بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
جرت سنة الله في ابتعاث رسله إلى خلقه، لتبصيرهم بعظمته وجمعهم على عبادته، أن يؤيدهم بأمور حسية تخالف السنن الكونية، وتشذ عن النواميس الطبيعية، وتكون من قبيل ما استحكم في زمانهم، وغلب على خاصتهم، وعظم في نفوس عامتهم، لتكون معجزة الرسول المرسل إليهم مفحمة لاعجب الامور في أنظارهم، ومبطلة لاقوى الاشياء في حسبانهم، ولئلا يجد المبطلون متعلقا يتشبثون
به، ولا سبيلا يتخذونه إلى اختداع الضعفاء فقد أيد الله ﷻ موسى ﵇ وكان عصره عصر سحر - بفلق البحر، وانقلاب العصا حية تسعى، وانبجاس الحجر الصلد بعيون الماء الرواء.
وأيد عيسى ﵇ وكان عهده عهد طب - بإبراء الاكمه والابرص وخلق الطير من الطين، وإحياء الموتى بإذنه.
ولما أرسل رسوله محمدا، ﷺ، إلى الناس أجمعين، وجعله خاتم النبيين - أيده بمعجزات حسية كمعجزات من سبقه من المرسلين، وخصه بمعجزة عقلية خالدة، وهى إنزال القرآن الكريم، الذى لو اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثله لم يستطيعوا ولم يقاربوا، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.
وكان ذلك في زمان سما فيه شأن البيان، وجلت مكانته في صدور أهله، وعرفوا باللسن والفصاحة، وقوة العارضة في الاعراب عن خوالج النفوس، والابانة عن مشاعر القلوب.
وظل رسول الله صلوات الله عليه، يتحداهم بما كانوا يعتقدون في أنفسهم القدرة عليه، والتمكن منه، ولم يزل يقرعهم ويعجزهم، ويكشف عن نقصهم، حتى استكانوا وذلوا، وطبع عليهم الخزى بطابعه، وصاروا حيال فصاحته في أمر مريج.
1 / 5
وقد أدهش القرآن العرب لما سمعوه، وحير ألبابهم وعقولهم بسحر بيانه، وروعة معانيه، ودقة ائتلاف ألفاظه ومبانيه، فمنهم من آمن به ومنهم مكفر، وافترقت كلمة الكافرين على وصفه، وتباينت في نعته، فقال بعضهم، هو شعر، وقال فريق: إنه سحر، وزعمت طائفة أنه أساطير الاولين اكتتبها محمد، فهى تملى عليه بكرة وأصيلا، وذهب قوم أنه إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون.
وقال غير هؤلاء وهؤلاء: لو نشاء لقلنا مثل هذا.
ولكنهم لم يقولوا هم ولا غيرهم لان تأليف القرآن البديع، ووصفه الغريب، ونظمه العجيب، قد أخذ عليهم منافذ البيان كلها وقطع أطماعهم في معارضته، فظلوا مقموعين مدحورين ثلاثة وعشرين عاما، يتجرعون مرارة الاخفاق، ويهطعون لقوارع التبكيت، وينغضون رؤوسهم تحت مقارع التحدي والتعيير، مع أنفتهم وعزتهم، واستكمال عدتهم وكثرة خطبائهم وشعرائهم، وشيوع البلاغة فيهم، والتهاب قلوبهم بنار عداوته، وترادف الحوافز إلى مناهضته، وعرفانهم أن معارضته بسورة واحدة أو آيات يسيرة أنقض لقوله، وأفعل في إطفاء أمره، وأنجع في تحطيم دعوته، وتفريق الناس عنه - من مناجزته، ونصبهم الحرب له، وإخطارهم بأرواحهم وأموالهم، وخروجهم عن أوطانهم وديارهم.
وقد ندب الله المسلمين إلى تلاوة القرآن، وقراءة ما تيسر منه، وحضهم على ادكار معانيه، وتدبر أغراضه ومراميه، ليهتدوا ببصائره وهداه، وليستضيئوا بأنواره في الحياة، حتى تكون كلمتهم فيها هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى.
فأقبل عليه علماؤهم يتدبرونه ويفسرونه، ويجلون آياته على أعين الناس لعلهم يشهدون ما فيها من المنافع لهم، فيأتمروا حيث أمر، وينتهوا حيث زجر.
وأقبل عليه غيرهم، من أعدائه وأعدائهم، فاتبعوا ما تشابه من آيه ابتغاء الفتنة بتأويلها، وتحريف كلمه عن مواضعها، وخيلت لهم أفهامهم الكليلة، وأذهانهم العليلة، أن في نظمه فسادا، وفى أسلوبه لحنا، وفى معانيه تناقضا، وفى نقله اضطرابا، فنفوا عنه صفة الاعجاز، وسددوا نحوه المطاعن، وبثوا حوله الشكوك.
وكان الناجمون الاولون منهم يخافتون بأقوالهم، ويجمجمون بآرائهم، ويستخفون بمذاهبهم
1 / 6
ويصطنعون الحذر والدهاء في كل ما يأتون وما يذرون، خوفا من بطش الخلفاء
الراشدين، ومن تلاهم من خلفاء الامويين.
