رسالة من صاحب الاعتراف
مقدمة لمؤلف الاعتراف
ذكرى الطفولة
ظل الطهر
أزهار الشباب
شعر الألوان والروائح
سماء الأمل
أحلام الأدباء
أطوار العقيدة
لذات الحياة
عشق أصحاب الفنون
الإحساس والحياة
الغرور
الخوف والعي
وسائل النجاح
الحياء والوحشة
الحياة والرحمة
ضعف العزيمة
سلطان القضاء
خواطر الانتحار
العجب واليأس
الكذب
الخوف والوهم
سوء الظن
الفزع من التهم
الحذر
الخوف والرحمة
داء الضمير
المجرمون والأبرياء
أمواج النفس
الأبد في دقيقة
جنون الأماني
الضاحك الباكي
عبث الفكر
طعم الذل
سخر القضاء
الإنسان والكون
بقاء النوع وتعاسة الفرد
ظل الموت
الخاتمة
رسالة من صاحب الاعتراف
مقدمة لمؤلف الاعتراف
ذكرى الطفولة
ظل الطهر
أزهار الشباب
شعر الألوان والروائح
سماء الأمل
أحلام الأدباء
أطوار العقيدة
لذات الحياة
عشق أصحاب الفنون
الإحساس والحياة
الغرور
الخوف والعي
وسائل النجاح
الحياء والوحشة
الحياة والرحمة
ضعف العزيمة
سلطان القضاء
خواطر الانتحار
العجب واليأس
الكذب
الخوف والوهم
سوء الظن
الفزع من التهم
الحذر
الخوف والرحمة
داء الضمير
المجرمون والأبرياء
أمواج النفس
الأبد في دقيقة
جنون الأماني
الضاحك الباكي
عبث الفكر
طعم الذل
سخر القضاء
الإنسان والكون
بقاء النوع وتعاسة الفرد
ظل الموت
الخاتمة
الاعتراف
الاعتراف
وهو قصة نفس
تأليف
عبد الرحمن شكري
رسالة من صاحب الاعتراف
صديقي الأعز
لقد مللت الحياة في عالم المدنية، فرأيت أن أهيم في مجاهل السودان؛ لأن صحراءها أشبه بالأبد الذي أحببته من المدن، وستضيق الصحراء بنفسي كما ضاقت بها المدن. وقد رأيت أن أودع عندك «مذكراتي»؛ كي تذكرك بي، وبما كان بيننا من الود. فإذا مضت سنة ولم أراجعك، فانشرها إذا وجدت في نشرها ما يفيد.
المخلص
م. ن.
مقدمة لمؤلف الاعتراف
لقد مضت سنوات لم أسمع في خلالها شيئا عن صديقي م. ن. صاحب الاعتراف، فجعلت أسأل عنه حتى علمت أنه صار يهيم في فيافي السودان، حتى وصل إلى بلاد نيام فأكله أهلها رحمة الله عليه. لقد كان يحتقر الإنسانية؛ فانتقمت منه بأن أكله أبناؤها، ولكنه انتقام يثبت أنه كان مصيبا في احتقاره إياها. وقد زعم أناس أنه لم يمت، وأنه توغل في أواسط أفريقيا إلى مواطن الزنوج، فأسرته قبيلة منهم تدعى قبيلة الشنانجة، ولكنهم أعجبوا بسكوته وعبوسه وكسله وقلة مبالاته ما يقع حوله من أمور الحياة؛ فاتخذوه إلها، حاسبين هذه الصفات من صفات الله! فإذا صح ذلك كان صديقي إلها لا يزال حيا يرزق، يعبده زنوج قبيلة الشنانجة في أواسط أفريقيا. وليت شعري ما حاله؟ وما خواطره؟ وهل هو سعيد بمنزلته بين أولئك الوحشيين الجهلاء؟
وقد رأيت أن أجمع هذه المذكرات وأن أنشرها؛ لأن في نشرها عبرة كبيرة لمن يعتبر. وسيرى كثير من القراء نفوسهم مكبرة مرسومة في هذه الصحائف؛ لأننا في حياتنا الاجتماعية سواسية مثل أسنان الحمار - هذا إذا صح أن أسنان الحمار سواسية، ولا أظن ذلك - أو مثل أسنان المشط. وسبب ذلك أن العوامل الاجتماعية التي تعمل في نفس الفرد منا، تعمل أيضا في نفوس سائر الأفراد. فصفات الشاب المصري هي صفات م. ن. صاحب الاعتراف.
فالشاب المصري في حالة أمتنا الاجتماعية الحاضرة عظيم الأمل، ولكنه عظيم اليأس، وكل منهما في نفسه عميق مثل الأبد؛ والسبب في ذلك أن حالتنا الاجتماعية تستدعي شدة الأمل وشدة اليأس. وما زلت أجد بين حالة الأمة الاجتماعية وبين نفوس أفرادها رابطة متينة. والشاب المصري يكثر من إساءة الظن، وهي صفة اشتهر بها المصريون. والسبب في سوء ظنه عصور الاستبداد الطويلة التي مرت على مصر، فإنها أبقت هذا الإرث في نفوس الأفراد؛ لأن الاستبداد يبعث سوء الظن. والشاب المصري ضعيف العزيمة، كثير الأحلام والأطماع والأماني، يمضي أيامه في الأحلام بدل أن يمضيها في مزاولة الأعمال. وكذلك الخوف فيه، فإن شجاعة الشاب المصري شجاعة متقطعة مبتورة، شجاعة تستحي من نفسها، وأما خوفه فهو مبدأ عام.
والشاب المصري عنده ميل شديد إلى مزاولة الأعمال العظيمة المجيدة، ولكن يعجز عنها! والشاب المصري مهيج العواطف، ولكنه غير عظيمها. وهو كثير الغرور؛ لأنه كثير الأحلام والأماني، وهو ليس عنده شيء من الاعتماد على النفس. وهو شديد الإحساس، ولكنه يبكي في ضحكه، ويضحك في بكائه . وهو كثير الشكوى والتضجر، قليل الصبر مثل صاحب الاعتراف، تحز في نفسه قيود القدر المحتوم، فيجتهد أن يصدعها عنه فلا يقدر؛ فيزداد حزنا ويأسا ... ويفكر، ولكن تفكيره غير منتظم! وهو كثير الحيرة والشك، بالرغم من غروره يترك ما يعنيه لما لا يعنيه، لا يعرف أي أفكاره وعاداته القديمة خرافات مضرة، ولا أي أفكاره وعاداته الجديدة حقائق نافعة؛ من أجل ذلك يضره القديم كما يضره الجديد، فهو من قديمه وجديده غريق بين لجتين، أو مثل كرة في أرجل المقادير، فإلى أين تقذف به تلك المقادير؟
أما م. ن. فإنه - رحمه الله - كان شابا يحب القراءة والتفكير، وكانت تلوح في عينيه علامات السأم والحزن والتفكير، وقد تقلصت شفته السفلى تقلص السخر. ولكن كان يلوح على وجهه، بالرغم من ذلك، أنه كثير الحنان رقيق القلب، وأحيانا كنت لا ترى في وجهه شيئا من الحزن أو الألم، وفي بعض الأحايين كان وجهه مثل السماء التي تراكمت سحائبها وتلبدت غيومها. وكان كثير من الناس يسيئون فهمه؛ فأساء فهمهم، كما هي الحال بين الناس قاطبة.
وكان أحيانا شديد التواضع، وأحيانا شديد التكبر. كان لا يعرف كيف يعاشر الناس ويداريهم، ويأخذ ما صفا ويتغاضى عما كدر، ويحتال للحياة ولاستجلاب السعادة؛ فضاقت بنفسه الصحراء، بعد أن ضاقت بها المدن كما يقول في رسالته.
ذكرى الطفولة
إن المرء إذا جعل يتذكر أيام طفولته؛ أحس لذة مثل لذة الرجل عند رؤية ابنه الصغير. فإننا ننظر في أعماق السنين إلى ذلك الطفل الذي كناه في طفولتنا؛ فنحنو عليه ونقبله بفم الذكرى، وهو لدينا مثل وليد لنا رضيع. ولقد يجول بخاطر المرء أن ذلك الطفل الصغير الذي كانه ليس بذلك الرجل الكبير الذي يحنو عليه، الذي يعبث بالذكرى، ويكشف عن الطفولة حجابا مثل حجاب الحسان. فإن أكثر المرء مكتسب من الأيام والحوادث؛ ومن أجل ذلك صار يعد شخصه في الطفولة جزءا صغيرا منه، ولو تفهم المرء تقلبه في أطوار عمره لرأى أنه ينتقل من حياة إلى حياة، وأنه يخلع كل يوم حياة ويلبس أخرى.
لست أعجب من شيء عجبي من أني لا أزال أذكر حوادث من حوادث الطفولة. وإن المرء ليزهى بالمقدرة على ذلك التذكر، كأنه قد سلب جزءا من الخلد، وصفة من صفاته. ولقد تمر بالمرء ساعات يتوق فيها إلى طفولته، ويناجي شخصه الصغير الذي كان يعمرها قائلا: يا بني قد جعلت بيني وبينك الأيام سدا، فنحن لا نلتقي حتى يلتقي الأزل والأبد، أمد يدي إليك كما يمد الأعمى يده إلى قائده، وأقول لك: أين أنت؟ فيجيب الصدى قائلا: أين أنت؟
ظل الطهر
على ذكر الطفولة وأيام الصغر، أقول: تحزنني رؤية علامات الشر على أوجه الأطفال والغلمان الصغار، فإنها - بالرغم من طهارة الطفولة - تلوح على أوجه الصغار كما تلوح على أوجه الكبار. وأما الطهارة التي تنسب إلى الطفولة فهي عجز الطفل عن مواقعة كثير من الشر؛ لأنه ليس عنده من القوة والدهاء والتفكير ما يعينه على ذلك. وقد تجد الطفل يتعجب من وقوع الشر من غيره ويحزن لذلك، لا سيما إذا كان الشر واقعا به، ولكنه لا يحس ما يفعله من الشر، ولا يعرف أنه شر! وهذه الخصلة موجودة في الرجال أيضا؛ فإنهم يفعلون الشر فلا ترتاع ضمائرهم، ولكن إذا فعل غيرهم الشر اهتاجت لواعجهم، وارتاعت ضمائرهم من أجل ذلك! وهذا دليل على أن الضمائر آلة من آلات العواطف والرغائب تحركها كيف شاءت.
إني أرى على أوجه الأطفال ما تكنه أخلاقهم من أوائل الجشع والبخل واللؤم والقسوة، ولكن ضعفهم وقلة مكرهم تسدل على هذه الملامح حجابا مضيئا رفرافا كالسراب. وتبعثني رؤية هذه الملامح إلى التفكير فيما يستقبل من حياة هؤلاء الأطفال الآمنين المطمئنين الضاحكين. فكأني بأوائل شرهم صارت نهاية، وبنضارتهم شحوبا، وبضعفهم الذي يلين لهم قلوبنا قوة ومكرا. وكأني بذلك السراب الرقراق الذي كان يلوح لنا في وجوههم؛ سراب الطهر والعفة، قد اختفى ولم يبق مكانه غير آثار العواطف قد ارتسمت على أسرة تلك الوجوه، فخدود شاحبة من معاناة الأقدار، وشفاه مقلصة من الضعف أو السخر والكبر، وعيون غائرة يلوح فيها بريق الشهوات، وابتسامة كلها خبث ودهاء، وجبهة قد رسم الدهر بها خطوطا، فكأنما طيات تلك الجبهة المعقدة أطلال سني العمر الماضية.
أزهار الشباب
هل تذكر طيش الحب في أول الشباب، وما كان يغريك به من نزوات وهفوات حين أفقت من غفلة الصغر، فأحسست تلك العاطفة في قلبك؟ إن الحب لا بأس به إلا إذا أغرى المرء بأعمال تزري بعقله. ولكن من ذا الذي لم ينز به الحب في شبابه نزوات التيوس أو العصافير؟! فإن طيش المحب مثل طيش العصافير في حركاتها، وإنه ليخيل له أن الحب قد أنبت في كتفيه أجنحة يطير بها إلى حيث يشاء، فيحسب أنه لو رمى بنفسه من نافذة منزله لم يسقط ولم يصبه أذى، بل يطير به الحب! ويخيل له أنه قادر على أن يقفز من شارع إلى شارع فوق المنازل من غير أن يلمسها! ويسمع المحب أنغاما وألحانا غريبة لا يسمعها غيره وليس لها وجود، ويرى أشكالا هندسية بديعة لا تسمع عنها في كتب الهندسة! ويرى أزهارا خيالية لا يعرفها الباحثون في علم النبات.
ويحسب أنه مركز هذا الوجود، وأن حبه موجود من الأزل خالد إلى الأبد، مثل جمال حبيبه. ويحسب أن هذا الوجود لو أصابه العدم، لبقي حبه مستقلا عن الوجود! وتراه يتصيد أصحابه، فيخبرهم كل خبر تافه عن حبه، حتى يتضجر جليسه، وهو لا يرى شيئا من ضجره. بل يحسب أن جليسه مصغ إليه كل الإصغاء، وأنه يجد لذة في حديث حبه كأنما هو قصيدة من قصائد النسيب والغزل، فيا بؤس من يجالس المحب!
ثم يفيق المرء من حلم الحب الذي يشبه أحلام معاقر الأفيون، فيخجل من جنون أحلامه، ويتذكر الساعات التي قضاها تحت نافذة حبيبه، والحالات التي كانت تعتوره كلما نظر إليه حبيبه نظرة غضب أو رضا، أو إدلال أو إغراء أو زجر، أو أمر أو نهي، أو تشجيع أو تثبيط، ويتذكر رسائله إلى حبيبه، وكلمات العشق التي كان يتلوها على سمعه، ويتذكر ما كان يضل عقله من المواعيد، وكلما خاف أن يفوته ميعاد من حبيبه بحث عن نعله وهو لابسه، وسأل عن عصاه وهي في يده!
شعر الألوان والروائح
الشباب كثير الألوان، جم الروائح، فهو حديقة من حدائق الربيع، وروح من أرواح الفردوس، وهو الحياة ولا حياة بعده. والألوان والروائح من أشد الأشياء إثارة للعواطف، وإني لأجد لذة في النظر إلى الألوان المختلفة؛ من الحمرة أو الزرقة أو البياض أو الصفرة أو البنفسج أو الخضرة، وأجد في كل لون معنى ولحنا من معاني العواطف وألحانها، فالألوان والروائح تبعث الذكر والأماني، ألم تر قط لونا بديعا، أو رائحة ذكية فأذكرتك حبيبا مضى، وعهدا تقضى؟ أم لم توقظ ذكرى الساعات اللذيذة، والأماني والأحلام الحلوة، التي هي جمال الحياة، حتى كأنك تسمع تغريد العصافير في صدرك، وتجد لذة ليس بعدها لذة في النظر إلى الأشياء، حتى كأن الله قد كسا وجوه الحياة بنور من نوره؟!
ولقد تنقلب الألوان في أيام الشقاء والتعاسة، فتصير جمرات مختلفة الألوان؛ فتحس لهيبها في العين والقلب. وكذلك في الروائح لذة وألم، فإني أحيانا أشم الروائح العطرية بعنف، كما يلتهم الجوعان طعامه. ولكني تؤلمني الرائحة الكريهة مهما خفيت، وأتأذى بها كما أتأذى بالخطب الجلل، وأتمنى أحيانا لو تكون الحياة في يدي خرقة أريق عليها ما أشاء من الروائح العطرية. آه، ما أجمل الحياة التي يشم صاحبها منها رائحة الفل أو الياسمين أو البنفسج!
إن لذات الحس قد تبلغ بالمرء جنون اللذة، ولكنها تبلغ به أيضا جنون الألم، ومن كان كذلك لم ترج له سعادة؛ فإن السعادة أن لا يكون إحساسك شديدا.
آه، ليتني أمد يدي إلى السماء فأختطف بها الضوء، وأخط به على القرطاس خدودا مثل خدود الحسان، وعيونا مثل عيون الملاح؛ تلك العيون التي تضيء وجه النهار، وتلك الخدود التي تنير وجه الحياة!
سماء الأمل
إن الأماني والأطماع من أسباب الشقاوة، ولكنها أيضا من مصادر السعادة. وهي بنات الخيال المستفز. ويخيل لي أحيانا أنها تملأ هذا الهواء الذي أنشقه! وقد يخيل لي أني إذا نظرت في المنظار المكبر ، رأيت جراثيمها في الفضاء كالذباب الكثير الألوان الذي يتهافت على الرمم.
ومن أجل ذلك صرت كأني مريض بالأماني، وكانت الأطماع تحوم حولي من صغري، وتطن في أذني طنين الذباب، وتارة تسمعني ألحان البلابل. وتليح لي بضياء يملأ السماء، فكأنها قد فتحت أبوابها وخرج منها ذلك الضوء الذي يعشي البصر، وكأن هذا الضوء سلم ممدود بيني وبينها فأحب أن أتعلق به، وأبلغ به طبقاتها العالية. وإني لأذكر فرحي بقوس قزح وأنا غلام صغير؛ إذ كنت أصفق وأرقص طربا برؤيته، وأتمنى لو كنت مثله أزين السماء بتلك الألوان الرائقة، وكلما كبرت تمكنت من قلبي تلك الأمنية، فأتمنى لو أعيش كالشمس ... أشرق كشروقها، وأغرب كغروبها، وأملأ السماء ضياء، وأنشد قول الأحوص:
إني إذا خفي الرجال وجدتني
كالشمس لا تخفى بكل مكان
هكذا خلقت كثير الأماني والأطماع، ومن أجل ذلك كنت أيضا كثير البأس؛ لأن من سما به الأمل إلى سمائه، لا بد أن ينزل به البأس إلى حضيضه.
