وَقد أوضح الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن الْكَرِيم ضَرُورَة اتِّبَاع الْمُؤمن للنصوص المحكمة فِي كِتَابه وَبِنَاء عقيدته فِي الله بموجبها ووضح النُّصُوص المتشابهة من وَرَائِهَا من حَيْثُ فهمها وَالْوُقُوف على الْمَعْنى المُرَاد بهَا وشدد النكير على من يتجاهل النُّصُوص المحكمة النيرة القاطعة ليلحق بالعبارة المتشابهة الغامضة ويفسرها كَمَا يَشَاء وَذَلِكَ فِي قَوْله ﷿ هُوَ الَّذِي أنزل عَلَيْك الْكتاب مِنْهُ آيَات محكمات هن أم الْكتاب وَأخر متشابهات فَأَما الَّذين فِي قُلُوبهم زيغ فيتبعون مَا تشابه مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَة وابتغاء تَأْوِيله وَمَا يعلم تَأْوِيله إِلَّا الله والراسخون فِي الْعلم يَقُولُونَ آمنا بِهِ كل من عِنْد رَبنَا وَمَا يذكر إِلَّا أولو الْأَلْبَاب
وَبِنَاء على ذَلِك فقد اتّفق الْمُسلمُونَ كلهم على تَنْزِيه الله تَعَالَى عَمَّا يَقْتَضِيهِ ظَاهر تِلْكَ النُّصُوص القرآنية من إِثْبَات الْمَكَان والجوارح والأعضاء وطرو الْحَوَادِث عَلَيْهِ تمسكا بالمحكم من النُّصُوص الدَّالَّة على ذَلِك وتنفيذا لأمر الله ﷿ ولتحذيره من اتِّبَاع الْمُتَشَابه والخوض فِي تَأْوِيله مَعَ ترك الْمُحكم الْوَاضِح
وَبعد أَن اتَّفقُوا على ذَلِك وَهَذَا هُوَ الْقدر الَّذِي يجب أَن يَعْتَقِدهُ كل مُسلم اخْتلفُوا فِي موقفهم من تِلْكَ النُّصُوص المتشابهة إِلَى مذهبين
أَولهمَا تمسك بِهِ السّلف المتقدمون وَثَانِيهمَا جنح إِلَيْهِ من بعدهمْ من الْمُتَأَخِّرين من منتصف الْقرن الرَّابِع فَذهب السّلف إِلَى عدم الْخَوْض فِي تَأْوِيل وَتَفْسِير تفصيلي لهَذِهِ النُّصُوص والاكتفاء بتنزيه الله تَعَالَى عَن كل نقص ومشابهة للحوادث وسبيل ذَلِك التَّأْوِيل الإجمالي لهَذِهِ النُّصُوص وتحويل الْعلم التفصيلي بِالْمَقْصُودِ مِنْهَا إِلَى الله ﷿
أما ترك هَذِه النُّصُوص على ظَاهرهَا دون تَأْوِيل سَوَاء كَانَ إجماليا أَو تفصيليا فَهُوَ غير جَائِز وَهُوَ شَيْء لم يجنح إِلَيْهِ سلف وَلَا خلف كَيفَ وَلَو فعلت ذَلِك لحملت عقلكمعاني متناقضة فِي كثير من هَذِه الصِّفَات فقد أسْند الله تَعَالَى إِلَى نَفسه الْعين بِالْإِفْرَادِ فِي قَوْله ﴿ولتصنع على عَيْني﴾ وَأسْندَ مرّة إِلَى نَفسه الْأَعْين بِالْجمعِ فَقَالَ ﴿واصبر لحكم رَبك فَإنَّك بأعيننا﴾ فَلَو ذهبت تفسر كلا من الأيتين على ظاهرهما دون أَي تَأْوِيل لألزمت الْقُرْآن الْكَرِيم بتناقض هُوَ مِنْهُ بَرِيء
1 / 54