرة، وأنه ينوي افتتاح عهد جديد يغاث فيه الناس ويستريح السلطان. ومع هذه الشدة البادية في كلام
30
زياد كان يبعث إلى الجماعة منهم، فيقول: ما أحسب الذي يمنعكم من إتياني إلا الرجلة
31
فيقولون: أجل. فيحملهم ويقول: اغشوني الآن واسمروا عندي. يحاول تألفهم والوقوف على آرائهم من طرف خفي، والبعد جفاء، والعامل مضطر إلى أن يعلم البواطن والظواهر، ولا ميدان لالتقاط الفوائد إلا في المجالس الخاصة. قال عمر بن عبد العزيز: قاتل الله زيادا جمع لهم كما تجمع الذرة، وحاطهم كما تحوط الأم البرة، وأصلح العراق بأهل العراق، وترك أهل الشام في شامهم، وجبى العراق مائة ألف ألف وثمانية عشر ألف ألف. ا.ه.
كان زياد إذا ولى رجلا قال له: خذ عهدك وسر إلى عملك، واعلم أنك مصروف رأس سنتك، وأنك تصير إلى أربع خلال فاختر لنفسك: إذا وجدناك أمينا ضعيفا استبدلنا بك لضعفك، وسلمتك من موتنا أمانتك، وإن وجدناك خائنا قويا استهنا بقوتك، وأحسنا على خيانتك أدبك فأوجعنا ظهرك، وأثقلنا غرمك، وإن جمعت علينا الجرمين، جمعنا عليك المضرتين، وإن وجدناك أمينا قويا زدنا في عملك، ورفعنا لك ذكرك، وأكثرنا مالك وأوطأنا
32
عقبك.
مثال من أعمال عمال معاوية، وما يريدون أن يكون عليه من يتصرفون للسلطان ليستقيم أمر البلاد. وكان زياد يقول : استوصوا بثلاثة منكم خيرا: الشريف والعالم والشيخ؛ فوالله لا يأتيني شيخ بشاب قد استخف به إلا أوجعته، ولا يأتيني عالم بجاهل استخف به إلا نكلت به، ولا يأتيني شريف بوضيع استخف به إلا انتقمت له منه. قال زياد لحاجبه: كيف تأذن للناس؟ قال: على البيوتات، ثم على الأنساب، ثم على الآداب. قال: فمن تؤخر؟ قال: من لا يعبأ الله بهم. قال: ومن هم؟ قال: الذين يلبسون كسوة الشتاء في الصيف وكسوة الصيف في الشتاء. وقال لحاجبه: وليتك حجابتي وعزلتك عن أربع: هذا المنادي إلى الله في الصلاح والفلاح لا توقفه عني، ولا سلطان لك عليه، وطارق الليل لا تحجبه، فشر ما جاء به، ولو كان خيرا ما جاء في تلك الساعة، ورسول صاحب الثغر، فإن أبطأ ساعة فسد عمل سنة، وصاحب الطعام فإن الطعام إذا أعيد تسخينه فسد. قال العتبي: كان في مجلس زياد مكتوب: «الشدة في غير عنف، واللين في غير ضعف، المحسن يجازى بإحسانه، والمسيء يعاقب بإساءته، الأعطيات في أيامها، لا احتجاب من طارق ولا صاحب ثغر.» وكان زياد يؤثر الأعمال على الأقوال؛ لعلمه بأنها تنادي على نفسها؛ فقد بنى بالبصرة أحياء ودورا ومساجد وحفر أنهارا وترعا، وكل ما بنى فيها أو صنع فإنه نسب إلى غيره.
33
وزياد في الواقع لم يزل بالمداراة من يوم كان أميرا على فارس، وهي تضرم نارا
34
حتى عادوا إلى ما كانوا عليه من الطاعة والاستقامة، لم يقف موقفا للحرب، وكان أهل فارس يقولون: ما رأينا سيرة أشبه بسيرة كسرى أنوشروان من سيرة هذا العربي في اللين والمداراة والعلم بما يأتي. ولما قدم فارس بعث إلى رؤسائها فوعد من نصره ومناه وخوف قوما وتوعدهم، وضرب بعضهم ببعض، ودل بعضهم على عورة بعض، وهربت طائفة وأقامت طائفة، فقتل بعضهم بعضا، وصفت له فارس فلم يلق فيها جمعا ولا حربا، وفعل ذلك بكرمان. وقدم زياد العراق وهي جمرة تشتعل
35
فسل أحقادهم وداوى أدواءهم. وابنه عبد الله تولى العراق بعده، وهو أول من عرف العرفاء، ودعا الفقراء، ونكب
36
المناكب، وحصل الدواوين، ومشى بين يديه بالعمد ووضع الكراسي، وعمل المقصورة ولبس الزيادي، وربع الأرباع بالكوفة، وخمس الأخماس بالبصرة، وأعطى في يوم واحد للمقاتلة والذرية من أهل البصرة والكوفة، وبلغ بالمقاتلة من أهل الكوفة ستين ألفا ومقاتلة البصرة ثمانين ألفا والذرية مائة ألف وعشرين ألفا. وضبط زياد وابنه عبد الله العراق بأهل العراق. هكذا كانت أعمال العمال تسير على أجمل مثال.
كتب معاوية إلى سليم بن عتر قاضي مصر يأمره بالنظر في الجراح والحكم فيها، وكان الرجل إذا أصيب فجرح بذلك الجرح فقصته على عاقلة
37
الجارح، ويرفعها إلى صاحب الديوان، فإذا حضر العطاء اقتضى من أعطيات عشيرة الجارح ما وجب للمجروح وينجم
38
ذلك في ثلاث سنين. والقاضي سليم هذا أول من سجل في مصر سجلا بقضائه، وذلك أنه اختصم إليه في ميراث فقضى بين الورثة، ثم تناكروا فعادوا إليه، فقضى بينهم وكتب كتابا بقضائه، وأشهد فيه شيوخ الجند ثم سجله. وكان من سياسة معاوية أن يحمي عماله الصادقين، وما كان يقيد من عماله ويدي
39
من بيت المال.
وابتكر معاوية في الدولة أشياء لم يسبق أحد إليها،
40
منها: أنه أول من وضع الحشم للملوك، ورفع الحراب بين أيديهم، ووضع المقصورة التي يصلي فيها الخليفة منفردا عن الناس، وهو أول مسلم غزا في البحر وأنشأ الأسطول في صناعة صور وعكا وطرابس، وغزا الروم، ولما فتح قبرص ورودس كان معه 1700 سفينة، وأهم ما قام به: تنظيم الجيش، فضاعف عطاءه، ووقت أوقاتا لتناول أرزاق الجند، ووفق إلى استخدام أكبر رجال الإدارة وأعظمهم: زياد ثم عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة والضحاك بن قيس وأبو الأعور السلمي ومسلم بن عقبة وبسر بن أبي أرطاة وحبيب بن سلمة، وكان إذا لامه أهله على كثرة بذله المال للعلويين والهاشميين أجابهم: إن الحرب تستلزم نفقات أكثر من هذا العطاء.
وهو أول من وضع البريد، أحضر رجالا من دهاقين الفرس وأهل عمال الروم فعرفهم ما يريد فوضعوا له البريد، واتخذوا له بغالا بأكف كان عليها سفر البريد ، وكان لا يجهز عليه إلا الخليفة أو صاحب الخبر؛ لتسرع إليه أخبار بلاده من جميع أطرافها. وهو الذي اخترع ديوان الخاتم وحزم الكتب ولم تكن تحزم. واستكتب عبد الله بن أوس الغساني سيد أهل الشام، وجعل على كل قبيلة من قبائل مصر رجلا يصبح كل يوم فيدور على المجالس، فيقول: هل ولد الليلة فيكم مولود؟ وهل نزل بكم نازل؟ فيقال: ولد لفلان غلام ولفلان جارية. فيكتب أسماءهم، ويقال: نزل بهم رجل من أهل كذا بعياله. فيسميه وعياله، فإذا فرغ من القبيل أتى الديوان حتى يثبت ذلك، وعلى هذا كانت الدولة تحصي السكان، ولا يفوتها خبر من ينتقل في أرجاء البلدان.
واستخدم معاوية النصارى في مصالح الدولة، وكان عمر يمتنع من استخدامهم إلا إذا أسلموا، فعهد إلى سرجون بن منصور، ثم إلى ابنه منصور بن سرجون من نصارى الشام، بإدارة أمواله. وكان منصور والد سرجون على المال في الشام من عهد هرقل قبل الفتح، ساعد المسلمين على قتال الروم بأن أبى أن يمسك الرجال بالمال
41
قائلا: إن الملك أي هرقل غير محتاج إلى هذا العسكر العظيم؛ لأنه يحتاج إلى مال كثير وليس بدمشق مال عظيم، قالوا: إنه أراد بذلك أن يسمع الرجال أن ليس بدمشق مال يعطيهم، فيتفرق الجند ويسلم المدينة إلى العرب.
كان معاوية يحب الانتفاع من كل قوة تستخدم في قيام الدولة، وتعين على انتظام الجماعة، ولما رحل جبلة بن الأيهم
42
إلى الروم، وارتد عن إسلامه، دعاه معاوية بن أبي سفيان إلى الرجوع إلى الإسلام، ووعده إقطاع الغوطة بأسره. يريد بذلك تلافي خطأ عمر بن الخطاب يوم أبى إلا إقامة الحد على جبلة فكان من ذلك فراره إلى الروم، و«كان آل جفنة عمال القياصرة على عرب الشام كما كان آل نصر عمال الأكاسرة على عرب العراق.»
وباتخاذ دمشق دار الخلافة بعد أن كانت دار إمارة الشام وحدها، انتقلت سياسة الملك من المدينة فكثر سكان الفيحاء من العرب، يقصدها طلاب العمل وغيرهم من الأقطار ، ويختص الخليفة أهل الشام بعنايته ، ويستعمل الصالحين من أهل الذمة في أعماله الإدارية. ورأى النصارى أكثرية في الشام، فنقل إلى السواحل قوما من زط البصرة والسيابجة، وأنزل بعضهم أنطاكية، وأصل الزط من السند يغلب السواد على سحناتهم، ونقل قوما من فرس بعلبك وحمص وأنطاكية إلى سواحل الأردن وصور ونقل من أساورة
43
البصرة والكوفة وفرس بعلبك وحمص إلى أنطاكية جماعة. هذا عدا القبائل العربية التي أسكنها الشام فمزجهم بأهلها الأصليين حتى يكون آمنا في دار ملكه. وبعمله هذا أصبح الساحل الشامي غاصا بالعجم والعرب؛ وذلك تفاديا من أن يستأثر النصارى وحدهم بمفتاح البلاد من البحر، وفي مزج العرب بالفرس بسكان البلاد الأصليين يصبح كل عنصر رقيبا على العنصر الآخر ومنافسا له. ولما صالح صاحب قبرص خير أهلها بين أن يسكنوا الشام أو يرتحلوا إلى بلاد الروم. ولئن غدت دمشق قبلة الإسلام ودار الملك فقد ظلت المدينة عاصمة الفقه والدين مدة خلافته وخلافة من خلفوه، وما جعل مقره في الشام إلا لأن أهلها أحبوه لما بلوه، وكفى بعهد إمارته عليهم أن يعرفهم ويعرفوه، ويطبع طباعهم بطابع الطاعة والتزام جانب الجماعة. وخصلة أخرى أيضا: وهي أن دمشق متوسطة بين البلاد الإسلامية أكثر من الحجاز، وفي الشام من الخيرات الطبيعية والأعمال الصناعية ما يمتار منه الجيش ويرتفق، وما يترفه به العلية من رجال الدولة ويقوون، ونحن على صواب إذا قلنا: إن دمشق أصبحت في عهد معاوية ثم في عهد الخلفاء مدرسة يتخرج فيها القواد والأمراء والجند.
ومن أهم ما قام به معاوية للتأثير في الرأي العام: حسن معرفته باستخدام الشعراء
44
وكان الشعراء كأرباب الصحافة في ذاك العصر، فانتفع بهم لمصلحة الدولة، وتكوين الوطنية العربية، فأبعد الشعر عن الهجو المألوف بين القبائل وجعله أداة عمل صالحة. ولم يغفل معاوية في وقت من الأوقات عن تعهد الزراعة وعني بها في الحجاز عناية خاصة، فأحيا موات الأرضين، واحتفر الآبار للسقيا، وأقام أسدادا للانتفاع بالمياه، وسرت أسرته ومعاصروه على طريقته، فشهدت الحجاز قرنا من الارتقاء لم تره من بعد. هذا مع أن طبيعة الحجاز قاسية غير ملائمة، ولكن الخليفة العاقل ما أحب لأهل الحجاز أن يعيشوا من العطايا والصدقات وموسم الحج؛ لأنها موارد غير طبيعية في المعاش، ومذاهب في الاتكال لا يؤمن مع زوالها عيش ونعمة. وصالحت الروم معاوية على أن يؤدي إليهم مالا وارتهن معاوية منهم رهناء فوضعهم ببعلبك، ثم إن الروم غدرت فلم يستحل معاوية والمسلمون قتل من في أيديهم من رهنهم وخلوا سبيلهم، وقالوا: وفاء بغدر خير من غدر بغدر.
كان معاوية في الإبداع بتأسيس دولة الأمويين كعمر بن الخطاب في إبداعه بإنشاء دولة الراشدين، ومع هذا فقد قيل: إن أحد الصلحاء سئل أيام معاوية كيف تركت الناس قال: تركتهم بين مظلوم لا ينتصف وظالم لا ينتهي. كأنه يريد أن تكون إدارة الملك على عهد ابن أبي سفيان، كما كانت على عهد عمر بن الخطاب، وفاته أن لكل عصر طريقته ورجاله. والغالب أن البعيد لا يقدر الأمور بقدرها كالقريب، وأرباب الصلاح يتوهمون أن العدل المطلق يستفيض في الناس بأمر من الخليفة أو بعناية عماله وحدهم، وأن كل خير لا يأتي إلا من السلطان، أما المحكومون فليس لهم كبير أثر في إفاضة العدل في العالم ولا تلحق بهم تبعة، والنقد سهل، والصعوبة في الإبداع.
قال المسعودي - وهو مشهور بتشدده في تشيعه: وأخبار معاوية وسياساته وما أوسع الناس من أخلاقه، وما أفاض عليهم من بره وإعطائه وشملهم من إحسانه، مما اجتذب به القلوب، واسترعى به النفوس؛ حتى آثروه على الأهل والقرابات. وقد كان ائتم بأخلاقه جماعة بعده مثل عبد الملك بن مروان وغيره فلم يدركوا حلمه، ولا إتقانه للسياسة، ولا التأني للأمور، ولا مداراته للناس على منازلهم، ورفقه بهم، ورفعه لهم على طبقاتهم.
إدارة يزيد ومعاوية الصغير ومروان وابنه عبد الملك
مضت أيام معاوية الطويلة؛ عشرون سنة أميرا وعشرون أخرى خليفة، وأوصى ابنه يزيد عند موته بقوله: انظر أهل الحجاز فهم عصابتك وعترتك، فمن أتاك منهم فأكرمه، ومن قعد عنك فتعاهده، وانظر أهل العراق فإن سألوك عزل عامل في كل يوم فاعزله عنهم، فإن عزل عامل واحد أهون عليك من سل مائة ألف سيف، ثم لا تدري علام أنت عليه منهم. ثم انظر أهل الشام فاجعلهم الشعار دون الدثار، فإن رابك من عدو ريب فارمه بهم، فإن أظفرك الله فاردد أهل الشام إلى بلادهم لا يقيموا في غير بلادهم، فيتأدبوا بغير آدابهم. وجه نصيحته إلى قلب المملكة الحجاز والعراق والشام؛ لأنها إذا استقامت لا يخشى على الأطراف.
وقد كان معاوية عني في آخر أمره بتخريج يزيد ابنه وولي عهده يستشيره في المسائل الطارئة، ويأخذ برأيه أحيانا، ويبعث همته على العمل؛ ليتولى الأمر عن كفاءة، وقد علمه أنساب الناس والنجوم والعربية، أقام أستاذا له في ذلك دغفل بن حنظلة الشيباني، ومشى يزيد في إدارته على أثر أبيه، فكان لا يضن بالمال مهما عظم في سبيل الخلافة. وفد عليه عبد الله بن جعفر فقال له: كم كان عطاؤك؟ فقال له: ألف ألف. قال: قد أضعفناها لك. قال: فداك أبي وأمي، وما قلتها لأحد قبلك. قال: قد أضعفناها لك ثانية. فقيل ليزيد: أتعطي رجلا واحدا أربعة آلاف ألف؟! فقال: ويحكم! إنما أعطيتها أهل المدينة أجمعين، فما يده إلا عارية. وما زال يزيد يزيد في إعطائه لمنزلته، ولأنه يريد أن يتألف بواسطته أهل المدينة، ويرفع يد ابن الزبير عنها وعن دعوى الخلافة.
وما أثر عن يزيد أنه غير شيئا من أصول إدارة أبيه؛ لاستغراق حرب الحسين بن علي في العراق وعبد الله بن الزبير في الحجاز معظم أوقاته، أما ابنه وخليفته معاوية الصغير أو الثاني فكانت خلافته أياما، وما أراد أن يدخل في شيء من مهامها.
كان مروان كمعاوية آية في عقله وسياسته وتدبيره، درس الإدارة زمنا طويلا في الحجاز، وعرف ما يفسد الناس ويصلحهم، وما يهيجهم ويسكنهم، ولكن أمره لم يطل كثيرا، وتستبين محاسنه في تدبيره الملك مما وقع لابنه عبد العزيز معه؛ فإن مروان لما ولي الخلافة جاء إلى مصر فأقام بها شهرين، ثم جعل ولايتها إلى ابنه عبد العزيز؛ جعل إليه صلاتها وخراجها فقال عبد العزيز:
45
يا أمير المؤمنين كيف المقام ببلد ليس به أحد من بني أبي؟ فقال مروان: يا بني، عمهم بإحسانك يكونوا كلهم بني أبيك، واجعل وجهك طلقا تصف لك مودتهم، وأوقع إلى كل رئيس منهم أنه خاصتك دون غيره، يكن عينا لك على غيره
46
وينقاد قومه إليك، وقد جعلت معك أخاك بشرا مؤنسا، وجعلت لك موسى بن نصير وزيرا ومشيرا، وما عليك يا بني أن تكون أميرا بأقصى الأرض، أليس ذلك أحسن من إغلاق بابك وخمولك في بيتك.
هكذا دبر مروان ابنه ليخرجه في الإدارة ويعلمه حكم الناس، جعل له موسى بن نصير وزيرا، وهو ما هو بعلمه وعقله وحسن سياسته، وفارق موسى أميره عبد العزيز بعد حين ذاهبا إلى إفريقية والمغرب، فقضى على البربر والرومان، ثم فتح الأندلس. أما بشر بن مروان مؤنس أخيه يوم تولى مصر، فقد تقلد البصرة والكوفة فكان الناس يدخلون عليه من غير استئذان، ليس على بابه حجاب ولا ستر، ولابن عبدل في بشر بن مروان:
ولو شاء بشر كان من دون بابه
طماطم سود أو صقالبة حمر
ولكن بشرا أسهل الباب للتي
يكون لبشر عندها الحمد والأجر
بعيد مراد العين ما رد طرفه
حذار الغواشي باب دار ولا ستر
استعمل عبد الملك بشرا، وأمره بالشدة والغلظة على أهل المعصية
47
وباللين على أهل الطاعة، وخلف معه أربعة آلاف من أهل الشام منهم روح بن زنباع ورجاء بن حيوة الكندي، وهما من أمثل رجال بني أمية وأعلمهم وأسوسهم. وكان من سياسة بشر أو من سياسة دولته عامة أنه إذا ضرب البعث
48
على أحد من جنده ثم وجده قد أخل بمركزه أقامه على كرسي، ثم سمر يديه في الحائط، ثم انتزع الكرسي من تحت رجليه فلا يزال يتخبط حتى يموت. وبهذه الشدة على المجندين ما كانت تحدث أحدا نفسه بالهزيمة من الخدمة، وكان جيش أمية أطوع جيش عربي. ولا يستغربن أحد هذه الشدة فجزاء الفار من الجندية في يومنا هذا القتل .
رأينا عبد العزيز بن مروان أمير مصر، وما كان من نصيحة أبيه له في سياسة الرؤساء ليسلس له قياد المرءوسين، وكيف لقنه أبوه أقرب الطرق إلى استمالة القلوب، وكان عند حسن ظنه به، فجاء عبد العزيز نابغة في إدارته، عمرت مصر في أيامه عمرانا ليس مثله، ومما بنى في حلوان الدور والمساجد وغيرها أحسن
49
عمارة وأحكمها، وغرس نخلها وكرمها، وكان له ألف جفنة
50
كل يوم تنصب حول داره ومائة جفنة يطاف بها على القبائل تحمل على العجل إلى قبائل مصر.
ولي عبد العزيز مصر فكان خراجها وجبايتها إليه، فلم يوجد له مال ناض
51
يوم موته إلا سبعة آلاف دينار، وكانت ولايته على مصر عشرين سنة وعشرة أشهر وثلاثة عشر يوما، على حين لما مات عبد الله بن عبد الملك بن مروان، وكان عاملا على مصر ترك ثمانين مدا من الذهب، وتقدم إليه أبوه أن يعفي آثار عمه عبد العزيز لمكانه من ولاية العهد فاستبدل بالعمال عمالا وبالأصحاب أصحابا؛ ذلك لأن عبد العزيز لم يرض أن ينزل عن ولاية العهد لابن أخيه في حياته، وعبد العزيز هو والد أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي العادل.
وجرى عبد الملك بن مروان في إدارة الملك على طريقة والده وطريقة معاوية في تخريج آله وعماله في سياسة البلاد، فزادت الأمور استقرارا، والأعمال تسلسلا، والعمال رغبة ورهبة، والرعايا أمنا ودعة. وكثيرا ما كان يعمد إلى الشدة لا تأخذه رأفة بخصوم دولته. قتل مصعب بن الزبير، وكان أحب الناس إليه، وأشدهم له إلفا ومودة، وقال في الاعتذار عن عمله: «ولكن الملك عقيم.»
52
ولقد قيل له أن يأخذ بسيرة عثمان فقال: «وما خلف عثمان عمر في شيء من سيرته إلا باللين؛ فإن عثمان لان لهم حتى ركب، ولو كان غلظ عليهم جانبه كما غلظ ابن الخطاب ما نالوا منه ما نالوا.» وقال: إني رأيت سيرة السلطان تدور مع الناس إن ذهب اليوم رجل يسير بتلك السيرة أي باللين أغير على الناس في بيوتهم، وقطعت السبل ، وتظالم الناس، وكانت الفتن، فلا بد للوالي أن يسير في كل زمان بما يصلحه، وهذا هو السر العظيم في نجاح الممالك في كل عصر وأمة. وقال عبد الملك يوما: أنصفونا يا معشر الرعية، تريدون منا سيرة أبي بكر وعمر ولا تسيرون فينا ولا في أنفسكم بسيرة رعية أبي بكر وعمر! نسأل الله أن يعين كلا على كل. وسأله ابنه الوليد: يا أبت، ما السياسة؟ قال: هيبة الخاصة مع صدق مودتها، واقتياد قلوب العامة بالإنصاف لها، واحتمال هفوات الصنائع.
53
ولى عبد الملك العراقين الحجاج بن يوسف الثقفي فقال: دلوني على رجل أوليه. فقيل له: أي الرجال تريد؟ قال: أريد دائم العبوس، طويل الجلوس، سمين الأمانة، أعجف الخيانة، لا يحنق في الحق على مرة، يهون عليه سؤال الأشراف في الشفاعة. فقيل: عليك بعبد الرحمن بن عبيد التميمي. فأرسل إليه فاستعمله فقال له: لست أقبلها إلا أن تكفيني عمالك وولدك وحاشيتك. فقال الحجاج: يا غلام، ناد من طلب إليه منهم حاجة فقد برئت الذمة منه. قال الشعبي: فوالله ما رأيت قط صاحب شرطة مثله كان لا يحبس إلا في دين، وكان إذا أتي برجل نقب على قوم وضع منقبته في بطنه حتى تخرج من ظهره، وكان إذا أتي برجل نباش حفر له قبرا ودفنه فيه حيا، وإذا أتي برجل قاتل بحديدة وأظهر سلاحا قطع يده، فربما أقام أربعين يوما لا يؤتى إليه بأحد، فضم إليه الحجاج شرطة البصرة مع شرطة الكوفة.
خطب الحجاج أهل العراق: «إني رأيت آخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها: لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالمولى، والمقيم بالظاعن، والمطيع بالعاصي، حتى يلقى الرجل أخاه فيقول: انج سعد فقد هلك سعيد. أو تستقيم لي قناتكم.» ولما اتصل بعبد الملك إسراف الحجاج في
54
القتل وأنه أعطى أصحابه الأموال كتب إليه: «أما بعد، فقد بلغني سرفك في الدماء وتبذيرك الأموال، وهذا ما لا أحتمله لأحد من الناس، وقد حكمت عليك في القتل بالقود، وفي الخطأ بالدية ، وأن ترد الأموال إلى أصحابها؛ فإنما المال مال الله ونحن خزانه، وقد متعنا بحق فأعطينا باطلا.» كتب الحجاج إلى عبد الملك يستأذنه في أخذ الفضل من أموال السواد فمنعه من ذلك، وكتب إليه: «لا تكن على درهمك المأخوذ أحرص منك على درهمك المتروك، وأبق لهم لحوما يعقدون بها شحوما.»
وكان الحجاج يأخذ بأيدي العلماء ممن لا يتدخلون في سياسته ولا يشاركونه في سلطانه، ويضع في كل يوم
55
ألف خوان في رمضان وفي سائر الأيام خمسمائة خوان، على كل خوان عشرة أنفس وعشرة ألوان وسمكة مشوية طرية وأرزة بسكر، وكان يحمل في محفة ويدار به على موائده ويتفقدها، فإذا رأى أرزة ليس عليها سكر وسعى الخباز ليجيء بسكرها فأبطأ حتى أكلت الأرزة بلا سكر أمر بضربه مائتي سوط، فكانوا بعد ذلك لا يمشون إلا متأبطي خرائط السكر. وكان يوسف بن عمر والي العراق في أيام هشام بن عبد الملك يضع خمسمائة خوان، فكان طعام الحجاج لأهل الشام خاصة، وطعام يوسف بن عمر لمن حضره، فكان عند الناس أحمد.
واشتهر عهد الحجاج
56
بإصلاح الموازين والخراج والزراعة فهو رجل الدولة بإصلاحاته، ولم يكن مصلحا فحسب بل كان مصلحا وموجدا، ومن إيجاده وضع الحركات والإعجام في المصاحف لئلا يلتبس شيء من الآيات على من لا يعلم القرآن. واتخذ
57
الحجاج دار الضرب وجمع فيها الطباعين فكان يضرب المال للسلطان مما يجتمع له من التبر وخلاصة الزيوف والستوقة والبهرجة، ثم أذن للتجار وغيرهم في أن تضرب لهم الأوراق، واستغلها من فضول ما كان يؤخذ من فضول الأجرة للصناع والطباعين وختم أيدي الطباعين.
حرض عبد الملك ابنه على المشاورة في قضاء الأمور لما وسد إليه إمارة مصر قائلا له: «انظر أي بني إلى أهل عملك، فإن كان لهم عندك حق غدوة فلا تؤخره إلى عشية، وإن كان لك عشية فلا تؤخره إلى غدوة، وأعطهم حقوقهم عند محلها؛ تستوجب بذلك الطاعة منهم، وإياك أن يظهر لرعيتك منك كذب؛ فإنهم إن ظهر لهم منك كذب لم يصدقوك في الحق ، واستشر جلساءك وأهل العلم فإن لم يستبن لك فاكتب إلي يأتك رأيي فيه إن شاء الله، وإن كان بك غضب على أحد من رعيتك فلا تؤاخذه به عند سورة
58
الغضب، واحبس عقوبتك حتى يسكن غضبك، ثم يكون منك ما يكون، وأنت ساكن الغضب مطفأ الجمرة، فإن أول من جعل السجن كان حليما ذا أناة، ثم انظر إلى أهل الحسب والدين والمروءة فيكونوا أصحابك وجلساءك، ثم ارفع منازلهم منك على غيرهم، على غير استرسال ولا انقباض، أقول هذا وأستخلف الله عليك.» وهذا من أجمل أساليب الإدارة وسياسة الناس: لا تأخير في الفصل بينهم، ولا كذب في الوعود والمواعيد، واستشارة العارفين والعالمين، وجعلهم وحدهم بطانة وسمارا وجلساء، ولا إسراع في إنزال العقوبات حتى يذهب الغضب.
وبلغ عبد الملك أن بعض كتابه قبل هدية فقال له: والله إن كنت قبلت هدية لا تنوي مكافأة المهدي لها إنك لئيم دنيء، وإن كنت قبلتها تستكفي رجلا لم تكن تستكفيه لولاها إنك خائن، وإن كنت نويت تعويض المهدي عن هديته وأن لا تخون له أمانة ولا تثلم له دينا فلقد قبلت ما بسط عليك لسان معامليك، وأطمع فيك سائر مجاوريك، وسلبك هيبة سلطانك. ثم صرفه عن عمله؛ ذلك لأن غاية الخليفة ترتيب قواعد الدولة على أصول نقية من الشوائب، والرشوة من طريق الهدايا تذهب بها حقوق أحد المتنازعين أو حقوقهما معا. وكان عبد الملك بن رفاعة أمير مصر (96) يقول: إذا دخلت الهدية من الباب خرجت الأمانة من الطاق.
وأدخل عبد الملك أمورا جديدة في الإدارة، وهو أول من أفرد للظلامات يوما يتصفح فيه قصص المتظلمين من غير مباشرة للنظر، وكان إذا قعد للقضاء أقيم على رأسه بالسيوف، وينشد قول سعيد بن عريض بن عادياء من يهود الحجاز:
إنا إذا مالت دواعي الهوى
وأنصت الساكت للقائل
واصطرع الناس بألبابهم
نقضي بحكم عادل فاضل
لا نجعل الباطل حقا ولا
نلط
59
دون الحق بالباطل
نخاف أن تسفه أحلامنا
فنخمل الدهر مع الخامل
وزاد عبد الملك الجزية، وأقل الجزية دينار وأكثرها مفوض إلى الاجتهاد، استقل ما يؤخذ منها بالجزيرة - وكانت دينارا على كل جمجمة ومدين قمحا، وقسطين زيتا وقسطين خلا، وضعها عليهم عياض بن غنم في الفتح - فأحصى عبد الملك الجماجم، وجعل الناس كلهم عمالا بأيديهم، وحسب ما يكسبه العامل سنته كلها، ثم طرح من ذلك نفقته في طعامه وأدمه
60
وكسوته وحذائه، وطرح أيام الأعياد في السنة كلها فوجد الذي يحصل بعد ذلك لكل واحد أربعة دنانير، فألزمهم ذلك جميعا، وجعلها طبقة واحدة، ثم حمل الأموال على قدر قربها وبعدها،
61
وهذا خلا نوائب الرعية، وهو ما يضربه عليهم الإمام من الحوائج كإصلاح القناطر والطرق وغير ذلك مما فيه عمارة بلادهم.