وخلف من بعد هؤلاء خلف كانوا أكثر ثقافة، وأعزر علما، وأحسن بيانا فأصحروا بآرائهم، وجاهروا بمعتقداتهم، وبثوا شكوكهم في المجالس والاندية، وسطروها في الكتب والرسائل التى أسرفوا في تحسينها، وبالغوا في تزيينها، وغالوا في انتقاء ورقها ومدادها واستجادة خطها، ليحسن وقعها في الانظار، وتصبو إليها أنفس القراء.
وقد ساعدهم على جهرهم هذا ومكن لهم منه، تبدل الزمان وتغير الحال، بتسامح الخلفاء في غير ما يمس سلطانهم ويعرض لدولتهم، وامتلاك غير العرب لزمام الامور في الدولة، وانتشار الكتب المترجمة، وازدياد اتصال العرب بغيرهم من أهل المذاهب والنحل الاخرى، وكثرة الجدال بين المذاهب الاسلامية، واشتعال نار العداوة بين الفرق الكلامية ولما كثرت المطاعن في القرآن، وأوشكت الشبهات أن تأخذ سبيلها إلى نفوس الاغرار والاحداث -: نهض فريق من العلماء يدرءون عنه، وينافحون دونه ويرمون من ورائه بالحجج النيرة، والادلة الواقعة، فشرعوا أقلامهم لتأليف الكتب والرسائل في الرد عليهم، وتبيين مفترياتهم.
وفى طليعة هؤلاء أبو محمد عبد الله ابن مسلم بن قتيبة الدينورى، فقد عمد إلى مطاعنهم فيه فجمعها، ثم كر عليها بالنقض في كتابه الجليل: " تأويل مشكل القرآن " وكانت مسألة الاعجاز من أبرز المسائل التى تعاورها العلماء بالبحث في أثناء تفسيرهم للقرآن، وردهم على منكري النبوة، وخوضهم في علم الكلام، كعلى بن ربن كاتب المتوكل في كتاب: " الدين والدولة " وكأبي جعفر الطبري في تفسيره: " جامع البيان عن وجوه تأويل آى القرآن " وكأبي الحسن الاشعري في " مقالات الاسلاميين " وأبى عثمان الجاحظ في كتاب: " الحجة في تثبيت النبوة "
وكان علماء الاعتزال أكثر المثيرين للكلام في إعجاز القرآن، فقد ذهب النظام - من بينهم - إلى أن القرآن نفسه غير معجز، وانما كان إعجازه بالصرفة
1 / 7
وقال " ان الله ما أنزل القرآن ليكون حجة على النبوة، بل هو كسائر الكتب المنزلة لبيان الاحكام من الحلال والحرام.
والعرب إنما يعارضوه، لان الله تعالى صرفهم عن ذلك، وسلب علومهم به وذهب هشام الفوطى، وعباد بن سليمان إلى أن القرآن لم يجعل علما للنبى وهو عرض من الاعراض، والاعراض لا يدل شئ منها على الله ولا على نبوة النبي.
وكان ذلك وغيره من أقوال أئمتهم، منبعا غزيرا للقول في إعجاز القرآن وقد انبرى كثير منهم للرد على من أنكر إعجازه جملة، كأبى الحسين الخياط وأبى على الجبائى، اللذين نقضا على " ابن الراوندي " كتابه " الدامع " الذى طعن فيه على نظم القرآن وما يحتويه من المعاني، وقال: إن فيه سفها وكذبا وكذلك رد كثير منهم على من خالف عن قول جماعتهم: بأن تأليف القرآن ونظمه معجز، وأنه علم لرسول الله ﷺ، كالجاحظ الذى رد على النظام رأيه في الصرفة، في كتاب: " نظم القرآن ".
ألف الجاحظ كتابه في الاحتجاج لنظم القرآن وغريب تأليفه، وبديع تركيبه، على حد قوله في مقدمة كتاب الحيوان.
وهو من كتبه الضائعة.
وقد أشار إليه الباقلانى في إعجاز القرآن، إذ يقول ص ٧: " وقد صنف الجاحظ في نظم القرآن كتابا لم يزد فيه على ما قاله المتكلمون قبله، ولم يكشف عما يلتبس في أكثر هذا المعنى " وأخشى أن يكون الباقلانى قد حاف في حكمه على نظم القرآن، وحملته العصبية المذهبية على تنقصه.
فقد وصف الجاحظ نظم القرآن في كتابه " حجج النبوة "
حيث يقول في صفحة ١٤٧ مخاطبا من كتب له الكتاب: " وفهمت - حفظك الله - كتابك الاول، وما حثثت عليه من تبادل العلم، والتعاون على البحث والتحاب في الدين، والنصيحة لجميع المسلمين.
وقلت اكتب إلى كتابا تقصد فيه إلى حاجات النفوس، وإلى صلاح القلوب، وإلى معتلجات الشكوك وخواطر الشبهات، دون الذى عليه أكثر المتكلمين من التطويل،.
ومن التعمق والتعقيد، ومن تكلف ما لا يجب، وإضاعة ما يجب.
