وكنت أود أن أتكلم هادئا فأفلت زمامي من يدي، وبدأت بدوري أذرع الغرفة طولا وعرضا، فتشتبك نظرات بريجيت بنظراتي اشتباك السيف بالسيف، وكنت أراها أمامي كأنها باب منيع سجنت وراءه، فأفتش عن وسيلة أبذل في سبيل امتلاكها حياتي لأحطم أقفال فمها، وأغتصب سرها.
وقالت: ماذا تقصد؟ وما الذي تريد أن أقوله لك؟ - أريد أن تبوحي لي بما تضمرين. أفليس من القساوة أن تكرهيني على تكرار هذا القول؟ - وأنت ... وأنت ... أين قساوتي من قساوتك؟ تقول: إن من يطمح إلى معرفة الحقيقة مجنون، أفلا يحق لي أن أرد على هذا بقولي: إنها لمجنونة المرأة التي يخيل لها أن ما ستعلنه من حقيقة سيصدق.
إن السر الذي تريد معرفته هو أنني أحبك. ذلك هو سري. فيا لي من عاشقة أضاعت رشدها! إنك تفتش عما يكن وراء شحوبي، وشحوبي أنت ألقيت به علي ثم عدت تتهمه وتستنطقه. يا لي من مجنونة! لقد أردت الانكماش على آلامي لأقف عليك صبري واحتمالي، أردت ستر دموعي عنك، فإذا أنت تتجسس عليها وتحسبها دلائل جرم خفي. يا لي من مجنونة! لقد أردت قطع البحار وهجر وطني لأتبعك، وأموت بعيدة عن كل من أحبني، منطرحة على قلب يرتاب في إخلاصي. يا لي من مجنونة! لقد كنت أحسب أن للحقيقة من النظرات والنبرات ما ينم عنها ويدعو إلى احترامها.
أواه، إن عبراتي تخنق أنفاسي عندما أفكر في حالي. لماذا اقتدتني إلى هذا السبيل أخضع عليه حياتي إذا كنت ستقف بي هذا الموقف الحائر لا أهتدي فيه إلى نفسي؟
وانحنت علي والدمع يتساقط من أجفانها وهي تصرخ: يا لي من مجنونة!
وعادت إلى حديثها: إلى متى تستمر على هذا الضلال؟ فقد أعجزتني بشكوكك وهي لا تشب حتى تنطفئ، ولا تنطفئ حتى تشب. أنت تطلب إلي أن أبرر نفسي، ومن أية جناية علي أن أبررها؟ أمن هجر بلادي، أم من غرامي، أم من موتي، أم من قطع رجائي؟ إذا أنا تكلفت السرور حسبت سروري إهانة لك. لقد ضحيت كل شيء لأرحل معك، وما أنت سائر معي مرحلة دون أن تلتفت إلى الوراء، فأنا لا أتلقى غير الإهانة، ولا أشهد غير الغضب أيان كنت ومهما فعلت.
أي بني الحبيب! ليتك تعلم بأي صقيع قاتل أحس، وأية أوجاع تقطع أحشائي عندما أراك تقابل أصدق كلمة تصعد من قلبي على لساني بالريبة، فلا تصغي إليها إلا هازئا ساخرا. إنك لتحرم نفسك السعادة التي لا سعادة سواها على الأرض، وهي الاستسلام في الحب. إنك لتقتل بما تفعل كل عاطفة رقيقة سامية في قلب من يحبك، ولن يطول بك الأمر حتى يمتنع عليك أن تؤمن إلا بكل خشن كثيف، فلا يبقى لك من الحب إلا ما تراه بعينك، وما تلمسه بيدك.
أنت لم تزل فتيا يا أوكتاف، وأمامك مراحل طويلة في الحياة؛ فستتخذ لك خليلات غيري.
لقد قلت حقا، ليست الكبرياء شيئا معدودا، وما أتوقع منها تعزية وسلوانا، ومع ذلك فإنني أطلب من الله أن يقدر ذرف دمعة واحدة تتحدر يوما كفارة عما أذرفه الآن من دموع.
ووقفت وهي تقول أيضا: أيجب علي أن أعلن، وعليك أن تعلم، أنني منذ ستة أشهر لم أنطرح على وسادي ليلة دون أن أكرر قولي لنفسي: إنك لن تشفى من دائك، ولا حيلة لي فيك. أيجب أن تعلم أنني ما نهضت يوما في صباحي دون أن أصمم على محاولة شفائك، وأنك ما قلت لي كلمة دون أن أشعر منها أن لا بد من هجرك، وأنك ما ضممتني مرة إلا وأعلن لي قلبي أنه يفضل الموت على الانسلاخ عنك، وأنني في كل يوم، بل في كل دقيقة حاولت - وأنا كالكرة بين أملي وخوفي - أن أتغلب بحبي على أوجاعي، أو أتغلب على حبي بهذه الأوجاع، وأنني ما فتحت لك قلبي مرة دون أن تنفذ منه بنظراتك الساخرة إلى أعماق أحشائي، فإذا أنا أوصدته دونك شعرت أنه ينطوي على كنز رصده القضاء عليك، ولن يناله سواك؟ أعلي أن أحدثك عن ضعفي، وعن هذه الأسرار التي تتجلى تافهة لعين من لا يجد لها حرمة في نفسه؟ أأقول لك: إنك في كل مرة ذهبت من بين يدي غاضبا كنت أوصد بابي لأنفرد برسائلك الأولى أطالعها بدموعي، وإن بين ما أعزفه قطعة - تعرفها أنت - ما زلت أستقطر من نغماتها الصبر في غيابك حتى تعود.
Page inconnue