وفي أيامه نقلت دواوين مصر والشام والعراق من القبطية والرومية والفارسية إلى العربية فكان ذلك من أهم الأسس التي أقيمت في بناء القومية العربية في الممالك الإسلامية كافة، وقطع به آخر مظهر من مظاهر الأعاجم، فأصبحت البلاد عربية بأوضاعها سائرة إلى التعرب بسكانها. وكان كاتب الرسائل سليمان بن سعد الخشني من أهل الأردن أول مسلم ولي الدواوين كلها، وكان يتولاها القبط والروم والعجم، وكان بالبصرة والكوفة
62
ديوانان لإعطاء الجند والمقاتلة والذرية بكتاب العربية، وديوانان بالفارسية، وبالشام ديوان بالعربية لمثل ذلك، وديوان بالرومية، فحول ديوان العراق إلى العربية أبو الوليد صالح بن عبد الرحمن البصري، قدمه لذلك الحجاج فكان كتاب العراقين كلهم غلمانه وتلاميذه
63
ونقل ديوان مصر من القبطية إلى العربية عبد الله بن عبد الملك بن مروان أمير مصر في خلافة الوليد بن عبد الملك سنة سبع وثمانين ونسخها بالعربية، وجعل على الديوان ابن يربوع الفزاري من أهل حمص، وتأخرت بعض البلاد في هذا التغيير من رسم الإدارة؛ فإن أول من كتب بالعربية في ديوان أصبهان سعد بن إياس كاتب عاصم بن يونس عامل أبي مسلم صاحب الدعوة، وهو أول من أخذ الناس بتعلم القرآن من أهل أصبهان، يقال إنه استقرأ المسلمين بها فلم يجد إلا ثمانين رجلا لم يكن فيهم من يحفظ القرآن إلا ثلاثة، فلم يحل الحول حتى تعلم الناس القرآن وحفظوه.
وعبد الملك أول من كتب على الدينار «قل هو الله أحد» وذكر النبي في الطوامير،
64
وكانت الدنانير رومية تدخل من بلاد الروم، والدراهم كسروية وحميرية
65
قليلة، فهو أول من ضرب الدراهم المنقوشة، وكان على خاتمه قبيصة بن ذؤيب والبريد إليه، يقرأ الكتب إذا وردت ثم يدخلها على عبد الملك فيخبره بما فيها.
66
ومن أهم أعمال الدولة: وظيفة صاحب الشرطة، ومن أعماله: أن يحجب الناس، ويحافظ على الخليفة، وكان الأمويون لا يأذن خلفاؤهم بالدخول عليهم إلا بالترتيب الذي عينوه. والولاة ينزلون في المعسكر تحيط بهم الجند؛ لتسهل المحافظة عليهم فلا يغتالهم مغتال، وقد يتنقلون في عمالاتهم، فزياد يقيم بالكوفة ستة أشهر وفي البصرة مثلها،
67
وهو أول من سير بين يديه بالحراب والعمد، واتخذ الحراس خمسمائة لا يفارقون مكانه. وكانت تقرأ عهود القضاة الذين نصبوا حديثا في المسجد الجامع أولا، ثم يقصدون دار الأمير فيقرأ أمامه عهد القاضي، والقضاة يقضون في الجوامع، وكان الجامع في الإسلام هو المجمع والمجلس والمحكمة وديوان المال والمدرسة وكل ما له علاقة بالسلطان والسكان.
أما الولاة فيدبرون ولاياتهم في المعسكرات، والمعسكرات بعيدة عن دور الحكومة القديمة، و«ليس
68
من مدينة عظيمة إلا وبها دار ينزلها غزاة تلك البلدة، ويرابطون بها إذا وردوها، وتكثر لديهم الصلات، وترد عليهم الأموال والصدقات العظيمة.» وإذا رحل الجيش واضطر إلى النزول في القرى لشدة البرد في الشتاء يؤويه أهلها ثلاثة أيام ويطعمونه مما يطعمون.
كان جيش عبد الملك ومن بعده من العنصر العربي، ولما توسع الأمويون في فتوحهم شمالي إفريقية وفتحوا الأندلس جندوا أناسا من البربر ومزجوهم بجند العرب. بعث عبد الملك ابنه مسلمة لغزو الروم فقدم الناس من جميع الآفاق، وكان فيهم من العرب كندة وغسان وتميم وهمدان وربيعة وطي ولخم وجذام وقيس وجماعة بني أمية وقريش ورؤساء أهل الحجاز والجزيرة والشام ومصر. ثم عرض الناس فانتخب منهم ثلاثين ألفا من أهل البأس والنجدة، واتخذ من الخيل والفرسان ثلاثين ألفا، وولى على رؤساء كل طائفة واحدا منهم ، ويقول البلاذري:
69
إن مسلمة بن عبد الملك لما غزا عمورية حمل معه نساءه، وحمل ناس ممن معه نساءهم. وكانت بنو أمية تفعل ذلك إرادة الجد في القتال للغيرة على الحرم. هكذا كان ترتيب جيوشهم في هذا الدور. وكانت أمور الحرب بيد الولاة في الولايات تقوم
70
بها القبائل المهاجرة إليها، أما جيش الخليفة الخاص - وهو عبارة عن أجناد الشام - فكان خاصا بقتال الروم، وحماية الخليفة من فتنة داخلية، وبفضل هذه القوى المخلصة للأمويين ظفروا في الحرب الأهلية سنة 64.
وجرى عبد الملك على طريقة عمر ومعاوية وزياد والحجاج في أخذ نفسه بالتطلع إلى استعلام بواطن أمور الرعايا، وكذلك كان في التطلع إلى أخبار الروم وغيرهم ممن كانوا يودون أبدا أن يكيدوا للمسلمين. ثار الروم واستجاشوا على من بالشام من المسلمين في سنة سبعين، فصالحهم عبد الملك على أن يؤدي إلى ملكهم في كل جمعة ألف دينار؛ خوفا منه على المسلمين، وطمع الروم لافتراق الكلمة وقتال الأمة على الملك
71
لما دعا عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق إلى نفسه بالخلافة، واستولى على دمشق لما سار عبد الملك بجيوشه إلى العراق ليملكها من ابن الزبير. فعمل عبد الملك في اتقاء بأس الروم كما عمل معاوية لما شغل بقتال علي، فصالح الروم على مال يؤديه إليهم، وليس من الحزم في دولة أن تحارب حربين داخلية وخارجية في وقت واحد. وفعل عبد الملك مثل ذلك في مداراة الروم فجدد الهدنة مع ملكهم على أن يدفع لهم كل يوم ألف دينار وفرسا ومملوكا، ويقاسم ملكهم على خراج قبرص وأرمينية على شرط أن يخرج اللبنانيون من جبلهم وكانوا عصوا عليه واتفقوا مع الوم، وآلى اللبنانيون بعد ذلك أن لا يتعرضوا للعرب، فلقب اللبنانيون بالمردة؛ لأنهم عصوا أمر ملك الروم. وما كان عبد الملك إلا محافظا على اعتداله لا يدهش لما يحل به من المفظعات
72
يحل مسائل الدولة بروية وتعقل وصبر.
ويعد عبد الملك في العلماء كما يعد من أكبر الساسة. قال الجاحظ: كان عبد الملك بن مروان سنان قريش وسيفها رأيا وحزما، وعابدها قبل أن يستخلف ورعا وزهدا، وهو أول من لقب من الخلفاء بلقب الموفق لأمر الله ثم لقب الوليد المنتقم
73
لأمر الله، ولم يشتهرا بهذين اللقبين كثيرا.
74
وأوصى عبد الملك أولاده أن يعطف الكبير منهم على الصغير، وأن يعرف الصغير حق الكبير، وحذرهم البغي والتحاسد، وأوصاهم بأخيهم مسلمة وأن يصدروا عن رأيه، وأن يكرموا الحجاج فإنه هو الذي وطأ لهم هذا الأمر. أوصى به ولطالما تبرم من أعماله في حياته. والحجاج وزياد وعتبة بن أبي سفيان وخالد القسري الذي تولى العراق زمنا طويلا، وقتيبة بن مسلم أمير خراسان وفاتح خوارزم وسمرقند وبخارى الذي دخل إلى ملك الصين وضرب عليه الجزية ... وأمثالهم، كانوا في بني أمية «قطب الملك الذي عليه مدار السياسة، ومعادن التدبير وينابيع البلاغة وجوامع البيان، هم راضوا الصعاب حتى لانت مقاودها، وخزموا الأنوف حتى سكنت شواردها، ومارسوا الأمور، وجربوا الدهور، فاحتملوا أعباءها، واستفتحوا مغالقها حتى استقرت قواعد الملك، وانتظمت قلائد الحكم، ونفذت عزائم السلطان.»
75
إدارة الوليد وسليمان
وتولى الوليد بن عبد الملك الخلافة فسار على سيرة أبيه، وراعى إخوته، وحث أولاده على اصطناع المعروف، وكان غرامه بعمران البلاد وإقامة المصانع والجوامع واعتقاد
76
الضياع؛ فقلده رعاياه في ذلك، فكان الناس في أيامه يخوضون في رصف الأبنية، ويحرصون على التشييد والتأسيس، ويولعون بالضياع والعمارات
77
لوفرة الثروة في أيدي الناس. وقد كتب أحد عمال الوليد بن عبد الملك أن بيوت الأموال قد ضاقت من مال الخمس فكتب إليهم أن يبنوا المساجد. وأجرى الوليد على القراء وقوام المساجد الأرزاق، وكذلك على العميان وأصحاب العاهات والمجذمين، وأخدم كل واحد منهم خادما، وكان يهب أكياس الدراهم تفرق في الصالحين، وأخرج لعيالات الناس الطيب والكسوة، وزاد الناس جميعا في العطاء عشرة عشرة، وذلك للشاميين خاصة، وزاد أهل بيته في جوائزهم الضعف. وفي مئات الألوف من الدنانير التي أنفقها على إقامة الجوامع والمصانع، وما كان في خزائنه من الأموال التي تكفي الدولة خمس عشرة سنة مقنع لمن أراد أن يتصور الأموال التي احتجنها هو ومن قبله من الخلفاء استعدادا للطوارئ.
ودخلت الدولة في حالة استقرار ونظام في الإدارة، وانتهى
78
تعريب المملكة والإدارة، وأخذت الوظائف الكبرى من النصارى، ونحي آل سرجون الدمشقيون عن إدارة الأموال، وبلغت الفتوحات أقصى حدودها. وظهرت أبهة الملك والسلطان، ومالت الدولة إلى إقامة الأعمال العظيمة على الدهر؛ تخليدا للذكر وإشادة بالفخر، والوليد هو الذي جود القراطيس وجلل
79
الخطوط وفخم المكاتبات وتبعه من بعده من الخلفاء إلا عمر بن عبد العزيز ويزيد بن الوليد؛ فإنهما جريا في المكاتبات على طريقة السلف. ثم جرى الأمر بعدهما على ما سنه الوليد بن عبد الملك إلى أن صار الأمر إلى مروان بن محمد فعمدوا إلى الإطناب. وكان الوليد موفقا في فتوحه في الشرق والغرب بفضل قواده وولاته ممن كان يعرف لهم أقدارهم، وما كانت فتوحه تشغله عن النظر في عمران البلاد. ومن خلق الوليد أنه كان سمحا يسره أن يرى لعماله شيئا من الرفاهية. كتب إليه الحجاج أنه أصيب لمحمد بن يوسف خمسون ومائة ألف دينار فإن يكن أصابها من حلها فرحمه الله، وإن تكن من خيانة فلا رحمه الله. فكتب إليه الوليد أن محمد بن يوسف أصاب ذلك المال من تجارة أحللناها له، وأمره أن يترحم عليه.
وتوسع الأمويون في هذه الحقبة في إفاضة الأموال على عمالهم، وكان القاضي بمصر مثلا يرزق ألف دينار في السنة. كان ابن حجيرة الأكبر في مصر (69-83) على القضاء والقصص
80
وبيت المال، فكان رزقه من القضاء مائتي دينار، وفي القصص مائتي دينار، ورزقه في بيت المال مائتي دينار وعطاؤه مائتي دينار وجائزته مائتي دينار. على أن العادة الجارية عندهم أن لا يعطى العامل سوى رزق واحد. ولم يكن أحد من بني مروان يأخذ العطاء إلا عليه الغزو، فمنهم من يغزو ومنهم من يخرج بدلا. وكانوا يصيرون أنفسهم في أعوان الديوان في بعض ما يجوز لهم المقام به، ويوضع به الغزو عنهم. أما الحجاج فكان يشتد في تجنيد الناس لأنه يقظ حذر دائما ، فكان لا يدع قرشيا ولا رجلا من بيوتات العرب إلا أخرجه «وضرب
81
البعث على المحتلمين ومن أنبت من الصبيان، فكانت المرأة تجيء إلى ابنها وقد جرد فتضمه إليها وتقول له: بأبي! جزعا عليه. فسمي ذلك الجيش: جيش بأبي.» وكان تجريد الشبان من ثيابهم للاطلاع على عيوب أجسامهم فينبذ السقيم ويجند السليم. وخطب الحجاج لما جاء واليا على العراق، وقد بعث بشر بن مروان المهلب إلى الحرورية، ومما قال: «وإياي وهذه الزرافات والجماعات وقال وقيل وما يقولون وفيم أنتم، والله لتستقيمن على طريق الحق أو لأدعن لكل رجل شغلا في جسده، ومن وجدته بعد ثالثة من بعث المهلب سفكت دمه، وانتهبت ماله، وهدمت منزله.» فشمر الناس بالخروج إلى المهلب، ولا يمنع بعث البعوث عند الشدائد من وجود جيوش عند الخليفة وعماله في الأقطار تشبه الجيش الدائم تحت السلاح يتيسر حشده عند الحاجة بقليل من العناية.
وكأن سياسة الدولة في هذا العهد كانت صورة من سياسة الحجاج؛ فقد كتب إليه الوليد يأمره أن يكتب إليه بسيرته فكتب إليه: إني أيقظت رأيي وأنمت هواي، وأدنيت السيد المطاع في قومه، ووليت الحرب الحازم في أمره، وقلدت الخراج الموفر لأمانته، وقسمت لكل خصم من نفسي قسما أعطيته حظا من لطيف عنايتي ونظري، وصرفت السيف إلى النطف
82
المسيء، والثواب إلى المحسن البريء، فخاف المريب صولة العقاب، وتمسك المحسن بحظه من الثواب. ا.ه.
ولما أفضى الأمر إلى سليمان بن عبد الملك أقر عمال من كانوا قبله على أعمالهم، وجلس في صحن المسجد وقد بسطت لديه البسط والنمارق
83
عليها، وصفت الكراسي، وأذن للناس بالجلوس، وإلى جانبه الأموال والكساوي وآنية الذهب والفضة، فيدخل وفد الجند ويتقدم صاحبهم فيتكلم عنهم وعمن قدموا من عنده، فيأمر سليمان بما يصلحهم ويرضيهم، فما يطلب أحد شيئا إلا نوله مرامه، ورد المظالم، وعزل عمال الحجاج، وأخرج من كان في سجنه في العراق، وأعتق سبعين ألف مملوك ومملوكة وكساهم.
إدارة عمر بن عبد العزيز
عمل الخلفاء السبعة الأول من الأمويين في إدارة الملك الإسلامي بما أوحاه إليه عقلهم وعملهم ، فكان الصحابة منهم والتابعون على مثال خالفوا فيه مرغمين بعض طريقة الراشدين؛ لأن علمهم بالناس زاد بما فتح الله عليهم من البلاد، ولأنه نشأت أحداث جديدة، ودخلت في الإسلام عناصر أخرى. وكان عهد الأمويين صورة من دولة عادلة تتساهل في الأخذ بما لا يضر من الأوضاع، وتقتبس ما تضطرها إليه طبيعة البلاد المفتتحة. وأكثر ما اهتموا له توفير الجباية مع النظر إلى عمران البلاد والدفاع عن الحوزة، والحساب للمستقبل بادخار فضل الأموال، والظهور بمظهر دنيوي لا يعبث بأصل من أصول الدين.
كان أكثر خلفاء الأمويين يقيلون العامل إذا حدث في جهته خرق لا يستطيع رتقه، أو فتنة تهرق فيها الدماء، وتكلف الدول مالا، وجعلوا همهم في مقاتلة الخوارج والشيعة في الداخل، وغزو الروم والتوسع في الفتح من الشرق والغرب في الخارج، وكثيرا ما كانت بعض الأنحاء تثور على الدولة، إما لسبب تفاحش الخراج، أو لأسباب أخرى كما كان من قبط مصر فخرجوا غير مرة على الأمويين وعلى من خلفوهم، وكانوا يرجعون مخذولين، وربما كان من بعض عمالهم من اشتط في تقاضي الخراج والجزية والصدقات، والظلم ما خلا عصر منه، وخصوصا في دولة ليست مشاكلها متشاكلة، ولا أجيال الناس في أصقاعها متوحدة متماثلة، وغاية ما يقال في الإدارة المتبعة أبدا توسيع سلطة العامل، حتى يسرع في فض مصالح الناس، ذلك لأن العرب ألفوا التقاضي على عجل، وما عرفوا التطويل في الخصومات والمراجعات. وهذا ما كان ظاهرا كل الظهور في عهد الخوالف من بني أمية، ولا سيما في خلافة عمر بن عبد العزيز واسطة عقد الأمويين، والمثل الأعلى للعدل الإسلامي.
كان عمر قبل أن يقلد الخلافة عهد إليه الوليد بن عبد الملك بإمارة الحجاز «مكة والمدينة والطائف» فأبطأ عن الخروج فقال الوليد لحاجبه: وما بال عمر لا يخرج إلى عمله! قال: زعم أن له إليك ثلاث حوائج قال: فعجله علي. فجاء به الوليد، فقال له عمر: إنك استعملت من كان قبلي فأنا أحب أن لا تأخذني بعمل أهل العدوان والظلم والجور. فقال له الوليد: اعمل بالحق وإن لم ترفع إلينا درهما واحدا.
84
فلعمر إذا طريقته في الإدارة اشترط قبل أن يتولى الإمارة أن تترك له حرية العمل، وكان يشعر قبل الخلافة بأن في إدارة الدولة شيئا من الظلم. فقال يوما لأسامة بن زيد - وقد بعثه سليمان بن عبد الملك على ديوان جند مصر، وحثه على توفير الخراج: ويحك يا أسامة! إنك تأتي قوما قد ألح عليهم البلاء منذ دهر طويل، فإن قدرت أن تنعشهم فأنعشهم.
ولما بويع عمر شرع لأول أمره بصرف عمال من كان قبله من بني أمية، واستعمل أصلح من قدر عليه فسلك عماله طريقته،
85
وأخذ يرد المظالم مظلمة مظلمة لا يدع شيئا مما كان في أيدي أهل بيته إلا رده. وكتب إلى جميع عماله: إن الناس قد أصابهم بلاء وشدة وجور في أحكام الله، وسنن سيئة سنتها عليهم علماء السوء، قلما قصدوا الحق والرفق والإحسان. وكان أول خطبة خطبها: أيها الناس، من صحبنا فليصحبنا بخمس وإلا فلا يقربنا: يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها، ويعيننا على الخير بجهده، ويدلنا من الخير على ما لا نهتدي إليه، ولا يغتابن عندنا الرعية، ولا يعترض فيما لا يعنيه.
وبدأ بنفسه فنزل عن أملاكه التي انتقلت إليه من أبيه بالإرث الشرعي، ورد على رجل قدم عليه من حلوان ادعى أن والده عبد العزيز لما كان واليا على مصر أقطعه عبد الملك بن مروان أرض حلوان فورثها عمر وإخوته. فقال عمر: إن لي فيها شركاء إخوة وأخوات لا يرضون أن أقضي فيها بغير قضاء قاض. وقام معه إلى القاضي فقعد بين يديه، فتكلم عمر بحجته وتكلم المدعي فقضى القاضي له، فقال عمر: إن عبد العزيز قد أنفق عليها ألف ألف درهم. قال القاضي: قد أكلتم من غلتها بقدر ذلك. فثلجت نفس عمر بحكم القاضي، وقال: وهل القضاء إلا هذا؟ تالله لو قضيت لي ما وليت لي عملا. وخرج إلى الرجل من
86
حقه، وأراد أهله على أن يتخلوا عن أملاكهم فقطع بالمقراض كتب الإقطاعات بالضياع والنواحي. قالوا: ولما أقبل عمر على رد المظالم، وقطع عن بني أمية جوائزهم وأرزاق حراسهم، ورد ضياعهم إلى الخراج، وأبطل قطائعهم ضجوا من ذلك على رءوس الملأ في المسجد. وكانت انتهت لهم هذه الإقطاعات من الخلفاء السالفين. ذكروا أنه كانت غلة عمر لما بويع بالخلافة بين أربعين وخمسين ألف دينار، وما زال يردها حتى كانت يوم وفاته مائتي دينار، ولو بقي لردها كلها فأفقر نفسه حتى يقوى على بعض آله، فيسترد منهم ما أخذوا من عقار ومزارع. وخلف من الناض بضعة دنانير، ولم يرتزق من بيت مال المسلمين شيئا ولم يرزأه
87
حتى مات. وأداه اجتهاده إلى أن في صيغة امتلاك آل بيته الضياع والرباع نظرا، وأن ما ورثه وورثوه بالطرق المشروعة يقضي العدل المطلق برده على من أخذ منه. واعتقاد الضياع واستثمار الأموال من شأنه الرعايا لا الرعاة، فكان نظره أعلى، وطريقته أمثل وأعدل.
وكان الرسول أقطع بلال بن الحرث المزني أرضا فيها جبل ومعدن فباع بنو بلال عمر بن عبد العزيز أرضا منها فظهر فيها معدن أو قال معدنان، فقالوا: إنما بعناك أرض حرث ولم نبعك المعادن، وجاءوا بكتاب النبي لهم في جريدة فقبلها عمر ومسح بها عينه، وقال لقيمه: انظر ما خرج منها وما أنفقت، وقاصهم بالنفقة، ورد عليهم الفضل.
وأبطل عمر بن عبد العزيز هدايا النيروز والمهرجان
88
وكانت تحمل إلى معاوية ومن بعده وقدرها عشرة آلاف ألف، وهي من العادات الفارسية، وأقرها معاوية وأنكرها علي. وقضى عمر بأن يكتفى بالخراج وزن سبعة «ليس لها آيين
89
ولا أجور الضرابين، ولا هدية النيروز والمهرجان، ولا ثمن الصحف، ولا أجور الفيوج،
90
ولا أجور البيوت، ولا دراهم النكاح، ورفع الخراج عمن أسلم من أهل الأرض.» وأبطل جوائز الرسل وأجور الجهابذة وهم القساطرة وأرزاق العمال وأنزالهم، وأبطل السخرة والعطاء وورث العيالات على ما جرت به السنة، وأقر القطائع
91
التي أقطعها أهل بيته، ولم ينقص العطاء في الشرف ولم يزد فيه، وزاد أهل الشام في أعطياتهم عشرة دنانير ثم رأى الرجوع عنها . وورد كتابه على عامله في مصر بالزيادة في أعطيات الناس عامة، وكسرت دنان الخمر وعطلت حاناتها، وقسم للفلاحين بخمسة وعشرين ألف دينار، ونزعت مواريث القبط عن الكور واستعمل المسلمون عليها.
ووضع المكس
92
عن كل أرض واكتفى بالعشر، والعشر ما يجب في الزروع التي سقيت بماء السماء وما يؤخذ من أموال أهل الحرب إلى بلد الإسلام المتاخم لهم، وإذا استقر الصلح معهم على أخذ العشر أو الخمس أو أكثر منه أو أقل منه أثبت ذلك الشرط في الديوان. ووضع الجزية عن كل مسلم، وأباح الجزائر والأحماء كلها إلا النقيع،
93
وقال في الجزائر: هو شيء أنبته الله فليس أحد أحق به من أحد، وفرض للناس إلا للتاجر؛ لأن التاجر مشغول بتجارته عما يصلح المسلمين، وسوى بين الناس في طعام الجار، وكان أكثر ما يكون طعام الجار أربعة أرادب ونصف أردب لكل إنسان. وكتب إلى أحد عماله أن يستبرئ الدواوين
94
وينظر إلى كل جور جاره من قبله من حق مسلم أو معاهد فيرده عليه فإن كان أهل تلك المظلمة قد ماتوا يدفعه إلى ورثتهم. وقضى على عماله بإبطال المائدة والنوبة،
95
ومن أدى زكاة ماله قبل منه، ومن لم يؤد فالله حسيبه. ورد الخمس على أهله وعلى أهل الحاجة، وقضى أن لا يؤخذ من المعادن الخمس بل تؤخذ الصدقة، وضرب أحدهم سبعين سوطا لأنه سخر دواب النبط.
وجرت عادة الخلفاء إذا جاءتهم جبايات الأمصار أن يأتيهم مع كل جباية عشرة رجال من وجوه الناس وأجنادها، فلا يدخل بيت المال من الجباية دينار ولا درهم حتى يحلف الوفد ما فيها دينار ولا درهم إلا أخذ بحقه، وأنه فضل أعطيات أهل البلد من المقاتلة والذرية بعد أن أخذ كل ذي حق حقه، أي فضل أعطيات الأجناد وفرائض الناس. وقضى عمر على عماله أن ينظروا الأرض، ولا يحملوا خرابا على عامر ولا عامرا على خراب، وإن أطاق الخراب شيئا يؤخذ منه ما أطاق ويصلح ليعمر، ولا يؤخذ من عامر لا يعتمل شيئا ، وما أجدب من العامر يؤخذ خراجه في رفق. وكانوا بفارس يخرصون الثمار على أهلها ثم يقومونها بسعر دون سعر الناس الذي يبتاعون به فيأخذونه ورقا على قيمهم التي قوموا بها، فرد عمر إلى من شكوا الثمن الذي أخذ منهم، وأخذوا بسعر ما باع أهل الأرض غلتهم.
كتب إلى عامله إلى البصرة: «أما بعد، فإني كنت كتبت إلى عمرو بن عبد الله أن يقسم ما وجد بعمان من عشور التمر والحب في فقراء أهلها، ومن سقط إليها من أهل البادية، ومن أضافته إليها الحاجة والمسكنة وانقطاع السبيل، فكتب إلي أنه سأل عاملك قبله عن ذلك الطعام والتمر، فذكر أنه قد باعه وحمل إليك ثمنه، فاردد إلى عمرو ما كان حمل إليك عاملك على عمان من ثمن التمر والحب؛ ليضعه في المواضع التي أمرته بها، ويصرفه فيها إن شاء الله، والسلام.»
وأمر عماله بالرفق بأهل الذمة، وإذا كبر الرجل منهم وليس له مال تنفق عليه الدولة فإن كان له حميم ينفق عليه حميمه، كما لو كان لك عبد فكبرت سنه لم يكن بد من الإنفاق عليه حتى يموت أو يعتق. وكتب إلى عامله على الكوفة أن قو أهل الذمة فإنا لا نريدهم لسنة ولا لسنتين، وأعطى بطريقا
96
ألف دينار يستألفه
97
على الإسلام.
خاصم حسان بن مالك
98
عجم أهل دمشق إلى عمر في كنيسة كان رجل من الأمراء أقطعه إياها، فقال عمر: إن كانت من الخمس العشرة الكنيسة التي في عهدهم فلا سبيل لك عليها. وخاصم عجم أهل دمشق إلى عمر في كنيسة كان فلان أقطعها لبني نصر بدمشق؛ فأخرجها عن المسلمين وردها إلى النصارى. وشكا نصارى دمشق أن الوليد هدم كنيسة يوحنا وأدخلها في المسجد فهم أن يعيدها إليهم لولا أن المسلمين أقبلوا على النصارى فسألوهم أن يعطوا جميع كنائس الغوطة على أن يصفحوا عن كنيسة يوحنا ويمسكوا عن المطالبة بها، فرضوا بذلك وأعجبهم فكتب به إلى عمر فسره وأمضاه.
وعمر أول من ندب نفسه للنظر في المظالم في الدولة الأموية فردها ؛ وذلك لانتشار الأمر حتى تجاهر الناس بالظلم والتغالب، فاحتاجوا في ردع المتغلبين وإنصاف المغلوبين إلى نظر المظالم الذي تمتزج به قوة السلطة بنصفة القضاء. وما شرهت قط نفس عمر إلى أخذ أموال الناس، بل ما كان يحب أن يأخذ منهم أكثر من الفضل، ويسامح بكثير من هذا الفضل. كتب إليه عامله على العراق أن أناسا قبله قد اقتطعوا من مال الله مالا عظيما ليس يقدر على استخراجه من أيديهم إلا أن يمسهم شيء من العذاب. فكتب إليه عمر: «أما بعد، فالعجب كل العجب من استئذانك إياي في عذاب البشر، كأني لك جنة
99
من عذاب الله، وكأن رضاي ينجيك من سخط الله، فانظر فيما قامت عليه البينة فخذه بما قامت عليه، ومن أقر لك بشيء فخذه بما أقر به، ومن أنكر فاستحلفه بالله وخل سبيله، فوالله لأن يلقوا الله بخياناتهم أحب إلي من ألقى بدمائهم.» وكتب إليه عامله على مصر حيان بن شريح: «إن أهل الذمة قد أسرعوا في الإسلام، وكسروا الجزية حتى استلفت من الحارث بن ثابتة عشرين ألف دينار لأتم بها عطاء أهل الديوان.» وطلب إليه أن يأمر بتوقيف الذميين عن انتحال الإسلام، فأجابه عمر: «قد وليتك جند مصر وأنا عارف بضعفك، وقد أمرت رسولي بضربك على رأسك عشرين سوطا، فضع الجزية عمن أسلم، قبح الله رأيك؛ فإن الله إنما بعث محمدا هاديا ولم يبعثه جابيا.» وكتب إليه عامله على العراق عدي بن أرطاة: «إن الناس قد كثروا في الإسلام حتى خفت أن يقل الخراج.» فكتب إليه: «والله لوددت أن الناس كلهم أسلموا حتى نكون أنا وأنت حراثين نأكل من كسب أيدينا.» وقال في إحدى خطبه: «وددت أن أغنياء الناس اجتمعوا فردوا على فقرائهم حتى نستوي نحن وهم وأكون أنا أولهم.» ثم قال: «ما لي وللدنيا أم ما لي ولها.»
ولم يشهد مثل تحري عمر في اختيار العمال، وتعليمهم إحسان العمل، وكان يرى كل مظلمة تقع في أقصى البلاد إذا لم يردها ويكشف ظلامة صاحبها، كأنه هو فاعلها أو على الأقل المسئول عنها، وإذا شكي إليه عامل وتحقق ظلمه جاء به مقيدا ولا يخليه من ضرب يوجعه به. وكان لا يفتأ يبحث عن سيرة عماله ورضا الناس عنهم، وإذا عزلهم لا يستعين بهم بعدها أبدا. كتب إلى أحد عماله: «أما بعد، فإذا دعتك قدرتك على الناس إلى ظلمهم، فاذكر قدرة الله عليك وفناء ما تؤتي إليهم وبقاء ما يأتون إليك.» وكتب إلى عامله على العراق: «إن العرفاء من عشائرهم بمكان، فانظر عرفاء الجند فمن رضيت أمانته لنا ولقومه فأثبته، ومن لم ترضه فاستبدل به من هو خير منه، وأبلغ في الأمانة والورع.» وما كان يضن على عماله بالمشاهرات الحسنة، وقد قيل له: ترزق الرجل من عمالك مائة دينار ومائتي دينار في الشهر وأكثر من ذلك، قال: أراه لهم يسيرا إن عملوا بكتاب الله وسنة نبيه، وأحب أن أفرغ قلوبهم من الهم بمعايشهم. وقال: ما طاوعني الناس على ما أردت من الحق حتى بسطت لهم من الدنيا شيئا.