وقلت: كن كالمعلم اللوحة رقم: ١ عنوان نسخة المتحف البريطاني المرموز لها بحرف: م اللوحتان: ٢، ٣ الصفحتان الاولى والاخيرة من نسخة المتحف البريطاني المرموز لها بحرف: م اللوحة: ٤ عنوان نسخة كوبريللى المرموز لها بحرف: ك اللوحة: ٥ الصفحة الاولى من نسخة كوبر يللى المرموز لها بحرف: ك اللوحة: ٦ آخر صفحة من نسخة كوبر يللى المرموز لها بحرف: ك اللوحة: ٧
الصفحة الاخيرة من نسخة الاسكوريال المرموز لها بحرف: ١
1 / 8
الرفيق، والمعالج الشفيق الذى يعرف الداء وسببه، والدواء وموقعه، ويصبر على طول العلاج، ولا يسأم كثرة التردد.
وقلت: اجعل تجارتك التى إياها تؤمل، وصناعتك التى إياها تعتمد - إصلاح الفاسد، ورد الشارد.
وقلت: ولابد من استجماع الاصول، ومن استيفاء الفروع، ومن حسم كل خاطر، وقمع كل ناجم، وصرف كل هاجس، ودفع كل شاغل، حتى تتمكن من الحجة، وتتهنأ بالنعمة، وتجد رائحة الكفاية، وتثلج ببرد اليقين، وتفضي إلى حقيقة الامر.
وقلت: ابدأ بالاخف فالاخف، وبكل ما كان آنق في السمع وأحلى في الصدور، وبالباب الذى يؤتى منه الريض المتكلف، والجسور المتعجرف، وبكل ما كان أكثر علما، وأنفذ كيدا..فكتبت لك كتابا أجهدت فيه نفسي، وبلغت منه أقصى ما يمكن مثلى في الاحتجاج للقرآن، والرد على كل طعان، فلم أدع فيه مسألة لرافضي ولا لحديثي، ولا لحشوى، ولا لكافر مباد، ولا لمنافق مقموع، ولا لاصحاب " النظام " ولمن نجم بعد " النظام " ممن يزعم: أن القرآن حق وليس تأليفه بحجة، وأنه تنزيل وليس ببرهان ولا دلالة، فلما طننت أنى قد بلغت أقصى محبتك، وأتيت على معنى صفتك - أتانى كتابك تذكر أنك لم ترد الاحتجاج لنظم القرآن، وإنما أردت الاحتجاج لخلق القرآن وكانت مسألتك مبهمة فكتبت لك أشق الكتابين وأثقلهما، وأغمضهما معنى، وأطولهما طولا.." ولست أعرف نقلا عن كتاب: " نظم القرآن " ولا حديثا عنه، ولا وصفا له غير وصف الجاحظ هذا، وأحسبه فيه من الصادقين وقد قلد الجاحظ في هذه التسمية أبو بكر: عبد الله بن أبى داود السجستاني،
المتوفى سنة ٣١٦ في كتابه: " نظم القرآن ".
وأبو زيد البلخى: أحمد بن سليمان، المتوفى سنة ٣٢٢ هـ قال أبو حيان في كتاب " البصائر والذخائر ": قال أبو حامد القاضى: لم أر كتابا في القرآن مثل كتاب لابي زيد البلخى، وكان فاضلا يذهب في رأى الفلاسفة، لكنه تكلم في القرآن بكلام لطيف دقيق في مواضع، وأخرج سرائره وسماه: " نظم القرآن " ولم يأت على جميع المعاني فيه.
1 / 9
وكذلك أبو بكر: أحمد بن على، المعروف بابن الاخشيد، المعتزلي، المتوفى سنة ٣٦ هـ، فإنه قد ألف كتابا أسماه: " نظم القرآن ".
وأول كتاب علمناه، يشتمل عنوانه على كلمة الاعجاز هو كتاب: " إعجاز القرآن في نظمه وتأليفه " لابي عبد الله: محمد بن يزيد الواسطي، المعتزلي، المتوفى سنة ٣٠٦ هـ.
وهو من الكتب التى لا نعرف عنها غير أسمائها المجردة.
وقد بقى من الكتب المؤلفة في القرن الرابع عن إعجاز القرآن، ثلاثة كتب.
أولها: كتاب الرماني، وثانيها: كتاب الخطابى، وثالثها: كتاب الباقلانى.
وهى التى نعرض لها بالبيان والتحليل، فيما يلى: إعجاز القرآن للرماني: ولد أبو الحسن: على بن عيسى الرماني المعتزلي في سنة ٢٧٦، ومات سنة ٣٨٤ وكان يعرف أيضا بالاخشيدى، نسبة إلى أستاذه ابن الاخشيد، وبالوراق، لانه كان يحترف الوراقة.
وقال عنه ياقوت في معجم الادباء ٢٤ / ٧٤: " كان إماما في علم العربية، علامة في الادب، في طبقة أبى على الفارسى، وأبى سعيد السيرافى وله تصانيف في جميع العلوم: من النحو واللغة والنجوم والفقه والكلام، على رأى المعتزلة.