ولقد كنت وأنا غلام صغير أصعد إلى سطح المنزل بالليل، وأسهر الساعات الطوال؛ كي أرى ليلة القدر، ثم أحدث نفسي قائلا: ماذا أطلب من الله؟ أطلب الغنى، أم الصحة والعافية، أم السعادة، أم التقوى، أم القوة، أم كبر العقل ورجاحة الفضل؟ فتدركني الحيرة، وأخشى أن تظهر ليلة القدر وتنقضي وأنا في تلك الحيرة، لم أختر بعد الشيء الذي أطلبه، وعند ذلك أطلب من الله أن يؤخر ظهورها قليلا، ثم أرى أن أطلب كل شيء! وصارت هذه الأطماع تعظم كلما كبرت، فصرت أقضي الساعات في أحلام الأماني، فتارة أحلم أني زوس سيد الآلهة ورئيسها، أو هرقل إله القوة، أو مارس إله الحرب. وتارة أحلم أني أفلاطون الفيلسوف أو باكون، وتارة أحلم أني شكسبير أو ملتون أو وردزورث أو جيتي أو ابن الرومي أو المتنبي. وتارة أحلم أني نابليون أو إسكندر الأكبر، أو يوليوس قيصر، أو كريستوف كولومب. وتارة أحلم أني جمس وات أو فارداي أو أركميدس. وتارة أحلم أني جمعت كل هؤلاء في شخص واحد، فكأني لبست كل أزياء العظمة، وكتبت كل شيء جليل في الشعر والأدب والعلوم والفلسفة، واخترعت كل مخترع، وغزوت العالم وفتحت السماء والأرض ... ثم أصحو من هذا الحلم فأسمع توبيخ المدرس الذي يطلب مني أن ألتفت إلى الدرس، فأتعجب من جرأة هذا المدرس على توبيخي بعد أن عملت هذه الأعمال العظيمة!
هكذا كنت، ولكن رياح الحوادث قد أطفأت نور هذه الأطماع، فلا أستضيء الآن إلا بنار اليأس.
أحلام الأدباء
إن كل أديب أو شاعر أو فيلسوف في أول أمره؛ أي في شبابه، يحسب أنه مركز هذا الوجود، وأن كل شيء فيه من أجرام أو علوم، أو آداب أو أنظمة، أو آراء أو عواطف تدور حوله، منجذبة إليه؛ فيظهر الشاعر وفيه من الكبر والغرور ما لو وزع على الناس لملأ نفوسهم. فيرى أن أشعاره هي الشعر وليس غيرها شعرا، وينظم القصيدة فكأنه قد تمخض عن وليد! ويحسب أنه لو وضع شعره في كفة ميزان، ووضع الوجود في كفة أخرى لرجح شعره، ويرى أن الذكاء مقصور على الشعراء، ويحسب أن كل حسناء تنشد قول شوقي:
أنتم الناس أيها الشعراء
فإذا نشرت له قصيدة في الجرائد حسب أن قد قرأها جميع الناس في مشارق الأرض ومغاربها، وأنها قد سارت بها الركبان، وأن ليس للناس حديث غيرها، وأن الملائكة تتغنى بها، وتحدو بها الأفلاك في دورتها، وأن أهل الجنة يتخاطفون الجريدة التي نشرت فيها، وأنهم يتسابقون إلى قراءتها، وأنها تلهيهم عن الرحيق وعن غير ذلك من ملذات الجنة، وأن الحور والولدان ترقص في الجنة على نغمها، وأنهم أرسلوا إليه وفدا يهنئه بها ويشكره عليها.
ما أشد الدافع الذي يدفع المرء إلى ما تتهيأ له نفسه وما يميل إليه قلبه من الأعمال، حتى ولو كان رزقه في غيرها! إنه ليلهي المرء عن معاشه ومورد كسبه ورزقه، وإنه ليلهيه عن كل ما تطيب به الحياة من الجاه والمنزلة العالية. إني لأذكر يوم نشرت لي أول قصيدة، وقد اشتريت الجريدة التي نشرت فيها، وصرت أقرأ القصيدة مرات عديدة، وكان يخيل لي أن الحروف ترقص على الجريدة. وصرت أخبط خبط الضال في الطرق والأزقة، وكلما نظر إلي أحد حسبته قد قرأ القصيدة وأعجب بها. وكان يخيل لي أنها أحدثت أثرا باقيا في نفوس الناس، وأنها أصلحت من عواطفهم وقوتها، وزادت في عظم نفوسهم، وأنها ستحدث تغييرا كبيرا في سنن الوجود وأنظمته. وخيل لي أن الهواء الذي كنت أنشقه في ذلك اليوم غير الهواء الذي أنشقه كل يوم، بل ذاك كان أرق وأحلى!
ولا يعدل مقدار هذا السرور شيء غير الحزن والغيظ الذي نالني حين قرأت نقدا لها في إحدى الجرائد، فخيل لي عند قراءته أن هناك مؤامرة في هذا الوجود، يراد بها ضري والإساءة إلي.
ولكن بعد ذلك ألفت المدح والذم. وإلف المدح والذم يفيد في الحياة، أليس يغيظك أن يمدحك رجل ثم يغضب إذا لم تشكره على مدحه؟ فإن هذا المادح إنما مدحك كي تغتبط بمدحه، وهو يحسب أنه لو ذمك لحزنت لذمه! هذا ولا شك غرور منه وعدوان؛ أي رغبته في أن تعلق فرحك وحزنك بحسن رأيه أو سوء رأيه فيك.
ولا أكتمك أني أحتقر رأي الجماهير؛ فإن ذوق الجماهير في الآداب والفنون فاسد في كل مكان، فهم يحسبون أن من أجاد التهاني والمدح والمراثي والأهاجي، وأوصاف الحوادث اليومية الحقيرة، كان من الصنف الأول من الشعراء. وأنا لا أعد هذا من الصنف العاشر، هذا شاعر الحقائر، شاعر المظاهر الكاذبة والقلوب الكاذبة. وإنما الشاعر شاعر القلب، فهو الذي يصف عواطف النفس وأطوارها؛ فيصف عواطف الحب والجمال والجلال، والخوف والفزع والأمل، واليأس والرحمة والكره والحقد، والبخل والجود، والشجاعة والجبن ... وغيرها من عواطف النفس وأحوالها. وهو الذي يصف أساليب الحياة التي تجول فيها هذه العواطف كل مجال، ومظاهر الوجود التي تتعلق بها العواطف، فهو الشاعر الذي عواطفه مثل عواطف الوجود، مثل الأمواج أو الرياح أو الضياء أو النار أو الكهرباء، فإن هذه عواطف الكون. وهو الذي يحكي قلبه الأركستر الكثير الآلات، الكثير الأنغام. ولكن ينبغي لمن يحس في نفسه عظمة الفكر وجلاله وقوة العواطف ألا يغتر بها؛ فإن الناس يهمهم اسم الأديب أو العالم، ويحفلون به أكثر مما تهمهم مؤلفاته حتى بعد موته. أليس الناس تهمهم أسماء شكسبير وفكتور هيجو وجيتي وأفلاطون وأرسطاطاليس أكثر مما تهمهم مؤلفاتهم؟
أطوار العقيدة
لقد كنت في صغري كثير الاعتقاد بالخرافات، وكنت ألتمس العجائز من النساء، أسمع قصصهن الخرافية، حتى صارت هذه القصص تملأ كل ناحية من نواحي عقلي، وحتى صارت عالما كبيرا، ملؤه السحر والعفاريت، وحتى صارت العفاريت حولي، تحل حيث أكون. وأذكر أني رأيت مرة عفريتا على سطح منزلنا، وكان أسود الجسم، شخصه مثل شخص الإنسان، ولكن جسمه يعلوه الشعر الكثيف، ولا أدري أكان عفريتا، أم كان من مخلوقات الخيال، أم من ظلال الثياب التي كانت معلقة على الحبال لتجف؟ ولما حدثت العجائز بأمر هذا العفريت، جعلن يعلقن على جسمي التمائم، ويرقينني بالرقى.
ثم أتى علي بعد ذلك دور التعبد؛ إذ كنت كثير الصلوات، كثير الأوراد، أكثر من قراءة كتب المتعبدين، فكنت أقرأ فيها عن العبد الصالح، والعبد الفاسق، وعن عقاب الله الفظيع. وكانت هذه الكتب تشرح لي عقاب الله بالغا من الفظاعة حدا لا يطاق، فكنت أقوم من النوم مذعورا حينما كنت أحلم بذلك العقاب. وكنت أقرأ في تلك الكتب عن كرامات الأولياء من إحياء الموتى وإماتة الأحياء، ومن إزالة العمى عن أعين أهل العمى، وإزالة البصر عن أعين أهل البصر. ولم يمنعني هذا التعبد الشديد من مواقعة الشهوات، بل كانت كثرة مواقعة الشهوات بقدر شدة التعبد، فلم يمنعني تخويف تلك الكتب وإرهابها من اللذات، بل كان يفزعني من عواقبها في الآخرة. وقد كنت أحسب من فزعي أن كل كلمة أقولها، وكل عمل أعمله جريمة كبيرة، فكنت أبكي وأنتحب خشية عقاب الله، حتى إذا قضيت حاجة أعصابي المهيجة من البكاء والانتحاب رجعت إلى مواقعة الشهوات، من غير أن يعوقني عنها ذلك الفزع وذلك البكاء؛ لأن الفزع نتيجة قراءة تلك الكتب والبكاء حاجة يستلزمها هياج الأعصاب.
كما أن للشهوات حوائج أخرى قلما يعوق عنها الفزع من عواقبها، وقد بلغ بي الفزع من عقاب الله أني كنت يخيل لي - وأنا نائم - أن فوق الفراش عقارب وثعابين بعثها الله لعقابي، وأحيانا يخيل لي أن الفراش كله من جمرات نار؛ فأنتبه مذعورا صارخا!
ثم تركت بعد ذلك قراءة كتب التعبد، وجعلت أقرأ كتب الشعر والأدب؛ ففطنت إلى جمال الحياة، وقللت مطالعتها من ذلك الفزع الذي كان باعثه الدين. ثم أتى علي دور الشك والبحث، والشك إذا أبحته العنان جرى بك في كل مكان، حتى يريد أن ينزل الله عن عرشه، وأن يعزله عن ملكه! وما يزال الشك بالمرء حتى يدفعه إلى الإنكار والجحود.
نحن الآن في عصر لا نرقى معه إلا إذا خلصنا من رق الأوهام والخرافات التي هي كالأغلال والقيود، ومن أجل ذلك صرت أتعصب للإنكار والجحود بقدر ما يتعصب غيري للإيمان، غير أن هذا الإنكار يخيفني ولا يرضي ذهني، فلا يفسر لي شيئا، لا يفسر لي: من أنا؟ ولماذا خلقت؟ وإلى أين أذهب؟ فنفسي من النفوس التي لا تقنع بالإنكار؛ لأن لها حاجات دينية ليس لها غنى عنها. ومن أجل ذلك كان الإنكار يورثني اليأس والحزن، فكنت أهيم في شوارع المدينة ليلا؛ لأن الليل أشبه بما كنت فيه من اليأس والحزن. وكنت أنظر إلى النجوم وهي تنظر إلي بحزن وإشفاق، وأسألها عن الحياة والموت، عن البقاء والفناء، عن الله والإنسان، عن الدنيا والآخرة، فتنظر إلي بحزن وإشفاق، ويخفق سهيل كأنما يهز رأسه قائلا: لا أعرف عنها شيئا! فتصير الحياة أثقل من الكابوس، أو كأنها حلم فظيع يروع ويقلق ولا يبعث الطمأنينة والسكينة.
فأعيد النظر إلى النجوم وأقول: هل فيك من كوكب كريم يضحي نفسه خدمة للناس، فيصادم كوكبنا الذي نسميه الأرض فيهشمه ويتهشم، ويستريح جميعنا من عبث الحياة وأمراضها ومصائبها، وبؤسها وشقائها، وجرائمها وحماقتها، وذلك الجهل العظيم الذي يضغط علينا كالكابوس؟ اللهم أرسل كوكبا نشيطا من عندك يقوم بهذا الأمر. فتومض النجوم كأنما وميضها وميض أسنانها حين تفتح أفواهها قائلة: آمين ... آمين!
وقد رجعت إلى الإيمان لأستفيد منه شيئا جديدا، فعلمني الإيمان أن للوجود روحا كبيرة لها حياة وشخصية، وأن هذه الروح توحي إلى أرواح الأفراد بما تريد، ولها من المقادير جنود. ولكني على شدة إنكاري لمعتقدات العامة، تمر بي حالات أعتقد فيها كل شيء حتى السحر، وحتى ما يخرق سنن الطبيعة ويعلقها عن العمل كما يقول النحويون.
أما السحر، فإني أفسره بتغليب إرادة على إرادة، وأنه نوع من التنويم المغناطيسي. أما السنن الطبيعية فإني أبغضها؛ لأنها تعوقني عن أطماعي وآمالي، ومن أجل ذلك لا أرى بأسا في خرقها. وأكثر ما أكون إيمانا عند المصيبة أو المرض، فإن أمثال ذلك يذل قلب المرء ويخيفه ويوهن عزمه، وفي بعض الأحايين أخاف خوفا شديدا أن يظهر لي إبليس، وأن يخدعني كما خدع فوست فأتلفت كي أثق أنه لم يظهر بعد. وفي بعض الأحايين أعتقد وجود العفاريت والجن، كما كنت أعتقد في أيام صغري.
لقد سمعت البارحة القطط تعوي وتصرخ مثل عواء المجانين، أو عواء الأرواح الحائرة المعذبة التي تتخذ الليل جلبابا، ثم تفرغ في ذلك العواء ما تقاسيه من العذاب. فلما سمعت عواء القطط كأنها الخرس إذا حاولت الكلام، لم أشك في أنها عفاريت من الجن، وأصابتني رعدة شديدة. ومما زاد الطين بلة - كما يقولون - أن النافذة كانت مفتوحة، وكان يصيبني منها تيار بارد من الهواء، فحسبت رعدة البرد من فعل العفاريت. وقد سمعت مرة عواء الخنازير كأنه عواء جنية أصابها الموت في ولدها.
إن النفوس تتأثر بالأصوات تأثرا غريبا، لا سيما عند هياج العواطف، انظر مثلا إلى صوت قرع الباب في قصة ماكبيث، أو إلى صوت البومة الذي يسمعه الخائف في المكان الخراب الموحش، أو إلى صوت الغراب الذي يسمعه المتشائم، أو إلى صوت الرعد الذي يسمعه القاتل!
لذات الحياة
نرى في الناس الضاحك الجذل الذي يزل الخوف عن صفحات قلبه زلول الماء عن صفحات جلده، ونرى فيهم الحزين الباكي، الذي يبكي على الحياة والناس والدنيا، والذي يرى النعيم والشقاء كبلين من كبول الحياة؛ الذي يرى أن الأرض قبر الأحياء، وأن السماء غطاء ذلك القبر. ولكني وجدت نفسي تارة أقرن مع الأول وتارة ألز مع الثاني، فإني أرغب في لذات الحياة حتى لو اختبأت مني لذة تحت قدم نملة ما. فإنني أرى في الضياء لذة، وفي الظلام لذة، لذة في النعيم ولذة في الشقاء، لذة في الألم وألما في اللذة.
أرى لذة في استنشاق الهواء حتى ولو كان كله جراثيم، أرى في النشاط لذة، وفي الكسل لذة، وفي الاستضاءة بالقمر لذة، ولذة في الاستضاءة بالشمس، ولذة في الاستضاءة بالفتيلة. أرى لذة في الاضطجاع على الأرائك، ولذة في القعود على الأرض، لذة في الطعام الفاخر واللباس الفاخر، ولذة في المش والفجل، والثياب ... الثياب الخلقة. أرى لذة في حرارة الشمس، ولذة في برودة الهواء، لذة في المطر والغيم، ولذة في الصحو.
أرى لذة في الصباح وحسن مرآه، ولذة في الظهيرة المكسال، لذة في المساء ووقاره، ولذة في الليل وسواده ونجومه ونسيمه. أرى لذة في الماء، ولذة في النبيذ وغير ذلك من الأشربة ...
ولكني بالرغم من ذلك كثير التفكير فيما أعانيه ويعانيه الناس، وما قد عانيناه وما سنعانيه من آلام الحياة ومصائبها وأدوائها. وأرى كأن الحياة حمل ثقيل وحلم يروع، ففي بعض الأحايين أحسب أن شقائي في الحياة أعظم من لذتي فيها، ولكني أراجع نفسي فأحسب أن لذاتي في الحياة أعظم من شقائي! ولا عجب في ذلك الشك؛ فإن من كانت لذاته عظيمة كانت شقاوته عظيمة، حتى إنه ليشك فلا يعرف أي الجانبين أرجح! نعم، قد شربت كأس الشقاء حتى لم أدع فيها بقية، ولكني جرعت أيضا كأس اللذات حتى لم يبق فيها سؤر، وحتى امتصصت ما علق بالكأس من حلاوة الحياة. وكنت وأنا أنعم بالحياة كأني قد استعرت من الوجود عظمه وعواطفه، فكنت لا أبالي في حب الحياة كل رادع أو زاجر، أو مانع أو لوم، أو أمر أو نهي. كنت أحس أن نفسي غير مقيدة بقيود العادات والحزم، كنت أحس أن نفسي إله أعظم له أن يفعل ما يشاء. وكنت أتمنى أن أقطف أزهار الحياة كلها، وأن أخرج من الحياة عطرها، فإن للحياة عطرا كما أن للزهر عطرا.
كنت أتمنى أن أمتع نفسي بكل شيء في هذا الوجود، وفي كل وجود تتصوره وتتوق إليه النفس. كنت أتمنى أن أعانق الوجود، وأن أقبله قبلة أمتص بها كل ما في روحه من الجمال والجلال، فأتذكر عند هذا التمني قول الشاعر:
وكنت إذا أرسلت طرفك رائدا
لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر
عليه ولا عن بعضه أنت صابر
عشق أصحاب الفنون
إن ألذ شيء في الحياة هو قدرة المرء على أن يجعل إرادته غالبة لإرادة مخلوق جميل، وبواسطة ذلك التغليب يبحث عن روح ذلك المخلوق الجميل، ويعطيها من آرائه وعواطفه وخيالاته؛ فحينئذ يكون كأنه أعطى لآرائه وعواطفه جسما جميلا هو جسم ذلك المخلوق الجميل، ويكون مثله مثل صانع التماثيل، الذي يودع آراءه وعواطفه في ذلك الرخام الذي يصنع منه حسان الدمى. ولكن الشاعر المحب أجل صنعة؛ لأنه يودع عواطفه وآراءه في روح حية وجسم جميل حي. وينظر الشاعر المحب إلى جسم حبيبه كأنه ينظر إلى تمثال آرائه وخيالاته وعواطفه.