وأخذ عمر نفسه بالسير في إصلاحه بالتدريج، ناظرا قبل كل اعتبار إلى الدين لا يحيد عن صراطه قيد أنملة، ولو كان في ذلك بعض الضرر على بيت المال أو إدخال بعض الوهن على ما اصطلحوا عليه من قبله؛ إرادة إلقاء الهيبة في النفوس. قال لابنه: ما مما أنا فيه أمر هو أهم إلي من أهل بيتك، هم أهل العدة والعدد وقبلهم ما قبلهم، فلو جمعت ذلك في يوم واحد خشيت انتشاره علي، ولكني أنصف من الرجل والاثنين فيبلغ ذلك من وراءه فيكون أنجع له، فإن يرد الله إتمام هذا الأمر أتمه، وإن تكن الأخرى فحسب عبد الله أن يعلم الله أنه يحب أن ينصف جميع رعيته. وكتب إلى عامله على خراج خراسان: «إن للسلطان أركانا لا يثبت إلا بها؛ فالوالي ركن، والقاضي ركن، وصاحب بيت المال ركن، والركن الرابع أنا، وليس من ثغور المسلمين ثغر أهم إلي ولا أعظم عندي من ثغر خراسان، فاستوعب الخراج وأحرزه في غير ظلم، فإن يك كفافا لأعطياتهم فسبيل ذلك، وإلا فاكتب إلي حتى أحمل إليك الأموال فتوفر لهم أعطياتهم.» ولما وجد خراج تلك البلاد يفضل عن أعطيات جندها وأهلها قسم عمر الفضل في أهل الحاجة.
وكتب إلى أمصار
100
الشام أن يرفعوا إليه كل أعمى في الديوان أو مقعد أو من به فالج، أو من به زمانة تحول بينه وبين القيام إلى الصلاة، فأمر لكل أعمى بقائد، ولكل اثنين من الزمنى بخادم. وأمر أن يرفعوا إليه كل يتيم ومن لا أحد له ممن قد جرى على والده الديوان، فأمر لكل خمسة بخادم يتوزعونه بينهم بالسوية، وفرض للعوانس الفقيرات، وكان لا يفرض للمولود حتى يفطم، فنادى مناديه لا تعجلوا أولادكم عن الفطام؛ فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام.
واتخذ دار الطعام للمساكين والفقراء وابن السبيل، وأوصى أن لا يصيب أحد من هذه الدار شيئا من طعامها؛ لأنه خاص بمن طبخ لهم. وقسم في ولد علي بن أبي طالب عشرة آلاف دينار، وكان الناس في عهده يعرضون على ديوانهم لتناول عطائهم، فمن كان غائبا قريب الغيبة يعطى أهل ديوانه، ومن كان منقطع الغيبة يعزل عطاؤه إلى أن يقدم أو يأتي نعيه أو يوكل عنه الوالي بوكالة بينة على حياته ليدفعه إلى وكيله. ونظر في السجون وأمر أن يستوثق من أهل الدعارات
101
ويكتب لهم برزق الصيف والشتاء، ويعاهد مريضهم ممن لا أهل له ولا مال، ولا يجمع في السجون بين قوم حبسوا في دين وبين أهل الدعارات في بيت واحد ولا حبس واحد، وجعل للنساء حبسا على حدة، وعهد بالحبوس إلى من يوقن بأمانتهم ومن لا يرتشي «فإن من ارتشى صنع ما أمر به.» وأنشأ الخانات في بلاده يقرى من مر بها من المسلمين يوما وليلة ويتعهد دوابهم، ويقرون من كانت به علة يومين وليلتين، فإن كان منقطعا به يقوى بما يصل به إلى بلاده، وأمر أن لا يخرجن لأحد من العمال رزق في العامة والخاصة؛ فإنه ليس لأحد أن يأخذ رزقا من مكانين في الخاصة والعامة. وأطلق الجسور والمعابر للسابلة يسيرون عليها بدون جعل ؛ لأن عمال السوء تعدوا غير ما أمروا به، وجعل لكل مدينة رجلا يأخذ الزكاة.
ولى عاملا له على الموصل فلما قدمها وجدها من أكثر البلاد سرقا
102
ونقبا، فكتب إلى عمر يعلمه حال البلد ويسأله أخذ الناس بالظنة، وضربهم على التهمة أو يأخذهم بالبينة. فكتب أن «خذ الناس بالبينة وما جرت عليه السنة فإن لم يصلحهم الحق فلا أصلحهم الله.» وكتب إليه أحد عماله يذكر شدة الحكم والجباية، فأجابه أنه لم يكلفه ما يعنته، وأن يجبى الطيب من الحق ويقضي بما استنار له من الحق، فإذا التبس عليه أمر يرفعه إليه، قائلا: «فلو أن الناس إذا ثقل عليهم أمر تركوه ما قام دين ولا دنيا.» وكتب إلى أحد عماله: «إن العمل والعلم قريبان فكن عالما بالله عاملا له؛ فإن أقواما علموا ولم يعملوا فكان عملهم عليهم وبالا.» وكتب أيضا: «أما بعد، فاعمل عمل رجل يعلم أن الله لا يصلح عمل المفسدين.» وكتب إلى عامل أن «دع لأهل الخراج من أهل الفرات ما يتختمون
103
به الذهب والفضة، ويلبسون الطيالسة ويركبون البراذين، وخذ الفضل.» وكتب إلى عامله: «أما بعد، فالزم الحق ينزلك الحق منازل أهل الحق، يوم لا يقضى بين الناس إلا بالحق وهم لا يظلمون.»
وكتب إلى أمير مكة أن لا يدع أهل مكة يأخذون على بيوت مكة أجرا فإنه لا يحل لهم لقوله تعالى:
سواء العاكف فيه (أي في البيت)
والباد ، والبادي من يخرج من الحجاج والمعتمرين سواء في المنازل ينزلون حيث شاءوا ولا يخرج أحد من بيته. وكتب إلى عماله على مكة والطائف أن في الخلايا صدقة فخذوها منها، والخلايا: الكوائر؛ كوائر النحل. وكتب إلى عامله على اليمن يأمره بإلغاء الوظيفة والاقتصار على العشر، وقال: والله لأن لا تأتيني من اليمن حفنة كتم أحب إلي من إقرار هذه الوظيفة. وكان ضربها محمد بن يوسف على أهل اليمن، وهي الخراج جعله وظيفة.
وما كان عمر مذ كان واليا على المدينة يقطع أمرا بدون استشارة، وكان دعا إليه عدة من الفقهاء، وحرضهم على أن يبينوا له زلاته إذا رأوا منه ذلك وسمعوا، فكان إذا جلس مجلس الإمارة في عهد خلافته أمر فألقى لرجلين منهما وسادة قبالته، فقال لهما: إنه مجلس شرة وفتنة، فلا يكن لكما عمل إلا النظر إلي فإذا رأيتما مني شيئا لا يوافق الحق فخوفاني وذكراني بالله عز وجل. وكان يقول، بعد أن ولي الخلافة: لأن يكون لي مجلس من عبيد الله - أحد الفقهاء السبعة بالمدينة ومؤدبه لما كان صغيرا - أحب إلي من الدنيا وما فيها. وقال: وإني والله لأشتري ليلة من ليالي عبيد الله بألف دينار من بيت المال. فقالوا: يا أمير المؤمنين تقول هذا مع تحريك وشدة تحفظك! فقال: أين يذهب بكم؟ والله إني لأعود برأيه وبنصيحته وبهدايته على بيت مال المسلمين بألوف وألوف. وكان يحب السمر مع أهل الفضل، فقيل له في ذلك فقال: لقاء الرجال تلقيح الألباب. وقال: إن في المحادثة تلقيحا للعقل، وترويحا للقلب، وتسريحا للهم، وتنقيحا للأدب. وما زال يرد المظالم ويحيي السنن ويطفئ البدع ويقسم الأموال والأعطيات بين الناس. ورد فدك إلى ما كانت عليه أي إلى آل الرسول.
أبعد عمر بن عبد العزيز عن حماه الشعراء والخطباء، وما كان يحب المديح والهجاء، وهو يعرف استرسال الشعراء في المجون والهزل،
104
وأنهم يمدحون من يعطيهم ويهجون من يضن عليهم، وإذ كان رجل جد وتقوى حجبهم فانقشعوا
105
عنهم كلهم، وثبت الفقهاء والزهاد فكان يعطيهم عطاء كثيرا، أما الشعراء: فاكتفوا بالقليل الذي كان يعطيهم من ماله الخاص، وأعطى قوما في حمص نصبوا أنفسهم للفقه وحبسوها في المسجد عن طلب الدنيا مائة دينار لكل رجل منهم، يستعينون بها على ما هم عليه من بيت مال المسلمين. وبحسن سياسته سكنت الخوارج في أيامه فلم يثوروا؛ لأنه ناقشهم فأفحمهم، وأقسموا أن لا يشغبوا ما دام خليفة. وما حدثته نفسه قط بإهراق دماء من خالفوه في مذهبه. وقد كتب إلى عامله على الكوفة أن يستتيب القدرية مما دخلوا فيه، فإن تابوا يخلي سبيلهم وإلا فينفيهم من ديار المسلمين. أراد بذلك حقن دمائهم، وكان غيره من الخلفاء يبادر إلى قتلهم.
وطريقة عمر في إدارة ولاياته طريقة أسلافه في إطلاق الحرية للعامل، لا يشاور الخليفة إلا في أهم المهمات مما يشكل عليه أمره. كتب إلى عامله على اليمن: «أما بعد، فإني أكتب إليك آمرك أن ترد على المسلمين مظالمهم، فتراجعني ولا تعرف مسافة ما بيني وبينك، ولا تعرف أحداث الموت حتى لو كتبت إليك أن اردد على مسلم مظلمة شاة لكتبت: أردها عفراء أو سوداء؟ فانظر أن ترد على المسلمين مظالمهم ولا تراجعني.» وأملى على كاتبه يوما كتابا إلى عامله على الكوفة قال فيه: «إنه يخيل إلي أني لو كتبت إليك أن تعطي رجلا شاة لكتبت إلي: أضأن أم ماعز؟ فإن كتبت بأحدهما كتبت إلي: أصغير أم كبير؟ فإن كتبت إليك كتبت إلي: أذكر أم أنثى؟ فإذا أتاك كتابي هذا في مظلمة فاعمل به ولا تراجعني.» وكتب إلى آخر: «إنك تردد إلي الكتب فنفذ ما أكتب به إليك من الحق، فإنه ليس للموت ميقات نعرفه.»
قال له بعض أصحابه عليك بأهل العذر. قال: من هم؟ قالوا: الذين إن عدلوا فهو ما رجوت منهم، وإن قصروا قال الناس قد اجتهد عمر. وكان ينهى عماله عن المثلة
106
في العقوبة أي جز الرأس واللحية، وينهاهم عن الإسراف حتى في القراطيس التي يكاتبونه فيها. فقد قيل له: ما بال هذه الطوامير التي تكتب بالقلم الجليل وتمد فيها وهي من بيت مال المسلمين. فكتب إلى العمال أن لا يكتبن في طومار ولا يمدن فيه. قالوا: وكانت الطوامير شبرا ونحو ذلك، ومما كتب إلى أحد عماله: «أدق قلمك، وقارب بين سطورك، واجمع حوائجك؛ فإني أكره أن أخرج من أموال المسلمين ما لا ينتفعون به.» وكان عمر من كبار الكتاب والخطباء، وكان إذا خطب على المنبر فخاف فيه العجب قطع، وإذا كتب كتابا فخاف فيه العجب مزقه، ويقول: اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي. ولما بويع بالخلافة دعا إليه كاتبا فأملى عليه كتابا واحدا من فيه إلى يد الكاتب بغير نسخة فأملى أحسن إملاء وأبلغه وأوجزه، ثم أمر بذلك الكتاب فنسخ إلى كل بلد. قالوا: وجعل يكتب بيده إلى العمال في الأمصار.
107
كان عمر يحسن ظنه بعماله، ولا يتخلى عن كشف أحوالهم فقد وفد عليه بلال بن أبي بردة بخناصرة فقال عمر للعلاء
108
بن المغيرة بن البندار، وقد رأى بلالا يديم الصلاة: إن يكن سر هذا كعلانيته، فهو رجل أهل العراق غير مدافع. فقال العلاء: أنا آتيك بخبره. فأتاه وهو يصلي بين المغرب والعشاء فقال: اشفع صلاتك فإن لي إليك حاجة. ففعل، فقال له العلاء: قد عرفت حالي من أمير المؤمنين فإن أنا أشرت بك على ولاية العراق فما تجعل لي؟ قال: لك عمالتي
109
سنة. وكان مبلغها عشرين ألف ألف درهم، قال فاكتب لي بذلك. قال: فأرقد
110
بلال إلى منزله فأتى بداوة وصحيفة فكتب له بذلك. فأتى العلاء عمر بالكتاب، فلما رآه كتب إلى والي الكوفة: «أما بعد، فإن بلالا غرنا بالله، فكدنا نغتر، فسبكناه فوجدنا خبثا كله، والسلام.» وبلال هذا كان فيما يقال أول من أظهر الجور من القضاة في الحكم، وكان أمير البصرة وقاضيها. وكان عمر يقول: لا ينبغي للرجل أن يكون قاضيا حتى تكون فيه خمس خصال: يكون عالما قبل أن يستعمل، مستشيرا لأهل العلم، ملقيا للرثع،
111
ومنصفا للخصم، ومقتديا بالأئمة.
سخط مسلمة بن عبد الملك على العريان بن الهيثم فعزله عن شرطة الكوفة، فشكا ذلك إلى عمر بن عبد العزيز فكتب إليه: «إن من حفظ أنعم الله رعاية ذوي الأسنان، ومن إظهار شكر الموهوب صفح القادر عن الذنوب، ومن تمام السؤدد حفظ الودائع واستتمام الصنائع. وقد كنت أودعت العريان نعمة من أنعمك فسلبتها عجلة سخطك وما أنصفته، غصبته على أن وليته ثم عزلته وخليته، وأنا شفيعه، فأحب أن تجعل له من قلبك نصيبه، ولا تخرجه من حسن رأيك، فتضيع ما أودعته وتتوي
112
ما أفدته.» فعفا عنه ورده إلى عمله.
خطب يوما فقال: «أيها الناس، لا كتاب بعد القرآن، ولا نبي بعد محمد
صلى الله عليه وسلم ، ألا وإني لست بقاض، ولكني مقتد، ألا وإني لست بمبتدع ولكني متبع، إن الرجل الهارب من الإمام الظالم ليس بعاص ولكن الإمام الظالم هو العاصي، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.» وقال من خطبة: «وما منكم من أحد تبلغنا حاجته يتسع له ما عندنا إلا حرصنا أن نسد حاجته ما استطعنا، وما منكم من أحد تبلغنا حاجته لا يتسع له ما عندنا إلا تمنيت أن يبدأ بي وبخاصتي حتى يكون عيشنا وعيشه سواء.» ومن غريب أمره في إطلاق حرية القول أن يخطب الناس عبد الله بن الأهتم، ويذكر ما آل إليه أمر الأمة على عهد صاحب الشريعة والخليفتين من بعده، ثم يقول: «إنا والله ما اجتمعنا بعدهما إلا على ضلع
113
أعوج.» يقول هذا في عهد عمر بن عبد العزيز، وعمر يسكت عنه! ولطالما أسمعه بعض الناقمين على أهل بيته ما يغضب له الحليم، فما كان يقابلهم بغير الإغضاء يفهمهم من طرف خفي أنه لا يليق بالرجل أن ينال من آله.
وكان عمر يجلس إلى قاص العامة ويرفع يديه إذا رفع، وقاصه محمد بن قيس، وعلم أن أناسا من القصاص يصلون على خلفائهم وأمرائهم يلتمسون الدنيا بعمل الآخرة، فأمرهم بالدعاء للمؤمنين عامة، وأن يلغوا ما سوى ذلك. وأدرك أن البادية يتحفزون إلى أن يرجعوا إلى سيرتهم في الجاهلية، فبعث إليهم برجلين من أرباب الفقه يفقهان الناس في البدو وأجرى عليهما رزقا. وكأنه قطع عهدا على نفسه إذا ولي أمر المسلمين «أن لا يضع لبنة على لبنة ولا آجرة على آجرة.» لئلا يقع في ذلك حيف على الرعية. وهم يتولون من ذلك ما يصلحهم من إقامة القصور والبيوت، أما هو فيعمل لإغنائهم وحملهم على الجادة، حتى لم يبق فقير في أيامه في أكثر الأمصار؛ لكثرة ما وزع على الفقراء من أموال الصدقات: يقبض عماله الصدقة، ثم يقسمونها في الفقراء حتى إنه ليصيب الرجل الفريضتان أو الثلاث فما يفارقون الحي وفيهم فقير، ولا ينصرفون إلى الخليفة
114
بدرهم. بعث عاملا على صدقات إفريقية
115
فأراد أن يعطي منها الفقراء فالتمسهم في كل مكان فلم يجد فيها فقيرا يقبل أن يأخذ صدقة بيت المال، فاشترى بها رقابا وأعتقها، وجعل ولاءهم للمسلمين. وما مات عمر حتى جعل الرجل يأتي بالمال العظيم ويقول: اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء، فما يبرح حتى يرجع بماله، لا يجد من يضعه فيهم، لكثرة ما أغنى الناس عمر.
ومن أهم ما عمله عمر في حسن الإدارة والسياسة: أنه لم يشأ - لما وسدت إليه الخلافة - أن يبدأ بعمل قبل أن يستدعي المسلمين من أرض الروم، وقال: لرجل من المسلمين أحب إلي من الروم وما حوت. وفي سنة 100 أمر أهل طرندة بالقفول عنها إلى ملطية، ثم اشترى ملطية من الروم بمائة ألف أسير، فجعل لدولته سدا منيعا، وأنقذ المسلمين من ذل الأسر. وأراد هدم المصيصة، ونقل أهلها عنها لما كانوا يلقون من الروم فتوفي بعد ذلك.
ولما بلغ صاحب القسطنطينية نعيه نزل عن سريره وبكى، وذكر من مآثر عمر أمام وفد من العرب، كان ذهب للفداء بين المسلمين والروم، ما أبكى المقل، ومما قال: لقد بلغني من بره وفضله وصدقته ما لو كان أحد بعد عيسى يحيي الموتى لظننت أنه يحيي الموتى، ولقد كانت تأتيني أخباره باطنا وظاهرا فلا أجد أمره مع ربه إلا واحدا، بل باطنه أشد حين خلواته بطاعة مولاه، ولم أعجب لهذا الراهب الذي قد ترك الدنيا وعبد ربه على رأس صومعته، ولكني عجبت لهذا الراهب الذي صارت الدنيا تحت قدميه فزهد فيها حتى صار مثل الراهب.
116
وأحب عمر أن يجلي المسلمين من الأندلس؛ لأنه كان يعتقد أن مقامهم فيها غير طبيعي؛ لأنهم محاطون بالأعداء بعيدون عن مقر الخلافة. فأمر أحد عماله أن يرسم له مصور الأندلس ليرى في إجلاء المسلمين رأيه، وكتب إلى عامله عبد الرحمن بن نعيم يأمره بإقفال من وراء النهر من المسلمين بذراريهم فأبوا، وكتب إلى عمر بذلك فكتب إليه: «اللهم إني قد قضيت الذي علي، فلا تغز بالمسلمين فحسبهم الذي قد فتح الله عليهم.» كل أولئك يدل على أن عمر ما كان يريد التوسع في الفتوح، ويحاول أن يقتصر على البلاد التي دخلت في المملكة الإسلامية حتى لا تهرق الدماء على غير طائل، ويعمر الناس البلاد، ويصلح أهلها صلاحا دائما على أن يكونوا بين آخري يرجو ثواب الله، ودنياوي يستجمع صفات الشرف في نفسه.
وكتب إلى ملوك الهند يدعوهم
117
إلى الإسلام والطاعة على أن يملكهم ولهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم. وقد كانت بلغتهم سيرته ومذهبه فأسلموا وتسموا بأسماء العرب، ولما ولى إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر مولى بني مخزوم ببلاد المغرب سار أحسن سيرة ودعا البربر إلى الإسلام، وكتب إليهم عمر بن عبد العزيز كتابا يدعوهم إلى الإسلام فقرأه إسماعيل عليهم في النواحي فغلب الإسلام على المغرب. وكتب في اللواتيات: «إن من كانت عنده لواتية فليخطبها إلى أبيها أو فليرددها إلى أهلها.» ولواتية قرية من البربر كان لهم عهد، ولما استخلف كتب إلى ملوك ما وراء النهر يدعوهم إلى الإسلام فأسلم بعضهم، ورفع الخراج عمن أسلم بخراسان، وفرض لمن أسلم، وابتنى خانات. ثم بلغ عمر عن عامله عصبية، وكتب إليه أنه لا يصلح أهل خراسان إلا السيف، فأنكر ذلك وعزله وكان عليه دين فقضاه. ووفد عليه قوم من أهل سمرقند فرفعوا إليه أن قتيبة دخل مدينتهم وأسكنها المسلمين على غدر، فكتب إلى عامله يأمره أن ينصب لهم قاضيا ينظر فيما ذكروا، فإن قضى بإخراج المسلمين أخرجوا، فحكم القاضي بإخراج المسلمين، وعلى أن ينابذوهم على سواء،
118
فكره أهل سمرقند الحرب وأقروا فأقاموا بين أظهرهم. قال عمر لمزاحم مولاه: إن الولاة جعلوا العيون على العوام، وأنا أجعلك عيني على نفسي فإن سمعت مني كلمة تربأ بي عنها أو فعلا لا تحبه، فعظني عنده وانهني عنه. وكان عنده رجلان فجعلا يلحنان فقال الحاجب: قوما قد آذيتما أمير المؤمنين. فقال عمر: أنت آذى لي منهما.
هذا مجمل ما تم في عهد أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز من الإصلاح فأعاد إلى الخلافة جمالها وجلالها على ما كانت عليه أيام جده لأمه عمر بن الخطاب، ولكن عمر بن عبد العزيز عمل في غير زمان عمر بن الخطاب وعمل بغير رجاله. وكان دأب عمر بن عبد العزيز أن يذكر الناس بالآخرة ويخوفهم العذاب، ودأب ابن الخطاب أن يذكرهم العمل للدنيا مع شدة التمسك بحقوق الأخرى. فكانت إدارة عمر بن الخطاب ملائمة لزمانه وسيرة حفيده كذلك؛ لأن الناس فسدوا في أواخر القرن الأول أو بدءوا بالفساد، فكان هجيراه أن يذكرهم بالمعاد ويطهر أخلاقهم. وعمل عمر كل هذا في سنتين وخمسة أشهر وهذا من أعجب ما يدون في تاريخ عظماء الأرض. ولما مرض مرضته التي مات فيها دخل عليه مسلمة بن عبد الملك فقال: ألا توصي يا أمير المؤمنين؟ فقال: فيم أوصي؟ فوالله إن لي من مال. فقال: هذه مائة ألف فمر بها بما أحببت. وقال: أوتقبل؟ قال: نعم. قال: ترد على من أخذت منه ظلما. فبكى مسلمة، ثم قال: يرحمك الله لقد ألنت منا قلوبا قاسية، وأبقيت لنا في الصالحين ذكرا.
إدارة يزيد بن عبد الملك وهشام ويزيد بن الوليد ومروان بن محمد
ولم يكد عمر بن عبد العزيز يلحق بمولاه حتى عادت الدولة إلى سابق عهدها إلا قليلا. وعزل يزيد بن عبد الملك عمال عمر بن عبد العزيز جميعا، وأعاد سب علي على المنابر، وكتب إلى عمال عمر: «أما بعد، فإن عمر كان مغرورا غررتموه أنتم وأصحابكم، وقد رأيت كتبكم إليه في انكسار الخراج والضريبة، فإذا أتاكم كتابي هذا فدعوا ما كنتم تعرفون من عهده وأعيدوا الناس إلى طبقتهم الأولى، أخصبوا أم أجدبوا، أحبوا أم كرهوا، حيوا أم ماتوا، والسلام.» ويزيد هذا أحد إخوة أربعة تولوا الخلافة ولقبوا بالأكبش الأربعة، وهذا كان على غير طريقة إخوته.
وجاء دور هشام في الخلافة وناهيك به من «رجل محشو عقلا» وفيه من الحلم والأناة والعفة ما ظهرت آثاره في إدارة الملك، وعد أحد السواس الثلاثة من بني أمية وهم معاوية وعبد الملك وهشام، وبه ختمت أبواب السياسة وحسن السيرة ، وكان يحب جمع المال وعمارة الأرض واصطناع الرجال وتقوية الثغور وإقامة البرك والقنى في طريق مكة وغير ذلك، ويسير بموكب كسائر الخلفاء من أهل بيته، ولم يكن مثل ذلك لغير أخيه مسلمة بن عبد الملك. وافتتح عهده بعزل عمر بن هبيرة عن العراق وتولية خالد بن عبد الله القسري، فأدار هذه الولاية
119
العظيمة نحو خمس عشرة سنة بإقامة العدل وإفاضة السلام والعمل الصالح. وكان هشام على غاية الإخلاص متقللا متقشفا في ذاته، يقوم بواجب الخلافة حق القيام، ومن أكبر همه إصلاح أموال الدولة، وغلب عليه الاقتصاد حتى كاد ينقلب إلى شح. بينا هو يوصي عقال بن شبة
120
لما وجهه إلى خراسان نظر هذا إلى قباء الخليفة فقال: ما لك؟ قال: رأيت عليك قبل أن تلي الخلافة قباء فنك
121
أخضر فجعلت أتأمل هذا أهو ذاك أم غيره. فقال: هو - والله الذي لا إله إلا هو - ذاك، ما لي قباء غيره، وأما ما ترون من جمعي هذا المال وصونه فإنه لكم.
وكانت دواوينه مثال التدقيق والعناية في معاملة الرعية ومحاسبة العمال الذين يتصرفون له؛ يتخيرهم من الأمناء البعيدين «من الفساد ومن الرشا ومن الحكم بالهوى» ويعتمد في توسيد عظام الأعمال على أناس من أهل بيته. قال عبد الرحمن بن علي: جمعت دواوين بني مروان فلم أر ديوانا أصح للعامة للسلطان من ديوان هشام. وقال غسان بن عبد الحميد: لم يكن أحد من بني مروان أشد حصرا في أمر الصحابة ودواوينه ولا أشد مبالغة في الفحص عنهم من هشام.
كتب هشام إلى والي العراق لما أخذ ابن حسان النبطي فضربه بالسياط، وكان أوغر صدر هشام عليه من إفراط الدالة واحتجان الأموال وكفر ما أسداه إليه من توليته إياه العراق: «إن هشاما آثرك بولاية العراق، بلا بيت رفيع ولا شرف قديم، وهذه البيوتات تعلوك وتغمرك وتسكتك وتتقدمك في المحافل والمجامع عند بداءة الأمور وأبواب الخلفاء.» ومما قال له: «إنه استعان بالمجوس والنصارى وولاهم رقاب المسلمين وجبوة خراجهم وسلطهم عليهم .» وقال له: «والله لو كنت من ولد عبد الملك بن مروان ما احتمل لك أمير المؤمنين ما أفسدت من مال الله، وضيعت من أمور المسلمين، وسلطت من ولاة السوء على جميع أهل كور عملك تجمع إليك الدهاقين
122
هدايا النيروز والمهرجان، حابسا لأكثره، رافعا لأقله مع مخابث مساويك.»
123
وغزا هشام الروم عدة غزوات موفقة، وكان الأسطول يشترك مع الجيش البري من اليابسة، وذلك بقيادة ابنيه معاوية وسليمان. وتقدمت جيوشه في الشرق فغزا الترك، وأخذ دعاة بني العباس وثوار الخوارج في أيامه يعملون سرا وجهرا إذا أمكنتهم الحال، وعلى ما في هشام من بعد نظر لم يقدر مدى الدعوة التي عادت بعد على دولته بالوبال، مع أنه كان معروفا بالشدة في مثل هذه المسائل. وظل أعداء الدولة ينقضون في أساسها، وما كان بما عرف فيه من العقل يريد إثارة الخواطر فيما لا يعود على السلطان بفائدة؛ فقد لقيه في الحج سنة 106 سعيد بن عبد الله بن الوليد بن عثمان بن عفان وقال له: يا أمير المؤمنين، إن الله لم يزل ينعم على بيت أمير المؤمنين، وينصر خليفته المظلوم، ولم يزالوا يلعنون في هذه المواطن الصالحة أبا تراب - علي بن أبي طالب - فأمير المؤمنين ينبغي له أن يلعنه في هذه المواطن الصالحة. فشق ذلك على هشام، وثقل عليه كلامه، ثم قال: ما قدمنا لشتم أحد ولا للعنه، قدمنا حجاجا، ثم قطع كلامه.
124
وذكروا أن هشاما كان ينزل الرصافة من أرض قنسرين، وكان سبب نزوله إياها أن الخلفاء كانوا ينتبذون
125
ويهربون من الطاعون فينزلون البرية خارجا عن الناس، فلما أراد هشام أن ينزل الرصافة قيل له: لا تخرج فإن الخلفاء لا يطعنون ولم ير خليفة طعن. فقال: أتريدون أن تجربوا بي! فنزل الرصافة وهي برية، وابتنى بها قصرين. وكان
126
لا يدخل بيت ماله مال حتى يشهد أربعون قسامة
127
أنه أخذ من حقه وأعطي لكل ذي حق حقه. وهو من أحزم بني أمية ومن أعقلهم، يفضل على العلماء والفقهاء كثيرا.
وتولى يزيد بن الوليد الخلافة فنقص الناس من عطائهم، وكان أشد ضنانة بالمال من هشام، فسمى يزيد الناقص، فاضطربت عليه البلدان، وكان الخليفة من بني أمية إذا مات وقام آخر زاد في أرزاقهم وعطاياهم عشرة دراهم فيقولون: «عير بعير
128
وزيادة عشرة.» أي رجل برجل وزيادة عشرة. فسار هذا القول مسير الأمثال عند أهل الشام. وكان يزيد يهتم باللهو واللذة والركوب للصيد وشرب النبيذ ومنادمة الفساق، وأفسد على نفسه بني عميه ولد هشام وولد الوليد ابني عبد الملك بن مروان. وأفسد على نفسه اليمانية وهم أعظم جند الشام، ولعل هذه الغلطات الإدارية جسمت ما اتهم به، فكانت حجة للخواص عند العوام حتى أوردوه موارد الهلكة. وقال خالد بن يزيد: يا أمير المؤمنين، قتلت ابن عمك لإقامة كتاب الله تعالى وعمالك يغشمون ويظلمون. قال: لا أجد أعوانا غيرهم وإني لأبغضهم. قال: يا أمير المؤمنين ول أهل البيوتات، وضم إلى كل عامل رجلا من أهل الخير والعفة، يأخذونهم بما في عهدك. قال: أفعل.
وأمر الوليد بن يزيد بعض رجاله بتعذيب بعض العمال؛ لأنه كان رفع إليه أنهم أخذوا مالا كثيرا
129
ولما قتل الوليد (126) كان في بيت المال سبعة وسبعون ألف ألف دينار ففرقها يزيد عن آخرها، وتعهد للناس أن لا يضع حجرا فوق حجر، ولا لبنة على لبنة، ولا يكري نهرا، ولا يكنز مالا، ولا ينقل مالا من بلد إلى بلد حتى يسد ثغره وخصاصة أهله بما يغنيهم، فما فضل منه نقله إلى البلد الآخر الذي يليه، ولا يغلق بابه دونهم، ولهم أعطياتهم في كل سنة وأرزاقهم كل شهر حتى يكون أقصاهم كأدناهم.
أما مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية: فقد كان شيخ بني أمية وكبيرهم
130 «ذا أدب كامل ورأي فاضل» وهو أحزم بني مروان وأنجدهم
131
وأبلغهم، ولكنه ولي الخلافة والأمر مدبر عنهم.