وكان يمزج كلامه في النحو بالمنطق، حتى قال أبو على الفارسى: إن
كان النحو ما يقوله الرماني فليس معنا منه شئ، وإن كان ما نقوله نحن، فليس معه منه شئ ".
وقال عنه أبو حيان التوحيدي في الامتاع والمؤانسة ١ / ١٣٣: " وأما على بن عيسى فعالى الرتبة في النحو واللغة والكلام والعروض والمنطق، وعيب به، لانه لم يسلك طريق واضح المنطق، بل أفرد صناعة، وأظهر براعة وقد عمل في القرآن كتابا نفيسا.
هذا مع الدين الثخين، والعقل الرصين " وقال عنه في تقريظ الجاحظ، كما قال ياقوت، في معجم الادباء ١٤ / ٧٦ -: " لم ير مثله قط..علما بالنحو، وغرازة في الكلام، وبصرا بالمقالات، واستخراجا للعويص، وإيضاحا للمشكل، مع تأله وتنزه ودين ويقين، وفصاحة وفقاهة وعفافة ونظافة "
1 / 10
والكتاب النفيس الذى أشار التوحيدي إليه، هو كتاب: " الجامع لعلم القرآن " وقد ذكره الرماني في إعجاز القرآن.
بدأ الرماني كتابه ببيان وجوه إعجاز القرآن، فقال: إنها تظهر من سبع جهات وهى: ترك المعارضة مع توفر الدواعى وشدة الحاجة، والتحدى للكافة والصرفة، والبلاغة، والاخبار الصادقة عن الامور المستقبلة، ونقض العادة وقياسه بكل معجزة.
ثم قسم البلاغة إلى ثلاث طبقات، وقال: إن ما كان في أعلاها معجز، وهو بلاغة القرآن.
ثم عرف البلاغة بأنها إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ، وأعلاها طبقة في الحسن بلاغة القرآن.
ثم قسم البلاغة إلى عشرة أقسام، وهى: الإيجاز، والتشبيه، والاستعارة، والتلاؤم، والفواصل والتجانس والتصريف، والتضمين، والمبالغة، وحسن البيان.
ثم فسرها بابا بابا، على ترتيبها تفسيرا وافيا شافيا.
فهو - مثلا - عند ما عرض
لباب الاستعارة عرفها، وفرق بينها وبين التشبيه.
ثم بين أركانها، وقال: إن كل استعارة حسنة توجب بلاغة بيان لا تنوب منابة الحقيقة، وذلك أنه لو كان يقوم مقامه كانت الحقيقة أولى به، ولم تجز الاستعارة.
ثم ذكر ما جاء في القرآن من الاستعارة على جهة البلاغة، وبدأ بقول الله تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فجعلناه هباء منثورا)، فقال: " حقيقة،، قدمنا،، هنا: عمدنا و" قدمنا " أبلغ منه لانه يدل على أنه عاملهم معاملة القادم من سفر، لانه من أجل إمهاله لهم كمعاملة الغائب عنهم، ثم قدم فرآهم على خلاف ما أمرهم.
وفى هذا تحذير من الاغترار بالامهال.
والمعنى الذى يجمعهما العدل، لان العمد إلى إبطال الفاسد عدل، والقدوم أبلغ لما بينا " وجملة الآيات التى ذكرها في هذا الباب على ذلك النحو العظيم - أربع وأربعون آية.
وبعد أن فرغ الرماني من تفسير أبواب البلاغة العشر، عاد إلى البيان عن الوجوه السبعة التى ذكرها في أول الكتاب، وقال: إنها مظاهر إعجاز القرآن.
1 / 11
فأبان عن أوجه دلالتها على الاعجاز.
ويعنينا أن نذكر هنا ما قاله عن توفر الدواعى، و" الصرفة " لما للاولى من دلالة خاصة، ولاهمية الثانية.
قال: " وأما توفر الدواعى فتوجب الفعل مع الامكان لا محالة، في واحد كان أو جماعة.
والدليل على ذلك أن إنسانا لو توفرت دواعيه إلى شرب الماء بحضرته، من جهة عطشه واستحسانه لشربه، وكل داع يدعو إلى مثله، وهو مع ذلك ممكن له، فلا يجوز أن لا يقع شربه منه حتى يموت عطشا لتوفر الدواعى على ما بينا.
فإن لم يشربه مع توفر الدواعى له دل ذلك على عجزه عنه، فكذلك توفر الدواعى إلى المعارضة على القرآن لما لم تقع المعارضة دل ذلك على العجز عنها "
وقال عن الصرفة: " وأما الصرفة فهى صرف الهمم عن المعارضة.
وعلى ذلك يعتمد بعض أهل العلم في أن القرآن معجز من جهة صرف الهمم عن معارضته وذلك خارج عن العادة كخروج سائر المعجزات التى دلت على النبوة.
وهذا عندنا أحد وجوه الاعجاز التى تظهر منها للعقول " وختم كتابه بالاجابة عن سؤال أورده، فقال: " فإن قيل: فلم اعتمدتم على الاحتجاج بعجز العرب دون المولدين، وهو عندكم معجز للجميع، مع أنه يوجد للمولدين من الكلام البليغ شئ كثير؟ قيل له: لان العرب كانت تقيم الاوزان والاعراب بالطباع، وليس في المولدين من يقيم الاعراب بالطباع كما يقيم الاوزان بالطباع، والعرب على البلاغة أقدر لما بينا من فطنتهم لما لم يفطن له المولدون من إقامة الاعراب بالطباع.