آه، ما ألذ تلك الساعة التي تشعر فيها أن حبيبك يجد لذة وسعادة في حبك إياه! إن حب الشاعر أو غيره من أصحاب الفنون الجميلة غير حب الفرد من أفراد جمهور الناس؛ لأن حب الأول وسيلة، ولكن حب الثاني غاية يسعى إليها. أما حب أصحاب الفنون الجميلة، فإنه وسيلة يريدون أن يوقظوا بها قواهم وملكاتهم الكامنة، ويشعلوا بها التخيل ويهيجوا بها العواطف، ويجعلوا حبيبهم تمثالا لما ينشدونه في فنونهم من الجمال.
لقد مضى علي زمن كنت أعد الجمال فيه عقيدة، ولكني الآن أكاد أعد هذه العقيدة خرافة مثل غيرها من الخرافات التي كنت أحسبها عقائد؛ لأني صرت أشك في الفنون وقيمتها في الحياة.
الإحساس والحياة
ليس الشاعر من يملأ أذهان قومه بالمعاني الجديدة والآراء الجليلة، وإنما الشاعر الذي يملأ قلوبهم بالرغائب الجديدة، والذي يقوي عواطفهم؛ لأن العواطف هي القوة المحركة في الحياة. والأديب العظيم هو من كانت كلماته كهرباء النفوس، هو الذي يحرك النفس كما يحرك العواد عوده، فيوقع عليها من الألحان ما تهتاج له قوى النفس في أعماقها. هو الذي يجعل لكل عاطفة من عواطف النفس روحا وحياة وشخصية؛ لأن النفوس يعلوها صدأ مثل صدأ المادة، ولا يجلو عنها هذا الصدأ إلا ما يحرك أعماقها في النفس، كالماء الراكد الذي تعلوه المواد العطنة. وكما أن هذا الماء الراكد لا يجدده غير تيار جديد، كذلك الروح ينبغي أن تكون معرضة للتيارات الروحية، وليست حياة الأديب إلا تيارا من تلك التيارات التي تحرك النفس.
لقد كنت في أول الأمر أحسب أن الأديب حلية لقومه، وأن الأدب زينة؛ فكنت أقضي الأيام في تصيد الألفاظ، واختلاس الأساليب اللفظية. ولكني ضجرت من هذه المنزلة الحقيرة، وقلت: إن كان الأدب في تصيد الألفاظ، فلا خير في الأدب! ثم فطنت بعد ذلك إلى الحياة وأساليبها، وإلى الروح وعواطفها، وعلمت أن الشاعر هو الذي يعبر عن أساليب الحياة وعواطف النفس، ولا يستقيم له ذلك إلا إذا تقلب في أساليب الحياة، وكانت عواطفه مثل البحر الزاخر، بل كانت كل عاطفة فيه عاصفة تبعث الخوف والجلال. ومن أجل ذلك صرت أجد لذة وألما في هياج العواطف، وكنت أبحث في عواطفي وهي هائجة، كأني أنظر إلى الرياح الهوج العمر، أو الحريق المتلف، وأجد في تلك العواطف ما أجده في قوى الطبيعة. وكنت أبحث في قلبي بعد سكون هذه العواطف، فكأني أنظر إلى مكان خراب دمرته العواصف، أو إلى ميدان الحرب بعد الحرب، كله أشلاء وأطلال. ولكن الضرر الذي يحدثه هياج عواطفي أقل من الضرر الذي يحدثه خمودها وسكونها؛ لأن روحي لا حياة لها إلا إذا اشتعلت، فهي تحيا بأن تحترق وتفني نفسها.
فإذا خمدت عواطفي أحسست كأن هذا الوجود كله يضغط على قلبي، فأحس كأني أكاد أختنق. وفي مثل هذه الحال يخيل لي أن لو وضع هذا الوجود كله في كفة ميزان، ووضع ضجري ومللي من الحياة في كفة، لرجح مللي وضجري؛ ومن أجل ذلك أجتهد دائما أن أهيج عواطفي فرارا من ذلك اليأس الذي يأتي به جمودها. ولقد بلغت بي تلك الحاجة إلى تهييج العواطف أني أحيانا أطل على الأماكن المنخفضة من الصخور أو البيوت العالية، فأحس دوارا غريبا وكأن نفسي أعمق من الأبد، وكأن فكري يهوي في عمقها الذي لا نهاية له، ثم أرمي بنفسي إلى الوراء؛ لأني أحس اندفاعا إلى ذلك المكان المنخفض. وأحيانا أقف على شاطئ البحر، وكأن عيني زجاج آلة التصوير؛ فينطبع هياج الأمواج في نفسي وفي عواطفي. وأحيانا أحس كأني سهم قذف به في الفضاء، فهو إلى الأبد يخترق ذلك الفضاء الذي لا نهاية له.
أذكر أني رأيت مرة حريقا هائلا في جنح من الليل، فهيج في قلبي عواطفه، ولم يهيج سطح العاطفة، بل هيج أعماقها. وجعلت أشعر بالجلال؛ جلال ذلك المنظر الهائل، وبرقت عيناي حتى كدت أرى بريقها. وصارت النار تأكل المنازل؛ فتتهدم وتنهال وتتصاعد ألسنة النار، والدخان يعلوها، والظلام حولنا، وعلى أوجهنا نور يزيدها شحوبا، فكأنما نحن في الأحلام، وكأننا لا نرى حريقا، بل قطعة من الجحيم. وكنت أحس لفح تلك النار في خيالي وذهني. وأذكر أني رأيت هياج الأمواج في المحيط؛ فأحسست ضعف الإنسان وقوته: ضعفه أمام قوى الطبيعة، وقوته التي في خياله وقلبه، والتي تمكنه من أن يجد لذة حتى في مظاهر الطبيعة التي تهيج خوفه، وتبعث في قلبه الإحساس بالجلال.
هذه هي المناظر التي ألتذها، ومن الغريب أني يخيل لي أن هذه المناظر وما تبعثه من الإحساس تعين المرء على تفهم معاني الحياة ومعرفة سرها، ولكن كيف؟! هذا لغز أشد غموضا من لغز الحياة نفسها. أستغفر الله! أنا لا أعتقد أن للحياة لغزا؛ لأن هذا الاعتقاد يكون إحسان ظن بالحياة، وهل من العقل أن نحسن الظن بالحياة إلى هذا الحد؟! ليست الحياة لغزا، بل هي نكتة باردة لا معنى لها. أستغفر الله! لقد حرت في أمري، فلا أعرف هل الحياة لغز عجيب جليل، أم هي نكتة باردة؟!
أكبر ظني أن الخيال هو الذي يجعل الحياة لغزا؛ لأنه يعطيها قيمة أكبر من قيمتها، وهو الذي يجعلها نكتة باردة؛ لأن المغالاة بقيمتها تؤدي إلى اليأس منها.
الغرور
إني إذا قلت كلمة أو فعلت فعلا يبعث سخر الناس؛ أعاني من توبيخ الضمير من أجله أكثر مما أعاني إذا أتيت جريمة، فإن المرء مهما عظم احتقاره الناس يتألم من سخر الناس أكثر مما يتألم لهم إذا أصابهم بسوء، فليس الذي يصيبه بشر أعز عليه من نفسه حتى يتألم له. ولو كان تألم المرء إذا أتى جريمة لمن وقعت عليه الجريمة، لما تألم كثير من الناس من جرائمهم. وإنما تألم المرء إذا أتى جريمة أن إتيانها يفسد أعصابه، مثل إدمان الزنى أو إدمان معاقرة الخمر، فهذا التألم ناشئ من تأثير الجريمة في أعصابه ونفسه.
فإذا سخر الناس من رجل من أجل كلمة قالها، أو فعل فعله؛ عانى هذا الرجل من ضميره تأنيبا على ما قال أو فعل، لا سيما إذا كان كثير الإحساس. فإن المرء ليس عنده شيء أعز عليه من نفسه، فإعجاب المرء بنفسه أعز عليه من فضائله ومن رذائله - وبعض الرذائل عزيز - ومن حسناته ومن سيئاته. فإعجاب كل امرئ بنفسه جزء من حياته، لا تستقيم الحياة إلا به، والناس أشباه سواسية في هذا الإعجاب، سواء الأمير وسائق الحمير، فإن كل الناس مغرور، ولكن على حسب طبائعهم تختلف أنواع غرورهم. والغرور من أسباب سوء الظن، فإن من كان مغرورا خشي أن يهينه أو يؤلمه الناس، وهذا الخوف قد يزداد بالمرء حتى يجعل إحساسه مثل جلد اللديغ الذي إذا احتك به الحرير آلمه.
وما يدريني! ربما كانت معائب الإنسان في الإنسان مثل الملح في الطعام، أليس غرور الناس من التوابل التي تسيغ بها الناس؟ ولا أنكر أن التوابل والأملاح إذا أكثرت منها أتلفت عليك الطعام. وكذلك الغرور، إذا أكثرت منه لم تسغك الناس، ولكن هذا الإكثار لا يقلل من فضل التوابل ولا من مزايا الغرور. والغرور شيء يصح أن تصرف به الضمائر، فتقول: أنا مغرور، وأنت مغرور ... إلى آخر ما ذكر النحويون من الضمائر.
استعرض على خيالك جماعة من الناس ليس عندهم شيء من الغرور، إنك لتكلف نفسك شططا؛ لأن المرء إذا لم يكن فيه نوع من الغرور؛ فإنما سبب ذلك أن فيه نوعا آخر من أنواعه. فالضاحك مغرور، والباكي مغرور، والفقير مثل الغني مغرور بما يجده في العيش من اللذات والآلام، فهو في ذلك مثل الغني حذوك النعل بالنعل، لا يختلفان إلا بمقدار ما تختلف القدم اليمنى والقدم اليسرى، والجواد مغرور بماله مثل البخيل، والغبي مغرور بعقله مثل غرور صاحب الذكاء بذكائه، وصاحب التقوى مغرور بتقواه، مثل غرور صاحب العهر بعهره.
الخوف والعي
إن الرجل الذي يخشى إيلام الناس إياه مثل النبات الذي لا يعيش إلا في بيوت الزجاج. فإن خوف المرء أن يؤلمه مؤلم، يضعف عزيمته، ويمنعه من العمل والسعي إلى ما فيه منفعته، ويعوده البأس من الناس، ويورثه العي، ويغطي على فصاحته، ويلبسه ثوب الغباوة، فيخفي ذكاءه؛ خشية أن يكون في كل قول يقوله، أو عمل يعمله ما يبعث إهانة الناس إياه، أو سخرهم به. ومن أجل ذلك تقف الكلمة في حلقه؛ خشية أن يصيبه من جراها ما يؤلمه، فيتردد في إخراجها، فيكون كالأخرس إذا حاول الكلام، فتسقط الفرص من يديه كما يسقط الماء من ثقوب الغربال.
ومن أجل هذه الصفة التي أعالجها وأعانيها، صار من لا يعرفني إذا سألني سؤالا وترددت في إجابته ولم أحسن الكلام، يحكم علي بالعي والغباء. ولو تفرس في وجهي في تلك الساعة، وكان أكثر الناس معرفة بالفراسة؛ لقال: هذا ملك الأغبياء؛ والسبب في ذلك أن كل عصبي المزاج مهيج العواطف تختلف هيئات وجهه حسب ما في نفسه وذهنه. وقد لاحظت ذلك بالنظر إلى أوجه الناس، فإن الوجه يختلف حسب أطوار النفس وأحوالها، حتى كأن للمرء أوجها كثيرة، ومن أجل ذلك تختلف صور الرجل العصبي الفوتوغرافية، حسبما يجيش في صدره من العواطف.
إني في خلوتي بنفسي أعد الكلام البليغ والحجج الراجحة، والكلمات البليغة ، وأتخيل محادثات تجري بيني وبين الناس، تكون كل كلمة من كلماتي فيها آية من آيات البلاغة. ولكني إذا لقيت هؤلاء وحادثتهم لم أجد في كلامي هذه الآيات البينات، ثم إذا خلوت بنفسي بعد ذلك أقول: كان ينبغي أن أقول لهم كذا وكذا، فينطلق لساني بالكلام الفصيح البليغ. ولكن أي مزية في أن يكون المرء عييا في المجالس، فصيحا في الخلوات؟! وهذا سبب من أسباب انفرادي ووحدتي، ويرى الناس سكوتي ووحدتي فيحسبون حياتي هادئة مطمئنة، وتغرهم مظاهر سكوتي كما يغر مجاور البركان الذي لا يعرف متى يثور مظاهر سكوته وخموده. فإن سكون المرء يخفي عواطف نفسه، إلا ما بدا للناس منها في عينه وأسرة وجهه، ويحسب الناس أني سعيد وما أنا بسعيد.
إن العواطف سبب شقاء الناس وعظمتهم، وسبب سعادتهم وتعاستهم، وسبب مصائبهم ومحامدهم، وهي سبب لذاتهم وآلامهم. إنها تملأ الحياة نارا، ولكنها أيضا تملأ الحياة نورا، فما أقبح الحياة، والحياة وابزدها وأغثها لولا جمال العواطف! وما أجمل العواطف لولا مصائبها وآلامها! آه يا صديقي، أبعد تمرسي بالحياة والنظر فيها، تطلب مني أن أؤمن بها وبما للناس فيها؟! ولو كان ذلك موكولا إلي لآمنت بها، ولكن للنفس أطوارا وأحوالا يستحيل فيها الإيمان بالحياة.
وسائل النجاح
من العيوب التي حالت بيني وبين النجاح في كثير من أمور الحياة أني أحتقر الأشياء الصغيرة، فلا أتطلب معرفتها. وإنما وجه العيب في ذلك أن الحياة مكونة من هذه الأشياء الصغيرة، انظر إلى الساعة من ساعات العمر، تجدها مملوءة من الحوادث الصغيرة والأشياء الحقيرة الدقيقة التي لا يحويها إلا التفصيل. ومن أجل ذلك كان الرجل الذي تمرس بأسباب النجاح لا يهمل شيئا مهما صغر، ولا يحتقر شيئا مهما كان دقيقا. فلا تعرض عليه شيئا من الأمور اليومية وحوادث الساعات إلا فصله وشرح لك كنهه ومصدره وقيمته.
وقد حدثني رجل من أهل النجاح مازحا، قال: قد يكون النجاح في الحياة رهينا بإجادة مشية خاصة، أو بأن نعرف أن في دكان فلان يباع الشيء الفلاني، أو بأن تعرف أن فلان بك الذي أنت صنيعته يعرف فلان باشا، وأن فلان باشا يحب كذا من أنواع المأكولات، وكذا من أنواع النساء، أو بأن تذكر دائما أن فلان بك يكره من يذم أمامه الكذب، وأن الشيخ فلان يبغض من يمدح أمامه الأمانة. هذه أشياء صغيرة، ولكن العمل بها قد يكون سببا من أسباب النجاح، كما أن إهمالها قد يكون سببا من أسباب الفشل!
هذا ولا شك مزح، ولكنه مزح ترقص فيه الحكمة رقص العربيد. وأنا من الناس الذين لا يعرفون الفرق بين الخروف والدجاجة، ولا أيهما أحلى في حلق فلان بك، ولا يهمني أن فلان بك يحب رأيه أكثر من حبه الحق والصواب، وأنه مفتون بمكانته مغرور بجاهه. ثم إني أجهل أثمان الأشياء وأستحي من شرائها؛ ومن أجل ذلك أود لو أمد يدي فآخذ كل ما أريد من الهواء. ومما زادني رغبة في هذه الأمنية الكسل وحب الغريب المعجز؛ ومن أجل حب المعجز أتمنى لو أملك خاتم سليمان الذي يسخر لي الإنس والجن.
آه ما ألذ المعجز، وما أجل المستحيل! وما أحلى أن يستحيل المستحيل على غيري من الناس، وأن لا يستحيل علي!
لو يستحيل المستحيل على الورى
وأنال من أحلامه ما أطلب
لجننت جنة قادر متحكم
يرضى على هذا الأنام ويغضب
وأخذت من هذي الحياة لبانتي
وشربت من أكوابها ما يشرب
إن الوراثة والبيئة والتربية رأس مال السعيد، وإنك ليخيل لك أن في الناس من تسعدهم هذه العوامل حتى إنهم لو تطلبوا الشقاء لما وجدوا إليه سبيلا. هنيئا لهؤلاء! فإنهم أبناء هابيل الذين يحبهم الله. وإن في الناس من تشقيهم هذه العوامل حتى يأنسوا إلى الشقاء، يا بؤس هؤلاء! فإنهم أبناء قابيل الذين يبغضهم الله. هؤلاء الذين رأس مالهم القمل والذل والمسكنة والجهل والآلام والمصائب. وهم الذين أراد الله أن يخلقهم بهائم لا تحس، ولكنه رأى أن يعذبهم في الحياة الدنيا، فخلقهم من البشر، هؤلاء هم أهل الفشل.
إن النجاح في الحياة يستلزم طبائع لا يستقيم إلا بها، وإنه ليخيل لي أحيانا أن ليس عندي هذه الطبائع، مثل: التمليق والرياء والنفاق والضعة والاهتمام بالأشياء الدقيقة الحقيرة والمكر والتطفل وارتقاب الفرص الوضيعة، واتخاذ كل وسيلة مهما كانت دنيئة؛ لاكتساب ثقة الناس، والإلحاح في طلب المنافع منهم، وإظهار الحاجة إليهم والتذلل لهم، والتهافت عليهم وإخفاء مقابحهم مهما عظمت، أو إظهارها في مظاهر المحامد والفضائل، وأن أكسر لهم سلسلة ظهري الفقرية احتراما وتبجيلا، وأن أضحك أو أهش أو أقهقه إذا تبسط أحدهم بالفكاهة الغثة الباردة، وأن أضعهم في منزلة أفلاطون وسقراط إذا اجتهدوا أن يجدوا بالحكمة العالية، وأن أبتسم إذا ابتسموا، وأن أعبس إذا عبسوا، وأن أجعل عرضي لهم خرقة أمسح بها أعراضهم النجسة.