هذا ما كان من إدارة دولة امتد حكمها مسافة
132
مائتي يوم من المشرق إلى المغرب تقرأ آي القرآن في سمرقند كما تتلى في قرطبة. ويتلاقى الهندي مع السوداني في مكة للحج، وكلاهما يدين لبني أمية. وفي أيامهم ظهرت على الممالك قدرة وغنى، وكانت كلمة الدولة نافذة في ثلاثة أقسام من الأرض: آسيا وإفريقية وأوروبا. ملكوا من براري جبل الطور إلى قفار ما وراء النهر، ومن وادي كشمير إلى منحدر جبل طوروس على البحر المتوسط وأطراف الأناضول وسائر مملكة الأكاسرة وما عجز عنه الأكاسرة، وأخذت الجزية التي قررها عمر بن الخطاب من النوبة كما أخذت من الهند والصين على ما قدرها مسلم بن قتيبة الباهلي. وكل ذلك على قواعد العدل وقسطاس الحق، حتى صارت دمشق في نظر المسلمين كأنما هي رومية في نظر المسيحيين، وانتشرت حضارة الإسلام
133
في نصف قرن تقريبا من سواحل البحر الأطلنطي إلى بلاد الصين، ومن جبال القوقاز وما وراءها إلى خط الاستواء وما وراءه، ودخلت في حوزة الإسلام أمم كثيرة من السلالة السامية «العرب والسريان والكلدان» ومن السلالة الحامية «المصريون والنوبيون والبربر والسودان» ومن السلالة الآرية «الفرس واليونان والإسبان والأهانداي الهنود» ومن السلالة المسماة بالتورانية «الترك والتتار».
كل هذا وما كان جميع الناس راضين عن إدارة الأمويين ولا سيما خصومهم السياسيون. ومتى كان الخصم ينصف خصمه؟! وإليكم مثالا من ذلك صدر عن أحد نساك الإباضية وخطبائهم وهو أبو حمزة يحيي بن مختار الخارجي، خطب في مكة، ووصف سيرة الخلفاء الراشدين، ثم قال في بني أمية: وأما بنو أمية ففرقة ضلالة، وبطشهم بطش جبرية، يأخذون بالظنة، ويقضون بالهوى، ويقتلون على الغضب، ويحكمون بالشفاعة، ويأخذون بالفريضة من غير موضعها، ويضعونها في غير أهلها، وقد بين الله أهلها فجعلهم ثمانية أصناف فقال:
إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل
فأقبل صنف تاسع منها فأخذ كلها، تلكم الفرقة الحاكمة بغير ما أنزل الله. ا.ه. والله أعلم بمقدار ما في هذا الخطاب - على جلالة قدر صاحبه - من الخطأ والخطل، وفي حديث علي: «وأما إخواننا بنو أمية فقادة ذادة.» والذادة جمع ذائد وهو الحامي الدافع، قيل: أراد أنهم يذودون عن الحرم،
134
ولكن غضب العربي في رأسه فإذا غضب لم يهدأ حتى يخرجه بلسانه أو يده كما قال ابن عياش.
لا جرم أن إدارة الأمويين لم تكن في كل أيام خلفائهم بريئة من العيوب، ولم تضعف في الحقيقة إلا في أيام يزيد بن الوليد، وكان على غير طريقة أسلافه في أعماله. وكان آخرهم مروان بن محمد على عظم همته وشدة بأسه مشغولا بالدفع عن الخلافة، وكثرت الفتوق، فضعفت إدارة المملكة. كانت حكومتهم عربية صرفة يتولاها أهل البيوتات والأشراف على الأكثر. وقيل: إن من أوكد الأسباب في زوال سلطان بني أمية استتار الأخبار عنهم، وإغضاب قواد الدولة، وانقسام البيت الأموي على نفسه بسبب ولاية العهد. ثم كان تأخير العطاء عن الجند فظاهروا غيرهم من العباسيين، ولم يقاتلوا بإخلاص للخليفة كما كانوا من قبل. وساعد التوسع في الفتوح على عهد هشام على اختلال نظام الدولة؛ فاتسعت دائرة ملكهم إلى ما لم تبلغه دولة الرومان. ثم إن انقسام العرب في خراسان إلى مضرية ويمانية، وتنازع رؤسائهم على الولاية كان من الأسباب المسهلة لقيام الدعوة العباسية في خراسان نفسها، ولم يغن عن الأمويين من قتل من دعاة العباسيين الذين عملوا لدولتهم في أرض أعدائهم وتحت سمع عمالهم وبصرهم.
هوامش
إدارة العباسيين
تدابير السفاح والمنصور
اختار محمد بن علي بن عبد الله بن العباس - يوم قام يدعو لآل العباس، ويحاول انتزاع الملك من الأمويين - بلاد خراسان ميدانا لإظهار دعوته؛ لأنه كان جازما كل الجزم أن أهل الشام والجزيرة والعراق والحجاز لم يكن هواهم مع آل العباس، بل كانوا متشبعين بالروح الأموي يعلنون في سرهم وجهرهم ولاء بني مروان، وأن في أهل خراسان «العدد الكثير، والجلد الظاهر، وهناك صدور سليمة، وقلوب فارغة، لم تتقسمها الأهواء، ولم تتوزعها النحل، ولم يقدم عليها الفساد، وهم جند لهم أبدان وأجسام ومناكب وكواهل وهامات ولحى وشوارب وأصوات هائلة، ولغات فخمة تخرج من أجواف
1
منكرة.» وليس فيهم التحزب للقبيلة
2
والعصبية للعشيرة، وهم مظلومون يؤملون الدول، ولم يكونوا على العهد الأموي محل الرعاية، وأقصاهم الأمويون عن الحكومة، وجلبوا لهم العمال من الأحزاب العربية. وإن أهل خراسان لم يزالوا في أكثر ملك العجم لقاحا
3
لا يؤدون إلى أحد إتاوة ولا خراجا،
4
فلما كان الإسلام صالحوا عن بلادهم فخف خراجهم، ولم تسفك بينهم الدماء.
وأخذ الدعاة يدعون إلى الرضا من آل محمد، ومن مرو الشاهجان ظهرت دولة بني العباس في سنة 127 وفي دار شخص منها يعرف بأبي النجم المعيطي صبغ أول سواد لبسته المسودة.
5
وفي شهر رمضان سنة 129 نشر العلم الأسود على خراسان، وكان الخراج يجبى لإبراهيم الإمام وهو في الشام والحجاز، ولا مال لديه ولا نشب. ومروان بن محمد الجعدي الخليفة الأموي المبايع ومعه الجند والسلاح والمال والدنيا جميعها عنده ينتثر ملكه عقدة عقدة. وقلما سمع أهل بلد بجيش خراسان إلا سودوا أي لبسوا السواد شعار بني العباس قبل أن يوافيهم، ونزعوا البياض شعار الأمويين المبيضين. وجيش خراسان أي الجيش العباسي على قلته يغلب وجيوش الأمويين على كثرتها تتوالى هزائمها. ويكتب كاتب مروان عبد الحميد بن يحيى كتابا إلى أبي مسلم الخراساني صاحب الدعوة باسم مروان، ويضمنه ما لو قرئ لأوقع الاختلاف بين أصحاب أبي مسلم، وكان من كبر حجمه يحمل على جمل،
6
فلا يرضى أبو مسلم أن يقرأ الكتاب ويجعله طعاما للنار. ومن الحزم أن لا يسمع وعدا ولا وعيدا ما دام قد دبر أمره تدبير من طب لمن حب،
7
وكان الإمام يوصي جماعته أن لا يتجاوزوا الفرات. ومن حسن طالع الجيش الفاتح أنه اجتاز الفرات في مده، فهلك القائد وانتصر جيشه. فلما بلغ مروان الجعدي ذلك قال: هذا والله الإدبار، وإلا فمن سمع بميت يهزم حيا!
داول أبو العباس السفاح بين الكوفة والأنبار والحيرة والهاشمية من المدن، فكان يتنقل فيها، ولم يجعل له عاصمة مستقرة. واتخذ له وزيرا أبا سلمة الخلال حفص بن سليمان وسلمه الدواوين، وكان يسمى وزير آل محمد. وأصبحت الوزارة في الدولة العباسية مقررة القواعد والقوانين، وما كانت تعهد في الدولة الأموية، وكان من يستشيرهم الأمويون يسمون كتابا ومشيرين على الأغلب، ويسمى وزيرا من باب التجوز لا على مثال بني العباس . استوزر السفاح خالد بن برمك بعد أن قتل أبا سلمة الخلال، فجعل خالد له دفاتر في الدواوين من الجلود وكتب فيها وترك الدروج. وكانت كتابة الدواوين في صدر الإسلام أن يجعل ما يكتب فيه صحفا مدرجة. دام ذلك مدة بني أمية، ولما تصرف جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك في الأمور أيام الرشيد اتخذ الكاغد وتداوله الناس من بعد.
8
عهد السفاح بإدارة البلاد إلى رجال من آل بيته يستأصلون قواد الأمويين وجماعاتهم، لا تأخذهم بهم رأفة ولا هوادة، ويقتلون حتى من استأمنوا، ويبحثون عنهم حتى في أقصى حدود المملكة؛ ليجتثوا أصولهم، فانتقموا لمن قتله الأمويون على نسبة عظيمة جدا، أخذوا ثأرهم من أحيائهم بالقتل، ومن أمواتهم بإحراق جثثهم وتعفية آثارهم، وما ارتكبوه في دمشق من نسف قبور خلفاء الأمويين والقضاء على كل أثر لهم كان سيئة وأي سيئة.
ولم يتفرغ أبو العباس السفاح لوضع أساس ثابت للإدارة لانصرافه جملة واحدة إلى توطيد دعائم الفتح وقتال الخوارج عليه، وسار في الجملة على نظام الأمويين، وكان أخوه أبو جعفر يتولى لأخيه كل أمر عظيم، وكانت العراق على حظ وافر من ترتيب دواوينها وانتظام شئون إدارتها على العهد الأموي بفضل من وليها من أكبر رجال الإدارة والسياسة من بني أمية. وكذلك الحال في معظم الأقطار تبدلت دولة بدولة وخليفة بخليفة، ونسج الآخر على منوال الأول اضطرارا واختيارا، وقل أن خالفه في ترتيبه ونظمه. وخطب السفاح قائما، وكانت بنو أمية تخطب قعودا، فضج الناس وقالوا: أحييت السنة يا ابن عم رسول الله. وكان السفاح جميل العشرة جوادا بالمال، ويحب مسامرة الرجال، وكان كثيرا ما يقول: العجب ممن يترك أن يزداد علما ويختار أن يزداد جهلا! فقال له أبو بكر الهذلي: ما تأويل هذا الكلام يا أمير المؤمنين؟ قال: يترك مجالسة مثلك ومثل أصحابك ويدخل إلى امرأة وجارية، فلا يزال يسمع سخفا ويرى نقصا. فقال له الهذلي: لذلك فضلكم الله على العالمين، وجعل منكم خاتم النبيين. ومن أثمن ما وصل إلى أبي العباس من ميراث بني أمية بردة الرسول وقضيبه. وكان مروان
9
بن محمد حين أحيط به في مصر دفعهما إلى خادم له وأمره أن يدفنهما في بعض تلك الرمال. فلما أخذ الخادم في الأسرى قال: إن قتلتموني ضاع ميراث النبي. فأمنوه على أن يسلم لهم ذلك، وكان للبردة والقضيب شأن وأي شأن عند جميع الخلفاء من بعده.
ولي المنصور الخلافة، وكان أسن من أخيه أبي العباس السفاح، ودبر المملكة في أيامه تدبيرا حسنا. أفضى إليه الملك وهو حنيك
10
كما قال عن نفسه، قد حلب هذا الدهر أشطره،
11
وزاحم المشاة في الأسواق، وشاهدهم في المواسم، وغازاهم في المغازي. قال: فوالله ما أحب أن أزداد بهم خبرا على أني أحب أن أعلم ما أحدثوا بعدي، مذ تواريت عنهم بهذه الجدارات، وتشاغلت عنهم بأمورهم، مع أني والله ما لمت نفسي أن أكون قد أذكيت عليهم العيون حتى أتتني أخبارهم وهم في منازلهم. والواقع أن أبا جعفر المنصور في تأسيسه دولة بني العباس كمعاوية في تأسيس دولة بني أمية، مع اعتبار الفرق بين عصريهما، والسر الأعظم في نجاحهما أنهما مرنا على الإدارة قبل أن توسد الخلافة إليهما.
ولى المنصور أهله البلدان وفرق العمالات بين قواد من العرب وقواد من مواليه. فكان ينقل قواد العرب في أعماله لثقته بهم واعتماده عليهم، ثم استعمل مواليه وغلمانه في أعماله، وصرفهم في مهماته، وقدمهم على العرب، فامتثلت ذلك الخلفاء من بعده من ولده، فسقطت قيادات العرب، وزالت رياستها، وذهبت مراتبها. فهو الذي «أصل
12
الدولة، وضبط المملكة، ورتب القواعد، وأقام الناموس، واخترع أشياء، ولم تكن الوزارة في أيامه طائلة لاستبداده واستغنائه برأيه وكفاءته، على أنه كان يشاور في الأمور دائما، وإنما كانت هيبته تصغر لها هيبة الوزراء.» واجتمع له كثير من الخيل لم يعرف مثله في جاهلية ولا إسلام، واستجاد الكساء والفرش وعدد الحرب ومؤنها، واصطنع الرجال وقوى الثغور، ولقب بأبي الدوانيق لتشدده في محاسبة العمال والكتاب. وجماع سياسته المالية أن يدخر المال قائلا: «من قل ماله قل رجاله، ومن قل رجاله قوي عليه عدوه، ومن قوي عليه عدوه اتضع ملكه، ومن اتضع ملكه استبيح حماه.» وذكر أنه أخذ أموال الناس حتى ما ترك عند أحد فضلا.
13
وكان يعطي الجزيل والخطير
14
إذا رأى في العطاء فائدة، ويمنع اليسير والخطير إذا كان عطاؤه تضييعا، فكان كما قال زياد: لو أن عندي ألف بعير وعندي بعير أجرب لقمت عليه قيام من لا يملك غيره. ومن أجل هذا كان يثمر ماله، وينظر فيما لا ينظر فيه العوام، ووافق صاحب مطبخه على أن له الرءوس والأكارع والجلود وعليه الحطب والتوابل.
وعد محمد بن عبد الله لما خرج عليه إذا رجع إلى طاعته من قبل أن يقدر عليه أن يعطيه ألف ألف درهم، ويؤمنه على نفسه وولده وإخوته، ومن بايعه وتابعه وشايعه، ويطلق من في سجنه من أهل بيته وأنصاره؛ لأنه آثر أن يحقن الدماء ويعطي هذا العطاء على أن يبعث البعوث وينفق الأموال. وأنفق ثلاثة وستين ألف ألف درهم على جيش واحد كان مؤلفا من خمسين ألفا وجهه إلى إفريقية لقتال الخوارج، بمعنى أن أبا جعفر كان الحزم كله في تدبير ملكه، والحزم كله في جمع المال للشدائد والإنفاق منه عند الحاجة لقيام الدولة، ويذكرون له في باب الإمساك أخبارا كثيرة.
يقول المسعودي إن المنصور
15
كان في الحزم وصواب التدبير وحسن السياسة على ما تجاوز كل وصف، وهو أول من رتب المراتب من الخلفاء
16
وكان لبني أمية بيوت بلا منعة ولا إذن، وإنما كان الناس يقفون على أبوابهم حتى يؤذن لهم أو يصرفوا. فلما ولي بنو العباس وبنى المنصور بيته اتخذ في قصره بيوتا للإذن، فجرى الأمر على ذلك. وكانت أرزاق الكتاب في أيامه ثلاثمائة ثلاثمائة، وكذلك كانت في أيام بني أمية. وكان المنصور متقللا متقشفا لا يحب البذخ والرفاهية يعد كل ما يأكل ويلبس نعمة عظمى بالقياس إلى حاله قبل الخلافة. فهو شديد في قتال أعدائه، شديد في نظامه وترتيبه، يعرف قيمة الوقت لا يصرفه إلا فيما ينفع الدولة فيعمل في خدمتها ليله ونهاره، وكان شغله
17
في صدر نهاره بالأمر والنهي والولايات والعزل وشحن الثغور والأطراف وأمن السبل والنظر في الخراج والنفقات، ومصلحة معاش الرعية والتلطف بسكونهم، فإذا صلى العصر جلس لأهل بيته، فإذا صلى العشاء الآخرة جلس ينظر فيما ورد من كتب الثغور والأطراف والآفاق وشاور سماره، وهو على انتباه لكل دقيق وجليل. وكان يقول: ما أحوجني أن يكون على بابي أربعة نفر لا يكون على بابي أعف منهم، هم أركان الدولة ولا يصلح الملك إلا بهم: أما أحدهم فقاض لا تأخذه في الله لومة لائم، والآخر صاحب الشرطة ينصف الضعيف من القوي، والثالث صاحب خراج يستقصي ولا يظلم الرعية، ثم عض على إصبعه السبابة ثلاث مرات يقول في كل مرة: آه آه. قيل: ما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: صاحب بريد يكتب خبر هؤلاء على الصحة.
استعمل المنصور في ولاياته وأعماله قليلا من عمال الدولة البائدة، وكثيرا من أهل بيته ورجالات العرب وبعض الفرس، واستوزر ابن عطية الباهلي وهو من صميم العرب كما وزر له أبو أيوب المورياني الخوزي وهو فارسي، إلا أنه لا يترك الوزير يعمل برأيه فقط بل ينهي إليه كل ما يعرض له من أمور الدولة قبل البت فيها. وطريقته في حكم الأمصار طريقة اللامركزية، أي طريقة الأمويين والراشدين من قبل. دعاه إلى اتخاذ هذه الطريقة تباعد ما بين أجزاء المملكة، وبعد الشقة في نقل الأخبار على وجه السرعة، على ما كان في عهده من انتظام البريد وحمام الزاجل تطير في المهمات السريعة. كتب المنصور إلى مسلم بن قتيبة يأمره بهدم دور من خرج مع أحد الخوارج وعقر نخلهم. فكتب إليه: بأي ذلك نبدأ أبالنخل أم بالدور؟ فكتب إليه أبو جعفر: «أما بعد، فإني لو أمرتك بإفساد ثمرهم لكتبت إلي تستأذن في أيه نبدأ أبالبرني أم بالشهريز.»
18
وعزله.
لم ينفتق على المنصور في ملكه الواسع خرق إلا سده؛ لأن جيشه كثير، وآلته تامة، وقواده يعرفون منه أن من سياسته أن يقتل على التهمة؛ فهم يصدعون بأمره كله، ولا يخرمون منه مادة واحدة. احتل الروم طرابلس الشام وظهر في الشام رجل من أهل المنيطرة
19 (142-143) وسمى نفسه ملكا، ولبس التاج وأظهر الصليب، واجتمع أنباط جبل لبنان وغيرهم، ثم استفحل أمرهم فظهر عليهم الجيش العباسي، فأمر أمير دمشق بإخراج من بقي في الجبل، وتفريقهم في بلاد الشام وكورها، فكان هذا التدبير الإداري مما انتقده الإمام الأوزاعي بشدة؛ لأنه إن كان من نصارى لبنان المعتدي على حقوق السلطان، فإن منهم البريء، وليس من الجائز
20
أن يجلى عن أرضه ويعامل الطائع كالعاصي.
كان المنصور في أكثر أموره وسياسته وتدبيره متبعا في أفعاله لهشام بن عبد الملك؛ لكثرة ما كشفه من أخبار هشام وسيرته، وكان يقول إنه - أي هشام - فتى القوم أي رجل بني أمية. وقال: الملوك ثلاثة: معاوية وكفاه حجاجه، وعبد الملك وكفاه زياده، وأنا ولا كافي لي. وكان يقول لأهل بيته: إني لأجهل موضعي حتى أحذر منكم؛ لأنه ما فيكم إلا عم وأخ وابن عم وابن أخ، فأنا أراعيكم ببصري، وأهتم بكم بنفسي فالله الله في أنفسكم فصونوا، وفي أموالكم فاحتفظوا بها، وإياكم والإسراف فيوشك أن تصيروا من ولد ولدي إلى من لا يعرف الرجل حتى يقول له: من أنت؟
وكان المنصور آية في الإشراف على عماله وإرادتهم على العدل، يهددهم بالعقوبات إذا ولاهم، وأكثرهم يصححون ويناصحون، ويختار أهل البلاء منهم. ولقد وفد عليه قاضي إفريقية، وكان رفيقه في طلب العلم، فسأله كيف رأيت سلطاني من سلطان بني أمية؟ وكيف ما مررت به من أعمالنا حتى وصلت إلينا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، رأيت أعمالا سيئة وظلما فاشيا، والله يا أمير المؤمنين ما رأيت في سلطانهم شيئا من الجور والظلم إلا رأيته في سلطانك، وكنت ظننته لبعد البلاد منك، فجعلت كلما دنوت كان الأمر أعظم. فنكس الخليفة رأسه طويلا ثم رفعه، وقال: كيف لي بالرجال؟ فقال القاضي: أليس عمر بن عبد العزيز كان يقول: إن الوالي بمنزلة السوق يجلب إليها ما ينفق فيها، فإن كان برا أتوه ببرهم، وإن كان فاجرا أتوه بفجورهم. ووعظ الأوزاعي المنصور فقال له: إن السلطان أربعة: أمير يظلف
21
نفسه وعماله، فذلك أجر المجاهد في سبيل الله وصلاته سبعون ألف صلاة، ويد الله بالرحمة على رأسه ترفرف، وأمير رتع ورتع عماله فذلك يحمل أثقاله وأثقالا مع أثقاله، وأمير يظلف نفسه ويرتع عماله فذاك الذي باع آخرته بدنيا غيره، وأمير يرتع ويظلف عماله فذاك شر الأكياس.
كان المنصور يقول لابنه: يا أبا عبد الله، ليس العاقل الذي يحتال للأمر الذي وقع فيه حتى يخرج منه، ولكنه الذي يحتال للأمر الذي غشيه حتى لا يقع فيه. وكتب إليه عامله على إرمينية يخبره أن الجند شغبوا عليه ونهبوا ما في بيت المال، فوقع في كتابه: «اعتزل عملنا مذموما مدحورا، فلو عقلت لم يشغبوا، ولو قويت لم ينهبوا.» ولقد حدث أن المنصور ولى المدينة رياح بن عثمان فخطب أهلها يهددهم، ويقول: «أنا الأفعى بن الأفعى، أنا ابن عثمان بن حيان وابن عم مسلم بن عقبة، المبيد خضراءكم، المفني رجالكم، والله لأدعنها بلقعا لا ينبح فيها كلب.» فوثب عليه قوم منهم وكلموه، وقالوا: والله يا ابن المجلود حدين لتكفن أو لنكفنك عن أنفسنا. فكتب الوالي إلى المنصور يخبره بسوء طاعة أهل المدينة فأرسل المنصور إلى رياح رسولا وكتب معه كتابا يقول فيه: «وأمير المؤمنين يقسم بالله لئن لم تنزعوا ليبدلنكم بعد أمنكم خوفا، وليقطعن البر والبحر عنكم، وليبعثن عليكم رجالا غلاظ الأكباد بعاد الأرحام.» فلما قرئ عليهم نادوه من كل جانب كذبت يا ابن المجلود حدين، ورموه بالحصا وبادر بالمقصورة فأغلقها. فدخل عليه أيوب بن سلمة المخزومي فقال: أصلح الله الأمير إنما تصنع هذا رعاع الناس. وقال بعض من حضر من وجوه بني هاشم: لا نرى هذا، ولكن أرسل إلى وجوه الناس وغيرهم من أهل المدينة فاقرأ عليهم كتاب المنصور. فجمعهم وقرأ عليهم فقالوا: ما أمرتنا فعصيناك ولا دعوتنا فخالفناك. وانفض الأمر بسلام.
وعني المنصور بالعمارة في ملكه يعمر الجسور والقنى والآبار، ففشت في أيامه أعمال العمران، وحمل المهندسين من الآفاق إلى العراق خصوصا لبناء مدينة بغداد، واختار المنصور موقعها بنفسه لإحاطتها بدجلة والفرات بحيث يصعب على أكثر الجيوش تخطيها، ولأن مواد الشام والجزيرة تأتيها بالفرات، ومواد الموصل وما وراءها تحمل إليها في دجلة. وبنى الرصافة لابنه المهدي ليصير ابنه في مدينة، وعكسر بالجانب الشرقي، ويصير المنصور في مدينة، وعكسر بالجانب الغربي، فلا يشغب الجند.
وحج المنصور آخر حجة، وكان موقنا أنه لا يرجع من حجه، زاعما أنه عرف ذلك من المنجمين، فقال لابنه وأشار إلى سفط له فيه دفاتر وعليه قفل لا يفتحه غيره: انظر إلى هذا السفط فاحتفظ به، فإن فيه علم آبائك ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، فإن حزبك أمر فانظر في الدفتر الكبير فإن أصبت فيه ما تريد وإلا ففي الثاني والثالث حتى تبلغ سبعة، فإن ثقل عليك فالكراسة الصغيرة، فإنك واجد فيها ما تريد، وما أظنك تفعل، وانظر هذه المدينة أي بغداد، وإياك أن تستبدل بها غيرها، وقد جمعت لك فيها من الأموال ما إن كسر عليك الخراج عشر سنين كفاك لأرزاق الجند والنفقات والذرية ومصلحة البعوث فاحتفظ بها؛ فإنك لا تزال عزيزا ما دام بيت مالك عامرا. وأوصى ابنه بأهل بيته، وأن يحسن إليهم ويقدمهم، ويوطئ الناس أعقابهم، ويوليهم المنابر. وأوصاه بأهل خراسان خيرا؛ لأنهم أنصاره وشيعته الذين بذلوا أموالهم ودماءهم في دولته، وأوصاه أن لا يدخل النساء في أمره، وأن يعد الكراع والرجال والجند ما استطاع، وأن يعد رجالا بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار، ورجالا بالنهار لمعرفة ما يكون بالليل، وأن يباشر الأمور بنفسه، وأن يستعمل حسن الظن ويسيء الظن بعماله وكتابه، وأن لا يبرم أمرا حتى يفكر فيه، فإن فكر العاقل مرآة تريه حسنه وسيئه. وقال له: يا بني لا يصلح السلطان إلا بالتقوى، ولا تصلح رعيته إلا بالطاعة، ولا تعمر البلاد بمثل العدل، وأقدر الناس على العفو أقدرهم على العقوبة، وأعجز الناس من ظلم من هو دونه، واعتبر عمل صاحبك وعلمه باختياره. وقال له أيضا: إني تركت الناس ثلاثة أصناف: فقيرا لا يرجو إلا غناك، وخائفا لا يرجو إلا أمنك، ومسجونا لا يرى الفرج إلا منك، فإذا وليت فأذقهم طعم الرفاهية، لا تمدد لهم كل المد.
هذا إجمال ما عمله أبو جعفر المنصور وما أوصى به ابنه لإتمام ما بدأ به من التراتيب. وقد أبقت الأيام كتابا لابن المقفع في الصحابة
22
أي أصحاب الخليفة، كتبه إلى أبي جعفر أورد فيه ما يحتاجه الملك من الإصلاح ليسير على قواعد مطردة سليمة من الشوائب، وأدركنا منه بعض المسائل الإدارية التي كانت تشغل الأذهان في ذاك الزمان. بدأه بتذكير الخليفة بجند خراسان فقال: إنهم جند لم يدرك مثلهم في الإسلام وفيهم منعة وهم أهل بصر بالطاعة، وفضل عند الناس، وعفاف نفوس وفروج، وكف عن الفساد، وذل للولاة، فرأى أن يكتب لهم أمانا معروفا بليغا وجيزا محيطا بكل شيء، بالغا في الحجة، قاصرا عن الغلو، يحفظه رؤساؤهم حتى يقودوا به دهماءهم. وارتأى أن لا يولي أحدا منهم شيئا من الخراج، فإن ولاية الخراج مفسدة للمقاتلة، وإن منهم من المجهولين من هو أفضل من بعض قادتهم، فلو التمسوا وصنعوا
23
كانوا عدة وقوة، وكان ذلك صلاحا لمن فوقهم من القادة، ومن دونهم من العامة، وأن يتعهد أدبهم في تعليم الكتاب والتفقه في السنة والأمانة والعصمة والمباينة لأهل الهوى. وأن يظهر فيهم من القصد والتواضع واجتناب زي المترفين وشكلهم مثل الذي يأخذ به أمير المؤمنين في أمر نفسه. قال: ولا يزال يطلع من أمر أمير المؤمنين ويخرج منه القول ما يعرف مقته للإتراف
24
والإسراف وأهلهما، ومحبته القصد والتواضع ومن أخذ بهما، حتى يعلموا أن معروف أمير المؤمنين محظور عمن يكنزه، بخلا أن ينفقه سرفا في العطر واللباس والمغالاة بالنساء والمراتب.
وأشار أن يوقت الخليفة للجند وقتا يعرفونه في كل ثلاثة أشهر أو أربعة أو ما بدا له أنهم يأخذون فيه، فينقطع الاستبطاء والشكوى، هذا مع كثرة أرزاقهم وكثرة المال الذي يخرج لهم، وأن الجند يحتاجون إلى ما يحتاجون إليه من كثرة الرزق لغلاء السعر. والرأي أن يجعل بعض أرزاقهم طعاما وبعضه علفا يعطونه بأعيانه، ورأى أن لا يخفى على أمير المؤمنين شيء من أخبار هذا الجند وحمالاتهم
25
وباطن أمرهم بخراسان والعسكر والأطراف، وأن يحتقر في ذلك النفقة، ولا يستعين فيه إلا بالثقات النصاح «فإن ترك ذلك وأشباهه أحزم بتاركه من الاستعانة فيه بغير الثقة فيصير جنة للجهالة والكذب» ووصى بأهل المصرين الكوفة والبصرة قائلا: إنهم أقرب الناس إلى أن يكونوا شيعة الخليفة ومعينيه، وإن في أهل العراق من الفقه والعفاف والألباب والألسنة شيئا لا يكاد يشك أنه ليس في جميع من سواهم من أهل القبلة مثله ولا مثل نصفه. وأراده على أن يكتفي بهم، وأنه ما أزرى بأهل العراق إلا أن من ولوا العراق كانوا أشرار الولاة، وأعوانهم من أهل أمصارهم كذلك «فحمل جميع أهل العراق على ما ظهر من أولئك الفسول،
26
وتعلق بذلك أعداؤهم من أهل الشام فنعوه عليهم، ثم كانت هذه الدولة فلم يتعلق من دونكم من الوزراء والعمال إلا بالأقرب فالأقرب ممن دنا منهم، أو وجدوه بسبيل شيء من الأمر، فوقع رجال مواقع شائنة لجميع أهل العراق حيثما وقعوا من صحابة خليفة أو ولاية عمل أو موضع أمانة أو موطن جهاد، وكان من رأي أهل الفضل أن يقصدوا حتى يلتمسوا، فأبطأ ذلك بهم أن يعرفوا أو ينتفع بهم ... فنزلت الرجال عن منازلها؛ لأن الناس لا يلقون صاحب السلطان إلا متصنعين بأحسن ما يقدرون عليه من الصمت والكلام، غير أن أهل النقص هم أشد تصنعا، وأحلى ألسنة، وأرفق تلطفا للوزراء أو تمحلا لأن يثني عليهم من وراء وراء.» ثم ذكره بإصلاح القضاء، وما يصدر عن القضاة من الأحكام المتناقضة، ورجا أن يوحد القضاء، ويوضع للقضاة كتاب يرجعون إليه.
وتعرض لأهل الشام، وذكره أنهم أشد الناس مؤنة، وأخوفهم عداوة وبائقة، فمن الرأي أن يختص منهم خاصة ممن يرجو عنده صلاحا، أو يعرف منه نصيحة أو وفاء، فإن أولئك لا يلبثون أن ينفصلوا عن أصحابهم في الرأي والهوى، ويدخلوا فيما حملوا عليه من أمرهم، ولا يعامل أهل الشام كما عامل أهل العراق من جعل فيئهم إلى غيرهم، وتنحيتهم عن المنابر والمجالس والأعمال، كما كانوا ينحون عن ذلك من لا يجهلون فضله في السابقة والمواضع، ومنعت منهم المرافق كما كانوا يمنعون الناس أن ينالوا معهم أكلة من الطعام الذي يصنعه أمراؤهم للعامة. ورجاه أن يأخذ منهم أهل القوة والغناء وخفة المؤنة والعفة في الطاعة، ولا يفضل أحدا منهم على أحد إلا على خاصة معلومة. وقال بهذا المعنى في إقامة العذر لأهل الشام على نزواتهم، وأنه لم يخرج الملك من قوم إلا بقيت فيهم بقية يتوثبون بها، ثم كان ذلك التوثب هو سبب استئصالهم وتدويخهم.