فإذا عجزوا عن ذلك فالمولدون عنه أعجز " وقد ذهب الرماني إلى نفى السجع من القرآن، وتسمية ما فيه من ذلك فواصل لان الاسجاع عيب، والفواصل بلاغة، لان الفواصل تابعة للمعانى، وأما الاسجاع فالمعاني تابعة لها، وهو قلب ما توجبه الحكمة في الدلالة.
أعجاز القرآن للخطابي: ولد أبو سليمان: حمد بن محمد بن ابراهيم بن الخطاب البستى سنة ٣١٩ وتوفى سنة ٣٨٨ هـ وهو من أعلام الفكر الاسلامي في القرن الرابع الذين امتازت كتبهم
1 / 12
بغزارة المادة، وعمق الفكرة، ودقة الاستنباط وروعة البيان، وظهرت فيها شخصيتهم واضحة المعالم، بينة القسمات.
ومن كتب الخطابى الجليلة: كتاب " غريب الحديث " و" معالم السنن في شرح سنن أبى داود " و" أعلام السنن في شرح البخاري " وإعجاز القرآن " وهو أصغرها حجما.
بدأ الخطابى كتابه بقوله: " قد أكثر الناس الكلام في هذا الباب قديما
وحديثا، وذهبوا فيه كل مذهب من القول، وما وجدناهم - بعد - صدروا عن رى، وذلك لتعذر معرفة وجه الاعجاز في القرآن، ومعرفة الامر في الوقوف على كيفيته " ثم عرض للاقوال التى قيلت قبله في وجوه الاعجاز، وبدأ برأى القائلين بأن النبي ﷺ، قد تحدى العرب قاطبة بأن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا عنه، وانقطعوا دونه.
وعقب عليه بقوله: " وهذا - من وجوه ما قيل فيه - أبينها دلالة، وأيسرها مؤونة، وهو مقنع لمن لم تنازعه نفسه مطالعة كيفية وجه الاعجاز فيه.
ثم ثنى برأى القائلين بأن العلة في إعجازه " الصرفة " أي صرف الهمم عن المعارضة، وإن كانت مقدورا عليها، غير معجوز عنها، إلا أن العائق من حيث كان أمرا خارجا عن مجارى العادات - صار كسائر المعجزات.
وعلق عليه بقوله: " وهذا أيضا وجه قريب، إلا أن دلالة الآية تشهد بخلافه، وهى قوله سبحانه: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) .
فأشار في ذلك إلى أمر طريقه التكلف والاجتهاد، وسبيله التأهب والاحتشاد، والمعنى في الصرفة التى وصفوها لا يلائم هذه الصفة فدل على أن المراد غيرها " ثم ذكر رأى الطائفة التى زعمت أن إعجازه إنما هو فيما تضمنه من الاخبار عن الكوائن في مستقبل الزمان، وصدقت أقوالها مواقع أكوانها.
ثم نقده بقوله: " ولا يشك في أن هذا وما أشبهه من أخباره، نوع من أنواع إعجازه، ولكنه ليس بالامر العام الموجود في كل سورة من سور القرآن.
وقد جعل سبحانه في صفة كل سورة أن تكون معجزة بنفسها، لا يقدر أحد من الخلق أن يأتي بمثلها،
1 / 13
فقال: (فَأتُواْ بِسُورَةٍ مِن مِّثْلِهِ، وَادْعُواْ شَهدَاءَكُمِ مِنْ دون الله إن كنتم صادقين) من غير تعيين.
فدل على أن المعنى فيه غير ما ذهبوا إليه " ثم ذكر الرأى الرابع الذى ذهب إليه الاكثرون من علماء أهل النظر، وهو أن إعجازه من جهة " البلاغة " وقال: " ووجدت عامة أهل هذه المقالة، قد جروا في تسليم هذه الصفة للقرآن على نوع من التقليد، وضرب من غلبة الظن، دون التحقيق له، وإحاطة العلم به.
ولذلك صاروا إذا سئلوا عن تحديد هذه البلاغة التى اختص بها القرآن، وعن المعنى الذى يتميز به عن سائر أنواع الكلام الموصوف بالبلاغة - قالوا: لا يمكننا تصويره، ولا تحديده بأمر ظاهر نعلم به مباينة القرآن غيره من الكلام: وإنما يعرفه العالمون به عند سماعه ضربا من المعرفة، لا يمكن تحديده.
وأحالوا على سائر أجناس الكلام الذى يقع فيه التفاضل، فتقع في نفوس العلماء به - عند سماعه - معرفة ذلك، ويتميز في أفهامهم قبيل الفاضل من المفضول منه.
وقد يخفى سببه عند البحث، ويظهر أثره في النفس، حتى لا يلتبس على ذوى العلم والمعرفة به.