كل هذه الصفات ليس عندي منها إلا القليل النادر - هذا ما أظن - وافتقادها هو سبب من أسباب فشلي في كثير من المساعي. ولا أكتمك أني أحاول التخلق بها، فلا يقربني ذلك التخلق من رغائبي شبرا، كأنما هذه الصفات مثل كلمات السحر التي تؤذي من يفوه بها، إلا إذا كان قد أجاد معرفتها. فأي ساحر كريم يعلمني كلمات السحر التي أفتح بها باب النجاح! فقد طرقت الباب حتى كل ذراعي، وناديت بأعلى الصوت: افتح يا سمسم، فما فتح سمسم ولا صنوبر!
ومن أسباب الفشل في المهن، أن رئيسك أبدا يحاول أن تكون لك أربعة أرجل؛ ضعة وذلا، وأنت تأبى إلا أن يكون لك رجلان ويدان. فإن بعض الرؤساء يجد شهوة في تنفيذ أوامره، ويلتذ تعذيب مرءوسه كما يلتذ أهل نيام الزنوج شي لحوم أسراهم من البشر. إن رئاسة هؤلاء الرؤساء من حجج أهل الفوضى، ومن بواعث التذمر في صدور أهل التذمر.
الحياء والوحشة
إن الحياء من أكبر أسباب الفشل في الحياة، وهذا الحياء يعتادني إذا جالسني أو حادثني من لا أعرفه. وإذا كنت في رفقة كلهم لي صديق، غير واحد؛ صاروا كأنهم كلهم أجانب لا أعرفهم. ومن أجل ذلك صرت أستر هذا الحياء بالكبر والاحتجاز والتصلب واعتزال الناس؛ كي لا يزري بي ويخفض من شأني، فإن الحياء ينزل الرجل منزلة الصبيان الصغار، ويغطي على فضله وأدبه وعلمه. ولو شئت سردت لك من نوادر الحياء ما يوضح ذلك. ولكن ليس فريضة على صاحب الاعتراف أن يذكر كل نقائصه، هل فعل ذلك روسو أو جيتي أو شاتوبريان؟ كلا، إن النفس لا تسخو بذلك ولا تطيب، فإنها لا تقدر أن تنزع عنها غطاءها كل النزع. ومهما عظم نصيب صاحب الاعتراف من الصراحة، فلا بد أن يكون عنده من الجبن والحزم واحترام النفس ما يغريه بإخفاء كثير من نقائصه ومعانيه.
لعلك أيها القارئ قد رأيت أو سمعت بغلام صغير إذا نظرت إليه خجل، وإذا كلمته خجل، وإذا دعوته خجل! إني ما رأيت غلاما كهذا إلا أشفقت عليه مما يستقبل من حياته؛ لأن هذا الخجل الشديد هو رأس المصائب، فلا ينتفع المرء معه بحياته. وإنه لفرض على الآباء والمعلمين محو هذا الخجل، وأن يعودوا الغلام الجرأة؛ فإن الوقاحة أقل شرا من الحياء. ولا يعرف قدر المصائب التي يأتي بها هذا الخجل إلا من عالجه وعاناه، وهو أكبر عيوب التربية المنزلية عندنا.
لقد كنت في صغري كثير الحياء، وكنت أنظر إلى جرأة أترابي من الغلمان، وحسن لهجتهم، وأعجب بها وأتمنى أن أكون مثلهم. ولكني لم أعود ما عودوه من الاعتماد على أنفسهم. أذكر أن أبي زار بي صديقا له من الفرنسيين، وكنت صغير السن، وكان لصاحب البيت ابن في عمري، فجاء الغلام وصافحنا وحيانا بفصاحة وطلاقة ورشاقة أعجب بها الحاضرون، وصاروا ينظرون إلي ويضحكون من خجلي. ثم جاء الغلام ومد ذراعه إلي كي نذهب فنلعب، ولكني انزويت وراء أبي، فلم أخرج إليه إلا بعد القيل والقال. وهذه قصة توضح الفرق العظيم بين تربيتنا وتربيتهم. وكنت أخجل في صغري من الزائرين والزائرات، وأستحي من النظر إليهم أو إليهن، وبقيت متصفا بهذا الحياء حتى بعد أن عاشرت الكثير من الناس. وليس سببه الهيبة والاحترام أو الخوف، فإني لم أجد عند الناس من كبر العقل ورجاحة النفس ما يسوغ أن أخجل منهم. وليس إعجاب المرء بنفسه ولا إحساسه أنه يفضل الناس ذكاء وعلما بمانعه من الخجل منهم، إذا صارت هذه الصفة طبيعة فيه.
ومن أجل هذا الحياء صرت لا أأنس بالناس، وأحس قلقا شديدا عند رؤيتهم، فيه شيء من المقت والاحتقار، فلا أحضر مجالس الناس، ولا أتخذ صاحبا جديدا إلا في القليل النادر. ومن أجل ذلك صرت أعوذ بنفسي أن أجالس أهل الجاه والثراء، والذين لا يبالون عواطف جلسائهم. وصرت أحب الوحدة فأتجول منفردا في الأماكن الخالية، وصرت لا أحب الأماكن التي يزدحم فيها الناس، بل أبغضها كل البغض. ولا تحسب أني أجد لذة في الوحدة، بل إني أحس فيها وحشة وغربة، فأحس كأن قلبي صحراء مقفرة، ليس بها أنيس ولا رفيق. ولا تحسب أني أستميحك الشفقة بوصف هذه الوحشة والغربة، فإن رحمة الناس تقلل من احترام المرء نفسه ومن احترامهم إياه.
الحياة والرحمة
ولكن أي الناس في غنى عن الرحمة، إنها مصدر قوة لمن أحسها، ولمن وقعت عليه؛ فإنها تزيد المرء ثقة بنوع الإنسان، وتعده لاستئناف مكافحة الحوادث ومناجزتها. وليس القوي العظيم، ولا الملك صاحب الجند والحرس، ولا المصارع الجليد، ولا السري المنعم، ولا الوارث المترف، ولا صاحب الدهاء والقدرة، بأقل حاجة إليها من الأرمل المريضة، أو الطفل الرضيع، أو الشيخ الضعيف. وهي أساس كثير من أنواع الحب. وقد يصدر عنها من الأعمال ما يدل على أنها مظهر من مظاهر القوة.
والناس في حاجة إلى الرحمة حتى ولو كانت رحمة عاقر، لا يصدر عنها عمل جليل، فإن إحساسها يولد التفاهم الذي يوقظ قوى النفس وينعشها، يقول نيتشه: إن الرحمة تضر نوع الإنسان ... إلا أنه لأحوج الناس إلى الرحمة. وأي الناس يقدر أن يمحو من قلبه عاطفة الرحمة إذا زار مستشفى ورأى الأمراض والأدواء، وكأن المرضى تماثيلها؟! أليست هذه الدنيا أيضا مستشفى كبير ونحن فيه تماثيل الأمراض والمعائب والنقائض والحماقات والخرافات والجرائم؟ وإن من كانوا كذلك لخليقون بالرحمة.
ضعف العزيمة
إن ضعف العزيمة له مظاهر كثيرة، من مظاهرها عند المفكر أنه يفكر في ألغاز الحياة التي يود أن يوفق إلى حلها، وهي ليست لها حل. وإني أحيانا أسلي نفسي بالتفكير فيها، وأتتبع ما يصدر عن الناس من أقوال وأعمال، وأجتهد أن أجد فيها حلا لهذه الألغاز، وأحيانا أتعب نفسي وأجلب لها الهم بهذا التتبع والاجتهاد في حل ما ليس له حل. والسبب في ذلك ضعف عزيمة المفكر، فلولا ضعف عزيمته لما خطر بباله أن يجتهد في حل ما ليس له حل من ألغاز الحياة، ولوجد في الحياة والعمل من اللذات ما يلهيه عن هذا التفكير ويغنيه عنه. وضعف العزيمة صفة فينا تلحقنا من طريق الوراثة، كما تلحقنا من التربية المدرسية والمنزلية، فينبغي أن تعود التربية المرء الاعتماد على نفسه؛ ذلك الاعتماد الذي يبعث في المرء نشاطا وثقة بنفسه.
والتفكير إذا تملك المرء، وكان الصفة الغالبة عليه، يفقده الإقدام والنشاط وغير ذلك من مميزات الرجل الذي طبعه يميل إلى العمل، وكل شيء عملي من أمور الحياة. وليس معنى هذا القول أن التفكير ينفي قوة العزم، ولكن الصفتين لا تجتمعان إلا في القليل النادر من الفحول. وفي بعض الأحايين أقول: لو كان لي عقل أفلاطون لبعته بذهن من الأذهان التي يعيش بها الجماهير من الناس وعزيمة كبيرة؛ فإن التفكير يغري بالتفكير، وهذا التفكير يغري بغيره، فتضيع الفرص قبل انتهاء المفكر من تفكيره وابتدائه في عمله.
ومثل هذا التفكير المطرد المتسع مثل الدائرة التي يصنعها الصخر إذا قذف به في الماء، فإنها ما تزال تكبر وتتسع حتى تفنى. ولكني لا أجهل لذات التفكير، وإن كنت لا أحمد آلامه؛ فإنه المعين على الحياة، يكبح من جماح الخيال والعواطف، وما تغري به العواطف من الأعمال. نعم، إن صاحب الخيال والعواطف يحس لذات الحياة أكثر مما يحسها غيره، ولكنه يحس متاعبها أكثر مما يحسها غيره من البشر؛ ومن أجل ذلك كان في كل يوم من أيام حياته، من الحزن والسرور، ومن النعيم والشقاء، ما ليس في السنة من سني غيره. وماذا تفيده عظم لذاته إذا كانت شقاوته عظيمة، بقدر عظم لذاته؟ وماذا تفيده تلك العواطف التي تتضارب في صدره؟
ولقد يخيل لي أحيانا أن تلك العواطف شياطين تجذب أعصابي، وتجري مع الدم في العروق، وتريق فيه السم. وماذا يفيدني أن في تلك العواطف شيئا من اتساع الأبد؟ فهي لا حد لها ولا نهاية. هذا هو الشقاء الذي ليس بعده شقاء، فإن المرء مقيد بقيود الضرورة، ومحدود بحدود القدر. حولي أسنة المقادير وسيوفها تشير إلي، فإذا سعيت إلى يساري وخزت جانبي الأيسر، وإذا سعيت إلى يميني وخزت جانبي الأيمن، وإذا سعيت إلى أمامي أو إلى ورائي أحسست وخزها، وإذا هممت أن أطير وجدت سيوف المقادير معلقة فوق رأسي. وقد تمر بي ساعات تهبط فيها السماء وتضيق فيها الأرض، حتى أحسب الحياة أضيق من تنور عبد الملك بن الزيات. وفي تلك الحال أحس كما يحس المجنون المقيد الذي يريد أن يفك عنه سلاسله، وأن يهيم على وجهه لا يقر في مكان.
ولكن إلى أين يفر أسير الحياة؟ إلى أين يفر من عواطفه وآماله وأفكاره وذكره، ومن الزمن الذي يعيش فيه؟ فالإنسان لا يقدر أن يفر من كل ذلك إلا إلى الموت. فلو كان للإنسان أن يهيم في فيافي الأزمان، كما يهيم في فيافي الأرض فيفر إلى الزمن الماضي، أو إلى الزمن الآتي! آه لو أمكن ذلك! كأني بك أيها القارئ تعجب من هذا التمني، وتراه ضربا من الجنون! هبه كذلك، فما ألذ الجنون! ألم تجن قط؟ ألم يخطر ببالك أن هذه الأرض إنما هي مارستان كبير، وأن هذه الأعمال التي تعملها والمساعي التي تسعى إليها إنما هي جزء من الدواء، جزء من طريقة العلاج، وأن هذه النجوم والأفلاك التي في السماء إنما هي لعب معلقة فوق رءوس المجانين، وأنها أيضا جزء من العلاج، وأن هذه العلوم والفضائل التي نفاخر فيها هي الأكاذيب والقصص والخرافات التي يقصها الممرض أو الطبيب على المجانين، وأنها أيضا جزء من العلاج؟
إني لا أريد منك أن يكون هذا رأيك في الحياة، وإنما أريد أن أبسط لك أسباب الشقاء، فأليح لك أحيانا بالجحيم الذي يخلقه الخيال، والذي تؤججه العواطف. فإذا كان هذا الجحيم الذي يخيفك ويفزعك، فاطو هذا الاعتراف واقرأ قصة من القصص التي أعمق عاطفة يشرحها الكاتب فيها، لا يبلغ عمقها سنتيمترا واحدا، فأنت من الناس الذين يريدون أن يكون الشعر والأدب بمنزلة التثاؤب والتمطي.
سلطان القضاء
لا يعرف سلطان القضاء ولا يفهم سطوته، ولا يحس قيوده، إلا من خذله القضاء وعالج شدته. أما السعيد، فإنه يحسب أن القضاء خادم بيته وصنيعة أبيه وعبد من عبيده. فإن السعادة هي الغفلة، وأكثر الناس يعيشون غافلين، وبقدر غفلتهم يكون نصيبهم من السعادة. ولكن الرجل الذي تعود التفكير، يبحث في نفسه فيرى أنه يعجز عن أشياء كثيرة يريد كل الإرادة أن يأتيها، ولكن تقصر إرادته وقوته عنها، ويسكن إلى أشياء يود كل الودادة أن ينأى عنها، فلا يقدر على تركها. ألم تر رجلا يريد إتيان الفضل والخير فيعجز، واجتناب الرذيلة والشر فيعجز، فيحس قيود القدر تحز في نفسه، ويعرف عند ذاك حقارة الإنسان وضآلته، فينسل عنه غروره الذي هو رداء كل نفس، ويرى نفسه عريانة من ثوب النفاق والغرور الذي كان يزينها، فيرى فيها العجز والضعف؟!
وإذا نظرت في حجج المفكرين الذين يقولون: إن المرء مخير، وجدتها مغالطات. فإن حججهم المشهورة أن الله خلق للإنسان عقلا يهتدي به، وخلق له روحا، وأودع فيه عوامل الخير والشر، فإذا اختار الشر كان جانيا على نفسه باختيار الشر. انظر إلى هذه المغالطة السخيفة، وكيف أن قائلها لا يثبت شيئا؛ لأنه فرض الشيء الذي يريد إثباته. ولو أنه قال: فإذا اختار الشر كان الله قد أودع في نفسه من ذلك الشر أكثر مما أودع فيه من نقيضه لصح قوله، فإن المرء لم يخلق عوامل الخير والشر التي في نفسه، حتى تزعم أنه جعل الشر في نفسه غالبا للخير، أو أنه خلق ميولها إلى الشر. ولو كان الإنسان هو الذي خلق نفسه لصح أن يقال: إنه خلق فسادها الناشئ من تغليب قوى الشر فيها على قوى الخير. ولكن الأغبياء ينسبون إلى المرء خلق الفساد، كأن خلق الشر أسهل من خلق الخير، والصواب أن المرء يعجز عن الخلق، سواء كان ذلك خلقا للشر أو للخير.
وإذا تأمل المفكر وجد أن المرء لا يكون مختارا إلا إذا كان مستقلا في أموره عن الله والكون، وإلا إذا كان هو الذي خلق نفسه. أليس كل شيء في الوجود يتبع سننا وأحكاما لا يقدر أن يخرقها؟ والإنسان تحكمه عوامل الوراثة والتربية والبيئة، فهو لا يقدر أن يتعدى حكمها.
إن الإنسان محكوم حتى بطعامه وشرابه وملبسه، وحرارة الهواء أو برودته، وبالضياء والهواء والمطر، وبغير ذلك من أعضاء الوجود، وقواه في آرائه وعواطفه وأخلاقه وعاداته. ومن أجل ذلك قد يرى المرء ما فيه ضره، فلا يقدر أن يتجنبه، ويرى ما فيه خيره، فلا يقدر أن يأتيه على أنه ليس بينه وبين ما فيه خيره حاجز يمنعه عنه، غير تلك العوامل النفسية التي لم يخلقها ولم يردها، بل هو يبغضها ويريد أن يصدع عنه قيودها، ولو كان مخيرا لما اختارها. وفي مثل هذا المعنى يقول بشار بن برد:
طبعت على ما في غير مخير
هواي ولو خيرت كنت المهذبا
أريد فلا أعطى وأعطى ولم أرد
وقصر علمي أن أنال المغيبا
فأصرف عن قصدي وعلمي مقصر
وأمسي وما أعقبت إلا التعجبا
حدثني رجل من الجهلاء المعممين قال: أنت مخير؛ لأنك إذا أردت أن ترفع يدك لم يمنعك مانع. قلت: لقد كنت تكون مخيرا لو أصابك الله بشلل في يدك، فأنكرت أن يصيبك شيء لم ترده، ورفعت يدك بالرغم من شللها الذي أنكرته؛ لأنك لم تخلقه ولم ترده. فإذا كنت لم تخلق الشلل في يدك، ولا الخبل في عقلك، ولا الجنة في نفسك، فكيف تنسب إليها فسادها وميلها إلى الشر، وهذه أشياء سواسية؟!