وذكره بأصحابه «الذين هم بها فنائه، وزينة مجلسه، وألسنة رعيته، والأعوان على رأيه، ومواضع كرامته، والخاصة من عامته.» وأبان أنها مراتب طمع فيها الأوغاد «ممن لا ينتهي إلى أدب ذي نباهة، ولا حسب معروف، ثم هو مسخوط الرأي، مشهور بالفجور في أهل مصره، قد غبر عامة دهره صانعا يعمل بيده، فصار يؤذن له على الخليفة قبل كثير من أبناء المهاجرين والأنصار، وقبل قرابة أمير المؤمنين وأهل البيوتات من العرب، ويجري عليه من الرزق الضعف مما يجري على كثير من بني هاشم وغيره من سروات قريش، ويخرج له من المعونة على نحو ذلك، لم يضعه بهذا الموضع رعاية رحم، ولا فقه في دين، ولا بلاء في مجاهدة عدو معروفة ماضية متتابعة قديمة، ولا غناء حديث، ولا حاجة إليه في شيء من الأشياء، ولا عدة يستعد بها، وليس بفارس ولا خطيب ولا علامة، إلا أنه خدم كاتبا أو حاجبا فأخبر أن الدين لا يقوم إلا به، حتى كتب كيف شاء، ودخل حيث شاء.» ثم ذكره بأمر فتيان أهل بيته وبني أبيه وبني علي وبني العباس، ووصفهم بأن فيهم رجالا لو متعوا بجسام الأمور والأعمال سدوا وجوها، وكانوا عدة لأخرى.
ومن أهم ما ذكره به أمر الأرضين والخراج. قال: «فليس للعمال أمر ينتهون إليه ولا يحاسبون عليه، ويحول بينهم وبين الحكم على أهل الأرض بعدما يتأنقون لها في العمارة، ويرجون لها فضل ما تعمل أيديهم، فسيرة العمال فيهم إحدى ثنتين: إما رجل أخذ بالخرق والعنف من حيث وجد، وتتبع الرجال والرساتيق بالمغالاة ممن وجد، وإما رجل صاحب مساحة يستخرج ممن زرع، ويترك من لم يزرع فيعمر من يعمر ويسلم من أخرب.» وأراده على أن يعمل رأيه «في التوظيف على الرساتيق والقرى والأرضين وظائف معلومة، وتدوين الدواوين بذلك، وإثبات الأصول حتى لا يؤخذ رجل إلا بوظيفة قد عرفها وضمنها، ولا يجتهد في عمارة إلا كان له فضلها ونفعها» ليكون في ذلك صلاح للرعية، وعمارة للأرض، وحسم لأبواب الخيانة وغشم العمال. قال: «وهذا رأي مؤنته شديدة، ورجاله قليل، ونفعه متأخر، وليس بعد هذا في أمر الخراج إلا رأي قد رأينا أمير المؤمنين أخذ به، ولم نره من أحد قبله، من تخير العمال وتفقدهم.»
ثم ذكره بجزيرة العرب، وأن يختار لولايتها الخيار من أهل بيته وغيرهم؛ لأن ذلك من تمام السيرة العادلة والكلمة الحسنة التي قد رزق أمير المؤمنين وأكرمه بها من الرأي الذي هو بإذن الله حمى ونظام لهذه الأمور كلها في الأمصار والأجناد والثغور والكور. ومما قاله في خاتمة كتابه: «إن بالناس من الاستخراج
27
والفساد ما قد علم أمير المؤمنين، وبهم من الحاجة إلى تقويم آدابهم وطرائقهم ما هو أشد من حاجتهم إلى أقواتهم التي يعيشون بها. وأهل كل مصر وجند أي ثغر فقراء إلى أن يكون لهم من أهل الفقه والسير والنصيحة مؤدبون مقومون، يذكرون ويبصرون الخطأ، ويعظون عن الجهل، ويمنعون عن البدع، ويحذرون الفتن، ويتفقدون أمور عامة من هو بين أظهرهم حتى لا يخفى عليهم منها مهم، ثم يستصلحون ذلك، ويعالجون على ما استنكروا منه بالرأي والرفق والنصح، ويرفعون ما أعياهم إلى ما يرجون قوته عليهم، مأمونين على سير ذلك وتحصينه، بصراء بالرأي حين يبدو، وأطباء باستئصاله قبل أن يتمكن، وفي كل قوم خواص رجال عندهم على هذا معونة إذا صنعوا لذلك وتلطف لهم، وأعينوا على رأيهم، وقووا على معاشهم ببعض ما يفرغهم لذلك ويبسطه لهم. وخطر هذا جسيم في أمرين: أحدهما برجوع أهل الفساد إلى الصلاح، وأهل الفرقة إلى الألفة، والأمر الآخر أن لا يتحرك متحرك في أمر من أمور العامة إلا وعين ناصحة ترمقه، ولا يهمس هامس إلا وأذن شفيقة تصيخ نحوه.» قال: «وقد علمنا علما لا يخالطه الشك أن عامة قط لم تصلح من قبل أنفسها، ولم يأتها الصلاح إلا من قبل خاصتها، وأن خاصة قط لم تصلح من قبل أنفسها، وأنها لم يأتها الصلاح إلا من قبل إمامها ... فإذا جعل الله فيهم خواص من أهل الدين والعقول ينظرون إليهم، ويسمعون منهم، اهتمت خواصهم بأمور عوامهم، وأقبلوا عليه بجد ونصح ومثابرة وقوة، جعل الله ذلك صلاحا لجماعتهم، وسببا لإصلاح الصلاح من خواصهم، وزيادة فيما أنعم الله به عليهم، وبلاغا إلى الخير كله، وحاجة الخواص إلى الإمام الذي يصلحهم الله به كحاجة العامة إلى خواصهم وأعظم من ذلك.»
هذه زبدة تقرير ابن المقفع للمنصور، وفيه صورة جميلة مما تحتاجه إدارة البلاد من الإصلاح، وما يجب القيام به لاستصلاح الجند والرفق بأهل الكوفة والبصرة، والعناية بأهل العراق والعطف على الحجاز واليمن واليمامة، واختيار العمال الكفاة والرجوع إلى أهل الرأي، واصطناع أرباب العقل من أهل الشام وإشارة إلى أن بغضهم بني العباس من الأمور الطبيعية؛ لأن الملك كان فيهم فانتقل إلى غيرهم، وعرفه الطرق إلى استصلاح العامة، واختيار الخاصة من الأصحاب والموالين إلى غير ذلك من الأمور التي يمكن تطبيقها لعمران البلاد ورفع الحيف عن الخلق، والانتفاع بالقوى المفيدة للرعية وأرضهم. ومن أهم ما وقفنا عليه هذا التقرير أن الأمة لم تعدم في إبان مجدها رجالا يدلونها على مواطن الضعف من سلطانها، ومعالجة الإصلاح بالعقل حتى يبلغ كماله، والأخذ في كل أمر من أمور الدولة بالحزم النافع والمصلحة الشاملة.
إدارة المهدي والهادي والرشيد
سار المهدي بالخلافة على الخطة التي اختطها له أبوه، ينظر في الدقائق من الأمور، ويظهر أبهة الوزارة؛ لكفاءة وزيره أبي عبيد الله بن معاوية بن يسار، فإنه جمع له حاصل المملكة ورتب له الديوان
28
وقرر القواعد «وكان كاتب الدنيا، وأوحد الناس حذقا وعلما وخبرة.» اخترع أمورا منها أنه نقل الخراج إلى المقاسمة، وكان السلطان يأخذ عن الغلات خراجا مقررا ولا يقاسم، وجعل الخراج على النخل والشجر، وضبطت الأمور في أيامه ضبطا محكما. وكان من جملة حظ المهدي أن يكون له وزراء من هذا الطراز العالي، وهو يعتمد عليهم، ويضع ثقته برجال دولته، واستوزر أيضا يعقوب بن داود فخرج كتاب المهدي إلى الديوان أن أمير المؤمنين آخى يعقوب بن داود، فلم يكن ينفذ شيء من كتب المهدي حتى يرد كتاب الوزير يعقوب معه إلى أمينه بإنفاذه؛ أي إن الخليفة ووزيره كانا يراقب أحدهما عمل صاحبه لتقرير ما تلزم به المصلحة قبل إمضائه.
ووضع المهدي ديوان الأزمة، ولم يكن لبني أمية ذلك، ومعنى ديوان الأزمة: أن يكون لكل ديوان زمام وهو رجل يضبطه، وقد كانت الدواوين قبل ذلك مختلطة،
29
والسبب في وضع ديوان الأزمة أنه لما جمعت الدواوين لعمر بن بزيع فكر فإذا هو لا يضبطها إلا بزمام يكون له على كل ديوان، فاتخذ دواوين الأزمة، وولى على كل ديوان رجلا. وأنشئوا ديوانا سموه ديوان النظر، أي المكاتبات والمراجعات، تسهيلا على أرباب المصالح. والديوان يقسم أربعة أقسام؛
30
ديوان الجيش: وفيه الإثبات والعطاء. وديوان الأعمال: ويتولى الرسوم والحقوق. وديوان العمال: ويختص بالتقليد والعزل. وديوان بيت المال: ينظر في الدخل والخرج.
والمهدي أول من جلس للمظالم من بني العباس، يقيم العدل بين المتظالمين، ومشى على أثره الهادي والرشيد والمأمون. وكان المهتدي آخر من جلس للنظر فيها. وبسط المهدي يده في العطاء فأذهب جميع ما خلفه المنصور وهو ستمائة ألف ألف درهم وأربعة عشر ألف ألف دينار، وأجرى المهدي على المجذمين وأهل السجون في جميع الآفاق، وأمر بإقامة البريد بين مكة والمدينة واليمن وبغداد ببغال وإبل. ولم يكن هناك بريد قبل ذلك ولا في قطر من الأقطار. وكان وزيره «يرفع إليه النصائح في الأمور الحسنة من أمور الثغور والولايات، وبناء الحصون، وتقوية الغزاة، وتزويج العزاب، وفكاك الأسرى والمحبسين، والقضاء على الغارمين، والصدقة على المتعففين.» واشتد المهدي على الزنادقة، وقتل في جملة من قتل ابن وزيره أبي عبد الله بن معاوية فاستوحش كل منهما من صاحبه فاعتزل الوزير الخدمة.
قال رجل للمهدي: عندي نصيحة يا أمير المؤمنين. فقال: لمن نصيحتك هذه؛ لنا؟ أم لعامة المسلمين؟ أم لنفسك؟ قال: لك يا أمير المؤمنين. قال: ليس الساعي بأعظم عورة ولا أقبح حالا ممن قبل سعايته، ولا تخلو من أن تكون حاسد نعمة فلا تشفي غيظك أو عدوا فلا نعاقب لك عدوك. ثم أقبل على الناس فقال: لا ينصح لنا ناصح إلا بما فيه رضى لله وللمسلمين صلاح؛ فإنما لنا الأبدان وليس لنا القلوب، ومن استتر عنا لم نكشفه، ومن بادانا طلبنا توبته، ومن أخطأ أقلنا عثرته؛ فإني أرى التأديب بالصفح أبلغ منه بالعقوبة، والسلامة مع العفو أكثر منها مع العاجلة، والقلوب لا تبقى لوال لا ينعطف إذا استعطف، ولا يعفو إذا قدر، ولا يغفر إذا ظفر، ولا يرحم إذا استرحم. وهذا أرقى الأدب في استمالة القلوب وحسن سياسة الناس، ومن وفق إلى تطبيق هذه القواعد على أمته لا يحتاج إلى سلاح يخيفهم ولا إلى جند يضبطهم.
وأفضت الخلافة إلى الهادي، والدواوين مدونة مرتبة، فمن ديوان الخراج، إلى ديوان الضياع، إلى ديوان الزمام، إلى ديوان التوقيع والتتبع على العمال، إلى ديوان النظر أي المكاتبات والمراجعات، إلى ديوان الرسائل، إلى ديوان البريد والخرائط ... إلى غير ذلك من الدواوين. ومن أهم ما عمله الهادي في عهده القصير: أن منع أمه الخيزران من التدخل في أمور السلطان لقضاء حوائج الناس.
31
وحلف أن يضرب عنق كل من يقف على بابها من قواده وخاصته وخدمه قائلا لها: أما لك مغزل يشغلك، أو مصحف يذكرك، أو بيت يصونك؟ إياك ثم إياك أن تفتحي فاك في حاجة لملي أو ذمي. فعملت والدته بما رسم لها ابنها، وكانت في أول خلافة الهادي تفتات
32
عليه في أموره، وتسلك به مسلك أبيه من قبله في الاستبداد بالأمر
33
والنهي. أما ابنها فكان من رأيه أنه «ليس من قدر النساء الاعتراض في أمر الملك.» وقال: «ما للنساء والكلام في أمر الرجال؟!» ولما كان في آخر أيامه من الدنيا استدعاها وقال لها: قد كنت نهيتك عن أشياء وأمرتك بأخرى على ما أوجبته سياسة الملك لا موجبات الشرع من برك، ولم أكن عاقا بل كنت لك صائنا وبرا واصلا. ثم قضى نحبه قابضا على يدها واضعا لها على صدره. وبإبعاد الهادي النساء عن الوساطات والشفاعات عمل بوصية جده المنصور لابنه المهدي، وجعل أمور الدولة تسير في قواعدها المرعية على ما تقضي به أحكام الشرع والعقل، ويراه الوزراء والأمراء والقضاة. وكان الهادي جبارا عظيما، وهو أول من مشت الرجال بين يديه بالسيوف المرهفة، والأعمدة المشهورة، والقسي الموتورة، فسلكت عماله طريقته، ويمموا منهجه، وكثر السلاح في عصره.
سار الرشيد في إدارته على نهج قويم، وأعاد إلى الخلافة رونقها الذي كان لها على عهد جده المنصور، وما كان بالمسرف ولا بالمبخل، وسمى الناس أيامه «أيام العروس» لنضارتها وكثرة خيرها وخصبها. وكانت دولته
34 «من أحسن الدول وأكثرها وقارا ورونقا وخيرا وأوسعها رقعة مملكة: جبى الرشيد معظم الدنيا وكان أحد عماله صاحب مصر.» وقلد وزارته يحيى بن خالد، وقال له: «قد قلدتك أمر الدولة وأخرجته من عنقي إليك، فاحكم في ذلك بما ترى من الصواب، واستعمل من رأيت، واعزل من رأيت، وأمض الأمور على ما ترى.» ودفع إليه خاتم الخلافة. أما الولايات: فقد فوضها لأمراء جعل لهم الولاية على جميع أهلها، ينظرون
35
في تدبير الجيوش والأحكام، ويقلدون القضاة والحكام، ويجبون الخراج ويقبضون الصدقات، ويقلدون العمال فيها، ويحمون الدين، ويقيمون حدوده، ويؤمون في الجمع والجماعات أو يستخلفون عليها، ويسيرون الحج من أعمالهم، فإن كانت أقاليمهم ثغرا متاخما للعدو تولوا جهاده.
وما قسمت أعمال الدولة منذ انتقالها إلى بني العباس تقسيمها في زمن الرشيد؛ ولذلك كان للخليفة وقت ليحج ووقت ليغزو، ووقت ليصطاف ويرتبع في الرقة، ويترك قصر الخلد في بغداد. ولقد كان الروم من جيوش الرشيد في بلية فما غزتهم مرة إلا وحالفها التوفيق، وبعث صاحب الروم جزية رأسه وبطارقته، وجرى الفداء بين الروم والعرب حتى لم يبق من المسلمين أسير واحد بأيدي الروم، وما اشتعلت فتنة في أرجاء مملكته إلا أطفأها، ومنها: فتنة النزارية واليمانية في الشام؛ أي قيس ويمن عادوا إلى ما كانوا عليه فقتل منهم بشر كثير، فأرسل عليهم إبراهيم بن محمد المهدي واليا؛ ففكر أن يعمد إلى طرق إدارية لقطع شأفة هذه الغائلة، فرأى أن يلهيهم بقشور، ويتقرب من قلوبهم بما يستميلها ولا يصدعها، فسار في استقبالهم على قانون من «التشريفات» أو «البروتوكول» أرضاهم به وما تكلف شيئا، فقد أمر حاجبه بإحضار وجوه الحيين، وأمره بتسمية أشرافهم، وأن يقدم من كل حي الأفضل فالأفضل منهم، فأمر بتصيير أعلى الناس من الجانب الأيمن مضريا وعن شماله يمانيا، ومن دون اليماني مضري ومن دون المضري يماني، حتى لا يلتصق مضري بمضري ولا يماني بيماني، فلما قدم الطعام قال قبل أن يطعم شيئا: «إن الله - عز وجل - جعل قريشا موازين بين العرب، فجعل مضر عمومتها، وجعل يمن خئولتها، وافترض عليها حب العمومة والخئولة، فليس يتعصب قرشي إلا للجهل بالمفترض عليه.» ثم قال: «يا معشر مضر كأني بكم وقد قلتم إذا خرجتم لإخوانكم من يمن قد قدم أميرنا مضر على يمن، وكأني بكم يا يمن قد قلتم وكيف قدمكم علينا، وقد جعل بجانب اليماني مضريا وبجانب المضري يمانيا؟ فقلتم يا معشر مضر: إن الجانب الأيمن أعلى من الجانب الأيسر، وقد جعلت الأيمن لمضر والأيسر ليمن، وهذا دليل على تقدمته إيانا عليكم. ألا إن مجلسك يا رئيس المضرية في غد من الجانب الأيسر، ومجلسك يا رئيس اليمانية في غد من الجانب الأيمن. وهذان الجانبان يتناوبان بينكما، يكون كل من كان في جهته متحولا عنه في غده إلى الجانب الآخر.» فانصرف القوم كلهم حامدا، وبمثل هذه القوانين الإدارية رجع السلام إلى الشام ست سنين، واستراحت من العصبية الجاهلية وبأو
36
القبلية. قال الجاحظ:
37
حدثني إبراهيم بن السندي قال: لما كان أبي بالشام واليا أحب أن يسوي بين القحطاني والعدناني ، وقال: لسنا نقدمكم إلا على الطاعة لله - عز وجل - وللخلفاء، وكلكم إخوة، وليس للنزاري شيء وليس لليماني مثله. قال: وكان يتغدى مع جلة من جلة الفريقين، ويسوي بينهم في الإذن والمجلس.
ومن عمال الرشيد من أبدع طرقا جديدة في الإدارة، ولي عمر بن مهران مصر فقال هذا لغلامه: لا تقبل من الهدايا إلا ما يدخل في الجراب. لا تقبل دابة ولاجارية ولا غلاما. فجعل الناس يبعثون بهداياهم فجعل يرد ما كان من الألطاف
38
ويقبل المال والثياب، ويوقع عليها أسماء من بعث بها، ثم وضع الجباية. وكان بمصر قوم قد اعتادوا المطل وكسر الخراج، فاستأدى من الخراج النجم الأول والنجم الثاني، فلما كان في النجم الثالث وقعت المطالبة والمطل فأحضر أهل الخراج والتجار فطالبهم فدافعوه وشكوا الضيقة، فأمر بإحضار تلك الهدايا التي بعث بها إليه، ونظر في الأكياس، وأحضر الجهبذ؛
39
فوزن ما فيها، وأجزى أثمانها عن أهلها، ثم قال: يا قوم، حفظت عليكم هداياكم إلى وقت حاجتكم إليها، فأدوا إلينا مالنا. فأدوا إليه حتى أغلق مال مصر، فانصرف ولا يعلم أنه أغلق مال مصر غيره.
40
ولقد كان الرشيد على أشد ما يكون من الانتباه لكل ما دق وجل من شئون الملك «ومن أشد الملوك بحثا عن أسرار رعيته، وأكثرهم بها عناية، وأحزمهم فيها أمرا.» يصطنع الرجال، ويحلم عن مساوئ تغتفر من رجاله، ويسعى في عمران البلاد، ويكف الأذى عن الرعية، ويأخذ بأيدي العلماء والباحثين، ويجتمع إليهم ويأنس بهم. ولما رأى أن ملكه في خطر محقق من نفوذ آل برمك وزرائه وخاصته؛ لانصراف الوجوه إليهم لكثرة ما أحسنوا إلى الناس، ولإجماع القاصي والداني على حبهم حتى ساموا الخليفة أو أربوا عليه في المكانة، أمر بالقبض عليهم ومصادرتهم وقتلهم، وما أراد أن يبوح بسر ما أتاه، فرجم القوم الظنون به؛ وذلك لأنه خافهم على ملكه، وهم فرس لهم قديم يمتون إليه من الإمارة، والفرس يحاولون منذ القرن الأول أن يعيدوا الملك فيهم فارسيا، ويخرجون عن صبغته العربية. ونشأت من قتلهم قصة طويلة سداها ولحمتها المبالغة، بل الاختلاق، شغل الرشيد بها الناس عن نفسه وعن سياسة بلاده.
ووضع الرشيد عن أهل السواد العشر الذي كان يؤخذ منهم بعد النصف، وترك بعض أهل الضياع في فلسطين أرضهم فوجه إليهم أحد كبار قواده فدعا قوما من أكرتها ومزارعيها إلى الرجوع إليها، على أن يخفف عنهم من خراجهم وتلين معاملتهم، فرجعوا فأولئك أصحاب التخافيف. وجاء قوم منهم بعد فردت عليهم أرضوهم على مثل ما كانوا عليه فهم أصحاب الردود. والرشيد يسد كل خلل في مملكته، ويهتم كل الاهتمام أن يخفف عن الفلاحين. وكان رجاله لا يألونه نصحا؛ لأنه يهتم لكل ما ينفع. وفي الرسالة التي كتبها له قاضيه أبو يوسف في الخراج نموذج من هذه العناية، ومما قال فيها: «وقد بلغني أن عمال الخراج يبعثون رجالا من قبلهم في الصدقات فيظلمون ويعسفون ويأتون ما لا يحل، وإنما ينبغي أن يتخير للصدقة أهل العفاف والصلاح، فإذا وليتها رجلا ووجد من قبله من يوثق بدينه وأمانته أجريت عليهم من الرزق بقدر ما تجري، ولا تجري عليهم ما يستغرق أكثر الصدقة ... ويكون من يولى فقيها عالما مشاورا لأهل الرأي مؤتمنا على الأموال، إني قد أراهم لا يحتاطون فيمن يولون الخراج، إذا لزم الرجل منهم باب أحدهم أياما ولاه رقاب المسلمين وجباية خراجهم، ولعله أن لا يكون عرفه بسلامة ناصية ولا بعفاف ولا باستقامة طريقة ولا بغير ذلك ... وتقدم إلى من وليت أن لا يكون عسوفا لأهل عمله، ولا محتقرا لهم، ولا مستخفا بهم، ولكن يلبس لهم جلبابا من اللين يشوبه بطرف من الشدة والاستقصاء، من غير أن يظلموا أو يحملوا ما لا يجب عليهم، واللين للمسلم والغلظة على الفاجر، والعدل على أهل الذمة وإنصاف المظلوم، والشدة على الظالم والعفو عن الناس ... فإن كل ما عمل به والي الخراج من الظلم والعسف؛ فإنه يحمل على أنه قد أمر به وقد أمر بغيره، وإن أحللت بواحد منهم العقوبة الموجعة انتهى غيره واتقى وخاف، وإن لم تفعل هذا بهم تعدوا على أهل الخراج ، واجترءوا على ظلمهم وعسفهم وأخذهم بما لا يجب عليهم، وإذا صح عندك من العامل والوالي تعد بظلم أو عسف وخيانة لك في رعيتك واحتجان شيء من الفيء، أو خبث طعمته أو سوء سيرته، فحرام عليك استعماله والاستعانة به، وأن تقلده شيئا من أمر رعيتك أو تشركه في شيء من أمرك، بل عاقبه على ذلك عقوبة تروع غيره من أن يتعرض لمثل ما تعرض له.»
وقال: «بلغني عن ولاتك على البريد والأخبار في النواحي تخليط كثير ومحاباة فيما يحتاج إلى معرفته من أمور الولاة والرعية، وأنهم ربما مالوا مع العمال على الرعية وستروا أخبارهم وسوء معاملتهم للناس، وربما كتبوا في الولاة والعمال بما لم يفعلوا إذ لم يرضوهم، وهذا مما ينبغي أن تتفقده، وتأمر باختيار الثقات العدول من أهل كل بلد ومصر فتوليهم البريد والأخبار. وكيف ينبغي أن لا يقبل خبر إلا من ثقة عدل، ويجري لهم من الرزق من بيت المال وليدر عليهم، وتقدم إليهم في أن لا يستروا عنك خبرا عن رعيتك ولا عن ولاتك، ولا يزيدوا فيما يكتبون به عليك خبرا، فمن لم يفعل منهم فنكل به، ومتى لم يكن أصحاب البرد والأخبار في النواحي ثقات عدولا فلا ينبغي أن يقبل لهم خبر في قاض ولا وال. إنما يحتاط بصاحب البريد على القاضي والوالي وغيرهما فإذا لم يكن عدلا فلا يحل ولا يسع استعمال خبره ولا قبوله.»
41
بمثل هذا اللسان يتلطف أبو يوسف، وينصح لخليفته في اختيار عمال الخراج والأمناء على الأخبار لمراقبة العمال والولاة والقضاة. على أن الرشيد أخذ العمال
42
والتناء والدهاقين وأصحاب الضياع والمبتاعين للغلات والمقبلين
43
وكان عليهم أموال مجتمعة فطولبوا بصنوف من العذاب. وهذا ما دعا بعض الناس في الدولة العباسية إلى أن يقولوا: إن بني أمية
44
كانت مصائبهم في أديانهم، وإن جبايتهم وأموالهم سليمة لم يظلموا في العشر والخراج، أما بنو العباس فمع سلامة أديانهم كانت أموالهم فاسدة وجباياتهم بالظلم والغش. وأوضاع كل أمة تثقل وتخف في الميزان بحسب غناء القائمين على تطبيقها، يزنون بالقسطاس المستقيم أو يخسرون إذا كالوا أو وزنوا. ولى الرشيد أحدهم بعض أعمال الخراج، فدخل على الرشيد يودعه وعنده يحيى وجعفر بن يحيى، فقال الرشيد ليحيى: أوصياه. فقال له يحيى: وفر واعمر. وقال له جعفر: أنصف وانتصف. فقال له الرشيد: اعدل وأحسن.
وانتهى إلى علم الرشيد أن عامل الأهواز قد اقتطع مالا كثيرا من مال البلد، ولما سأله الرشيد أجاب: وحلفت بأيمان البيعة أني قد نصحت وشكرت الصنيعة ووفرت وما أسرفت ولا خنت، والله لأصدقنك عن أمري: عمرت البلاد واستقصيت حقوقك من غير ظلم، ووفرت أموالك، وفعلت ما يفعله الناصح لسيده، وكنت إذا كان وقت بيع الغلات جمعت التجار، فإذا تقررت العطايا أنفذت البيع وجعلت لي مع التجار فيه حصة، فربما ربحت وربما وضعت. إلى أن اجتمع لي من ذلك ومن غيره في عدة سنين عشرة آلاف ألف درهم فاتخذت أزجا
45
كبيرا عقد بالجص والآجر كأنه مجلس، وجعلت بين يديه موضعا أقعد فيه، وعبيت البدر شيئا بعد شيء في الأزج ثم سددته، وهو بحاله ما أشك أن العنكبوت قد نسجت على ما فيه، فخذها وحول وجهك إلى عبدك. فقال الرشيد: بارك الله لك في مالك، فارجع إلى عملك ودار رعيتك.
ولما دخل عليه عامله بدمشق يرسف في قيده قال له الرشيد: وليتك دمشق وهي جنة بها غدر تتكفأ أمواجها على رياض كالزرابي، واردة منها كفايات المؤن إلى بيوت أموالي، فما برح بك التعدي لأرفاقهم فيما أمرتك حتى جعلتها أجرد من الصخر وأوحش من القفر. قال: والله يا أمير المؤمنين ما قصدت لغير التوفير من جهة، ولكن وليت أقواما ثقل على أعناقهم الحق فتفرقوا إلى ميدان التعدي، ورأوا المراغمة بترك العمارة أوقع بإضرار الملك وأنوه بالشنعة على الولاة؛ فلا جرم أن أمير المؤمنين قد أخذ لهم بالحظ الأوفر من مساءتي.
وكان الرشيد إذا أحس من عامل له خيانة دبر له من صائب رأيه ولطف حيلته ما يدل على بعد نظره وحسن إدارته وجميل تدينه، وشدة غيرته على مصلحة ملكه، فيمسك أقصر الطرق إلى القضاء على الفتن الملحوظة والغوائل المستجنة، فيضرب على المسيء بسيفه وسنانه، كما يغمر المحسن بإنعامه وإحسانه. أراد مرة أن يعزل علي بن عيسى عن خراسان - وخراسان كثيرا ما كانت تشغل بال الرشيد كما شغلت بال أسلافه - فدعا هرثمة بن أعين مستخليا به فقال: إني لم أشاور فيك أحدا، ولم أطلعه على سري فيك، وقد اضطربت علي ثغور المشرق، وأنكر أهل خراسان أمر علي بن عيسى إذ خالف عهدي ونبذه وراء ظهره، وقد كتب يستمد ويستجيش، وأنا كاتب إليه أخبره أني أمده بك، وأوجه إليه معك من الأموال والسلاح والقوة والعدة ما يطمئن إليه قلبه، وتتطلع إليه نفسه، وأكتب معك كتابا بخطي فلا تفتضه، ولا تطلعن فيه حتى تصل إلى مدينة نيسابور، فإذا نزلتها فاعمل بما فيه وامتثله ولا تجاوزه إن شاء الله. وأنا موجه معك رجاء الخادم بكتاب أكتبه إلى علي بن عيسى بخطي؛ ليتعرف ما يكون منك ومنه، وهون عليه أمر علي فلا تظهرنه عليه، ولا تعلمنه ما عزمت عليه، وتأهب للمسير، وأظهر لخاصتك وعامتك أني أوجهك مددا لعلي بن عيسى وعونا له. ثم كتب إلى علي بن عيسى كتابا بخطه نسخته: «بسم الله الرحمن الرحيم. يا ابن الزانية، رفعت من قدرك، ونوهت باسمك، وأوطأت سادة العرب عقبك، وجعلت أبناء ملوك العجم حولك وأتباعك، فكان جزائي أن خالفت عهدي، ونبذت وراء ظهرك أمري، حتى عثت في الأرض، وظلمت الرعية، وأسخطت الله وخليفته، بسوء سيرتك، ورداءة طعمتك، وظاهر خيانتك، وقد وليت هرثمة بن أعين مولاي ثغر خراسان، وأمرته أن يشدد وطأته عليك، وعلى ولدك وكتابك وعمالك، ولا يترك وراء ظهوركم درهما ولا حقا لمسلم ولا معاهد إلا أخذكم به، حتى ترده إلى أهله. فإن أبيت ذلك وأباه ولدك وعمالك، فله أن يبسط عليكم العذاب، ويصب عليكم السياط، ويحل بكم ما يحل بمن نكث وغير، وبدل وخالف، وظلم وتعدى وغشم؛ انتقاما لله - عز وجل - بادئا، ولخليفته ثانيا، وللمسلمين والمعاهدين ثالثا، فلا تعرض نفسك للتي لا سوى لها، واخرج مما يلزمك طائعا أو مكرها.»