وقد توجد لبعض الكلام عذوبة في السمع، وهشاشة في النفس، لا يوجد مثلها لغيره، والكلامان معا فصيحان، ثم لا يوقف لشئ من ذلك على علة " ثم عقب الخطابى على ذلك بقوله: " وهذا لا يقنع في مثل هذا العلم، ولا يشفى من داء الجهل به، وإنما هو إشكال أحيل به على إبهام " ثم ذكر أن دقيق النظر، وشاهد العبر، قد دلاه على ما يباين به القرآن سائر الكلام، وأن العلة في ذلك: " أن أجناس الكلام مختلفة، ومراتبها في نسبة التبيان متفاوتة، ودرجاتها في البلاغة متباينة غير متساوية.
فمنها البليغ الرصين الجزل، ومنها الفصيح القريب السهل، ومنها الجائز المطلق الرسل.
وهذه أقسام الكلام الفاضل.
فالقسم الاول أعلى طبقات الكلام وأرفعه، والقسم الثاني أوسطه وأقصده،
والقسم الثالث أدناه وأقربه.
فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الاقسام حصة، وأخذت من كل نوع من أنواعها شعبة، فانتظم لها بامتزاج هذه الاوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة.
وهما على الانفراد في نعوتهما
1 / 14
كالمتضادين، لان العذوبة نتاج السهولة، والجزالة والمتانة في الكلام تعالجان نوعا من الوعورة.
فكان اجتماع الامرين في نظمه - مع نبو كل واحد منهما عن الآخر - فضيلة خص بها القرآن " ثم قال: " وإنما تعذر على البشر الاتيان بمثله، لامور: منها أن علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية، وبأوضاعها التى هي ظروف المعاني، والحوامل لها.
ولا تدرك أفهامهم جميع معاني الاشياء المحمولة على تلك الالفاظ، ولا تكمل معرفتهم لاستيفاء جميع وجوه النظوم التى بها يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض، فيتوصلوا باختيار الافضل عن الاحسن من وجوهها، إلى أن يأتوا بكلام مثله.
وإنما يقوم الكلام بهذه الاشياء الثلاثة: لفظ حامل، ومعنى قائم به، ورباط لهما ناظم.
وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الامور منه في غاية الشرف والفضيلة، حتى لا ترى شيئا من الالفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه، ولا ترى نظما أحسن تأليفا وأشد تلاؤما وتشاكلا من نظمه.
وأما المعاني فلا خفاء على ذى عقل أنها هي التى تشهد لها العقول بالتقدم في أبوابها، والترقى إلى أعلى درجات الفضل من نعوتها وصفاتها.
وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرق في أنواع الكلام، فأما أن توجد مجموعة في نوع واحد منه، فلم توجد إلا في كلام العليم القدير، الذى أحاط بكل شئ علما، وأحصى كل شئ عددا.
فتفهم الآن، واعلم أن القرآن أنما صار معجزا لانه جاء بأفصح الالفاظ، في أحسن نظوم التأليف، مضمنا أصح المعاني: من توحيد له - عزت قدرته -
وتنزيه له في صفاته، ودعاء إلى طاعته، وبيان بمنهاج عبادته: من تحليل وتحريم، وحظر وإباحة، ومن وعظ وتقويم، وأمر بمعروف، ونهى عن منكر، وإرشاد إلى محاسن الاخلاق، وزجر عن مساويها.
واضعا كل شئ منها موضعه الذى لا يرى شئ أولى منه، ولا يرى في صورة العقل أمر أليق منه، مودعا أخبار القرون الماضية، وما نزل من مثلات الله بمن عصى وعاند منهم، منبئا عن الكوائن المستقبلة في الاعصار الباقية من الزمان، جامعا في ذلك بين الحجة والمحتج له، والدليل والمدلول عليه، ليكون ذلك أوكد للزوم ما دعا إليه، وإنباء عن وجوب
1 / 15
ما أمر به ونهى عنه.
ومعلوم أن الاتيان بمثل هذه الامور، والجمع بين أشتاتها حتى تنتظم وتتسق - أمر تعجز عنه قوى البشر، ولا تبلغه قدرهم: فانقطع الخلق دونه، وعجزوا عن معارضته بمثله، أو مناقضته في شكله " وأنى لهم ذلك وأمر معاناة المعاني التى تحملها الالفاظ، شديد بالغ الشدة لانها نتائج العقول، وولائد الافهام، وبنات الافكار.
وأما رسوم النظم فالحاجة إلى الثقافة والحذق فيها أكثر، لانها لجام الالفاظ وزمام المعاني، وبه يتصل أخذ الكلام، ويلتئم بعضه ببعض، فتقوم له صورة في النفس يتشكل بها البيان " ثم ذكر أقوال المعاندين للقرآن، لما عجزوا عن معارضته، وقال: " إن عمود هذه البلاغة التى تجتمع لها هذه الصفات، هو وضع كل نوع من الالفاظ التى تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الاخص الاشكل به.
الذى إذا أبدل مكانه غيره جاء منه: إما تبدل المعنى الذى يكون منه فساد الكلام، وإما ذهاب الرونق الذى يكون معه سقوط البلاغة.
ذلك أن في الكلام ألفاظا متقاربة في المعاني يحسب أكثر الناس أنها متساوية في إفادة بيان مراد الخطاب، كالعلم والمعرفة والحمد
والشكر.