خواطر الانتحار
يرى المرء ما فيه خيره فلا يقدر أن يدركه، ويرى ما فيه ضره فلا يقدر أن يتجنبه. ويريد أن يكسر قيود القضاء، وأن يكون مخيرا فلا يقدر، ويوجعه عض تلك القيود التي هي كالذئاب المفترسة ، ويؤلمه نهشها حتى يصرخ صرخات تجرح الحلق وتخرج بالدم. وكأني به قد جرى مع الصبا سلس العنان، فأحيا الليل وأمات النهار، وفعل ما يفعل المرء في شبابه من تصيد اللذات، يفعل ذلك في أول الأمر خلسة حتى يصير عادة محبوبة، ويبلغ من حب الخمر واللذات الجنون، فيصدق فيه قول حسان بن ثابت:
إن شرخ الشباب والشعر الأس
ود ما لم يعاص كان جنونا
فما يزال يزاول هذا الجنون حتى يتقصاه ناحية ناحية ومعنى معنى وعاطفة عاطفة. يرجع إلى بيته في أواخر الليل وقد قضى منه ما قضى، فيرتمي على فراشه حتى يقوم في الظهيرة منتفخ العينين، موجع الأعصاب، يمسي كأنه قد أنفق في تلك الليلة خمسين سنة من سني عمره، وهو يحسب أن الشباب كنز لا يفنى، فيعذل نفسه ويسمعها تقريعا مرا ويلطم وجهه ويضرب ناحية قلبه بيده، ويبكي بكاء شديدا.
ثم يعزم كل العزم على هجر ما فيه ضره، فما هو إلا أن يجيء الليل وينسى آلام الصباح، ويرتدي ثيابه ثم يحس كأن شيطانا قد أفاق في نفسه وتمطى فيها، فيعيد في الليلة ما فعله في ليلة أمس.
ثم يقوم بين الصبيحة والظهيرة مر الحلق، مر الفم موجع القلب والعظم، فيقول: أين عزم الصباح؟ أين ما أردته؟ وأين ما يزعمون من التخيير؟ أين معين على ما لا أقدر عليه من نفسي؟ كم عزمت وكم أردت وكم خادعت نفسي وزعمت أني قادر، وكم حاولت أن أكون قادرا! ولكن القدرة ليست في يدي، أصرفها كيف أشاء. أصحيح ما يزعم اللائم من تقصيري في إرادة ما فيه خيري، واجتناب ما فيه ضري؟ كلا، فقد أردت كل الإرادة وعزمت كل العزم، حتى صرت أود لو يظهر لي ذلك الشيء الذي يمنعني من اجتناب ذلك الضر، أو بلوغ ذلك الخير فأقتله حتى ولو كان في قتله العقاب. وعندئذ يحس المرء ضعفه أمام القضاء، حتى يخيل له كأن القضاء يبرز له وجهه في الفضاء، ويسخر منه ويهزأ به ضاحكا؛ فيكاد المرء من غيظه يلقمه الحجر . ثم يعاود نفسه فيقول: ينبغي لي أن أتشجع وأن لا أيأس، وأن أعزم عزما أعظم من العزم الأول. فيعزم ويريد، ولكن شيطانا يفيق في نفسه ويتثاءب ويتمطى فيها، ثم يرقص فيه رقص المجنون أو رقص الزنوج، فيرى المرء نفسه غريقا في تيار المقادير، الذي يقذف به إلى الشقاء. ثم يخطر له خاطر الانتحار، فيقول: الانتحار سلاح أحارب به القضاء، وأمنعه به من أن ينال مأربه عندي! ولكن قدرة المرء على التخلص من الحياة تسليه عن كثير من همومها، وتساعده على تحملها، فإنه يقول لنفسه: تشجعي يا نفس، فإذا اشتدت بك الهموم أطلقتك من إسارك! فإذا اشتدت به الهموم ناجى نفسه قائلا: قد اشتدت بك الهموم، ولكن بعد العسر يسرا، والحياة حلوة والموت مر مجهول، فلا بأس من تحمل الهموم، ما دامت للحياة حلاوة، ولكن إذا اشتدت بك الهموم بعد اليوم، أطلقتك من إسارك!
هكذا يخادع المرء نفسه، ويعللها طول حياته؛ كي لا تتأذى بمرارتها. فإن المرء لا يقدر على الانتحار متى شاء، فإنه قد يريد الانتحار ولكنه يعجز عنه، بالرغم من شدة همومه وآلامه.
ثم إنك تجد أناسا ينتحرون لأسباب تافهة، مثل وجع الضرس أو فشل في أمر يحاوله، أو موت قريب، أو ضياع شيء عزيز ... ولكنك إذا تأملت علمت أن هذه الأسباب ليست أساس انتحارهم، وإنما هي حوادث يقع فيها الانتحار. أما سبب انتحارهم فهو تغلب رغبتهم في الموت على رغبتهم في الحياة. وكره الحياة الذي يدعو إلى الانتحار ليس مما يتهيأ لكل إنسان، ولا يكون نصيب المرء منه على قدر مصائبه، بل هو دافع لا يملك المرء له دافعا حتى ولو كانت تظلله غصون النعيم وثماره وأزهاره. وليس من سبب لبغض المنتحرين وانتقاصهم إلا حب الأحياء أنفسهم، وخوفهم من الموت.
لقد حاولت مرات أن أنتحر فرارا من سلطان القضاء، فأخذت سكينا وأدنيتها من صدري، ثم قدرت مكان القلب وقلت: هنا ينبغي أن أضرب نفسي الضربة القاضية، فلم تهن علي نفسي، فقلت: الليلة الآتية أفعل ذلك، ولما أتت تلك الليلة أرجأت الانتحار إلى ليلة أخرى، حتى أفكر في طرق الانتحار، وأختار منها واحدة. وكلما حزت بنفسي قيود الأقدار وحاولت أمرا فيه خيري تمنعني عنه الأقدار وتدفعني عنه إلى ما فيه ضري، عاودني خاطر الانتحار، ثم أتناساه بالملاهي والغفلة والتغابي والتبلد. ويل للإنسان يخضع لسلطان القضاء حتى في رغبته في التخلص من الحياة!
إن الحياة حلوة بالرغم من مرارتها. نعم إن حلاوتها لا تنسي المرء مرارتها، ولكن مرارتها أيضا لا تنسيه حلاوتها، على أن المرارة تغطي على الحلاوة وتفسدها وتمر طعمها، ولكن الحلاوة لا تصلح طعم المرارة، وإن كانت تكسر من غضاضتها.
العجب واليأس
لا تطلب من الناس الكمال فتيأس منهم، وتضيع ثقتك بهم، وتمل من أجل ذلك الحياة، فإن طلبك الكمال من الناس ضرب من الغرور وحب النفس والعجب، فإنما تطلب منهم ذلك الكمال لتنتفع به.
لقد كنت في صغري كثير الثقة بالناس، كثير المودة لهم؛ ولربما كان ذلك سبب قلة ثقتي بهم الآن. كنت آتي إليهم وأظهر لهم الثقة بهم فيظهرون الحذر مني. كنت أدور على بيوتهم أستجدي قليلا من الإخاء فلا أجده لديهم. كنت «دون كيشوت» صغيرا يطلب من الناس الكمال، ولكني لم يكن عندي صبر «دون كيشوت» وأمله وعزمه. ولا غرابة في جزعي حين رأيت أن الناس ليسوا عند ما ظننت فيهم من الكمال، فإن من أعمته ثقته بالناس عن عيوبهم، لا بد أن تعميه التجارب عن حسناتهم. ومن أجل ذلك صرت إذا رأيت من إخواني مللا حسبته غاية الغدر، وإذا رأيت منهم خدعة حسبتها غاية النفاق واللؤم، وإذا رأيت منهم جفوة حسبتها غاية البغض. ومما زاد امتعاضي منهم أني لم أفطن إلى ما في نفسي من الغرور والأنانية، ولم أعرف أن في غروري وأنانيتي عذرا للناس على ما في نفوسهم من أمثال هذه الصفات.
إن إعجاب المرء بنفسه لا بأس به إذا أغراه بالمحامد وزجره عن المقابح، ولكنه إذا عظم واشتد كان سبب شقائه؛ لأنه يريد أن يحمل الناس على أن يكون في كل كلمة يقولونها أو عمل يعملونه ما يرضي إعجابه بنفسه، وهذا لا يستقيم له؛ فيحزن وييأس، ولا ينتفع به طول حياته ولا ينتفع هو بحياته.
الكذب
ينبغي لك أن توطن نفسك على أن كل الناس كاذب، من الأمير إلى سائق الحمير، فاتخذ لنفسك عدة تنفي بها ما قد يجلبه لك كذبهم من الشر. ولا تنس أن المرء مهما كان واسع الجاه معظما، أو كثير التقوى والصلاح، لا يأنف من استخدام الكذب في مآربه؛ لأن الكذب سهل المخرج، يخرج من الفم كالبصاق، ولولا ما يخشاه المرء من عاقبة الفضيحة إذا ظهر كذبه؛ لكانت حياته كلها كذبة كبيرة مستطيلة. والحياة عند كثير من الناس مثل هذه الكذبة. وبعض الناس يشوب كذبه بشيء من الصدق؛ ليكون أسير في الأفواه، وهذا أخبث الكذب وأشده إيلاما وأوسعه ضررا، ثم يحسب أنه صنع الخير والإحسان والبر بأن لم يكذب الكذب كله، ويعلم أن شوب الكذب بشيء من الصدق أبلغ في الكذب.
والكذب هو الطعام الذي يتغذى به الإنسان، والشراب الذي يروي به ظمأه، والهواء الذي ينشقه، والسماء التي تظله، والأرض التي تحمله، فليس له غنى عنه في كل لحظة من حياته. فالإنسان حيوان كاذب ثرثار، والناس يزينون كلامهم بشيء من الكذب، إما بثلث أو بربع أو بثمن. والحق الذي بالباطل أسير من الحق المحض. والصدق المشوب بالكذب كالدنانير التي يشاب معدنها النفيس بمعدن خسيس؛ كي لا يبريها لمس الأيدي. وكلما كانت الأمة أقرب عهدا بالجهل والظلم، وأوفر منهما نصيبا، كانت أوفر نصيبا من الكذب، فالجاهل كثير الكذب؛ لأنه لا يعرف أن مقادير الكلام تعين قيمته من صدق أو كذب، والمغلوب على أمره يكثر من الكذب؛ كي يتجنب بوادر المستبد.
يكذب الناس أحيانا وهم يعرفون أنهم كاذبون، وأحيانا يكذبون وهم لا يعرفون أنهم كاذبون. والمغالاة باب إلى الكذب، أعرف رجلا يتعمد الكذب، ثم يخادع نفسه حتى يعتقد أن كذبه صدق لا شك فيه، وأكثر الناس مثل هذا الرجل، ولكنهم لا يشعرون.
إني قليل الكذب؛ لأن الكذب يوقفني مواقف تخجلني وتؤلمني، فإن ذا الشعور الشديد يكره أن يأتي الكذب خشية الفضيحة؛ فيصير ضحكة إذا عرف كذبه، فتهتاج لواعجه من سخر الناس وضحكهم. ولقد كذبت مرة كذبة بغضت إلي الكذب، حتى صرت لا أستخدمه الآن إلا بقدر اللازم منه، ولا أرى هذا اللازم كثيرا.
أما قصة هذه الكذبة فهي أني كنت مرة أجالس جماعة من الناس، فجعلنا نتكلم في تقتير بعض الأغنياء، فقال صديق: إني رأيت فلان باشا مرارا قاعدا في عربة الدرجة الثالثة من الترام. ثم مضت أيام وجلسنا مجلسا آخر نتذاكر بخل الأغنياء، فقلت: إني رأيت فلان باشا مرارا قاعدا في عربة الدرجة الثالثة من الترام! ومن الغريب أني وجهت كلامي إلى الصديق الذي قال هذه الكلمة في مجلسنا السابق؛ فتبسم، وخجلت خجلا شديدا. وأكره الغش أيضا وأبغض إتيانه؛ لأن انكشافه مؤلم. أذكر أني مرة حاولت الغش في امتحان مدرستي فوضعت المذكرة في ثيابي، ثم أردت أن أخرجها وقت الامتحان، ولكن خجلت حينما وضعت يدي في ثوبي لإخراجها، واحمر وجهي حتى صار كالجمرة، وخفت أن يرى المراقب خجلي فيعرف سببه؛ فتركت المذكرة في ثيابي ولم أستخدمها.
الخوف والوهم
إن للخيال تأثيرا كبيرا في الحياة، سواء النوم واليقظة، فالإنسان محكوم بخياله في آرائه وخواطر باله ومساعيه وآماله، وما يزعم من الحقائق وفي معاملته الناس. ومن أجل ذلك كنت أتهم رأيي فيعود اتهامه بالوبال؛ إذ يدعو إلى التردد والإحجام عن المضي فيما يحاول الإنسان عمله. والخيال يشرك المرء في عواطف الناس وحالاتهم؛ مما يدعو إلى التعاطف والتفاهم، ولكنه يخلق من الصغيرة كبيرة ومن الكبيرة صغيرة. والخيال جنة الأحلام وجحيمها، ألسنا نمضي الحياة بين أحلام النوم وأحلام اليقظة، بين أزاهير الأحلام وأشواكها، وبين ملائكة الأحلام وشياطينها؟ فتارة أحس كأني نقلت إلى وجود غير هذا الوجود، إلى حيث الهواء شذا والماء عطر، والناس من الحسن والفضل في الكمال، فيخيل لي كأني:
أكاد أرى الفردوس خضرا غصونه
فليت مقاما في الجنان مقامي
وأبصر فيها الضوء لا ضوء مثله
له بهجة في زهرها المتسامي
وأسمع منها الطير تشدو فأنثني
وقلبي من ذكري الفرادس دامي
فيا حلم الفردوس حبك ذكرة
لأيام عيش في الجنان وسام
ففي بعض الأحايين أرى في اليقظة أحلاما لا أقدر على وصفها من فرط جمالها، ولكني في بعض الأحايين أرى أحلاما سوداء من أحلام اليأس والأسى، فأخشى كل مصائب الحياة التي يمكن أن يصورها الخيال في صحائفه ذات الألوان الكثيرة المختلفة، وأتوقعها وأحسها وأتألم منها مثلما أتألم منها لو أنها وقعت بي. فأخشى الكهرباء في السحاب، وفي عرباتها، وما ركبت عربة منها إلا خشيت انكسارها. وأخشى أخطار السكك الحديدية في الأسفار، وأخشى الحريق كل ليلة أو نهار، وأخشى وقوع المنازل أو سقوط شيء من نوافذها إذا كنت بين المارة. وأخشى الكلب الكلب، وأخشى الحشرات مثل الثعابين والعقارب، وأخشى الفئران والصراصير. وأخشى البرق أن يصيب عيني بأذى، وأخشى اللصوص على عدمي، وأخشى الحاجة والفقر المترب، وأخشى العمى، وأخشى الجنون، وأخشى الأوجاع والأمراض. وأخشى الموت ولا سيما الموت المؤلم، وأخشى الحياة وما قد تأتي به من الأحزان والمصائب، وأخشى البرص، وأخشى الطاعون. وأتوقع كل المصائب والأضرار وأتألم منها كأنها قد حلت بي جميعها. وهذا التألم من جنون الخوف الذي سببه الخيال. ومن أجل ذلك كان من رحمة الله أن الخيال في الجمهور من الناس كالنسر الحبيس لا يبلغ الشمس ولا يفترس الطير.
سوء الظن
إني أسيء الظن بكل شيء، سواء الحميد والذميم. فلا غرو إذا رأيت في الضياء ظلاما ورأيت في سواده ما يخلقه سوء الظن من الأوهام التي هي كخيالات الشياطين في ظلام الليل. ومن بلغ به سوء الظن هذا المبلغ يسمع همس شياطينه في أذنه، فإذا تلفت إلى يمينه وجد سوء الظن يهمس في أذنه اليمنى، وإذا تلفت إلى يساره وجد سوء الظن يهمس في أذنه اليسرى. ومن العجيب أن هذه الشياطين التي يخلقها سوء الظن لا تخفي قبحها لتخدعنا، بل تظهر قبحها في حركات وجهها وجسمها. هذه الشياطين هي الخواطر التي يهيجها سوء الظن، تمرح في ظلامه كما يمرح الوطواط في الظلام، وتؤدي بالمرء إلى الجنون. نعم، فإني قد عانيت من أجلها الجنون، وجرعت كأسه المرة وبلغت أعماقه. ولا أعني جنون من لا يحس جنونه، بل أعني جنون من يحس جنونه، ويفكر فيه ويعرف أسبابه ونتائجه، ذلك الجنون الذي لا ينسي المرء الذكر والأماني.
على أني لا أقول إن سوء الظن كاذب أبدا، إذا كان في الكون حق، فالحق ما يسيء ظنك بالناس؛ فإنهم خليقون بأن تسيء بهم الظن. ولكن ينبغي أن تسيء ظنك بنفسك، كما تسيء الظن بالناس، أليست نفسك من نفوس الناس؟ ومن أجل ذلك كنت أحيانا أسيء ظني ببعض الناس، ثم أسيء ظني بنفسي، وأتهمها في ظنها، ثم أسيء ظني بالشيء الذي جعلني أتهمها بسوء الظن ... وهكذا، لا حد ولا نهاية لسوء الظن.