وكتب عهد هرثمة بخطه ونصه: «هذا ما عهد هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى هرثمة بن أعين حين ولاه ثغر خراسان وأعماله وخراجه، أمره بتقوى الله وطاعته، ورعاية أمر الله ومراقبته، وأن يجعل كتاب الله إماما في جميع ما هو بسبيله. فيحل حلاله، ويحرم حرامه، ويقف عند متشابهه، ويسأل عنه أولي الفقه في دين الله، وأولى العلم بكتاب الله، أو يرده إلى إمامه ليريه الله - عز وجل - فيه رأيه، ويعزم له على رشده، وأمره أن يستوثق من الفاسق علي بن عيسى وولده وعماله وكتابه، وأن يشد عليهم وطأته، ويحل بهم سطوته، ويستخرج منهم كل مال يصح عليهم من خراج أمير المؤمنين وفيء المسلمين، فإذا استنظف ما عندهم وقبلهم من ذلك، نظر في حقوق المسلمين والمعاهدين وأخذهم بحق كل ذي حق حتى يردوه إليهم، فإن ثبت قبلهم حقوق لأمير المؤمنين وحقوق المسلمين فدافعوا بها وجحدوها أن يصب عليهم سوط عذاب الله وأليم نقمته، حتى يبلغ بهم الحال التي إن تخطاها بأدنى أدب تلفت أنفسهم وبطلت أرواحهم، فإذا خرجوا من حق كل ذي حق، أشخصهم كما تشخص العصاة من خشونة الوطأ وخشونة المطعم والمشرب وغلظ الملبس مع الثقات من أصحابه إلى باب أمير المؤمنين إن شاء الله. فاعمل يا أبا حاتم بما عهدت إليك؛ فإني آثرت الله وديني على هواي وإرادتي، فكذلك فليكن عملك وعليه فليكن أمرك. ودبر في عمال الكور الذين تمر بهم في صعودك ما لا يستوحش معه إلى أمر يريبهم وظن يرعبهم، وابسط من آمال أهل ذلك الثغر ومن أمانهم وعذرهم، ثم اعمل بما يرضي الله منك وخليفته ومن ولاك الله أمره إن شاء الله. هذا عهدي وكتابي بخطي وأنا أشهد الله وملائكته وحملة عرشه وسكان سماواته وكفى بالله شهيدا. وكتب أمير المؤمنين بخط يده لم يحضره إلا الله وملائكته.»
أمثلة تكشفت بها حقيقة إدارة الرشيد وبعد غوره في تراتيبه، ولقد رفع إليه أن رجلا بدمشق من بقايا بني أمية
46
عظيم الجاه واسع الدنيا كثير المال والأملاك مطاعا في البلد له جماعة وأولاد ومماليك وموال، يركبون الخيل، ويحملون السلاح، ويغزون الروم، وأنه سمح جواد كثير البذل والضيافة، وأنه لا يؤمن منه، فعظم ذلك عليه، فاستدعى منارة صاحب الخلفاء، وأمره بالخروج إلى دمشق، وضم إليه مائة غلام، وأجله لذهابه ستة وإيابه ستة ويوما لقعوده، وأمره أن يتفقد دار الرجل وجميع ما فيها وولده وأهله وحاشيته وغلمانه، وما يقولون وقدر النعمة والحال والمحل. فجاءه به في الميعاد المضروب وقص عليه ما سمعه ورآه. فعرف الرشيد أن الرجل محسود على النعمة مكذوب عليه، فأدناه واعتذر عن استدعائه، وقال له: سل ما تحتاج إليه من مصالح جاهك ومعاشك. فقال: عمال أمير المؤمنين منصفون وقد استغنيت بعدله عن مسألته من ماله، وأموري منتظمة وأحوالي مستقيمة، وكذلك أمور أهل البلد بالعدل الشامل في ظل دولة أمير المؤمنين. فأعاده إلى بلده على خير حال ولم يترك للوشاة سبيلا إليه.
ولقد توسع الرشيد في توسعة سلطة عماله ليستقيم أمر البلاد؛ فقد شخص الفضل بن يحيى إلى خراسان واليا عليها فبنى فيها المساجد والرباطات، واتخذ بخراسان جندا من العجم سماهم العباسية، وجعل ولاءهم لهم، وذكروا أن عدتهم بلغت خمسمائة ألف رجل، وأنه قدم منهم بغداد عشرون ألف رجل فسموا ببغداد الكرنبية، وخلف الباقي بخراسان على أسمائهم ودفاترهم. كتب والي إرمينية للرشيد إلى وزيره: «إن قوما صاروا إلى سبيل النصح، فذكروا ضياعا بإرمينية قد عفت ودرست، يرجع منها إلى السلطان مال عظيم، وإني وقفت عن المطالبة حتى أعرف رأيك.» فكتب إليه: «قرأت هذه الرقعة المذمومة وفهمتها، وسوق السعاية بحمد الله في أيامنا كاسدة، وألسنة السعاة في أيامنا كليلة خاسئة، فإذا قرأت كتابي هذا فاحمل الناس على قانونك، وخذهم بما في ديوانك، فإنا لم نولك الناحية لتتبع الرسوم العافية، ولا لإحياء الأعلام الداثرة، وجنبني وتجنب بيت جرير يخاطب الفرزدق:
وكنت إذا حللت بدار قوم
رحلت بخزية وتركت عارا
وأجر أمورك على ما يكسب الدعاء لنا لا علينا، واعلم أنها مدة تنتهي وأيام تنقضي، فإما ذكر جميل، وإما خزي طويل.»
ومما يعد في توسيع السلطة: أن قاضي الرشيد أبو يوسف كان أول من دعي في الإسلام قاضي القضاة، ولم يقع
47
هذا الاسم على غيره كما وقع له فيه، فإنه كان قاضي المشرق والمغرب، فهو قاضي القضاة على التحقيق، والقضاة يعينون باقتراحه، وكان القاضي في العواصم لا يتناول أقل من ألف دينار في السنة، وأجرى على قاضي مصر
48
مائة وثمانية وستين دينارا في كل شهر وهو أول قاض أجري عليه هذا، وأجروا بعد ذلك على القاضي سبعة دنانير كل يوم ثم صار أبو الجيش يجري على قاضيه كل شهر ثلاثة آلاف دينار، وكانوا يجرون على القضاة والعمال الأرزاق من بيت المال من جباية الأرض أو من خراجها والجزية.
والرشيد لا يضن بالمال في سبيل الدولة، والمال وحده لا يكفي الخليفة أمر الفتوق التي تحدث إن لم يكن لها من يوثق بأمانته في تلافي شرها، والرشيد على كثرة بذله المأثور خلف من المال «ما لم يخلف
49
أحد مثله مذ كانت الدنيا؛ وذلك أنه خلف من الأثاث والعين والورق والجوهر والدواب سوى الضياع والعقار ما قيمته مائة ألف ألف وخمسة وعشرون ألف ألف دينار.» قال ابن الأثير كان الرشيد يطلب العمل بآثار المنصور إلا في بذل المال فإنه لم ير خليفة قبله كان أعطى منه للمال، وكان لا يضيع عنده إحسان محسن ولا يؤخر ذلك.
إدارة الأمين والمأمون
لم يعرف التاريخ شيئا من التدبير الذي جرى عليه الأمين بعد الرشيد؛ لأنه كان يعبث وقلما يجد، شغل نفسه والأمة معظم أيامه بالفتن، لنزع ولاية العهد من أخيه المأمون وتوسيدها إلى ابنه الرضيع، وكان من أثر هذا التطاحن بين الأخوين أن خرب قسم عظيم من مدينة دار السلام، دع غيرها من الأرباض والولايات، وسالت سيول الدماء، وفرق الأمين ما في خزائن الدولة من الأموال والأعلاق والذخائر، حتى دالت الخلافة وضاعت بعد الرشيد، ولم يرزق الأمين وزراء كوزراء أخيه: طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين والحسن بن سهل والفضل بن سهل ثم أحمد بن يوسف وعمرو بن مسعدة وأضرابهم، بل اصطنع من نبذهم أبوه الرشيد، وكان أقصاهم لسوء سيرتهم، فربح المأمون برجاله وعقله، وخسر الأمين برجاله وضعف تدبيره.
وبينا كان المأمون في مرو ينظر في أمور الدولة كان الأمين يوجه «إلى جميع البلدان في طلب الملهين وضمهم إليه، وأجرى لهم الأرزاق، ونافس في ابتياع فره الدواب وأخذ الوحوش والسباع والطير وغير ذلك، واحتجب عن إخوته وأهل بيته وقواده، واستخف بهم، وقسم ما في بيوت الأموال وما بحضرته من الجوهر في خصيانه وجلسائه ومحدثيه ... وأمر ببناء مجالس لمتنزهاته ومواضع خلوته ولهوه ... وأمر بعمل خمس حراقات في دجلة على خلقة الأسد والفيل والعقاب والحية والفرس وأنفق في عملها مالا عظيما.»
ولما حصر الأمين وضغطه
50
الأمر قال: ويحكم أما أحد يستراح إليه! فأتوه برجل من العرب فلما صار إليه قال له: أشر علينا في أمرنا. قال له: يا أمير المؤمنين قد بطل الرأي اليوم وذهب، ولكن استعمل الأراجيف فإنها من آلة الحرب. فكان يضع له الأخبار فإذا مشى الناس تبينوا بطلانها. فالأمين كان يسف إلى ذلك، وأخوه المأمون يعمد إلى القواد والعظماء والعلماء الأعلام يستشيرهم ويأتمنهم.
وغلط المأمون لأول أمره ثلاث غلطات إدارية؛ منها: أنه لم يأت إلى عاصمة ملكه عقيب مقتل أخيه فقضى في الطريق من مرو إلى بغداد سنتين بعد أن أقام بمرو تسع سنين، وكان عليه أن يبادر لجمع القلوب، وكسر شوكة المتلاعبين من القواد. وبايع المأمون بولاية عهده إلى علي بن موسى الرضا وهو في خراسان فأخرج الخلافة من آل العباس، حتى أجمعوا على خلافه وبايعوا بالخلافة إبراهيم بن المهدي في بغداد وخلعوا طاعته. ومنها: أنه سمع لوشاية وزيره الفضل بن سهل في هرثمة بن أعين الذي كان بحسن تدبيره العامل الأول في القضاء على جيوش أخيه الأمين وإيصال الخلافة للمأمون. وكانت أتت هرثمة كتب المأمون أن يلي الشام والحجاز فأبى وقصد إلى المأمون في خراسان
51 «إدلالا منه عليه؛ لما كان يعرف من نصيحته له ولآبائه، وأراد أن يعرف المأمون ما يدبر عليه الفضل بن سهل، وما يكتم عنه من الأخبار، وألا يدعه حتى يرده إلى بغداد دار خلافة آبائه وملكهم؛ ليتوسط سلطانه ويشرف على أطرافه، فعلم الفضل ما يريد فقال للمأمون: إن هرثمة قد أنغل عليك البلاد والعباد وظاهر عليك عدوك.» ولما أدخل هرثمة على المأمون وقد أشرب قلبه ما أشرب من ناحيته ذكر له ما بلغه عنه مما افتراه الفضل، وذهب هرثمة يتكلم ويعتذر ويدفع عن نفسه ما قرف به، فلم يقبل ذلك منه، وأمر به فوجئ على أنفه، وديس بطنه، وسحب من بين يديه ثم قتل.
وكاد المأمون يغلط غلطة رابعة بتخليه عن طاهر بن الحسين: «الذي أبلى
52
في طاعته ما أبلى، وافتتح ما افتتح، وقاد إليه الخلافة مزمومة حتى إذا وطأ الأمر أخرج من ذلك كله، وصير في زاوية من الأرض بالرقة قد حظرت عليه الأموال حتى ضعف أمره فشغب عليه جنده.» وتنوسي حتى لا يستعان به في شيء في الحروب، واستعين بمن هو دونه أضعافا. لكن عقل المأمون تدارك هذه الغلطات، وما إن جاء بغداد حتى قبض على قياد الملك قبضة الرجل الحازم، وظهرت مواهبه ونبوغه في السياسة والإدارة في زمن غلبت الفتنة على قلوب الناس فاستعذبوها، ولا مال له يرضيهم به. وقال يتخوف هائجا يهيج وبيوت المال فارغة: إن الناس في هذه المدينة على طبقات ثلاث: ظالم، ومظلوم، ولا ظالم ولا مظلوم. فأما الظالم فليس يتوقع إلا عفونا وإحساننا، وأما المظلوم فليس يتوقع أن ينتصف إلا بنا، ومن كان لا ظالما ولا مظلوما، فبيته يسعه، وما كان إلا كما قال.
وقيل: إن المأمون بكى لما رأى طاهر بن الحسين. فلما سئل عن سبب بكائه، قال: إني ذكرت محمدا أخي «الأمين» وما ناله من الذلة فخنقتني العبرة، فاسترحت إلى الإفاضة ولن يفوت طاهرا مني ما يكره، فبلغ ذلك طاهرا فركب إلى أحمد بن أبي خالد فقال له: إن الثناء مني ليس برخيص، وإن المعروف عندي ليس بضائع، فغيبني عن عينه. فسعى له بتولية خراسان، وكان قبل ولايته ندبه الحسن بن سهل للخروج إلى محاربة نصر بن شبث فقال: حاربت خليفة وسقت الخلافة إلى خليفة وأؤمر بمثل هذا! وإنما يجب أن توجه لهذا قائدا من قوادي. ثم وسد المأمون إلى عبد الله بن طاهر وهو ابن طاهر بن الحسين الرقة وحرب نصر بن شبث، وولاه البلاد التي في طريقه؛ ليكون حكمه نافذا مهيبا مهيأة له أسباب الظفر من كل وجه؛ وذلك لئلا تتعارض السلطات، ويجمع القائد في العادة بين السلطة العسكرية والسلطة المدنية، وهذا من دقيق سياسة العباسيين. ولما وسدت إلى عبد الله بن طاهر قيادة الجيش لقتال الخارجي ابن شبث كتب إليه أبوه طاهر بن الحسين كتابا تنازعه
53
الناس وكتبوه وتدارسوه، وشاع أمره حتى بلغ المأمون فدعا به وقرئ عليه فقال: ما أبقى أبو الطيب شيئا من أمر الدين والدنيا والتدبير والرأي والسياسة وإصلاح الملك والرعية وحفظ البيضة وطاعة الخلفاء وتقويم الخلافة إلا وقد أحكمه وأوصى به، وتقدم وأمر أن يكتب بذلك إلى جميع العمال في نواحي الأعمال.
ومما ورد في هذا الكتاب في الإدارة: «ولا تتهمن أحدا من الناس فيما توليه من عملك قبل تكشف أمره بالتهمة؛ فإن إيقاع التهم بالبداء والظنون السيئة بهم مأثم، واجعل من شأنك حسن الظن بأصحابك، واطرد عنك سوء الظن بهم وارفضه فيهم، يعنك
54
ذلك على اصطناعهم ورياضتهم ... ولا يمنعنك حسن الظن بأصحابك والرأفة برعيتك أن تستعمل المسألة والبحث عن أمورك، ولتكن المباشرة لأمور الأولياء، والحياطة للرعية، والنظر فيما يقيمها ويصلحها، والنظر في حوائجهم وحمل مؤناتهم آثر عندك مما سوى ذلك، وأقم حدود الله في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم وما استحقوه، ولا تعطل ذلك ولا تهاون به، ولا تؤخر عقوبة أهل العقوبة، فإن في تفريطك في ذلك ما يفسد عليك حسن ظنك، واعتزم على أمرك في ذلك بالسنن المعروفة، وجانب البدع والشبهات؛ يسلم لك دينك، وتستقم لك مروءتك، وإذا عاهدت عهدا فف به، وإذا وعدت الخير فأنجزه، واقبل الحسنة وادفع بها. واغمض عن عيب كل ذي عيب من رعيتك، واشدد لسانك عن قول الكذب والزور وأبغض أهله، وأقص أهل النميمة؛ فإن أول فساد أمرك في عاجل الأمور وآجلها
55
تقريب الكذوب والجرأة على الكذب؛ لأن الكذب رأس المآثم، والزور والنميمة خاتمتها؛ لأن النميمة لا يسلم صاحبها وقائلها، ولا يسلم له صاحب ولا يستقيم لمطيعها أمر ... واجتنب سوء الأهواء والجور، واصرف عنها رأيك، وأظهر براءتك من ذلك لرعيتك، وأنعم بالعدل سياستهم، وقم بالحق فيهم، وبالمعرفة التي تنتهي بك إلى سبيل الهدى، واملك نفسك عند الغضب، وآثر الوفاء والحلم، وإياك والحدة والطيرة والغرور فيما أنت بسبيله ... ولتكن ذخائرك وكنوزك التي تذخر وتكنز البر والتقوى والمعدلة واستصلاح الرعية، وعمارة بلادهم والتفقد لأمورهم، والحفظ لدمائهم، والإغاثة لملهوفهم. واعلم أن الأموال إذا كثرت وذخرت في الخزائن لا تثمر، وإذا كانت في إصلاح الرعية، وإعطاء حقوقهم وكف المئونة عنهم، نمت وربت، وصلحت به العامة، وتزينت به الولاة، وطاب به الزمان، واعتقد فيه العز والمنعة، فليكن كنز خزائنك تفريق الأموال في عمارة الإسلام وأهله، ووفر منه على أولياء أمير المؤمنين قبلك حقوقهم، وأوف رعيتك من ذلك حصصهم، وتعهد ما يصلح أمورهم ومعايشهم، فإنك إذا فعلت ذلك قرت النعمة عليك، واستوجبت المزيد من الله، وكنت بذلك على جباية خراجك، وجمع أموال رعيتك وعملك أقدر، وكان الجميع لما شملهم من عدلك وإحسانك أسلس لطاعتك وأطيب نفسا لكل ما أردت ...»
وعاد فوضع له قواعد في حكمة الأخلاق لا تصلح بغيرها الولاية، فقال: «ولا تحقرن ذنبا، ولا تمالئن حاسدا، ولا ترحمن فاجرا، ولا تصلن كفورا، ولا تداهنن عدوا، ولا تصدقن نماما، ولا تأتمنن غدارا، ولا توالين فاسقا، ولا تبتغين عاديا، ولا تحمدن مرائيا، ولا تحقرن إنسانا، ولا تردن سائلا فقيرا، ولا تجبين باطلا، ولا تلاحظن مضحكا، ولا تخلفن وعدا، ولا ترهقن هجرا، ولا تظهرن غضبا، ولا تأتين بذخا، ولا تمشين مرحا، ولا تركبن سفها، ولا تفرطن في طلب الآخرة، ولا تدفع الأيام عتابا، ولا تغمض عن الظالم رهبة منه أو مخافة، ولا تطلبن ثواب الآخرة في الدنيا.»
قال : «وأكثر مشاورة الفقهاء، واستعمل نفسك بالحلم، وخذ عن أهل التجارب وذوي العقل والرأي والحكمة، ولا تدخلن في مشورتك أهل الذمة والنحل، ولا تسمعن لهم قولا؛ فإن ضررهم أكثر من منفعتهم، وليس شيء أسرع فسادا لما استقبلت فيه أمر رعيتك من الشح. واعلم أنك إذا كنت حريصا كنت كثير الأخذ قليل العطية، وإذا كنت كذلك لم يستقم لك أمرك إلا قليلا؛ فإن رعيتك إنما تعقد على محبتك بالكف عن أموالهم وترك الجور عنهم ... وتفقد أمور الجند في دواوينهم ومكاتبهم، وأدرر عليهم أرزاقهم، ووسع عليهم في معايشهم، يذهب الله بذلك فاقتهم، فيقوى بك أمرهم، وتزيد به قلوبهم في طاعتك وأمرك خلوصا وانشراحا ...»
ثم ذكر له القضاء وإقامة العدل فيه «لتصلح الرعية، وتأمن السبل، وينتصف المظلوم، ويأخذ الناس حقوقهم، وتحسن المعيشة، ويؤدى حق الطاعة.» إلى أن قال - بعد أن عرفه ما يفعل لحقن الدماء وإعطاء الحقوق: «وانظر هذا الخراج الذي استقامت عليه الرعية، وجعله الله للإسلام عزا ورفعة، ولأهله سعة ومنعة، ولعدوه وعدوهم كبتا وغيظا، ولأهل الكفر من معاهديهم ذلا وصغارا، فوزعه بين أصحابه بالحق والعدل والتسوية والعموم فيه، ولا ترفعن منه شيئا عن شريف لشرفه ولا عن غني لغناه، ولا عن كاتب لك ولا عن أحد من خاصتك وحاشيتك، ولا تأخذن منه فوق الاحتمال له، ولا تكلفن أمرا فيه شطط، واحمل الناس كلهم على مر الحق؛ فإن ذلك أجمع لألفتهم، وألزم لرضا العامة. واعلم أنك جعلت بولايتك خازنا وحافظا وراعيا، وإنما سمي أهل عملك رعيتك؛ لأنك راعيهم وقيمهم، تأخذ منهم ما أعطوك من عفوهم ومقدرتهم، وتنفقه في قوام أمرهم وصلاحهم وتقويم أودهم. فاستعمل عليهم في كور عملك ذوي الرأي والتدبير والتجربة والخبرة بالعمل والعلم بالسياسة والعفاف، ووسع عليهم في الرزق فإن ذلك من الحقوق اللازمة لك فيما تقلدت وأسند إليك، ولا يشغلنك عنه شاغل، ولا يصرفنك عنه صارف، فإنك متى آثرته وقمت فيه بالواجب استدعيت به زيادة النعمة من ربك، وحسن الأحدوثة في عملك، وأحرزت به المحبة من رعيتك، وأعنت على الصلاح ، فدرت الخيرات ببلدك، وفشت العمارة بناحيتك، وظهر الخصب في كورك، فكثر خراجك، وتوفرت أموالك، وقويت بذلك على ارتباط جندك، وإرضاء العامة بإفاضة العطاء فيهم من نفسك، وكنت محمود السياسة، مرضي العدل في ذلك عند عدوك، وكنت في أمورك كلها ذا عدل وقوة وآلة وعدة، فنافس في هذا ولا تقدم عليه شيئا تحمد، مغبة أمرك إن شاء الله.
واجعل في كل كورة من عملك أمينا يخبرك أخبار عمالك، ويكتب إليك بسيرتهم وأعمالهم، حتى كأنك مع كل عامل في عمله، معاين لأمره كله، وإن أردت أن تأمره بأمر فانظر في عواقب ما أردت من ذلك، فإن رأيت السلامة فيه والعافية، ورجوت فيه حسن الدفاع والنصح والصنع، فأمضه وإلا فتوقف عنه، وراجع أهل البصر والعلم به ثم خذ فيه عدته ...
وافرغ من عمل يومك ولا تؤخره لغدك، وأكثر مباشرته بنفسك، فإن لغد أمورا وحوادث تلهيك عن عمل يومك الذي أخرت. واعلم أن اليوم إذا مضى ذهب بما فيه، وإذا أخرت عمله اجتمع عليك أمر يومين، فيشغلك ذلك حتى تعرض عنه، فإذا أمضيت لكل يوم عمله، أرحت نفسك، وبذلك أحكمت أمور سلطانك. وانظر أحرار الناس وذوي الشرف
56
منهم ممن تستيقن صفاء طويتهم، وشهدت مودتهم لك، ومظاهرتهم بالنصح والمخالصة على أمرك، فاستخلصهم وأحسن إليهم، وتعاهد أهل البيوتات ممن قد دخلت عليهم الحاجة، فاحتمل مئونتهم، وأصلح حالهم حتى لا يجدوا لخلتهم مسا، وأفرد نفسك للنظر في أمور الفقراء والمساكين، ومن لا يقدر على رفع مظلمة إليك، والمحتقر الذي لا علم له بطلب حقه، فسل عنه أحفى مسألة، ووكل بأمثاله أهل الصلاح من رعيتك، ومرهم برفع حوائجهم وحالاتهم إليك؛ لتنظر فيها بما يصلح الله به أمرهم، وتعاهد ذوي البأساء ويتاماهم وأراملهم، واجعل لهم أرزاقا من بيت المال ...
وأجر للأضراء
57
من بيت المال، وقدم حملة القرآن منهم، والحافظين لأكثره في الجراية على غيرهم، وانصب لمرضى المسلمين دورا تؤويهم، وقواما يرفقون بهم، وأطباء يعالجون أسقامهم، وأسعفهم بشهواتهم ما لم يؤد ذلك إلى سرف في بيت المال. واعلم أن الناس إذا أعطوا حقوقهم وفضل أمانيهم ، لم يرضهم ذلك ولم تطب أنفسهم دون رفع حوائجهم إلى ولاتهم؛ طمعا في نيل الزيادة، وفضل الرفق منهم، وربما تبرم المتصفح لأمور الناس؛ لكثرة ما يرد عليه ويشغل فكره وذهنه منها، ما يناله به مئونة ومشقة.
وأكثر الإذن للناس عليك وأبرز للناس وجهك، وسكن لهم حواسك، واخفض لهم جناحك، وأظهر لهم بشرك، ولن لهم في المسألة والمنطق، واعطف عليهم بجودك وفضلك، وإذا أعطيت فأعط بسماحة وطيب نفس، والتماس الصنيعة والأجر من غير تكدير ولا امتنان؛ فإن العطية على ذلك تجارة مربحة ... واعرف ما تجمع عمالك من الأموال وينفقون منها، ولا تجمع حراما، ولا تنفق إسرافا، وأكثر مجالسة العلماء ومشاورتهم ومخالطتهم، وليكن هواك اتباع السنن وإقامتها، وإيثار مكارم الأمور ومعاليها. وليكن أكرم دخلائك وخاصتك عليك من إذا رأى عيبا فيك لم تمنعه هيبتك من إنهاء ذلك إليك في سر، وإعلامك ما فيه من النقص؛ فإن أولئك أنصح أوليائك ومظاهريك.
وانظر عمالك الذين بحضرتك وكتابك فوقت لكل منهم في كل يوم وقتا يدخل به عليك بكتبه ومؤامرته، وما عنده من حوائج عمالك وأمور كورك ورعيتك، ثم فرغ لما يورده عليك من ذلك سمعك وبصرك وفهمك وعقلك، وكرر النظر فيه والتدبر له، فما كان موافقا للحزم والحق فأمضه، واستخر الله فيه، وما كان مخالفا لذلك فاصرفه إلى التثبت فيه والمسألة عنه. ولا تمنن على رعيتك ولا على غيرهم بمعروف تؤتيه إليهم، ولا تقبل من أحد منهم إلا الوفاء والاستقامة والعون في أمور أمير المؤمنين، ولا تضعن المعروف إلا على ذلك ...»
أرأيتم هذا الكلام الآخذ بجماع الفوائد الذي كتب به طاهر بن الحسين إلى ابنه قبل خمسين ومائة وألف سنة في هذا الموضوع الجليل الذي فيه قوام الممالك والشعوب؟ أتظنون أن هذه الأفكار يصدر اليوم أحسن منها عن أكبر عالم إداري عارف بطبائع الناس وما يصلحهم، والممالك وما ينبغي لها؟ وعرفنا من هذا الكتاب مكانة طاهر بن الحسين من قيام الدولة والدفاع عن حوزة الخلافة، وأن المأمون الذي يكون من جملة قواده ورجال دولته هذا العظيم لا بد أن يكون في عمله جد عظيم. وقد تقدم معنا أن عبد الله بن طاهر ندب لحرب بن نصر بن شبث، فلما استأمن هذا وصفت البلاد، جاء الشام فعمل أحسن الأعمال لراحلة أهلها واستقراها بلدا بلدا، لا يمر ببلد إلا أخذ من رؤساء القبائل والعشائر والصعاليك والزواقيل،
58
وهدم الحصون وحيطان المدن، وبسط الأمان للأسود والأبيض والأحمر وضمهم جميعا، ونظر في مصالح البلدان وحط عن بعضها الخراج، ثم قصد إلى مصر فضرب على أيدي الخوارج فيها، وربطها بالخلافة ربطا محكما. وكان نحو
59
الخمسة عشر ألفا من أهل قرطبة جلوا من الأندلس بعد وقعة الربض في سنة 202 فانتهوا إلى الإسكندرية فملكوها مديدة، فلما ورد عبد الله بن طاهر على مصر صالحهم على التخلي عنها على مال بذله لهم، وخيرهم في النزول حيث شاءوا من جزائر البحر فاختاروا جزيرة إقريطش من البحر الرومي.
وكان من تربية طاهر بن الحسين أن جاء ابنه، كما قال له أحمد بن يوسف الكاتب، موفقا في الشدة والليان في مواضعهما، ولا يعلم سائس جند ورعية عدل بينهم عدله، ولا عفا بعد القدرة عمن آسفه وأضغنه عفوه. قال: ولقل ما رأينا ابن شرف لم يلق بيده متكلا على ما قدمت له أبوته. قال يونس بن عبد الأعلى: أقبل إلينا (في مصر) فتى حدث من المشرق - يعني ابن طاهر - والدنيا عندنا مفتونة قد غلب على كل ناحية من بلادنا غالب، والناس في بلاء، فأصلح الدنيا وأمن البريء، وأخاف السقيم، واستوثقت له الرعية بالطاعة. ولقد قال المأمون لبعض جلسائه: من أنبل ما تعلمون نبلا وأعفهم عفة؟ فجالوا بما فتح الله عليهم، وبعضهم مدحه وقرظه. فقال: ذلك والله أبو العباس عبد الله بن طاهر، دخل مصر وهي كالعروس الكاملة، فيها خراجها وبها أموالها جمة، ثم خرج عنها فلو شاء الله أن يخرج منها بعشرة آلاف ألف دينار لفعل، ولقد كان لي عليه عين ترعاه، فكتب إلي أنه عرضت عليه أموال لو عرضت علي أو بعضها لشرهت إليها نفسي، فما علمته خرج من ذلك البلد إلا وهو بالصفة التي قدمها فيها، إلا مائة ثوب وحمارين وأربعة أفراس. فمن رأى أو سمع بمثل هذا الفتى في الإسلام، فالحمد لله الذي جعله غرس يدي وخريج نعمتي.
هكذا كان عدل العمال وشرف أنفسهم، وهكذا كان علمهم وبعد نظرهم في عصر المأمون، فلا يستغرب بعد ذلك ما ذكر من قصة
60
تلك المرأة القبطية التي نادت المأمون لما مر بقريتها طاء النمل
61
من أرض مصر وسألته أن يقبل قراها؛ ليجعل لها الشرف ولعقبها بذلك، وأن لا يشمت بها الأعداء، وبكت بكاء كثيرا، فنزل عليها بجيشه ورجاله، وكانت ضيافتها من فاخر الطعام ولذيذه. وفي الصباح بعثت إلى المأمون بعشر وصائف مع كل وصيفة طبق، في كل طبق كيس من ذهب. فاستحسن ذلك وأمرها بإعادته. فقالت: لا والله لا أفعل. فتأمل الذهب فإذا به ضرب عام واحد كله. فقال: هذا والله أعجب، وربما عجز بيت مالنا عن مثل ذلك! فقالت: يا أمير المؤمنين لا تكسر قلوبنا ولا تحتقر بنا. فقال: إن في بعض ما صنعت لكفاية ولا نحب التثقيل عليك، فردي مالك بارك الله فيك. فأخذت قطعة من الأرض، وقالت: يا أمير المؤمنين هذا - وأشارت إلى الذهب - من هذا - وأشارت إلى الطينة التي تناولتها من الأرض - ثم من عدلك يا أمير المؤمنين، وعندي من هذا شيء كثير فأمر به فأخذ منها، وأقطعها عدة ضياع، وأعفاها من بعض خراج أرضها.