والامر فيها وفى ترتيبها عند علماء اللغة بخلاف ذلك، لان لكل لفظة منها خاصية تتميز بها عن صاحبتها في بعض معانيها، وإن كانا قد يشتركان في بعضها ".
ثم مضى يبين الفروق بين معاني الكلمات التى ذكرها، وأتبعها بطائفة الاعتراضات التى وجهت إلى القرآن، أو التى يمكن أن توجه إليه، كتأليف معظم كلامه من ألفاظ مبتذلة في مخاطبات العرب، مستعملة في محاوراتهم، وقلة حظه من الغريب المشكل، بالاضافة إلى واضحه الكثير، وقلة عدد الفقر والغرور من ألفاظه، بالقياس إلى مباذله ومراسيله.
والقول بأن كثيرا من العبارات الواقعة في القرآن، لم تقع في أفصح وجوه البيان وأحسنها، وأنه قد عرض فيه سوء التأليف من نسق الكلام على ما ينبو عنه ولا يليق به، وإدخاله بين الكلامين ما ليس من جنسهما، مع ما فيه من الحذف والاختصار، ومضاعفة التكرار، وغير ذلك مما يشكل معه الكلام ويستغلق معناه، ويخرج به عن الفصاحة العالية والبلاغة السامية.
1 / 16
ثم كر على تلك الاعتراضات فنقضها، وفصل القول في تأويل الآيات الكثيرة التى أوردها.
وبين أسرار بلاغتها تبيينا ترتاح إليه القلوب، وتطمئن له العقول.
ثم قال: " وفى إعجاز القرآن وجه آخر، ذهب عنه الناس، فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ من آحادهم.
وذلك صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلاما غير القرآن منظوما ولا منثورا، إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال، ومن الروعة والمهابة في أخرى - ما يخلص منه إليه.
تستبشر به النفوس، وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذت حظها منه عادت مرتاعة قد عراها من الوجيب والقلق، وتغشاها من الخوف والفرق ما تقشعر منه الجلود، وتنزعج له القلوب.
يحول بين النفس وبين مضمراتها وعقائدها الراسخة فيها.
فكم من عدو للرسول، ﷺ، من رجال العرب وفتاكها،
أقبلوا يريدون إغتياله وقتله، فسمعوا آيات من القرآن، فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم أن يتحولوا عن رأيهم الاول، وأن يركنوا إلى مسالمته ويدخلوا في دينه، وصارت عداوتهم موالاة وكفرهم إيمانا " ثم أورد من المثل التاريخية، والآيات القرآنية ما هو مصداق لما وصفه من أمر القرآن.
وكان ذلك خاتمة الكتاب.
ثم ألف بعد الرماني والخطابى معاصرهم أبو بكر الباقلانى، كتابه " إعجاز القرآن " * * * الباقلانى وإعجاز القرآن: هو أبو بكر: محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم، المعروف بالباقلانى، أو ابن الباقلانى.
ولد بالبصرة، ولم يعين أحد من المؤرخين عام ولادته، وقد تلقى العلم على أعلامها، ثم رحل إلى بغداد فأخذ من علمائها، ثم اتخذها دارا لاقامته، حتى قضى نحبه فيها ولم يذكر أحد كذلك متى رحل إليها أول ما رحل، ولا متى اتخذها مستقرا؟ وقد أتيح للباقلاني أن يتتلمذ لطائفة من العلماء الذين جمعوا بين العلم والعمل،
1 / 17
وشهروا بالورع والتقوى.
ونحن نشير إلى م اوقفنا عليه منهم، فيما يلى: (١) فمنهم أبو بكر الابهري: محمد بن عبد الله (٢٨٩ - ٣٧٥ هـ) شيخ المالكية في عصره، وقد أخذ عنه الباقلانى الفقه، وصحبه فأطال صحبته.
ومما يؤثر عن الابهري أنه أخرج في آخر حياته ثلاثة آلاف مثقال، وفرقها على تلامذته، وكانوا جماعة وافرة، وآثر الباقلانى فأعطاه منها مائة مثقال.
(٢) أبو بكر: أحمد بن جعفر بن مالك القطيعى راوي مسند الامام أحمد (٢٧٤ - ٣٦٨) وقد أخذ عنه الحديث.
(٣) أبو محمد: عبد الله بن إبراهيم بن أيوب بن ماسى (٢٧٤ - ٣٦٩) (٤) أبو عبد الله: محمد بن خفيف الشيرازي المتوفى سنة ٣٧١.
وقد أخذ عنه الباقلانى علم الاصول.
(٥) ابن بهته: محمد بن عمر، البزاز، المتوفى سنة ٣٧٤ (٦) أبو أحمد: الحسين بن على النيسابوري (٢٩٣ - ٣٧٥) (٧) أبو أحمد: الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري (٢٩٣ - ٣٨٢) (٨) أبو محمد: عبد الله بن أبى زيد القيرواني المتوفى سنة ٣٨٦ عن ست وسبعين سنة.
(٩) أبو عبد الله الطائى: محمد بن أحمد بن محمد بن يعقوب بن مجاهد.