إني أسيء الظن بالناس؛ لأن في كل عمل يعملونه من الأعمال - حتى الحميد منها - شيئا من اللؤم والدناءة. وقد بلغ بي سوء ظني أني ما رأيت اثنين يتساران إلا ظننت أنهما يذكراني بسوء، فأنا من الذين يصدق فيهم قول بشار بن برد:
يروعه السرار بكل شيء
مخافة أن يكون به السرار
وكذلك ما رأيت أحدا ينظر إلي إلا حسبت أنه يحدث نفسه عني بسوء. وإني لأسيء ظني الآن بمن سيقرأ هذا الكتاب، وأزعم أنه سيحدث نفسه قائلا: لو لم يكن مظنة السوء لما خيل له أن الناس تسيء به الظن. ولكن هذا القول ليس من المنطق في شيء، وإن كان معقولا جائزا، ولكن يصح أيضا أن يكون باعث المرء إلى سوء الظن لؤم الناس قاطبة، وليس لؤم نفسه إلا جزءا صغيرا من لؤم الناس. وما رأيت أحدا ينظر في ثيابي إلا حسبته رأى فيها شيئا خفي عني. وما رأيت أحدا ينظر في وجهي إلا حسبته رأى فيه شيئا قذرا. وما رأيت أحدا عابسا إلا حسبته يعبس من أجلي بغضا أو حقدا. وما رأيت أحدا باسما إلا حسبته يسخر مني ويهزأ بي. وما سمعت ضحكا لم أعرف سببه إلا خجلت خجلا شديدا، وحسبتني غرضا لذلك الضحك أرمى به. ومن أجل ذلك صرت أعبس في وجه كل من يبسم في وجهي من الناس، إلا من عرفت سبب ابتسامه. وأحيانا أعرف سبب ابتسامه فلا يمنعني ذلك من إساءة الظن به، فأحسب أنه يظهر غير ما يخفي من سبب ضحكه، وأنه إنما يفعل ذلك مكرا وسخرا. وإني أعتمد كثيرا على حسن رأي الناس في بالرغم من سوء ظني. وأنا أعرف أن سوء ظن الناس بي مثل سوء ظني بهم، ولكن معرفتي ذلك لا تمنعني من الاعتماد على حسن رأيهم، فلا أبرر أعمالي لديهم اعتمادا على حسن ظنهم ورغبتهم في تبرير أعمال الناس.
وإذا أتيت زلة لم أعتذر؛ اعتمادا على كرم الناس وميلهم إلى غفران الزلات، وأنا أعرف أنهم ليس عندهم شيء من كرم النفس. والناس تعد هذا الاعتماد على حسن ظنهم وكرم نفسهم وقاحة وكبرا، كأن صاحب الزلة لا يعبأ بهم، وهذا يزيد نفورهم منه، ولست ألومهم في ذلك، فإني مثلهم، فويل لمن يعتمد على حسن ظني به!
على أني في بعض الأحايين أكره من الصديق أن لا يعتمد على حسن ظني به، ولا ريب في أن هذه مناقضة لتلك، ولكن النفس كلها تناقض.
الفزع من التهم
الفزع من التهم ضرب من سوء الظن والجبن، لقد رأيت في الحلم البارحة أني اتهمت كذبا بإتيان جريمة، ولم يكن عندي ما أدفع به التهمة من الأدلة والشواهد، وصرت أصيح أمام القاضي وأقول: أنا بريء، والقاضي يهز رأسه ولا يصدقني، والشاهد الكاذب يبتسم ابتساما خبيثا، ثم رأيت بعد ذلك، أني أساق للسجن والإعدام. إنه لحلم يفزع ذكره فلا أقدر أن أصفه، غير أني قد استفدت منه أني أحسست ما يكون عليه المتهم البريء المحكوم عليه بالإعدام من اليأس، فيرى أن العدل حلم يغر ويخدع، وأنه خيال جميل تلتمسه اليد فلا تناله. وأحيانا أحس في اليقظة أيضا ما يحسه المتهم البريء، فأحسب أن العدل حلم يغر، وأن الفضيلة خيال جميل.
أي الناس لم يتهم وهو بريء في زمن من أزمان الحياة! إني لأذكر أني اتهمت زورا وبهتانا في أيام صغري بسرقة علبة من علب الحلوى، ولا أزال أذكر ما نالني من الفزع أن تكون الحياة كلها تهم باطلة. ثم سهرت ليلي أبكي وأنتحب من كذب الناس وتهمهم. ألم تتهم أيها القارئ «باطلا» في أيام صغرك بسرقة قطعة من السكر، أو بكسر إناء زخرف، أو بأمثال ذلك من التهم؟ إذن فكيف تتقي أن تتهم غدا باطلا بإتيان أفظع الجرائم وأعظمها؟!
على أنه من جنون اليأس والفزع والجبن توقع ما لم يحدث بعد من المصائب، وقتل النفس بهذا التوقع. فكن كأنك قد ألفت من الناس الكذب والاتهام بالباطل، فلا تعبأ به إذا استطعت إلى ذلك سبيلا، واجعل لك من صبرك جنة تتقي بها الناس، وخذ بقول ابن الرومي:
طامن حشاك فإن دهرك موقع
بك ما تخاف من الأمور وتحذر
فإن قلة الصبر وكثرة الضجر تنأى بالمرء عن كثير من عظائم الأمور وجليلاتها؛ لأن المطلب الجليل والحياة العظيمة تستلزم الصبر، وليس الصبر أن يجهل المرء ما هو فيه أو ما يتوقعه من الضر وأن لا يحسه، بل الصبر أن يعرفه ويحسه، ثم يجد من عظم نفسه ورجولته ما يغريه بالطمأنينة والسكينة، فما أحقر من لا صبر له وما أذله!
قال صديق: عرفت حلاقا بطيئا، فكنت أذهب إليه إذا طال شعري كي أتعلم على يديه الصبر، ولكني وجدت أنه يزيدني من قلة الصبر.
إنه لمن سخر القضاء أن يعرف المرء الداء، ولكن لا يجد إلى الدواء سبيلا.
الحذر
الحذر أساس الحزم، والحزم من لوازم الحياة الهادئة المطمئنة، ولكنه إذا عظم أتلف طعم الحياة.
إن الحذر مقرون بسوء الظن، وبقدر إساءة ظني يكون حذري، إني ما ركبت عربة ولا دخلت دكانا لأشتري منه شيئا، ولا جلست في حانة، إلا وضعت يدي على صرة الدراهم؛ مخافة أن تكون قد سرقت مني فلا أجدها عند الحاجة.
إن شدة الحذر قد بغضت إلي القدر اللازم منه؛ لأن من كان شديد الحذر كثر خوفه وجبنه، فكأنما قلبه جناح طائر من كثرة الخفقان . ومن أجل ذلك أطفر الطفرة أحيانا؛ هربا من الحذر، فأقع في ضده في التعرض للخطر. كما أني أمل الحياء الشديد وأبغضه، فأجتهد أن أتخلص منه؛ فأقع في ضده في الوقاحة. ومن أجل ذلك صار بعض من يراني في تلك الحالات النادرة، يحسب أني كثير التعرض للخطر قليل الحياء، وهذا خلاف الصواب.
وهذا الحذر الشديد الذي أعانيه جعلني أحس اندفاعا إلى الأخطار، كما أن من يطل على الحضيض الأوهد من المكان العالي يحس اندفاعا إلى الحضيض. وأحيانا أنظر إلى الأخطار كما ينظر الجرذ الكثير الخوف إلى عين القط؛ فيبلده الخوف فلا يتحرك، ثم يجمد دمه ويسكن خفقان قلبه فيموت.
على أن للخوف مزية، فإنه يثير القوى الكامنة في نفس المرء، حتى كأنه يخلق له روحا جديدة. أذكر أني خرجت مرة من المدرسة وأنا تلميذ صغير مع رفقة من التلاميذ، فمررنا برجل من أهل الصعيد ضخم طويل، مفتول الذراع، عليه مظاهر القوة، فرأيناه قاعدا لحاجة، فأخذ أحدنا حجرا ورماه به؛ فأصابه في أسفل ظهره، فقام الرجل يعوي، وأخذ عصاه الغليظة وصار يعدو وراءنا ونحن نعدو أمامه هربا. وكان أصحابي كلهم خفاف الأجسام، معروفين بالحركة والعدو، ولم يكن خوفهم إلى علي؛ لأني كنت معروفا ببطء الحركة. ولكني صرت أعدو لا أتلفت إلى أحد، حتى قطعت نصف المدينة عدوا. ثم نظرت إلى ما ورائي فعلمت أني سبقت إخواني كلهم، ورأيتهم ورائي في تعب وهم يعدون والصعيدي وراءهم يعدو رافعا عصاه، فوالله ما استرحت من العدو حتى بلغت منزلي! ومن ذلك اليوم صرت معروفا عند التلاميذ بسرعة العدو، حتى إن الواحد منهم كان يخشى أن يجاريني فأسبقه.
الخوف والرحمة
إني لأستحيي أن أجود بشيء أمام الناس، ولا أعرف لذلك الخجل من الفضيلة سببا، هل هو خشية أن ينسب الناس الجود إلى الرياء، أو الضعف أو الجبن أو الكبر؟ وما يدريني! ربما كانت الخصلة نوعا من البخل.
أذكر أني مررت مرة برجل مقعد ضعيف أبرص يستجدي، فكاد قلبي يتقطع من الإشفاق والرحمة، وأردت أن أبر الرجل بشيء، ولكن الحياء الكاذب وضعف العزيمة حالا بيني وبين ما أردت. فلما رأى الرجل ميلي إلى أن أجود له بشيء جعل يلح علي في السؤال، وأنا بين دافع الرحمة ودافع الخوف أن يلحقني مثل سوء حاله يوما، فقلت للرجل: أف لك يا تعس! ماذا رأيت في الحياة حتى رضيت بها وغبنت نفسك؟ وماذا ترجي من الحياة وأنت مقعد أبرص ينتهرك الناس كما ينتهرون الكلاب؟ ماذا تخشى من الموت؟ هلا أبقت من هذه الحياة، أليس الانتحار خيرا لك وأبر بك؟ أليس خوفك من الموت وتعلقك بالحياة مما يجعلك أهلا للشقاء والانتهار؟ فلما سمع الرجل مني تلك الكلمة القاسية نظر إلي نظرة حادة لم أفهم معناها، ثم تركني وأبقى في قلبي حسرة، ولم يفه بكلمة. وبودي لو فسر لي معنى تلك النظرة! فقد كان يكون تفسيره بحثا في النفس ودرسا من دروس الحياة.
وأذكر أني مررت مرة بعجوز يرتعش جسمها من الضعف، فأردت أن أجود لها بشيء، ولكن لا أعرف ما الذي منعني من البر، فتركتها وأنا أقول: ما أهون قيمة الحياة وأبخسها! وما ألأم الإنسان! وكم في الوجود مثل هذه المرأة من البؤساء والبائسين ومن هم أتعس منها، إذا صح أن تكون أعظم من تعاستها تعاسة! ثم كاد قلبي يتمزق وجعلت أضرب رأسي بيدي، فلما اشتد بي ذلك جعلت أبحث عن العجوز حتى وجدتها وأعطيتها ... نصف قرش! ولا تعجب أيها القارئ من صغر العطاء، فإن الناس يمحون توبيخ ضمائرهم بأقل من ذلك؛ بمليم، أو بكلمة طيبة أو ابتسامة، أليس بر أكثر الناس تخديرا لضمائرهم وتسكينا لوخزها؟! فليس جودهم إلا خوف عاقبة ما بدر منهم من الشر، وليست رحمتهم إلا خوفا أن يصيبهم ما يصيب المسكين الذي يرونه من السوء. ومن أجل ذلك كنت لا أجد فيما أحسن من الرحمة فخرا، فإن الرحمة ناشئة من خوف المرء وقع الشر، والجود من المنعشات التي تزيل عنه حمى الندم والحزن واتهام النفس، وتعده لاستئناف الحياة وشرورها، من دناءة وقسوة وغدر ونفاق.
هيهات لا يرحم المسكين ذو ترف
منعم البال لا يؤذيه حدثان
لولا المصائب والآلام قاطبة
ما كان في الناس إشفاق وإحسان
داء الضمير
إن توزيع الضمائر بين الناس فيه غبن وظلم مثل توزيع المال، فلو كان نصيب المرء من وخز الضمير على قدر نصيبه من الآثام لهان الأمر قليلا، ولكن نصيب المرء من وخز الضمير يكون على قدر رقة شعوره وأعصابه، لا على قدر ذنوبه. وقد يشتد وخز الضمير حتى يصير داء، وحتى يؤنب المرء على ما لم يجنه. وقد يليح له بمحامده كأنها رذائل، ثم يؤنبه عليها، وقد يؤنبه على ما جناه غيره من الناس. وأنا من الناس الذين أصيبوا بداء الضمير، فأحيانا أحس وخزه في الرأس والقلب، فتخور قواي وتخدر أعصابي، وأحس يأسا لا حد له، وأرى الدنيا مظلمة، فأود لو أتخلص من ذلك العدو الذي ينهش قلبي، ولكن أذكر قول العباس بن الأحنف:
كيف خلاصي من عدوي إذا
كان عدوي بين أضلاعي
وكما أن الضمير قد يشتد وخزه حتى يصير داء، كذلك الرحمة قد تشتد حتى تصير داء. ومن العجيب أن المرء في هذه الحال لا يقدر أن يعين من تقع عليهم رحمته، بل يحس انقباضا - إذا رآهم - فيه شيء من المقت! ولقد كنت أعجب من هذا الشعور، ولكني أظن أن باعثه هو أن تألم المرء من رؤية آثار الشقاء أكثر من تألمه لمن أصابهم الشقاء، فيحسب هذا التألم من آثار الشقاء فضيلة، وما هو بفضيلة، ويراه ضربا من الجود والبر، وما هو بر، بل هو مثل تألم المرء من شم الرائحة الكريهة، أو رؤية الشيء القبيح.
كنت وفئة من أصدقائي في مكان، نأكل ونشرب ونضحك، وعندنا غناء وجمال. وبينا أقهقه من السكر، تلفت فرأيت فتاة تستجدي، قد نال منها السل وأنهكتها الحمى، ولها منظر تنقبض منه النفس، فلم أقدر أن أتم الضحك، بل وقف الهواء في حلقي كأنه الغصة واشتد خفقان قلبي، ثم صرخت قائلا: أمن القدر المحتوم أن لا ننال ما نحن فيه من اللذة إلا ممزوجا بالتألم لما نراه من بؤس هذه الفتاة وشقائها؟! ثم جرعت كأسا من الخمر؛ كي أغرق فيها آلامي، وصرت أتأوه بصوت عال: وكيف تغرق الخمر الآلام وهي خميرة الآلام؟! ثم قمت أسير كالمجنون، وأصابتني من الآلام والتعاسة أضعاف ما أصبت من لذة الخمر. وربما كان هذا التألم الشديد من رؤية آثار الشقاء غاية الجبن أو جنون الجبن.
المجرمون والأبرياء
يحسب كثير ممن لم يتعود التفكير أن الناس منقسمون بفطرتهم إلى قسمين: فهم إما مجرمون وإما أبرياء، وهذا نظر فاسد، فإن في نفس القديس جرثومة الإجرام، كما أن في نفس الشرير بذور الطهارة والجلال. فإن في روح المرء شرا لا حد له، وخيرا لا حد له.
وكما أن الروح معبد يحله الله وينيره بنوره، فهي أيضا مغارة إبليس التي ينيرها بناره. أي الناس لم تخطر بباله خواطر الإجرام، ولم يفزع مما يتحرك في نفسه من حشرات الشر؟! ونحن نعرف استحالة براءة النفس، اللهم إلا من كان متغافلا عن نفسه، فلا يفهم هواجسها ولا يقدر أن يحكم على أعماله، وأن يعرف كنهها. لقد مرت بي ساعات كنت أحس فيها تلك اللذة التي تدفع المرء إلى الشر، فإن الجريمة مثل السراب اللامع، والحياة كالصحراء القاتلة الحرارة، والمرء فيها كالمصحر الظمآن يليح له سراب الشر بضيائه، فيريد أن يروي ظمأه، وينقع غلته، ولكن لا يزيده السراب إلا عطشا. وكنت أرتعد كلما قادني التفكير إلى معرفة محتملات الحياة وأطوارها، والروح وتقلباتها وأحوالها، فإن الروح البشرية تخيف المفكر وتفزعه.
أنا اليوم بريء، ولكن ما يدريني؟! ربما كنت في غد مجرما، وربما تحركت عوامل الشر التي في نفسي. إن قلبي يكاد يتقطع كلما فكرت في أمر هذه النفس؛ فتسيل الدموع حزنا وفزعا، فيصيب يدي من بلل الدموع، وأضعها أمام عيني كي أرى ما بها من ذلك البلل، فتعروني الحيرة والدهشة، وأقول: ما أخس الإنسان! وما ألأم الحياة!
وكنت أشفق على المجرمين وأملأ لهم قلبي رحمة، حتى لو أصابني أحدهم بسوء لما أشفقت على نفسي أكثر من إشفاقي عليهم في تلك الساعة؛ فإنه لا يحزنني في الحياة شيء مثل رؤية آثار التعاسة التي يجلبها الإجرام للمجرمين، ويعود بها الشر على الأشرار. لقد رأيت في الحلم مرة أني أتيت جريمة القتل، ثم وقفت أمام جثة المقتول، وقد أحسست دوارا وصار العرق يتصبب على جسمي، وكنت أحس جريه كأنه دبيب الحشرات، وقد جمد الدم في عروقي واسودت الدنيا في عيني، وكلما أردت أن أتنفس أحسست شيئا يسد مجرى النفس، وكنت أحس صوتا كأنه صوت أعصابي تتقطع، فيحكي صوت تقطع أوتار العود، أو كأنه صوت سقوط نقط الماء من عل. وكنت يخيل لي كأن يدا من جليد قد وضعت على ظهري.
هذه هي الأحلام التي تمكن الأديب أن يعدم شخصه في أشخاص غيره، وأن يلج إلى أرواح الناس وعواطفهم، وأن يرحم المجرم كما يرحم التعيس؛ لأن تخيل عاقبة الإجرام في الحلم يجلب من الآلام والتعاسة ما قرأت وصفه، فكيف يكون مبلغ تعاسة المجرم وشقائه؟!
أمواج النفس
إني لأجد من نفسي في بعض الأحايين ارتياحا إلى السكوت التام، فيزعجني الكلام مهما قل، سواء مني أو من جليس. ومن أجل نوبات السكوت التي تعتادني أكره مجالسة الناس؛ لأنهم يريدون مني أن أتكلم متى شاءوا، فإذا خالفت مشيئتهم عد ذلك ذنبا لديهم. ولكن في النفس مدا وجزرا؛ ومن أجل ذلك أجد ذهني في بعض الأحايين يجود بالمعاني، كما تجود الأشجار بأزهارها وثمارها. وأحيانا يكون كالشجرة العاقر التي ليس لها ثمر ولا زهر، أو كالبئر التي نضب ماؤها، أو كالصحراء المجدبة، فطورا يرقى بي إلى منزلة الآلهة، وطورا ينزل بي إلى منزلة البهم.