وفي الحق إنه لم يعرف عصر كعصر المأمون وعصر أبيه وأخيه الأمين في استفاضة الأموال في كل طبقة من طبقات الأمة؛ فقد أنفق الحسن بن سهل على عرس ابنته بوران على المأمون أربعة آلاف ألف دينار، وماتت الخيزران أم الهادي والرشيد (173) وكانت غلتها ألف ألف وستين ألف ألف درهم، ومات محمد بن سليمان وقبض الرشيد أمواله بالبصرة وغيرها، فكان مبلغها نيفا وخمسين ألف ألف درهم سوى الضياع والدور والمستغلات، وكان محمد بن سليمان يغل كل يوم مائة ألف درهم. وأنفق جعفر بن يحيى على داره التي ابتناها في دار السلام نحوا من عشرين ألف ألف درهم. وغنى إبراهيم بن المهدي محمدا الأمين صوتا فأعطاه ثلاثمائة ألف درهم. فقال إبراهيم: يا سيدي قد أمرت لي إلى هذه الغاية بعشرين ألف ألف درهم فقال: وهل هي إلا خراج بعض الكور؟!
ووقع للمأمون غير مرة أن كان يخف إلى الأقطار التي تنشب فيها فتنة جديدة لا يعتمد على رجاله على كثرة الصالحين منهم للعمل. ولما انتقضت أسفل الأرض كلها بمصر عربها وقبطها، وأخرجوا العمال وخالفوا الطاعة، وكان ذلك لسوء سيرة العمال فيهم، هبط المأمون مصر لعشر خلون من المحرم سنة سبع عشرة ومائتين، وسخط على عامله عيسى بن منصور، وأمر بحل لوائه وأمره بلباس البياض، وقال: لم يكن هذا الحدث العظيم إلا عن فعلك وفعل عمالك، حملتم الناس ما لا يطيقون وكتمتموني الخبر، حتى تفاقم الأمر واضطربت البلد. وقال: ما فتق علي قط فتق في مملكتي إلا وجدت سببه جور العمال. وقال لمن رفع إليه خبرا في عامل: إني امرؤ أداري عمالي مداراة الخائف، وبالله ما أجد إلى أن أحملهم على المحجة البيضاء سبيلا، فاعمل على حسب ذلك ولن لهم تسلم منهم.
وخص المأمون بالإغضاء عن المساوئ، والتغابي عن التافهات، وحمل الناس على محمل الخير، وجهد أن يسوق إليهم كل خير، وهذا مع كثرة عنايته بأخذ أخبار عماله ورعيته، وقيل إنه كان للمأمون ألف عجوز وسبعمائة يتفقد بها أحوال الناس ومن يحبه ويبغضه ومن يفسد حرم المسلمين، وكان لا يجلس إلى دار الخلافة حتى تأتيه كلها، وكان يدور ليلا ونهارا مستترا، ومع كل هذا كان المأمون أبدا إلى جانب المسامحة والعفو، وتتجافى نفسه العظيمة عن كل ما تشتم منه رائحة الطمع والإسفاف إلى أموال العمال، وكادت المصادرات والنكبات تبطل في أيامه، ولا ينكب إلا من حاول نقض بنيان الدولة. ولقد رفع إليه أن عمرو بن مسعدة أحد وزراء دولته خلف ثمانين ألف ألف درهم، أو نحو ثمانية ملايين دينار، فوقع على الرقعة: «هذا قليل لمن اتصل بنا وطالت خدمته لنا، فبارك الله لولده فيه.»
وكأنه استفظع القتل الذي يصيب كل عدو للدولة فبسط جناح الرحمة، وقلل من إهلاك النفوس ما أمكن. وأقام نفسه مقام رجل يعرف الطباع البشرية، وينصف خصومه وأعداءه، ويحسن إليهم ولا يسيء، كتب صاحب بريد همدان
62
إلى المأمون بخراسان يعلمه أن كاتب البريد المعزول أخبره أن صاحبه وصاحب الخراج كانا تواطآ على إخراج مائتي ألف درهم من بيت المال واقتسماها بينهما، فوقع المأمون: «إنا نرى قبول السعاية شرا من السعاية؛ فإن السعاية دلالة والقبول إجازة، وليس من دل على شيء كمن قبله وأجازه، فانف الساعي عنك، فلو كان في سعايته صادقا لقد كان في صدقه لئيما، إذ لم يحفظ الحرمة ولم يستر على أخيه.»
وقال المأمون لولده في معنى الوشاة: يا بني، نزهوا أقذاركم وطهروا أحسابكم عن دنس الوشاة وتمويه سعايتهم؛ فكل جان يده في فيه، وليس يشي إليكم إلا أحد الرجلين: ثقة وظنين. أما الثقة فقد قيل إنه لا يبلغ ولا يسيئن بالوشاية قدره، وأما الظنين فأهل أن يتهم صدقه، ويكذب ظنه، ويرد باطله، وما سعى رجل برجل إلي قط إلا انحط
63
من قدره عندي ما لا يتلافاه أبدا، فلا تعطوا الوشاة أمانيهم فيمن يشون بهم. ولئن لم يترك المأمون مجالا للوشاة يخربون بيوت من يشون بهم، ويزيلون نعمتهم، أو يوردونهم موارد الهلكة، فما كان يخفى عليه خبر من الأخبار الخاصة والعامة في القاصية والدانية، حتى إنه لما ضاق صدره من تشدد بعض العلماء في حوار خلق القرآن، كتب إلى عامله بمعائبهم رجلا رجلا، وقال إنه أعلم بما في منازلهم منهم. وخبر في هذه الرسالة عن عيب واحد واحد من الفقهاء وأصحاب الحديث، وعن حالتهم وأمورهم التي خفيت أو أكثرها عن القريب والبعيد.
ولقد كان من أهم قوانين إدارته: التوسعة على عماله حتى لا يسرقوا الرعية والسلطان ويضيعوا حقوقهم؛ رفع منزلة الفضل بن سهل، وعقد له على الشرق طولا وعرضا، وجعل عمالته ثلاثة آلاف ألف درهم. وما كان المأمون بالخليفة الذي يتخلى عن خاصة عماله بأدنى سبب ، بل يغض الطرف عن مساويهم ويتركهم في برزخ بين الرغبة والرهبة؛ ولذلك استراح واستراح الناس معه، وعلى قدر ما كان يراعي الخاصة يراعي العامة؛ فقد قال في وصيته للخليفة بعده: ولا تغفل أمر الرعية والعوام فإن الملك بهم وبتعهدك لهم. الله الله فيهم وفي غيرهم من المسلمين، ولا ينتهين إليك أمر فيه صلاح للمسلمين ومنفعة إلا قدمته وآثرته على غيره من هواك، وخذ من أقويائهم لضعفائهم، ولا تحمل عليهم في شيء، وأنصف بعضهم من بعض بالحق بينهم، وقربهم وتأن بهم.
وكان المأمون يحرص كل الحرص على الانتفاع برجاله، ويطلق لهم حريتهم في العمل، وممن كان يستمع لمشورتهم أحمد بن أبي داود، وهذا كان أول من افتتح الكلام مع الخلفاء، وكانوا لا يبدؤهم أحد حتى يبدءوه. ولما أسند
64
المأمون وصيته عند الموت إلى أخيه المعتصم قال فيها: وأبو عبد الله أحمد بن أبي داود لا يفارقك الشركة في المشورة في كل أمر فإنه موضع ذلك، ولا تتخذن من بعدي وزيرا. ومن جملة ما أوصى به المأمون أخاه المعتصم في مرضه: خذ بسيرة أخيك في القرآن والإسلام، واعمل في الخلافة إذا طوقكها الله عمل المريد لله، الخائف من عقابه وعذابه، ولا تغتر بالله ومهلته، وكأن قد نزل بك الموت. ومن ذلك عرفنا أن سياسة المأمون ملكه كانت علما وعملا، وهكذا يريد أن يكون عماله. وعظه رجل فأصغى إليه منصتا فلما فرغ قال: قد سمعت موعظتك فأسأل الله أن ينفعنا بها وربما عملنا، غير أنا أحوج إلى المعاونة بالفعال منا إلى المعاونة بالمقال؛ فقد كثر القائلون وقل الفاعلون.
وكان في المأمون شيء من الجاذبية الفطرية يستميل بها القلوب، ويجمعها على حبه؛ ذلك أنه كان يعرف أمزجة أمته فيشغلها في المفيد، ولا لغو ولا لهو في حياته، فكان بإدارته مثال الجد في الخوالف من بني العباس، يفكر في أمر رعيته أكثر من تفكيره في أمور نفسه. كتب إلى عامله على دمشق في التقدم إلى عماله في حسن السيرة وتخفيف المئونة وكف الأذى عن أهل محله، وأن يتقدم إلى عماله في ذلك أشد التقدمة، وأن يكتب إلى عمال الخراج بمثل ذلك، وكتب بهذا إلى جميع عماله في أجناد الشام. واستجلب المأمون لمساحة أرض الشام مساح العراق والأهواز والري. وكان يعدل الخراج إذا شكا منه أهله. وكان العلاء بن أيوب لما ولي فارس من قبل المأمون يكتب عهد العمال فيقرؤه من يحضره من أهل ذلك العمل، ويقول أنتم عيوني عليه فاستوفوه منه، ومن تظلم إلي منه فعلي إنصافه ونفقته جائيا وراجعا. ويأمر العمال أن يقرءوا عهده على أهل عمله في كل جمعة، ويقول لهم: هل استوفيتم؟
أصاب أهل مكة سيل جارف مات تحته خلق كثير، فكتب والي الحرمين إلى المأمون يذكر له الحال، فوجه إليه المأمون بالأموال الكثيرة، وكتب إلى الوالي: «أما بعد، فقد وصلت شكيتك لأهل حرم الله إلى أمير المؤمنين، فبكاهم بقلب رحمته، وأنجدهم بسيب نعمته، وهو متبع ما أسلف إليهم، بما يخلفه عليهم عاجلا وآجلا، إن أذن الله في تثبيت عزمه على صحة نيته.» قالوا: فصار كتابه هذا آنس لأهل مكة من الأموال التي أنفذها، وكان له في كل بلد حوادث من الإحسان قلما يتسامى إليها أحد من الخلفاء. ولقد ذكر المؤرخون أن المأمون لما كان في دمشق أضاق إضاقة شديدة، ثم وافاه المال ثلاثون ألف ألف ألف درهم. فقال ليحيى بن أكثم: اخرج بنا لننظر إلى هذا المال. فخرج وخرج الناس، وكان قد زين الحمل وزخرف، فنظر المأمون منه إلى شيء حسن كثير، فاستعظم الناس ذلك واستبشروا به. فقال المأمون: إن انصرافنا إلى منازلنا بهذا المال وانصراف الناس خائبين لؤم. فأمر كتابه أن يوقع لهذا بألف ألف ولذاك بمثلها ولآخر بأكثر منها حتى فرق أربعة وعشرين ألف ألف ألف درهم (ثلاث مرات) ورجله في الركاب، ثم حول الباقي على عرض الجيش برسم مصالح الجند.
وذكروا أن المأمون عقد لأخيه أبي إسحق على ثغر المغرب، ولابنه العباس على الشام والجزيرة، ولعبد الله بن طاهر على الجند ومحاربة بابك . وفرق فيهم ما لم يفرق مثله أحد مذ كانت الدنيا: أمر لكل واحد منهم بخمسمائة ألف دينار. وما كان المأمون يضن بمال إذا كان فيه صلاح الدولة والرعية. وخمسمائة ألف دينار يأخذها العامل ينفقها في أتباعه ورجاله ومروءته. وكانت نفقة المأمون كل يوم ستة آلاف دينار يصرف أكثرها على الرعية ولا يناله منها إلا جزء طفيف. كتب عمرو بن مسعدة إلى المأمون كتابا يستعطفه على الجند ونصه: «كتابي إلى أمير المؤمنين ومن قبلي من أجناده وقواده في الطاعة والانقياد على أحسن ما تكون عليه طاعة جند تأخرت أرزاقهم، واختلت أحوالهم.» فقال المأمون: والله لأقضين حق هذا الكلام. وأمر بإعطائهم ثمانية أشهر، وكتب بعض ولاة الأجناد إلى المأمون: «إن الجند شغبوا ونهبوا.» فكتب إليه: «لو عدلت لم يشغبوا، ولو وفيت لم ينهبوا.» وعزله عنهم، وأدار عليهم أرزاقهم.
ويتعذر تعداد أفضال المأمون على الأفراد، وحرصه على اختيار رجاله وعنايته بآرائهم وتجاربهم، وغرامه بالعفو والإحسان. قال أحمد بن أبي خالد وزير المأمون لثمامة بن أشرس: كل واحد في هذه الدار - أي في دار الخليفة - له معنى غيرك؛ فإنه لا معنى لك في دار أمير المؤمنين. فقال له المأمون: إن له معنى في الدار، والحاجة إليه بينة. قال: وما الذي يصلح له؟ قال: أشاوره في مثلك هل تصلح لمن معك أو لا تصلح. وثمامة هو من الجماعة الذين كانوا يغشون دار الخلافة
65
وهي دار العامة، ومنهم محمد بن الجهم والقاسم بن سيار، وكان هؤلاء الرجال أشبه بالمستشارين بل أشبه بدعاة الدولة وعنوان الخلافة. هذا إلى ما هناك من شعراء وأدباء وعلماء وفقهاء يختلفون في الأحايين إلى الخليفة فيشاركهم في حديثهم، وينافسهم في صناعتهم، ويفضل عليهم من هباته، فيخرجون وألسنتهم تنطق بحمده، وتدعو بدوام ملكه، ويذكرون للعامة والخاصة ما هو عليه من بعد النظر في سياسة الملك. قال الجاحظ: كان إبراهيم بن السندي مولى أمير المؤمنين عالما بالدولة شديد الحب لأبناء الدعوة، وكان يحوط مواليه ويحفظ أيامهم، ويدعو الناس إلى طاعتهم ويدرسهم مناقبهم، وكان فخم المعاني فخم الألفاظ، لو قلت لسانه كان أرد على هذا الملك من عشرة آلاف سيف وسنان طرير لكان ذلك قولا ومذهبا.
أرانا قد خرجنا من وصف إدارة المأمون إلى وصف سيرته، ونحن إلى ذلك مسوقون على الرغم منا، وأنى لنا أن نصدر حكما صحيحا على حكومة مطلقة قبل أن نتعرف أخلاق رأسها خليفة أو كان ملكا أو أميرا. والرأس هو الكل في مثل هذه الدول، إذا صلح صلح الجسد كله.
الإدارة على عهد المعتصم وأخلافه
إذا ذكر المعتصم فأول ما يتبادر إلى ذهن قارئ التاريخ الإسلامي أنه الخليفة الذي أشرك الترك في الخلافة العباسية وأبعد العرب عنها، فنقض أساس دولته بيده. ولئن كان المنصور بدأ بشراء المماليك واستخدامهم وتابعه من خلفوه على ذلك، فإن العباسيين ما دخلوا فيما دخل فيه المعتصم من وضعه من العرب
66
وإخراجهم من الديوان، وإسقاط أسمائهم، ومنعهم العطاء من العاصمة والولايات. فصار جند العباسيين من العجم والموالي.
اجتمع للمعتصم من الأتراك أربعة آلاف، فألبسهم أنواع الديباج والمناطق الذهبية، وأبانهم بالزي على سائر جنده، واصطنع قوما من اليمن وقيس ومضر وسماهم المغاربة. وأعد رجال خراسان من الفراغنة والأشروسنية وغيرهم من الترك. فأصبح جند الخلافة
67
على عهده خمسة أقسام: خراساني وتركي ومولى وعربي وبنوي،
68
وكثر الهرج والمرج في فيالقهم ببغداد حتى اضطر أن يبني لهم مدينة سامرة «سر من رأى» تخفيفا عن أهل دار السلام؛ لأنهم كثروا على الناس، وضاقت باعتداءاتهم الصدور.
فمن ثم كانت جيوش المعتصم كثيرة مستعدة للقتال عند أقل إشارة، وكان السعد حليفه في غزواته مع الروم. قيل: إنه لما فتح
69
عمورية كانت عدة عساكره خمسمائة ألف فارس، وعلى مقدمته خمسمائة من الخيول البلق، وكانت الحاميات في الثغور أبدا على أتم نظام، وارتفاع الثغور الشامية
70
نحو المئة ألف دينار تنفق
71
في مصالحها من المراقب والحرس والفواثير والركاضة
72
والموكلين بالدروب والمخايض والحصون وغير ذلك من الأمور والأحوال، وما يحتاج إلى شحنتها من الجنود والصعاليك.
73
وتنفق الدولة على مغازي الصوائف والشواتي في البر والبحر في السنة على التقريب مائتي ألف دينار، وعلى المبالغة ثلاثمائة ألف دينار. بيد أن المعتصم لم يكن بالنفقة على شيء أسمح منه بالنفقة على الحرب، وربما كان للمعتصم بعض العذر في ثقته بالأتراك في جيشه، وهم من القديم عرفوا بالحرب واشتهروا بالطاعة لقوادهم، ولكن هذه الغلطة الإدارية كان وبالها بعد على الدولة؛ لأن الأتراك تسللوا إلى الوزارات والقيادات، واستأثروا بالولايات والعمالات، فأصبح لهم بعد السلطان الحقيقي على البلاد، وللخلفاء صبغة غير عملية من الحكم.
أراد المعتصم أن يتشبه بأخيه المأمون فسار على أحكامه ونظامه، ومن أين له أن يشبهه بعلمه وحلمه! فقد ذكر واصفوه بأنه كان قليل البضاعة من الأدب، وإذا غضب لا يبالي من قتل ولا ما فعل. وقالوا: إنه كان يحب العمارة، ويقول إن فيها أمورا محمودة من عمران الأرض التي يحيا بها العالم، وعليها يزكو الخراج، وتكثر الأموال، وتعيش البهائم، وترخص الأسعار، ويكثر الكسب، ويتسع المعاش. ويقول لوزيره محمد بن عبد الملك: إذا وجدت موضعا متى أنفقت فيه عشرة دراهم جاءني بعد سنة أحد عشر درهما فلا تؤامرني فيه. وأعطى أهل الشاش ألفي ألف درهم لكرى نهر لهم اندفن في صدر الإسلام.
لم يبتدع المعتصم ولا ابنه الواثق شيئا جديدا في الإدارة لم يعرفه المأمون والرشيد، بل عاشا وعاشت الخلافة العباسية بعد ذلك بالأساس الذي وضعه المنصور للدولة، ولم يكن لها بعد منتصف القرن الثالث تلك الروعة التي كانت لها في عهد الخلفاء الأول. وقل بعد المأمون الخلفاء النادرون بذكائهم وتجاربهم، فأصيبت الخلافة بعد عظمائها بفتور، وأعمالهم بقلة الرواء والاتساق. ومن أهم الدواعي إلى هذا الانحطاط: فساد الإدارة واختلال أحوال القضاة، فنشأ ذلك من شراهة نفوس العمال والوزراء وإضاعة الحقوق. ومن يصادر أو يموت عن عشرات أو مئات الألوف من الدنانير من هذه الطبقة كيف يصح لك أن تحكم عليه بالبراءة من مال السحت والرشا والسرقات. مساوئ ما فشت في أمة إلا ضاع حق سلطانها وحق رعيته.
وكانت أهم عقوبة تقع على الظالم من العمال مصادرة الخليفة أو وزيره أو عامله الأكبر، وأصبح العمال في الدولة العباسية صورة عجيبة من استنزاف الأموال، وهم موقنون بأن مصيرهم بما جمعوه إلى المصادرة والقتل. وقل فيهم من كان يكتفي بما قرره له الخليفة أو العامل الأعظم من الجرايات والمشاهرات، وقد تكون على حد الكفاية وأكثر من الكفاية بالنسبة لتلك الأعصر، وما حدث فيها من وفرة الثروة وعوائد الترف والسرف. وللوزراء ومن يلونهم طرق إبليسية في السلب. والأرجح: أن أهم موارد الوزراء والولاة كان من نهب جباية الدولة أو بيت مالها، ومن الهدايا التي يضطرون صغار عمالهم إلى تقديمها في كل فرصة، ومن رشا يتناولونها ممن يحاولون أن يستخدموا في أعمال الدولة، إلى غير ذلك من وجوه انتهاب الأموال وإعنات الناس. وكانت هذه الطبقة من الوزراء والكبراء تصوم وتصلي وتتعبد وتتصدق وتغار على الإسلام والدولة، ثم تجوز الاحتيال لأخذ الأموال؛ لأن الأبهة تقضي التوسع في الإنفاق!
قال عامل مصر لأحد من زاره من وزراء العباسيين في الفسطاط، فرأى جسرا يحتسب العمال عنه على السلطان ستين ألف دينار في كل سنة، وهو لا يكلف عشرة دنانير: إن جاريه ثلاثة آلاف في الشهر، ولا يمكنه وهو عامل مصر أن يكون بغير كتاب ولا عمال ولا كراع ولا جمال ولا إعطاء ولا إفضال، وله حرم وأولاد وأقارب وأهل يحتاج لهم إلى مئونة، ولا يخلو أن يرد عليه زوار بكتب من الرؤساء فتقضي المروءة أن يبرهم ويصلهم، إلى غير ذلك مما يصانع به. ومنها: هدايا سنوية إلى الخليفة والسيدة وأنجاله والقهرمانة وكتابهم وأسبابهم. وبهذا رأينا أن العامل كان مضطرا بحسب مصطلح ذلك الزمان إلى أن يسد العجز في موازنته الخاصة من طرق غير مشروعة، وقل العف الجيد الطعمة، وكلما تقدم الزمن وزادت الخلافة العباسية عتقا بليت الأخلاق في الناس، وتبعه تقلقل الإدارة؛ لفسولة رأى القائمين بالدولة وتشعب أغراضهم.
ولقد كان الخلفاء على الأكثر يتخيرون للولايات والوزارات أكتب الناس وأعلمهم، وللقضاء أقضاهم وأفتاهم. وحظوة الرجل عند قومه قد تكون من بواعث توسيد كبار الأعمال إليه خصوصا الوزارات والولايات والقيادات . وأتى زمن بعد المعتصم والوزير أعجم طمطم لا يفهم ولا يفهم، وأصبح أنصار الدولة والغيراء عليها يتأففون ممن لا يحسنون العربية، وإن كان منطويا على صفات أخرى صالحة في تدبير الملك؛ وذلك لكثرة من دخل في الأعمال من غير العرب. وكان معظم العمال يحاولون أن يجروا الرعية على المعاملات القديمة ويحملوهم على الرسوم السليمة. ولكن تطلب أنفس الولاة والعمال إلى العبث بحقوق الناس؛ ليجنوا من ذلك ما تتلمظ له شفاههم من المغانم، كان الباعث على استشراء الفساد في معظم طبقات المجتمع.
ثم أصبح بعض العظماء
74
ينفرون من الوزارة؛ لأن خاتمة حياتهم كانت التقتيل، ولأن مصير أموالهم وأموال ذويهم كان في الغالب إلى المصادرة والاغتصاب. ولقد عمت المصادرة سائر رجال الحكومة حتى الرعية، وأصبحت بتوالي الأيام المصدر الرئيسي لتحصيل المال؛ فالعامل يصادر الرعية، والوزير يصادر العمال، والخليفة يصادر الوزراء، ويصادر الناس على اختلاف طبقاتهم. حتى أنشئوا للمصادرة ديوانا خاصا مثل سائر دواوين الحكومة؛ فكان المال يتداول بالمصادرة كما يتداول بالمتاجرة. غضب المعتصم على وزيره الفضل بن مروان وأخذ منه عشرة آلاف ألف دينار ثم نفاه. ثروة ضخمة لو فكر الفضل أن يخلع طاعة الخليفة وينشئ بها ملكا له لما أعجزه ذلك. وغضب الواثق على كتاب الدواوين وسجنهم وأخذ منهم ألفي ألف دينار، وفيهم بعض الوزراء ومن كانوا في منزلتهم. وقل أن كان الوزير ينجو من نكبة إذا طالت أيامه، وأيقن الخليفة أنه اغتنى وعبث بأموال الدولة، أو حفزته الحاجة إلى المال فتفقده في خزائنه فلم يجده. ولم يعهد لوزير أن وزر وزارة واحدة بلا صرف لثلاثة خلفاء متسقين إلا محمد بن عبد الملك الزيات، وانتهى أمره بحرقه في التنور ومصادرة أمواله. وكان من العلم والأدب في الذروة العليا. وكان سلفه في وزارة المعتصم أحمد بن عامر الذي وصفه المعتصم ووصف نفسه بقوله: «خليفة أمي ووزير عامي.»
75
قال الوزير ابن الفرات: تأملت ما صار إلى السلطان من مالي فوجدته عشرة آلاف ألف الدينار، وحسبت ما أخذته من الحسين بن عبد الله الجوهري فكان مثل ذلك. فكأنه لم يخسر شيئا؛ لأنهم كانوا يقبضون بالمصادرة ويدفعون بالمصادرة، وإذا صودر أحدهم على مال لم يكن في وسعه أداؤه كله معجلا أجلوه بالباقي وساعدوه على تحصيله وجمعه. وتعددت أسباب المصادرة وجهاتها حتى أصبح كل صاحب مال أو منصب عرضة لها. وكانت وزارة ابن الفرات ثلاث سنين وثمانية أشهر واثني عشر يوما،
76
وولي الوزارة ثلاث مرات، وطولب بأمواله وذخائره فاجتمع منها مع ودائع كانت له سبعة آلاف ألف دينار، فيما حكي عن الصولي، وكان مشاهدا ومشرفا على أخبارهم. قال: وما سمعنا بوزير جلس في الوزارة، وهو يملك من العين والورق والضياع والأثاث ما يحيط بعشرة آلاف ألف غير ابن الفرات.
رد الواثق على بعض بني أمية أموالهم، وأكرم العلويين وأحسن إليهم، وما أحسن أحد إلى آل أبي طالب من خلفاء بني العباس ما أحسن إليهم الواثق. ما مات وفيهم فقير
77
وكان في حلمه وحسن خلقه يشبه عمه المأمون؛ يحب العدل ويعطف على أهل بيته ويتفقد رعيته. حشم
78
الأمراء عن الظلم، وكان يجلس لحساب الدواوين بنفسه، وترك جباية أعشار سفن البحر، وكان مالا عظيما. وقيل: إنه سد باب اللهو والغناء، أما هو فكان يسمع المغنيات ولا يتبذل ولا يسرف. واشتد على الناس كأبيه وعمه في مسألة خلق القرآن حتى قيل إنه أمر في سنة 231 - وهي سنة الفداء بين المسلمين والروم - أن يمتحن
79
أسارى المسلمين، فمن قال القرآن مخلوق وأن الله لا يرى في الآخرة فودي به وأعطي دينارا، ومن لم يقل ذلك ترك في أيدي الروم.
وعقد الواثق لبنيه الثلاثة، وقسم الدنيا بينهم، وكتب بذلك كتابا كما فعل جده الرشيد مع أولاده، فأعطى ابنه الأكبر المنتصر من عريش مصر إلى إفريقية المغرب كله إلى حيث بلغ سلطانه، وأضاف إليه جند قنسرين والعواصم والثغور الشامية والجزيرة وديار بكر وربيعة والموصل والفرات وهيت وعانة والخابور ودجلة والحرمين واليمن واليمامة وحضرموت والبحرين والسند وكرمان وكور الأهواز وماسبذان ومهرجان وشهرزور وقم وقاشان وقزوين والجبال. وأعطى ابنه المعتز خراسان وطبرستان وما وراء النهر والشرق كله. وأعطى ابنه المؤيد إرمينية وأذربيجان وجند دمشق والأردن وفلسطين.
وكان لولي العهد في هذه الممالك الصلاة والمعاون، أي الشحنة والشرطة، والقضاء والمظالم والخراج والضياع والغنيمة والصدقات وغير ذلك من حقوق أعمالها وما في عمل كل واحد منها من البريد والطراز وخزن بيوت الأموال ودور الضرب. يستخلفون على القطر الكبير حربا وخراجا، ويفوضون الأمور كلها للعامل يأذن إليه في الحل والعقد بغير استئمار ويخلعون عليه سوادا.
أي إن القطر الواحد بل المصر الواحد يحكم برأي عامله وجماعة ممن يختارهم لمشورته ومعاونته، فينظر في الأمور بحسب فهمه وما يوحيه إليه المحيط والعادة والعرف، ويطبق الأحكام الشرعية على الكبير والصغير والملي والذمي، وينصب العامل الأكبر في الولاية العمال من ذوي الرأي والتدبير والخبرة بالعلم والعلم بالسياسة، ويشاور الفقهاء وأرباب التجارب، وينفق من المال ما تصلح به الولاية وما يوسع به على القراء والفقراء وذوي الحاجات، وما تقتضيه من عطاء الجند وتقوية الثغور وشحن المصالح، ثم يبعث الباقي من الأموال إلى الخليفة. وللخليفة الخطبة والسكة، فإذا كان العامل يحسن عمله، ويعرف مدى التبعة الملقاة عليه، يستسيغ الخراج إن كان ذا قوة أو آنس من جانب الحضرة ضعفا، ولا يرجع في العادة إلى استشارة العاصمة إلا في عويص المسائل التي يمكن تأجيلها، وتكون من حقوق الخليفة داخلة في أمهات المسائل الكبرى في الدولة. وقد يجتهد ويرتكب غلطا فتصرفه العاصمة إن أحست به أو توجعه في العقوبة، كما فعل المنصور لما بلغه ضرب عامله على المدينة عالمها مالك بن أنس فشق ذلك على الخليفة وأهان عامله وصرفه. ولكن كانت كتف مالك قد زالت عن مكانها بالضرب المبرح. فالعامل في الحقيقة هو الملك الفعلي، ولا يسع العاصمة إلا أن تقره على ما يقرر ويدبر في أكثر الحالات. وقد ظهرت مضار هذه الطريقة عندما كانت العاصمة تعجز عن ضبط كل شيء من أمور الولايات لضعف الخلافة ووناء القائم على سدتها. وإذا كان هناك قضاة وولاة وناظرون ومفتشون وكتاب وحساب فإن التنفيذ يختلف قوة وضعفا بحسب كفاية العامل وسلطان الخليفة والوزير.
جاء المتوكل وضغط أمراء الترك وقوادهم يزيد شدة على الخلفاء فخلع على عبيد الله بن يحيى، وأمر أن لا يعرض أحد من أصحاب الدواوين على الخليفة شيئا، وأن يدفعوا أعمالهم إلى وزيره ليعرضها، وأجرى له في كل شهر عشرة آلاف درهم؛ لما كان في نفسه من الأتراك واستبدادهم بالأمر. فكان عهده جذب ودفع بين أصحاب الخلافة ومن رفعهم المعتصم على رقاب الناس من الترك، وعلق المتوكل يداوي الأمراض البادية في جسم الدولة بإنفاق المال الذي جمعه المأمون والمعتصم والواثق على نحو ما فعل الأمين؛ ففرق ما جمعه السفاح والمنصور والمهدي والرشيد من الأموال. فقال الناس: إن أيام المتوكل كانت في حسنها ونضارتها ورفاهية العيش بها ورخص أسعارها وحمد الخاص والعام لها، ورضاهم عنها أيام سراء لا ضراء. نعم، كان هذا الخليفة منفاقا لا يحسن تدبير خرجه، وله مع هذا عناية خاصة بديوان زمام النفقات. أنفق ما أنفق مما ادخره أجداده في بيوت أمواله، فكان هذا منه تدبيرا مؤقتا غير ناجح، وما استطاع أن يداوي ما تجلى من تسلط الأتراك على الدولة في عامة أقطارها وأعمالها.
رأى المتوكل شدة ضغط الترك على الخلافة في دار السلام فأحب الانتقال إلى دمشق؛ ليجعلها دار ملكه، ونقل دواوين الدولة إليها. ولما أمن غائلة من توجس منهم خيفة عاد إلى العراق، وادعى أنه استوبأ مدينة دمشق. وكانت له أفكار شاذة، منها: أنه كان يبغض علي بن أبي طالب وأهل بيته فعفى قبر الحسين بن علي، وهدم ما حوله من المنازل، ومنع الناس من إتيانه. ولا تأويل إلى هذا العبث إلا خوفه الشيعة، وأن يتخذوا من زيارة الحسين وسيلة إلى دعاية سياسية تزعزع أركان الملك العباسي.