ولا غرابة في ذلك، فإن المرء لا بد أن يعدل في عمره ساعات الإلهام النادرة الثمينة، بأيام طويلة من أيام البلادة والغباء، فإن محامد المرء ومواهبه محسوبة عليه في حياته. ومن أجل هذا المد والجزر الذي أراه في النفس؛ يخيل لي أن روح الإنسان آلة تمر عليها من الطبيعة روح تحركها فتجود تلك الآلة بأنغام المعاني، ثم تركد هذه الروح فتبقى الآلة خرساء لا تجود بالنغم، كذلك الأغصان تهب عليها الرياح فتئن فيها أنينها، وتطلق فيها من أنغام الحفيف ما يستهوي السمع، فإذا ركدت الريح بقيت الغصون خرساء ليس بها من نغم.
الأبد في دقيقة
آه لو أمكن أن أعيش الأبد في دقيقة واحدة، فأحس كل إحساس، وأفكر كل تفكير، وتخطر على ذهني كل الخواطر، وأجتبي كل المعاني، وألتذ كل اللذات، وأتألم كل الآلام، وأحب كل الحب، وأحسو كئوس العواطف، فلا أترك بها سؤرا، وأتخيل كل تخيل، وأجني ثمار الحياة في دقيقة واحدة تكون أجل من الأبد، وأعظم من الخلد. لا أحسب أن نفسي ترضى بلذة غير هذه اللذة، التي تجمع بين لذات الأبد وآلامه في دقيقة واحدة.
إن نفسي لتحس قيود الضرورة وتتألم منها كما يتألم الأسد المكبل، وتريد أن تصدع عنها أغلالها وأن تعيش حرة، ولكنها بالرغم من ذلك، تعرف أن ذلك أمر لا يكون؛ فإنه لا يصدع عن النفس قيود الطبيعة إلا الموت.
ما أروع أن تكون حياة المرء عاصفة تجتلى فيها لذات التفكير والتخيل! عاصفة تهيج ساعة ملؤها اللذة والجنون، ساعة ينال المرء فيها كل ما خطر بباله، أو حن إليه قلبه أو جن به لبه، ساعة تكبر فيها النفس حتى تملأ الفضاء، ساعة تفني فيها النفس لذات هذا الوجود، ثم لا تشبع فتخلس لذات كل وجود، إن كان هناك وجود غير هذا الوجود. ثم لا تشبع فتخلس لذات كل وجود يمكن وجوده فيما يستقبل من الزمن، ثم لا يشبعها ما تناله فتخلس لذات الفردوس، وكل فردوس يتصوره الخيال. ساعة تعظم فيها النفس حتى تملأ الأبد. ساعة لا يبالي فيها المرء الأقدار والأخطار، ولا الموت والفناء. ساعة تصعد فيها النفس حتى تسامر الأفلاك. ساعة يعظم فيها المرء حتى يكاد يلمس النجوم قاعدا.
جنون الأماني
آه من لي بساعة أقف فيها بين الحياة والموت، بين البقاء والفناء، تكتنفني الأقدار والخطوب وأنا قوي العضد، قوي القلب، قوي النفس، قوي الإيمان بنفسي، لا أبالي الأقدار والأخطار! من لي بساعة ألهو فيها بالفناء والموت ، وأسخر فيها من الحوادث والمصائب، وأهزأ فيها بالسماء والأرض وما بينهما! من لي بساعة أحمل فيها روحي في يدي كالرمح أرمي بها كل مرمى، وأطعن بها كل مطعن! من لي بساعة أصافح فيها الحياة بيد والحمام بيد، وأنا قوي مثل الحياة، قوي مثل الممات، مستقل عن الحياة والممات، أهزأ بالحياة وأهزأ بالممات ... آه، هذه أماني مجنون.
الضاحك الباكي
إن الحياة عندي ضحكة وبكاء، فأنا كثير الضحك كثير البكاء. فتارة أضحك وأنا أبكي، وتارة أبكي وأنا أضحك، وتارة أضحك وأنا حزين، يكاد ينفطر قلبي من الجوى، وتارة أبكي وأنا جذلان مسرور. تارة أحس قلبي يتقطع من الحزن، فأذكر قصة مضحكة أو فكاهة لطيفة، فأضحك حتى أقهقه، فإذا فرغت من القهقهة رجعت إلى ما كنت فيه من الحزن والبكاء. وتارة أكاد أطير وأرقص من الجذل والفرح، فأذكر حادثا مؤلما أو قصة محزنة أو منظرا من مناظر الشقاء فأبكي بكاء مرا.
إني لأبكي عند رؤية غروب الشمس، وعند شروقها، وعند رؤية الجمال المفرط. وأبكي عند قراءة قصيدة مؤثرة، وعند رؤية الرسم الجميل والألحان الرقيقة. وأبكي عند الغضب، وأبكي عند الرضا، وأبكي عند الفرح، وأبكي عند الحزن. وأبكي عند سماع قصة مؤثرة، أو رؤية منظر من مناظر الشقاء، أو منظر من مناظر الجلال والروعة.
غير أني أجتهد أن أخفي دموعي بالضحك أو السخر أو الهزل والفكاهة. إن بي شيئا كثيرا من الحزن الطبيعي، لحقني من طريق الوراثة، وزادته القراءة والتفكير. وإنه ليخيل لي أن كل أمة لها روح ذات إحساس مثل أرواح الأفراد، وإن روح الأمة تلج إلى أرواح الأفراد وتبث فيها أطوارها وأحوالها، فإذا صح هذا التخيل لم يكن غريبا أن في نفسي شيئا كثيرا من القلق، وغيره من الصفات التي تكتسبها أرواح الأمم في حالة التغير والانتقال من أخلاق إلى أخلاق، ومن صفات إلى صفات.
عبث الفكر
إن بعض التفكير داء عياء، ففي بعض الأحايين أفكر في كل شيء وفي غير شيء، فأفكر في الطعام الذي آكله، وفيما تقع عيني عليه من الأشياء، وفي الأرض التي أمشي عليها، وفي السماء التي تظللني، وفي الهواء الذي أنشقه، وفي الناس الذين أراهم، وفي غير ذلك من أمور الحياة.
وكلما فكرت في شيء قادني التفكير فيه إلى التفكير في شيء غيره، حتى إذا أردت بالليل عند النوم أن أوقف تيار هذا التفكير الذي ليس له جدوى ما قدرت، فيخيل لي كأن عقلي آلة فسد تركيبها، وأسمع ضجيج روافعها وعجلاتها، ثم أريد أن أضع يدي على الرافعة التي توقف حركتها فلا أجدها، فأتركها حتى تقف من نفسها بعد عذاب شديد. ومن أجل ذلك أحس أحيانا كأن عقلي طائر يهم بالطيران فأرتاع ارتياعا شديدا. وأحيانا أحس كأنه طاحون تدور، ولكن ليس بها طحين.
إن في عقلي شرها إلى التفكير، مثل شره الإنسان إلى الطعام؛ فأتمنى أن أجتني كل معنى، وأن أتخيل كل خيال، وأن أفكر كل فكر، وأن أعرف كل شيء، وأن أقرأ كل كتاب في العلوم والآداب. ولا تحسب أن هذا الشره يعين على الاطلاع، إنه يعوق؛ لأن الحيرة تتملكني، فلا أعرف بأي الكتب أبدأ. ومن أجل هذا الشره أسرع في قراءة ما أقرؤه حتى يألم ذهني. وفي بعض الأحايين أعد كل تفكير عبثا وباطلا، وأتمنى أن تكون الحياة مثل خواطر الشعراء، وما يتخيلونه من الصور البديعة.
طعم الذل
لا يعرف المرء طعم الذل، ولا يذوق مرارته حتى يهينه من هو أقوى منه، فلا يقدر أن يمحو إهانته. وفي مثل تلك الحال، يصير المرء عند نفسه في منزلة الإله المعزول الذي بال عليه الثعلب. فإن في كل نفس شيئا تجله وتعبده، وتتخذه إلها، ونفس المرء بخير ما دامت واثقة من ذلك المعبود الذي فيها. وهو شرفها وعزتها، وعندما تفقد النفس عزتها تكون مثل الفكر الحزين الذي يحزنه أنه صار لا يؤمن بمعبوده الذي كان يعبده، وأن ثقته به قد فنيت؛ فيفقد ثقته بنفسه من أجل ذلك. وكذلك النفس، إذا فقدت عزتها أحزنها أنها فقدت ثقتها وإيمانها بمعبودها.
وإني لا أزال أذكر ذلك اليوم النحس الذي لطمني فيه شقي، لم يكن يدري مبلغ إساءته إلي، فرفعت يدي لألطمه كما لطمني، ولكن الجبن وأخاه الحزم همسا في أذني قائلين: إنك إذا لطمته لطمك مرة ثانية، وهو أقوى منك فلا تصيبه إلا ببعض ما يصيبك، فخير لك إن تتحمل اللطمة الأولى أن تنجو سليما. فوقعت يدي إلى جانبي، وأحسست أن روحي قد سلبت أجل شيء فيها، فنظرت إلى ما بين قدمي لأرى ما سقط منها من العزة والأنفة والشجاعة. ثم أحسست كأن عظامي قد احترقت، ولم يبق إلا رمادها، وخارت قواي. وعرتني حيرة وشككت في الحياة، فجعلت أعدو من الغيظ وقد اسودت الدنيا في عيني، وجعلت أنظر إلى المارين وهم ينظرون إلي فأرميهم بلحاظ المقت والكره؛ لأني كنت أحسبهم يسخرون بي ويعرفون ما حدث لي، ويفهمون سر روحي التي قد أهينت، ولم تعد تصلح للحياة. ثم وقفت على غدير وهممت أن أرمي بنفسي فيه، لكني هزئت بنفسي وسخرت منها، تلك النفس التي تفر من اللطام إلى الحمام.
ثم ذهبت إلى البيت وأنا أرتعد، وقد جحظت عيناي وملأ الغل قلبي فارتميت على الفراش وجعلت أتلوى وأتقلب. وخطر لي أن أتأبط سكينا أو مسدسا، وأن أنتقم من ذلك الشقي الذي أهانني فأقتله. ولكن الحزم والجبن - وهما سميراي ونصيحاي - ألاحا لي بالقضاء والمحاكم، فجعلت أقرض أسناني من الغيظ، حتى تكسر بعضها، وكنت في حالة من حالات الجنون. وما زلت كذلك، حتى أنهكني الغيظ والغل فنمت إلى الصباح، ثم قمت متثاقلا قيام المخمور من خماره، ولم يزل بي أثر من نشوة الغيظ والحقد.
وهذا الجبن من تأثير التربية والوسط الذي نعيش فيه، فقد ثبت في نفوسنا أن الحزم والجبن خير من الإقدام والخطر! ألم يكن أصلح لنفسي أن آخذ بتلابيب ذلك الرجل وأن ألاطمه؟ وماذا علي لو أوجعني ضربه أكثر مما أوجعه ضربي؟ أكان يؤلمني أكثر من ألم الذل؟ أليست الآلام مع العزة خير من الدعة والحزم والصبر والتوقي والجبن والذل؟ إن التربية تجني على أكثرنا وتعودنا الجبن والذل والاستكانة، وكان ينبغي أن تعودنا أن لا نبالي الأخطار، وأن نهزأ بها، وأن نضع عزة النفس فوق كل ذلك.
لقد جرى بيني وبين رجل من الناس خلاف بعد حدوث هذه القصة، فأردت أن أطبق هذه الفكرة الجديدة؛ فكرة الاعتزاز بعزة النفس. فلما احتد الجدال بيننا وخفت أن يبدأ اللطام بدأته به كما تفعل الأمم المتحاربة؛ فإن المبادرة نصف الظفر. فبادرته بلطمة بين عينيه، وكنت أريد أن يخر مغشيا عليه منها، ولكني خفت أن أفقأ عينه أو أن أصيب أحد أعضاء وجهه بتلف دائم، أو أن تكون ضربتي هي الضربة القاضية عليه التي تودي بحياته؛ فتعود بالطامة وبالعقاب الشديد. كل هذه الخواطر جالت بذهني عندما مددت يدي لألطمه؛ ومن أجل ذلك لم يكن وقع اللطمة عليه شديدا. فمد إلي يده باللطام، ولكن يخيل لي أنه لم يخش ما خشيت من العقاب، وإنما استنتجت ذلك من وقع لطماته، فانصرفت بأنف مهشم وعين سوداء حمراء زرقاء كأنها قوس قزح!
على أني بالرغم من شدة المقت والكره الذي أعالجه إذا أساء إلي مسيء، لا أقدر أن أحمل الحقد مدة طويلة؛ لأنه يورثني التعب الشديد، ومن أجل ذلك صرت قليل الانتقام لنفسي من إساءة نالني بها مسيء. وربما كان سبب ذلك ضعف الإرادة؛ فإني لا أنسى إساءة مهما مر عليها من الزمن، ولكني أذكرها إذا أذكرنيها شيء، فإذا تناسيتها لا أمقت من نالني بها حتى يذكرنيها شيء آخر. وفي أثناء ذلك قد يكون ذلك المسيء عزيزا لدي، فإذا ذكرتها تألمت منها مهما قدم عهدها، ووددت لو أعاقب عليها من نالني بها حتى أخشى عليه بوادر غضبي وفتكي. ولكني أسخر من نفسي وأنشدها قول جرير:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا
أبشر بطول سلامة يا مربع!
ثم أرجع إلى نفسي فأقول: وأي نفع يرجى من الانتقام! إن العجز عن الانتقام من صفات صاحب العقل الكبير والنفس العظيمة؛ فأجد تعلة وسلوانا في هذه الكلمة. غير أن الشك قد يعتورني أحيانا فأقول: إن صاحب العقل الكبير والنفس العظيمة يربأ بنفسه عن الانتقام، وليس كل عجز عن الانتقام دليلا على كبر العقل وسعة النفس، فإني أعرف من الحمقى والمجانين، وأهل البله والغباء من لا يقدر على ذرة من الانتقام.
سخر القضاء
ما أعجب هذه الحياة! وما أعجب تعجبي منها! على أن التعجب منها خير؛ لأني إذا لم أقدر على ذلك أكون قد يئست منها، فأرى أنها لا تستحق أن يعالجها المرء.
ومن العجيب أني عوقبت كثيرا في الحياة على ما لم أجن من الذنوب، وكوفئت بالخير على ما جنيت منها! أحيانا أفعل الشر فيخفى عن الناس، ويحسبون أني فعلت من الخير نقيض ذلك الشر. وأحيانا أجد في عمل الخير، فيحسب الناس أني أسعى إلى الشر. وقد جلب لي فعل الخير من بغض أهل الخير واتهامهم إياي قدر ما جلب لي من بغض أهل الشر. ولست أعجب من شيء عجبي ممن يثق من نفسه أنه يفعل الخير، الذي يبغض المسيء أكثر من بغضه إساءته، ولا يعلم أن المرء قد يفعل الشر وهو يحسب أنه خير، ويفعل الخير وهو يحسب أنه شر!
ما أعوص لغز الضمائر وأعمقه وأبعده عن المتناول! وما أذل الناس للتهم الكاذبة، والمصادر الخداعة والحوادث التي تغر! أليس كل ذلك مما يجعلنا نعتقد أن الإنسان كرة في أرجل المقادير، إذا عظم كانت عظمته منها، وإذا حقر كانت حقارته منها؟ وهل يمنع أهل السعي والجد والعمل اعتقادهم بسلطان القضاء عن السعي والجد والعمل؟ أم هل يزع أهل الإرادة الضعيفة والكسل والذل نكرانهم سلطان القضاء عن ضعف إرادتهم وكسلهم وذلهم؟ كلا فهذا أسلوب من أساليب سخر القضاء.
الإنسان والكون
ما أحقر حياة الفرد من البشر في هذا الوجود الذي ليس له حد ولا نهاية! انظر إلى هذه الأرض التي تحملنا، أليست هي فلكا صغيرا من أفلاك كثيرة لا تعد ولا تحصى؟ وهذا النظام الشمسي، أليس هو جزءا صغيرا من الوجود؟ أليس هو نظاما واحدا من أنظمة فلكية كثيرة؟
إني كلما فكرت في ذلك أحسست ضآلة الإنسان وحقارته، فيصغر الناس في عيني حتى يصيروا في حجم النمل أو أقل. فهب أن نملة تشكت وقع الأقدام، أليس ذلك مثل تشكي الإنسان ظلم الأقدار وامتعاضه منها؟ وماذا يهم الكون أنه يتألم ويشقى؟ ألسنا نهزأ ونسخر من شكاية النمل؟ وكأني بروح الوجود تهزأ بشكايتنا، وكأني بقوى الوجود تسخر منا. كلما فكرت في ذلك تملكني اليأس والملل، وصغر عندي كل عظيم جليل من الناس، أو من أمور الحياة، أو من العلوم والآراء والآداب، وأرى أن الحياة عبث، وأنها فكاهة غثة، فأود لو أريح نفسي من الاهتمام بما تستلزمه من الأشياء الحقيرة، والأعمال الحقيرة، والمساعي الحقيرة، والقيام والقعود، والكلام والسكوت، والنوم واليقظة، واليأس والأمل. فقد تمر بي ساعات أمقت فيها هذه الأشياء كلها، وغيرها من أمور الحياة مقتا شديدا. وسبب ذلك كله أني أحس الحياة إحساسا شديدا وأحس الأبد؛ فتصغر لدي الحياة. وأحس الأطماع الكبيرة؛ فأحتقر لها الحياة. وأرى أن المرء ينبغي أن يسعى وراء المطلب الأجل الأكبر؛ فأجد كل مطالب الحياة صغيرة حقيرة. هذه تعاسة كل من فكر فيما شابه الأبد من عظيم الآمال والمطالب والأعمال والمساعي.
وقد تمر بي ساعات، أحسب فيها أن رأسي مثل خلايا النحل، وأحس لذع الآراء والخواطر، وأحس كأني أحمل بذور الشقاء في صدري، وأن له شجرات مرة الثمرات، تنبت في القلب، وكأني أحس نموها فيه. وأحس كأن الشقاء كلب يعدو ورائي؛ فأتحفز للعدو هربا منه، وأتلفت ورائي لأرى مسافة ما بيني وبينه.
هب أن للوجود روحا تسعى به إلى الخير، أليس سعيها إلى الخير أبطأ من سعي السلحفاة؟ فإن هذه الروح تسير بالكون إلى الخير من الأزل إلى الأبد.
بقاء النوع وتعاسة الفرد
ما أتعس الإنسان! إنه يمضي أكثر أوقاته في السعي وراء قوته، وحاجات عيشه، ويضطر في هذا السعي إلى إذلال قلبه، وقد لا يحصل على تلك الحاجات وما تستلزمه المعيشة. فإن أكثر الناس يعيش عيشة البهائم، يعمل طول نهاره لأجل لقيمات يسد بها سغبه. أليس هو في ذلك مثل الحمار الذي يتعب طول النهار فيكون نصيبه من الحياة قليلا من البرسيم؟ وما نتيجة هذه المساعي وهذا الاحتيال وراء المكسب، وهذا الشقاء وهذه الدناءة؟ هل نتيجة ذلك حفظ حياة النوع البشري؟ وماذا يهمني ويهم كل فرد مثلي من حياة النوع، إذا كنا تعساء؟ أليس الناس ما عاشوا عبيد الشقاء والتعاسة؟
ما يدريني؟! لعل أصدق الناس نظرا هم الفلاسفة القدماء الذين قالوا بقتل الشعور والعواطف، ومحاكاة الإنسان الجماد في فقدان الشعور! قد تكون شدة الإحساس من لوازم الشعر، ولكن إذا كانت نتيجته تعاسة صاحبه، فلا خير في الشعر. وما يدريني؟! ربما كان الشاعر التعيس خيرا من المتسول البليد السعيد، لقد جاء في المثل: إله تعيس خير من حمار سعيد. وما يدريني؟! لعل الحمار السعيد خير من الإله التعيس!
هذا من الهراء في الصميم، أليس من غرور الإنسان أنه يشتكي محاكاته سائر الحيوانات، وأنه يمضي أكثر وقته في طلب ما تستلزمه المعيشة من القوت؟ ومن هو الإنسان حتى يشتكي ذلك؟ أليس هو حيوانا مثل سائر بني جنسه من الحيوانات؟
لا تقل: إن سعادة كل الأفراد لا تستقيم. ولا تقل: إنه ينبغي للمرء تحمل شرور الحياة من أجل حفظ حياة النوع، فهذه حجة يستخدمها الأغنياء المنعمون والسعداء؛ من أجل إخضاع الفقراء والتعساء، والبله والأغبياء، والجهلاء والمجانين. وإنما سعادة الأفراد فكرة كبيرة يتم تحقيقها إذا جن بها عدد كبير من الناس. ولكن الذي يجعل تحقيقها بعيدا أن الجماهير من الناس يعيشون في جهل مثل ظلام الليل، ويتبعون خطة مطروقة وسبيلا ممهدا، ويخشون الجديد من الآراء، ويجبنون عن تحقيقه. ولكن الذين قاموا بالنهضات الكبيرة وجعلوا آراءهم حقائق ووقائع مقضية، هم الذين قابلهم الجماهير في أول الأمر بالأذى، ورموهم بالجنون. وهم كما زعم الناس مجانين؛ لأنهم أغرموا بالأفكار البعيدة الجليلة. وقد يندم هؤلاء المجانين على عاقبة جنونهم، ولكنهم مسوقون إلى ذلك الجنون مكرهون عليه. وكل رأي كبير لا بد أن يؤدي إلى نهضة كبيرة بين الناس، وأن يكون له أثر باق إذا جن به عدد عظيم من الناس، هكذا قامت الأديان والنهضات الكبيرة العلمية والاجتماعية.
وفي قديم الزمان، كان الطاغية إذا أراد أن يلهي قومه عن طغيانه وظلمه أوقعهم في حرب مع قوم آخرين يريد طاغيتهم أيضا أن يلهيهم عن ظلمه وطغيانه؛ فعمت الحروب. وكان الطاغية يفعل ذلك سواء كان عارفا ما يحبب إليه الحرب أو كان غير عارفه، فإن المرء قد يكون مدفوعا إلى الشيء بدافع من نفسه لا يعرفه تمام العرفان، ولا يفهمه تمام الفهم. ويعين الطاغية على عزمه ما أودع في الناس من التذاذ القسوة، فإن كل امرئ له نصيب من القوة يلتذه.
وكذلك ترى الطبقات الطاغية السعيدة في ممالك هذا العصر تريد أن تلفت الطبقات التعيسة من الجماهير عن سوء حالها، وتشغلها عن حل مسائل الحياة بالحروب، مثل مسألة الشقاء والأمراض والجرائم. ولو بطلت الحروب بين الأمم لاشتدت الحروب بين الطبقات السعيدة والطبقات التعيسة في الأمة الواحدة؛ تلك الحروب التي تؤدي إلى حل مسائل الحياة. ولكن، ويل للأمة التي يتفرغ فيها طبقات أفرادها إلى حل مسائل الحياة؛ فإنها تصير طعمة للأمة التي لا تريد فيها طبقاتها حل تلك المسائل؛ لأن الشقاق في الأولى يكون نهزة تنتهزها الثانية.
وفي الناس من يقول: إن مسائل الفقر والتعاسة والجهل والجوع والأمراض وغيرها من مسائل الحياة لا تحل. وأكبر ظني أن الطبقات السعيدة هي التي تنشر هذا الرأي وتؤيده. ولكن ما يدريني؟! ربما كانوا مصيبين في زعمهم! على أنه لو صح زعمهم وكانت هذه المسائل لا تحل؛ فلا خير في الحياة، فإنما يتحمل المفكر شقاوة الحياة إذا كان له إيمان بالحياة يعينه، مثل أن يرى الحياة جهادا في سبيل تحقيق سعادة أفراد الناس.
ولقد يقول قائل: ولكن كيف تهمني سعادة أفراد الناس في الأجيال القادمة؟ هذا من الذين يعيشون في دائرة لا تتسع لغير مآربهم، ولا يهمهم في الحياة شيء غير سلامة لحمهم وجلدهم وشهوة بطونهم وفروجهم وترفيه ذهنهم. كأن التفكير في الحياة ترفيه الذهن بعد التفرغ من كسب الرزق، وكأنما ليس له لذع مثل لسع الظنابير، وكأن فروض الإيمان فقاقيع ثغر الأطفال، وكأن الكون خلق للفرد من الناس لا أن الفرد خلق للكون.
ظل الموت
يخيل لي في بعض الأحايين أن قد قرب أجلي وحان حيني، فأخشى أن يمنعني الموت من بلوغ آمالي وأطماعي. ولكني أرجع إلى نفسي فأرجو أن أجد في الموت ما لم أجده في الحياة من الطمأنينة والسكينة. وماذا علي إذا عاجلني الموت دون وطر لم أصبه، ومطمح للنفس لم تبلغه، وعرفان لم أعرفه؟ وماذا علي إذا لم تجد الديدان إذا بحثت في رأسي معنى ما اجتبيته أو علما ما درسته؟ وما قيمة الأطماع والأوطار والعلوم والفنون والآداب لدى الموت؟ أليس الموت حقيقة الحقائق؟
غير أن هذا التفكير لا يمنعني من الحزن إذا خيل لي أني سأموت ولا أترك أثرا بعدي خالدا كالخلد وباقيا كالأبد. وفي بعض الأحايين أنظر إلى أطماعي وآمالي وهي ماثلة لدي نظرة الوداع، وأحزن عليها كما أحزن على صديق عزيز تفيض روحه. ثم أرجع إلى نفسي فأقول: أليس من الغرور أن أحزن على ضياع أطماع وآمال يحول دونها الموت؟ وأي الآمال أهل لمثل هذا الحزن؟ على أن الشك في قيمتها لا يقلل من الحزن والأسف عليها.
جعلت أسير يوما عند شاطئ البحر وأخط في الترب رسوما وأشكالا، ورأيت كأن البحر يحاول أن يمحوها، فما زالت أمواجه تغدو وتروح حتى طغت موجة كبيرة عليها فمحتها، فذكرني ذلك حياة المرء، فإن الدهر كالبحر لا يزال بالمرء حتى تطغى عليه موجة من أمواجه؛ فتمحوه كما محت أمواج البحر تلك الرسوم. فالناس أيضا رسوم تمحوها أمواج الدهر، والذي يعيش في آثاره بعد موته عاما كالذي يعيش فيها ألف عام، والذي تمتد شهرته ألف عام كالذي يعيش شهرته مليون عام. ولا تغبط هوميروس أو شكسبير على شهرته؛ فإن شهرة الأول قد امتدت بضع آلاف من السنين، وشهرة الثاني بضع مئات، وهذا شيء حقير إذا قيس بالأبد، فلو كان المرء بعد موته يملأ اسمه الوجود ويبقى خالدا إلى الأبد لجاز تمني مثل هذا الخلد. على أن أمثال هذا التمني غرور وعبث باطل، فإن الذي يعيش باسمه إلى الأبد كالذي يعيش باسمه بعد موته بضع سنين.
وإنما الناس وسائل من وسائل القضاء، لا يهم القضاء سعدوا أم تعسوا، وإنما يهمه أن يعطيه كل امرئ نصيبه من الحياة والقوة والعمل والسعي، فالإنسان في الحياة مثل ...
الخاتمة
كلمة للمؤلف في نقد المعترف
يرى القارئ الجملة الأخيرة من هذه المذكرات غير تامة، وقد تركتها كما وجدتها؛ كي تكون عنوانا للحياة ونعتا لها، وإشارة إليها. ألسنا نحيا حياة ناقصة مغتصبة، نحاول أن نبلغ تمامها وكمالها بالأحلام والأطماع والآمال والأوطار؟ فالحياة كالراقصة التي تدعوك بحركات رقصها، ثم تفلت منك كالسراب الراقص الخداع. وأحيانا ترى الآمال على باب الحياة كالملائكة على باب الجنة، يفتحون منه ناحية فيخرج منه نسيم الجنة ونورها، وتسمع منه ألحانها وتبصر منه جمالها، ثم تغلق دونك أبواب الحياة، كما تغلق أبواب الفردوس دون المحروم.
هذه كلمتي التي أريد أن أقولها في هذه المذكرات كي يعرف القارئ ما أراه فيها وفي صاحبها، فلا يتهمني بالمغالاة في تقريظه والتشيع له ولآرائه، ويحسب أن الود الذي كان بيني وبينه قد أعماني عن خطئه.
أقول: إني أخالف صديقي م. ن. في بعض آرائه كما أوافقه في بعضها، فقد وجدته في هذه المذكرات ينسب إلى نفسه صفات مذمومة قد كانت خافية عنا.
نعم، إن بين الفلاسفة من يزعم أن هذه الصفات كامنة في جميع النفوس، وأنها منازل وطبقات، وهي لم تكن في نفسه من الشدة مثل ما يصف، فبينما كان يصف نفسه كان أيضا يستملي من خياله، صنع الأديب المؤلف، فهذه المذكرات ليست اعترافات عريانة من ثوب الخيال. تراه ينسب إلى نفسه الخوف والجبن وسوء الظن والكسل وضعف الإرادة والكذب، وأنه حاول الغش، وأنه حاول الانتحار، وأنه قليل الصبر، كثير الضجر، وأنه كثير البكاء، وأن في نفسه خواطر الشر والإجرام، وأنه كثير الغرور والعجب كثير الأطماع، وأنه كثير الخجل، كثير الحذر، عظيم الكبر، شديد اليأس بالرغم من أطماعه، وأنه شره البطن والعقل، وأنه كثير الإنكار والجحود، وأنه بالرغم من ذلك يعتقد الخرافات، إلى آخر ما وصف من صفات السوء.
وأنتم أيها القراء، لا تجدون شيئا من هذه الصفات في نفوسكم - ولا شك في ذلك - معاذ الله أن تجدوا في نفوسكم هذه المعائب، ومعاذ الله أن أتهمكم أو أن أتهم نفسي بها! إني وإياكم أبرياء منها، هنيئا لأنفسنا! إنها بريئة منها ... كأني بكم تهنئون أنفسكم ببراءتها وطهارتها من هذه النقائص، وكأني بكم تقولون: إن م. ن. لا يستحق إلا الرحمة والاحتقار! أما أنتم فإنكم أهل للإجلال والإكبار، والإعظام والهيبة، والتوقير والاحترام، والتبجيل والتقريظ، والحمد والثناء ... نعم، إن بين الفلاسفة من يقول بأن صفات الشر والخير موجودة في كل نفس، وأن النفوس لا تتفاضل إلا بمقدار تمكن صفات الخير، وقلة تمكن صفات الشر منها. فإذا كان بين الفلاسفة من يقول بهذا الرأي، فهو فيلسوف مجنون، لا يعتد برأيه. والدليل على بطلان زعمه أني وإياكم أبرياء من صفات الشر، مطهرون من السوء الذي يزعم أنه في كل نفس، فاضحكوا معي من هذا الفيلسوف الأبله الذي وجد نفسه بؤرة النقائص، فظن أن كل نفس مثل نفسه ... هذا الفيلسوف لا يستحق أن يعيش، بل ينبغي أن يشنق جزاء قذفه النفوس وافترائه عليها ما ليس فيها.
ولكن، ما يدرينا؟ ربما كان في قوله شيء من الصدق. ثم إن م. ن. يعزو إلى نفسه من المحامد قدر ما عزا إليها من المقابح، فتراه يعزو إليها الفطنة والذكاء، والعبقرية والخيال، وكبر العواطف وسعة الذهن، والرحمة والكرم، وحياة الضمير، وحب الجمال، وحب الخير، وكره الشر، وأنه يربأ بنفسه عن مظان الدناءة، وأنه يكره التمليق والرياء والنفاق والذل، وأنه كثير الود والحنان، رقيق القلب. وبعض هذه المحامد التي يعزوها إلى نفسه يناقض ما قد عزا إليها من المقابح، ولا غرابة في ذلك؛ فإننا نجد النقيضين في نفس واحدة.
كأني بكم تسخرون من صديقي م. ن. وتزعمون أن نسبة هذه المحامد إلى نفسه أعظم دليل على غروره، وأن مثله إذا ذم نفسه صدق، وإذا مدح نفسه كذب. ولا ريب أنكم تجدون في نفوسكم هذه المحامد، وأنكم يمنعكم الوقار والحياء الصادق والتعفف من تقريظ نفوسكم، وأنكم من أجل ذلك تمقتون من يقرظ نفسه أشد المقت؛ لأنه يريد أن يخفض من شأنكم بمدح نفسه وإعلائها. ولكنه لم يرد أن يكون هذا الاعتراف صورة لنفسه، وإنما أراد أن يصف نفسا من النفوس، وأن يشرح عواطفها، وأن يذكر محامدها ومقابحها. ولا ريب أن الأديب في وصف العواطف يستملي من نفسه ومن نفوس الناس؛ كي يجيء الوصف صادقا. فإذا رأيتم في مذكراتي صفات من صفاته فلا تظنوا أن كل شيء فيها مأخوذ من نفسه، ألستم ترون أن من الخطأ أن لا نميز بين هامليت وشكسبير، أو بين ورتر وجيتي؟ نعم، إن شكسبير كان يرجع إلى نفسه في تفهم العواطف وحركاتها، ومن هذا الوجه يصح أن نقول: إن في كل فرد من أفراد قصصه شيئا منه؛ لأن روح الأديب ليس بالروح الجامدة الصلبة، بل إن فيها من المرونة ما يمكنها من التشكل بأشكال متغايرة، والتزيي بأزياء مختلفة، فتارة تراها في جسم هامليت، وتارة في جسم ماكبث، وتارة في جسم فلستاف، وتارة في جسم روميو أو جوليت، وتارة في جسم شيلوك.
وإذا كان في م. ن. عيب من حيث هو أديب، فهو أن أسلوبه في الوصف والتنقل من مقال إلى مقال، مثل وميض البرق تراه يشرح لك عاطفة من العواطف، كأنه يكتبها بالنار على وجه الدجى، أو كأن كلماته الشرر المتطاير، ثم يتركها من غير استئذان إلى وصف غيرها. ولكن مذكراته بالرغم من ذلك ليست أوراقا مفككة، ليس بينها ارتباط، فإنه لم يرد أن يكتب مقالا، مطرد الجمل والكلمات والمعاني في سوء الظن أو الحب أو البخل أو الضمائر أو الشعر أو ضعف الإرادة أو العقائد أو حب الحياة أو الجرائم أو القدر، ولكنه يليح لك بهذه الأشياء وبموقعها من النفس كالصور المتحركة. وتراه دائما يحاول أن يؤجج عواطف القارئ، ويحاول أن يستفز منه عاطفة الحب أو البغض أو الأمل أو اليأس أو الاحتقار أو الإجلال أو الرحمة أو الخوف. وربما كان مغاليا في ذلك، فإن من يلعب بالعواطف مثل من يلعب بالنار.
ومن صفات م. ن. أنه يمزج الفكاهة بالجد مزجا غريبا، فبينما يستأذن على قلبك بالكلام المؤثر المبكي، إذا به يقهقه في وجهك أو يسخر من كلامه الذي أراد أن يلين قلبك به. وأخشى أن يكون كالغازل الذي ينقض بيده ما يغزله! ولكن المزج بين الفكاهة والجد لا يكون عيبا دائما، وأكبر ظني أن م. ن. كان يأتي بالفكاهة في إثر الجد المؤثر، لا لينقضه، بل ليجعل وقعه أشد حسرة؛ فتكون الفكاهة مثل ضحكات الرجل الذي يبدهه خطب شديد، يجل عن البكاء فيضحك ضحك المجنون من شدته وهوله.
وقد كان بودي أن أغير بعض فصول هذا الكتاب، ولو كنت أعرف أن المعترف حي لفاتحته الرأي في تغييره، ولكن لا سبيل إلى ذلك، فإن الأمانة ختام الود.
Page inconnue