واشتد المتوكل على أهل الذمة، وأخذهم بلبس ألبسة تخالف لباس المسلمين على رءوسهم وأوساطهم، وأن يجعل على أبواب دورهم صور شياطين من خشب مسمورة؛ تفريقا بين منازلهم ومنازل المسلمين. ونهى أن يستعان بهم في الدواوين وأعمال السلطان التي تجري أحكامهم فيها على المسلمين. وأمر أن يقتصروا في مراكبهم على ركوب البغال والحمير دون الخيل والبراذين إلى غير ذلك، وأمر بإجلاء النصارى عن حمص؛ لأنهم كانوا يعينون الثوار من اليمانيين، والثورة لا تكاد تنطفئ كل حين من حمص حتى سميت الكوفة الصغرى؛ لكثرة قيام أهلها على العمال، كما خصت تونس بالتشغب والقيام على الأمراء والخلاف للولاة.
ومع كل ما بذل المتوكل قوي الأتراك عليه وقتلوه، قيل بالاتفاق مع ابنه الذي خلفه، وأخذ المتغلبة من الترك يستضعفون الخلفاء فأصبح «الخليفة في يدهم كالأسير؛ إن شاءوا أبقوه، وإن شاءوا خلعوه، وإن شاءوا قتلوه من غير ديانة ولا نظر للمسلمين.» وجاء المنتصر يقاوم العلويين كأبيه المتوكل ويكتب إلى عامل مصر (247) أن لا يقبل علويا ضيعة، ولا يركب فرسا، ولا يسافر من الفسطاط إلى طرف من أطرافها، وأن يمنعوا من اتخاذ العبيد إلا العبد الواحد، وإن كانت بين العلوي وبين أحد خصومة قبل قول خصمه فيه ولم يطالب ببينة. ذلك لأن العلويين ما ناموا ساعة عن المطالبة بالملك، فمثل هذا الأمر يضيق عليهم دائرة حركتهم، وإن كان في بعض ما يرمي إليه غير عادل.
إدارة المعتز والمهتدي والمعتمد
تولى المعتز الخلافة فأمر بإحضار جماعة ممن صفت أذهانهم، ورقت طباعهم، ولطف ظنهم، وصحت نحائزهم، وجادت غرائزهم، وكملت عقولهم بالمشورة. وحاول أن يتخلص من الأتراك، وكانوا تأصلوا في جسم الدولة وروحها، وكانوا كثروا وأي كثرة في العاصمة والولايات، وقدرت أرزاقهم وأرزاق المغاربة والشاكرية في سنة 252 فكان مبلغ ما يحتاجون إليه في السنة مائتي ألف ألف دينار، وذلك خراج المملكة لسنتين فإذا تأخر عطاؤهم فهناك المؤامرات والمشاغبات وخوف البدوات والنزوات والوثوب بالدولة.
ووسدت إمارة مصر لأحمد بن طولون (254) من الأتراك، واستبد بجمع أعمال مصر لما وسد إليه أمر الأموال، وكان الأمير في مصر من قبل ليس له إلا الجند والشرطة وللعامل النظر في الأموال، وكلاهما يراقب صاحبه، وهما متساويان في المكانة، وربما تقدم العامل على الأمير. والأقباط منذ كان الإسلام يتولون النظر في الأموال؛ فتنظر إليهم الأمة نظرها إلى الصل والثعبان، ويراهم صاحب الأمر مختلسين. وكان مما أعان ابن طولون على استقلاله بملك مصر ثم استيلائه على الشام وما إليها أن الخليفة أمره بإعداد جيش لقتال أحد الخوارج في الشام. وبعد استئصال الفتنة لم يفض الجيش فكان له قوة نافعة في استقلاله. وكانت جمهرة الجيش من المماليك والديالمة يشتريهم كما يشتري الرقيق، وبلغت عدتهم أربعة وعشرين ألف مملوك وأربعين ألفا من العبيد الزنج ومن العرب وغيرهم. أما ابنه خمارويه فقيل: إن عدة جيشه بلغت أربعمائة ألف فارس.
ولئن حسنت حال مصر على عهد ابن طولون، ودر خراجها واستفاض عمرانها - لحسن إدارته وسياسته حتى فضلوه على بعض الخلفاء على كثرة ما سفك من الدماء - فإن استيلاءه على الأمر فيها عد خروجا على الخلافة، وإن كان يخطب لها بادئ بدء. ولم يتأت الخلاص من دولته إلا لما قوي العباسيون سنة 292 فقتلوا آل بيتهم برمتهم، وخلفت الدولة الطولونية الدولة الإخشيدية
80
وهي دولة أعجمية أيضا.
وتولى المهتدي «والدنيا كلها مفتونة» فحاول إعادة الخلافة إلى رونقها، وأمر بإخراج الفتيان والمغنين والمغنيات من سامرا ونفاهم إلى بغداد، وأمر بقتل السباع وطرد الكلاب وإبطال الملاهي ورد المظالم، وجلس ليرفعها فرفعت إليه قصص في الكسور فسأل عنها فقال وزيره سليمان بن وهب شيئا في تاريخ الخراج منذ عهد عمر إلى عهد المنصور، فأجاب المهتدي: معاذ الله أن ألزم الناس ظلما تقدم العمل به أو تأخر، أسقطوه عن الناس. فقال أحدهم: إن أسقط أمير المؤمنين هذا ذهب من أموال السلطان في السنة اثنا عشر ألف ألف درهم. فقال المهتدي: علي أن أقرر حقا وأزيل ظلما وإن أجحف ببيت المال.
وكان المهتدي آخر الخلفاء الذين كانوا يتولون بأنفسهم القضاء والمظالم، وربما كانوا يجعلون القضاء والمظالم لقضاتهم كما فعل عمر مع قاضيه أبي إدريس الخولاني، وكما فعل المأمون مع يحيى بن أكثم، والمعتصم مع أحمد بن أبي داود، وربما كانت تجعل قيادة الجيوش للقضاة، وكان يحيى بن أكثم يخرج أيام المأمون بالصائفة إلى أرض الروم، وكذا منذر بن سعيد قاضي عبد الرحمن الناصر من بني أمية بالأندلس. وكانت تولية هذه وظائف إنما تكون للخلفاء أو من يجعلون ذلك له من وزير مفوض أو سلطان متغلب.
ولما هم الجند بقتل المهتدي خطبهم فقال: أما دين أما حياءكم يكون هذا الخلاف على الخلفاء، والإقدام والجرأة على الله سواء عليكم من قصد الإبقاء عليكم، ومن كان إذا بلغه مثل هذا عنكم دعا بأرطال الشراب فشربها سرورا بمكروهكم، وحبا ببواركم. ثم ذكر لهم أنه لم يصل إليه من دنياهم شيء، وأنه ليس في منازل إخوته وولده فرش أو وصائف أو خدم أو جواري ولا لهم ضياع ولا غلات. وكان حقيقة مقلا من اللباس والفرش والمطعم، وأمر بإخراج آنية الذهب والفضة من الخزائن فكسرت، وضربت دنانير ودراهم، وعمد إلى الصور التي كانت في المجالس فمحيت.
81
وجيء بالمعتمد فقسم المملكة بين ابنه وأخيه الموفق فغلب أخوه عليه وشغل هو بلذاته، وكثر دخول الزعانف في القبض على الأعمال والفتن منتشرة؛ ومن أهمها: فتنة صاحب الزنج، والموفق يقود العساكر، ويرابط ويرتب الوزراء والأمراء. وقيل: إن المعتمد احتاج إلى ثلاثمائة دينار فلم يجدها فقال:
أليس من العجائب أن مثلي
يرى ما قل ممتنعا عليه
وتؤخذ باسمه الدنيا جميعا
وما من ذاك شيء في يديه
وطالت أيام المعتمد، ولم يؤثر عنها إبداع جديد في الإدارة والسياسة. وكان ديوان الموفق مائة ألف مرتزق، وكانت الدولة السامانية التي قامت في هذه الأيام في الشرق، وتتمتع باستقلال داخلي واسع - كما يقولون اليوم - من أحسن الدول سيرة وملوكها من بني سامان أمنع ملوك الإسلام جانبا في عصرهم «لأنه
82
ليس في الإسلام جيش إلا وهم شذاذ القبائل والبلدان والأطراف، إذا تفرقوا في هزيمة وتمزقوا في حادثة، لم يلتق منهم جمع بعده، غير جيش هؤلاء الملوك؛ فإن جيوشهم الأتراك المملوكون، ومن الأحرار من يعرف داره ومكانه، إذا فشل منهم قوم أو ماتوا ففي وفور عددهم ما يعاد من بين ظهرانيهم مثلهم، وإن تفرقوا في حادثة تراجعوا كلهم إلى مكان واحد، فلا يقدح فيهم ما يقدح في سائر عساكر الأطراف، ولا سبيل لهم إلى التفرق في العساكر والتنقل في الممالك كما يكون عليه رسوم صعاليك العساكر وشحنة البلدان.»
وكانت طريقتهم في إقامة الأحكام ببلاد خراسان
83
أن تضرب المقارع بين أيدي أجلة الأمراء، ويشهد كل أحد في كل شيء، غير أن في كل بلد عدة من المزكين فإن طعن الخصم على الشاهد سئل عنه المزكي، ولا يتحنك فيه إلا فقيه أو رئيس. ويختارون أبدا ببخارى أفقه من بها وأعفهم، يرفعونه ويصدرون عن رأيه ويقضون حوائجه، ويولون الأعمال بقوله. وفي نيسابور رسوم حسنة؛ منها: مجلس المظالم في كل يوم أحد وأربعاء بحضرة صاحب الجيش أو وزيره، فكل من رفع قصة قدم إليه فأنصفه، وحوله القاضي والرئيس والعلماء والأشراف ومجلس الحكم كل اثنين وخميس بمسجد رجاء لا ترى في الإسلام مثله. وكانوا في فارس
84
يفضلون أهل البيوتات القديمة في أعمال الدواوين يتوارثونها فيما بينهم، وليس في دواوين الإسلام ديوان أصعب عملا وأكثر أنواعا من ديوان فارس لاختلاف ربوعها على المتقلدين لها.
هذا مثال من حالة الدولة السامانية التي نشأت في عهد المعتضد الطويل. وذكر المؤرخون أنه على قلة معرفته بسياسة الملك عمرت
85
مملكته، وكثرت الأموال وضبطت الثغور، وأنه كان قوي السياسة شديدا على أهل الفساد، وكان ولي والدنيا خراب والثغور مهملة، فقام قياما مرضيا فسكنت الفتن، وصلحت البلدان، وارتفعت الحروب، ورخصت الأسعار، وهدأ الهيج، وسالمه كل مخالف، ودانت له الأمور، وانفتح له الشرق والغرب، وأديل له من أكثر المخالفين، وكان سريع
86
النهضة عند الحادثة، قليل الفتور، يتفرد بالأمور، ويمضي تدبيره بغير توقف، ولي الأمر بضبط وحركة وتجربة، وكف من كان يتوثب ويتشغب من الموالي.
وأمر المعتضد بافتتاح الخراج في النيروز المعتضدي، وهو في حزيران من شهور الروم؛ وذلك للرفق بالناس، وكتب إلى الأقطار برد الفاضل من سهام المواريث على ذوي الأرحام، وإبطال ديوان المواريث، وكان من قبل يلحق كثيرا من الناس إعنات في مواريثهم، ويتناول على سبيل الظلم من أموالهم، ويتقلد جبايتها أناس يجرون مجرى عمال الخراج، شيء لم يكن في خلافة من الخلافات إلى أن مضى صدر من خلافة المعتمد، فجرى العمل بذلك على سبيل تأول، فأزال المعتضد ذلك، وأمر أن يرد على ذوي الأرحام ما أوجب الله ورسوله وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود، وأن ترد تركة من مات من أهل الذمة، ولم يخلف وارثا على أهل ملته. وأن يصرف جميع عمال المواريث في النواحي ويبطل أمرهم، ويرد النظر في أعمال المواريث إلى الحكام، وكانوا يرتادون القضاة من أهل البلاد نفسها.
وللمعتضد مذهب جميل في سياسة عماله، بلغه أن عامله على فارس أظهر أبهة في ولايته، وأنفق ما وقعت له به هيبة في نفوس الرعية، فسأل عن رزقه، فقيل له: ألفان وخمسمائة دينار في الشهر، فقال: اجعلوها ثلاثة آلاف ليستعين بها على مروءته،
87
وكتب إليه في عامل عجز في ضمانه وهو مسجون بأنه كان في أيام ولايته يفرق عشرين كرا حنطة في كل شهر على حاشيته والفقراء والمساكين من أهل معرفته، وأنه فرق ذلك في هذا الشهر على عادته. فقال: سرني قيامه بمروءته ومعروفه. وأعفاه من أداء مبلغ كان يطالب به، ورده إلى عمله وأحمد ما كان منه.
سارت الخلافة في طريق سوي على عهد المعتضد؛ لسطوته ومهابته وعفته وإمساكه، فكان مع حرصه على إبقاء سلطانه يخافه عماله، ويكفون عن المظالم، واستعمل بعضهم الشدة في حفظ الأمن. بلغ عامله بدمشق
88
أن رجلا أعرابيا في أذرعات نتف خصلتين من شعر أحد فرسان الدولة، فطلب الوالي معلما يعلم الصبيان، وقال له: تخرج إلى اليرموك وأعطيك طيورا تكون معك فإذا دخلت القرية فقل لهم: إني معلم جئت أطلب المعاش وأعلم صبيانكم. فإذا تمكنت من القرية فارصد لي الأعرابي الذي نتف سبال الفارس، وخذ خبره واسمه، فإذا رأيته قد وافى أرسل الطيور بخبرك. ثم قبض على الأعرابي، وقطع رأسه وصلبه، وضرب الجندي مائة عصاة، وأسقط اسمه من الديوان؛ لأنه استخذى للأعرابي حتى فعل بسبالته ما فعل.
كان من جميل سيرة المعتضد مع عماله وخوفه البطش بهم إذا جنوا ما يعاقبون عليه أنه إذا نكب رجلا من جلة العمال ورؤسائهم وكل به من يحفظه من قبله، وشدد الوصية في صيانته، ويظهر أن هذا التوكيل للمطالبة وزيادتها والتشدد فيها لا ليحفظ نفسه، لئلا يطمع العامل. وكان يقول: هؤلاء أكابر من العمال الذين قامت هيبتهم في نفوس الرعية، وعرفوا أقطار البلاد، هم أركان الدولة وأعضاء الوزارة والمرشحون لها فإن لم تحفظ نفوسهم فسد الأمر. وهذا الغاية في الوقوف على نفسية العمال وحفظهم في أنفسهم. ومع هذه المسامحة واللين لم يرتفع السواد سواد العراق لأحد بعد عمر بن الخطاب بمثل ما ارتفع له أيام المعتضد.
89
وجمع المعتضد تسعة آلاف ألف دينار فاضلة عن جميع النفقات، وأراد أن يسبكها نقرة واحدة إذا أتمها عشرة آلاف ألف، ويطرحها على باب العامة؛ ليبلغ أصحاب الأطراف أنه له عشرة آلاف ألف دينار وهو مستغن عنها «بعد النفقات الراتبة والحادثة، وإطلاق الجاري للأولياء في سائر النواحي وجميع المرتزقة بها وبالحضرة.»
رد المعتضد ببعد نظره مصر إلى حظيرة الخلافة بعد أن كان يذهب بها أحمد بن طولون، وكتب إلى ابنه خمارويه بولايته عليها هو وولده ثلاثين سنة، وذلك من الفرات إلى برقة، وجعل إليه الصلاة والخراج والقضاء وجميع الأعمال على أن يحمل في كل عام من المال مائتي ألف دينار عما مضى وثلاثمائة ألف عن كل عام للمستقبل. ولعل ما ساقه إلى هذا التسامح مع الطولونيين ما تناصرت الأخبار عليه من أن الدولة العبيدية ظهرت أعلامها في المغرب فأحب أن يضع الطولونيين حاجزا بينه وبينهم. ومن جميل حيلته أنه طلب إلى ابن طولون أن يزوجه ابنة
90
ابنه خمارويه واسمها قطر الندى وقال: ما قصدت بهذا الزواج إلا إفقار ابن طولون؛ لأنه يضطر أن يجهزها بجهاز لم تجهز به عروس من قبل. وكان الأمر كما قال؛ فإنها جهزت بما استفرغ خزائن مصر والشام. وهذا هو الزواج السياسي المثمر، والترتيب الإداري الحكيم.
الإدارة على عهد المكتفي والمقتدر وكلام في الوزراء
اكتفى المكتفي بنهج منهج والده المعتضد في الإدارة، وكان وزيره العباس بن الحسن يقول لنوابه بالأعمال: أنا أوقع لكم وأنتم افعلوا ما فيه المصلحة. وقد يأخذ الوزير سبعة آلاف دينار في الشهر راتبا، ومن الوزراء من فادوا بخمسمائة ألف دينار ليصلوا إلى الوزارة. ومنهم من أعطوا المنجمين مائة ألف دينار ليحتالوا على الخليفة ويغيروا خاطره على أحد وزرائه، ثم يتوصلون إلى منصب الوزارة. وبهذا أدركنا أن الخلفاء انحطوا والوزراء كذلك.
بيد أن قواعد الدولة لم تتزلزل دفعة واحدة؛ لأن المعتضد ثبت قواعدها، ومن يجئ بعده مهما ارتكب من الأغلاط لا يقضي على عامة التراتيب الموضوعة للخلافة منذ سنين، فصح ما قيل من أن بني العباس
91
قوم منصورون تعتل دولتهم مرة، وتصح مرارا؛ لأن أصلها ثابت وبنيانها راسخ. وخلف المكتفي في بيوت الأموال من العين ثمانية آلاف ألف دينار، ومن الورق خمسة وعشرين ألف ألف دينار، وفي رواية أنه خلف مائة ألف ألف دينار عينا وعقارا وأواني بمثلها.
واستخلف المقتدر طفلا ووالدته وخالته وأم ولد المعتضد تدير الملك، حتى إن هذه السيدة جلست بالرصافة للمظالم تنظر في الكتب يوما في كل جمعة، فأنكر الناس ذلك واستبشعوه، وكثر عيبهم عليه والطعن فيه. ولم يكن في جلوسها أول يوم طائل، وفي اليوم الثاني أحضرت القاضي فحسن أمرها، وخرجت التوقيعات عن سداد، فانتفع بذلك المظلومون، وسكن الناس إلى ما كانوا نافرين من قعودها ونظرها. فالمقتدر في سنيه الأولى خصوصا كان يتدبر بآراء النساء والحاشية، والسيدة وقهرمانتها، ومن يجري مجراهن من نساء القصر، يتحكمن في كل أمر، ويتدخلن في العزل والنصب. وأمروا صاحب الشرطة ببغداد أن يجلس في كل ربع من الأرباع فقيها يسمع من الناس ظلاماتهم، ويعتني في مسائلهم حتى لا يجري على أحد ظلم. وأمروه أن لا يكلف الناس ثمن الكاغد الذي تكتب فيه القصص وأن يقوم به، وألا يأخذ الذين يشخصون مع الناس أكثر من دانقين في أجعالهم.
ورد المقتدر رسوم الخلافة
92
إلى ما كانت عليه من التوسع في الطعام والشراب وإجراء الوظائف. وكان في داره أحد عشر ألف خادم خصي من الروم والسودان. وزاد في أرزاق بني هاشم، وأعاد الرسوم في تفريق الأضاحي على الفقراء والعمال وأصحاب الدواوين والقضاة والجلساء، وأسرف في الأموال فمحق من الذهب ثمانين ألف ألف دينار
93
وفرق في خمس وعشرين سنة ما جمعه المنتصر والمهتدي والمعتمد والمعتضد والمكتفي. وحار الناس في أمر دولة المقتدر
94
وطول أيامها على وهي أصلها وضعف ابتنائها، ولم ير الناس ولم يسمعوا بمثل سيرته وأيامه وطول خلافته.
على أنه كان جيد العقل، صحيح الرأي، ولكنه كان مؤثرا للشهوات. قال التنوخي:
95
ولقد سمعت أبا الحسن علي بن عيسى الوزير يقول، وقد جرى ذكر المقتدر بحضرته في خلوة: ما هو إلا أن يترك هذا الرجل النبيذ خمسة أيام متتابعة حتى يصح ذهنه، فأخاطب منه رجلا ما خاطبت أفضل منه، ولا أبصر بالرأي وأعرف بالأمور وأسد في التدبير، ولو قلت: إنه إذا ترك النبيذ هذه المدة يكون في أصالة الرأي وصحة العقل كالمعتضد والمأمون ومن أشبههما من الخلفاء ما حسبت أن أقع بعيدا، وما يفسده غير متابعة الشراب ولا يخبله سواها. ا.ه.
قيل: إنه كان بين ابن زبر القاضي وبين علي بن عيسى الوزير عداوة، وعجز ابن زبر عن رضاه فألقى رقعة في ورق الظالم، وفيها أن رجلا من خراسان رأى في ثلاث ليال متوالية العباس بن عبد المطلب في وسط دار السلام يبني دارا، فكلما فرغ من موضع تقدم رجل لهدمه. فقال له: يا عم رسول الله، من هذا الذي بليت به؟ فقال: هذا علي بن عيسى، كلما بنيت لولدي بناء هدمه. فقرئت الرقعة على المقتدر فقال: إن هذه الرؤيا صحيحة يصرف علي بن عيسى ويقبض عليه. فما جاء آخر النهار حتى وافى ابن زبر ومعه عهده بقضاء مصر ودمشق. فإن صحت هذه القصة كان تصديق المقتدر حيلة القاضي من أغرب ما أثر من ضعف العقول.
وعلي بن عيسى هذا أكبر وزراء ذاك العهد، ومن الأسر العريقة في خدمة الدولة منذ أيام المعتضد
96
كان من الثقة والصيانة والصناعة على جانب، عامل المصادرين من الوزراء والعمال بالرفق، وكتب إلى كل واحد من العمال بما جرت العادة به من تشريف أمير المؤمنين إياه بالخلع، ورد أمر الدواوين والمملكة إليه، وأقرهم على مواضعهم، وأمرهم بالجد والاجتهاد في العمارة، وكتب إليهم بإنصاف الرعية والعدل عليها، ورفع صغير المؤن وكبيرها عنها. كما كان يطالب بتوفير حقوق السلطان وتصحيحها وصيانة الأموال وحياطتها. ونظر إلى من تعود اقتطاع الأموال السلطانية وإقامة مروات نفسه فيها، وقصر في العمارة واعتمد غيره. وعمر الثغور والبيمارستانات وأدار الأرزاق لمن ينظر فيها، وأزاح علل المرضى والقوام، وعمر المساجد الجامعة، وكتب إلى جميع البلدان بذلك، ووقع إلى العمال وكتب إليهم في أمر المظالم، وأمر بأن يستوفى الخراج بغير محاباة للأقوياء، ولا حيف على الضعفاء، وساس الناس أحسن سياسة، ورسم للعمال الرسوم الجميلة، وأنصف الرعية وأزال السنن الجائرة، ودبر أمر الوزارة والدواوين وسائر أمور المملكة بكفاية تامة وعفاف وتصون، حتى أسقط الزيادات في إقطاعات الجند والعمال وغيرهم، لما رأى نفقات السلطان زائدة على دخله زيادة مفرطة تحوج إلى هدم بيوت الأموال وصرفها في نفقات يستغني عنها.
وكان يجري على خمسة وأربعين ألف إنسان جرايات تكفيهم وخدم السلطان سبعين سنة لم يزل فيها نعمة عن أحد. قال الصولي: ولا أعلم أنه وزر لبني العباس وزير يشبه في زهده وعفته؛ بلغه أن أسارى المسلمين في الروم ساءت حالهم وأن الروم يحاولون تنصيرهم فغمه ذلك. ولما كان يعرف أن الخليفة لا يريد قتال الروم عمد إلى طرق سلمية فندب بطريق أنطاكية وجاثليق القدس أن يكتبا إلى الروم كتابا يقبحان هذه المعاملة ويتوعدان، فاضطرت دولة الروم أن تحسن معاملة المسلمين. وما عابوا على علي بن عيسى الوزير إلا أنه كان ينظر كثيرا في جزئيات الأمور فربما شغلته عن الكليات.
97
منع علي بن عيسى من إكراه التناء والمزارعين «على
98
تضمين غلات بيادرهم بالحزر والتقدير، وإلزامهم حق الأعشار في ضياعهم على التربيع، واستخراج الخراج منهم على أوفر عبرة، قبل إدراك غلاتهم وثمارهم، وإكراه وجوههم على ابتياع الغلات السلطانية بأسعار مسرفة مجحفة.» ولما غلب السجزية على فارس جلا قوم من أرباب الخراج عنها لسوء المعاملة ففض خراجهم على الباقين، وكمل بذلك قانون فارس القيم، ولم تزل هذه التكملة تستوفي على زيادة تارة ونقصان. وجاءه قوم من أجلاء فارس وقالوا: نمنع غلاتنا وتعتاق في الكناديج
99
حتى تهلك وتصير هكذا «وطرحوا من أكمامهم حنطة محرقة.» ونطالب بتكملة ما وجب علينا فتدعونا الضرورة إلى بيع نفوسنا وشعور نسائنا وأدائها حتى تطلق الغلة وهي على هذه الصورة «ثم رموا من أكمامهم تينا يابسا وخوخا مقدودا ولوزا وفستقا وبندقا وغبيراء وعنابا.» وقالوا: وهذا كله خراج لقوم آخرين والبلد فتح عنوة، فإما تساوينا في العدل أو الجور. فأنهى علي بن عيسى ذلك إلى المقتدر بالله، وجمع القضاة والفقهاء ومشايخ الكتاب والعمال وجلة القواد في دار الوزارة وقد جعلها ديوانا، وتناظر الفريقان من أرباب الشجر وأرباب التكملة فقال أرباب الشجر: هذه أملاك قد أنفقنا عليها أموالنا حتى أنبتت الغروس فيها، وحصل لنا بعض الاستغلال منها، ومتى ألزمت الخراج بطلت قيمتها. وقد كان المهدي أزال المطالبة ورسم الخراج عنها. وقال المطالبون بالتكملة ما شكوا به حالهم فيها واستمرار الظلم عليهم بها. ورجع إلى الفقهاء في ذلك فأفتوا بوجوب الخراج وبطلان التكملة.
هذا تمثيل للإدارة على ذاك العهد وصورة من أعمال الوزراء. وبأمثال علي بن عيسى وابن الفرات كانت القوة تدخل على ملك بني العباس إذا عراه الضعف ويجبرون نقص الخلفاء. وبمثل الوزير الخاقاني والوزير الخصيبي ترجع القهقرى. فإن كان علي بن عيسى بعيد النظر في أمور الدولة جد عارف بما يصلحها، عفا عن أموال الرعية ساهرا على مصلحتهم الحقيقية فإن ابن الفرات كان نافذا في عمل الخراج وتدبير البلاد وجباية المال وافتتاح الأطراف، وكلاهما من بلغاء الكتاب ومن العارفين بأدب الملك.
وكان للدولة رسوم في تخريج رجال الإدارة ومما ذكروه أن باذرويا كان يتقلدها جلة العمال. قال ابن الفرات: سمعت أبا العباس أخي يقول من استقل بباذرويا استقل بديوان الخراج، ومن استقل بديوان الخراج استقل بالوزارة؛ وذلك لأن معاملتها مختلفة وقصبتها الحضرة، والمعاملة فيها مع الوزراء والأمراء والقواد والكتاب والأشراف ووجوه الناس، فإذا ضبط اختلاف المعاملات، واستوفى على هذه الطبقات صلح للأمور الكبار.
وبعد أن كان الخلفاء على استعداد تام لإدارة الملك أصبحوا يعتمدون على وزرائهم فإن كانوا علماء أخيارا جرت الأمور على سداد، وإن كانوا جهالا أشرارا زاد البلاء والشقاء، وطمع أصحاب الأطراف والنواب، وخرجوا عن الطاعة، وزالت عن الجند والرعية هيبة الخلفاء، وخلت من الأموال خزائنهم. والواقع إذا استثنينا عهد المعتضد لا نشاهد في خلفاء بني العباس بعد عهد المأمون من كان ذا عبقرية في الإدارة، وقد لا تنتظم الأحوال حتى بوجود الوزراء المحنكين؛ لأن للرأس تأثيره، والخليفة مرجع الأعمال وجميع السلطات فإن كان على اتزان تختفي العيوب في إدارة سلطنته المستبدة الطويلة العريضة، وإلا فالانحلال باد والملك في تزلزل. وهناك خليفة يدبره أخوه، وآخر تدبره أمه وجواريها، وغيره تدبره قهرمانته، وثالث يدبره وزيره. وقل في بني العباس أن جاء خليفة كالمأمون والمعتضد من يصدر عن رأي نضيج، ويعنى بملكه عناية حقيقية.
وكان الخلفاء في الجملة مشتغلين بأنفسهم ودفع أعدائهم عنهم، وكثير منهم من يقتل بأيدي الجند. وقل فيهم الرجل الرشيد بعد القاهر، وكانت الأمور تجري بقوة التسلسل، وبنو بويه ثم بنو سلجوق وغيرهم هم أصحاب الدولة بالفعل والخليفة لا عمل له في الحقيقة، بل هو أشبه بخيال يختفي وراءه صاحب السلطان إذا أراد أمرا لا يرضاه العامة إلا إذا صدر عن الخليفة.
نعم، صار الخليفة تابعا للملك أو المتغلب، ولم يبق شيء يقال له إدارة؛ لأن الخليفة لا يحكم حتى على بيته، فأصبحت الإدارة إدارة الملوك والأطراف وإدارة الفرس والترك، والشأن في السلطان شأنهم لا تكاد تسمع للخلفاء اسما. وكان من عادة أكثر خلفاء العباسيين أن يحبسوا أولادهم وأقاربهم. جرت بذلك سنتهم إلى آخر أيام المستنصر، فلما ولي المستعصم آخر خلفائهم ببغداد أطلق أولاده الثلاثة ولم يحبسهم، وكان من عادة حبس أولاد الخلفاء ضعفهم بل بلاهتهم إذا أسندت إليهم الخلافة، وربما انصرف أكثرهم في دور احتباسهم إلى اللهو والشراب فإذا جاءوها عجزوا عن إدارة الملك ؛ لأنهم عاجزون عن سياسة أنفسهم.
ولقد كان الرسم في عهد الخلفاء الأول من بني العباس أن يراقب الوالد ابنه والابن أباه والأخ أخاه على طريقة مستورة عن الأنظار، وتوسد إلى أبناء الخلفاء قيادة الجيوش وإدارة الولايات، ويشتركون في السلطان إلى حد معين، وتؤخذ آراؤهم في النوازل، ويدخلون في مجالس المشورة؛ فيكون لهم بذلك شيء من الوقوف ينفعهم يوم تولي الأمر، ويعرفون أنهم شركاء في هذا الملك لهم رأي يعتد به، ويجب عليهم الاهتمام لمصالحه.
وفي عصر الانحطاط حجب أبناء الخلفاء؛ فأصبح أكثرهم إلى الجهل والبلاهة يدرسون إدارة الملك في الكتب، وربما لا يرخص لهم أن يدرسوا في كل كتاب، ويسمعون من مربيهم وأساتيذهم ما يريدون أن يسمعوهم، ولكنهم لا يعلمون بالعمل شيئا كثيرا يصح أن يكون مادة لحياتهم وحياة الخلافة إذا أتت نوبتهم لتولي هذا المنصب الجليل.
هوامش
Page inconnue