البصري، صاحب أبى الحسن الاشعري.
وقد درس عليه الباقلانى الاصول والكلام وكان من أخص تلاميذه.
(١٠) أبو الحسن الباهلى البصري صاحب أبى الحسن الاشعري، قال الباقلانى: " كنت أنا وأبو إسحاق الاسفرايينى، وابن فورك معا في درس الشيخ الباهلى، وكان يدرس لنا في كل يوم جمعة مرة واحدة، وكان منا في حجاب، يرخى الستر بيننا وبينه كى لا نراه.
وكان من شدة اشتغاله بالله مثل واله أو مجنون، لم يكن يعرف مبلغ درسنا حتى نذكره ذلك ".
ولم يكن الباهلى يحتجب عن هؤلاء الثلاثة فقط، بل كان يحتجب عن كل الناس، حتى عن الجارية التى كانت تخدمه.
وقد سأله تلاميذه في أول عهدهم به عن سبب إرساله الحجاب بينه وبينهم
1 / 18
فقال: " إنكم ترون السوقة، وهم أهل الغفلة، فترونى بالعين التى ترون أولئك بها "! وذكر ابن شاكر في " عيون التواريخ " أن الباهلى مات سنة ٣٧٠.
وكان الباهلى وابن مجاهد، أعرف العلماء بمذهب الاشعري، وأشدهم فقها له.
وأقواهم حجة في الدفاع عنه، لانهما كانا من أقرب تلاميذه إليه.
وقد سجل المؤرخون للاشعري: أن أخص تلاميذه به أربعة: أبو بكر بن مجاهد، وأبو الحسن الباهلى، وأبو الحسن الطبري، وخادمه بندار بن الحسين الشيرازي المتوفى سنة ٣٥٣ هـ.
وقد تلقى الباقلانى عليهما أصول المذهب، فتعشقه واندفع في نصرته، بما عرف عنه من قوة الحجة، وبراعة المحاورة، وسرعة البديهة، وطلاقة اللسان، وغزارة البيان.
فطار صيته في الآفاق، وهو ما زال بعد في ريعان الصبا وفتاء الشباب، حتى وصل إلى أعلام المعتزلة بشيراز.
وكانت شيراز في ذلك الوقت حاضرة ملك أبى شجاع فنا خسرو بن ركن الدولة البويهى.
الذى آل إليه ملك فارس بعد وفاة عمه عماد الدولة في سنة ٣٣٨، فتلقب بعضد الدولة.
وكان عضد الدولة أميرا عظيم الهيبة، غزير العقل، شديد التيقظ، كثير الفضل، واسع الثقافة، مشاركا في العلوم، وقد تعلم على أحسن المعلمين.
فكان يقدر العلم والعلماء، ويحب الادب والادباء، ويؤثر مجالستهم عن مجالسة الامراء، ويجرى الجرايات على الفقهاء والمحدثين، والنحاة والمفسرين، والشعراء والمتكلمين، والاطباء والمهندسين.
وكانت له خزانة كتب عظيمة، عنى بها عناية فائقة، يدل عليها وصف المقدسي لها بأنها " حجرة على حدة، عليها وكيل وخازن ومشرف.
ولم يبق كتاب صنف إلى وقت عضد الدولة من أنواع العلوم إلا وحصله فيها.
وهى أزج طويل في صفة كبيرة، فيه خزائن من كل وجه، وقد ألصق إلى جميع حيطان الازج والخزائن بيوتا طولها قامة في عرض ثلاثة أذرع من الخشب المزوق، عليها أبواب تنحدر من فوق! والدفاتر منضدة على الرفوف، لكل نوع بيوت وفهرستات فيها أسامي الكتب، ولا يدخلها إلا كل وجبة ".
1 / 19
وكان يقرض الشعر ويتمثل به، ويحكم على معانيه بعد التقرير له، فقصده العلماء من كل فج، وصنفوا له الكتب، كأبى على الفارسى الذى ألف له كتاب " الايضاح " وكتاب " التكملة " في النحو.
وارتحل إليه الشعراء كأبى الطيب المتنبي الذى ورد عليه بشيراز في جمادى الاولى سنة ٣٥٤، وأنشده قصيدته الهائية التى يقول فيها: وقد رأيت الملوك قاطبة * وسررت حتى رأيت مولاها ومن مناياهم براحته * يأمرها فيهم وينهاها أبا شجاع بفارس عضد الد * دولة فنا خسرو شهنشاها أساميا لم تزده معرفة * وإنما لذة ذكرناها وقد أفرد عضد الدولة في داره لاهل الخصوص والحكماء والفلاسفة، موضعا يقترب من مجلسه، فكانوا يجتمعون فيه للمفاوضة والمذاكرة، آمنين من السفهاء ورعاع العامة.
وكان مجلسه هذا يحتوى على شياطين المعتزلة، كأبى سعد: بشر بن الحسين قاضى قضاة شيراز، المتوفى سنة ٣٨٠، والاحدب رئيس المعتزلة ببغداد وأبى إسحق النصيبينى رئيسهم بالبصرة، وأبى الحسن: محمد بن شجاع.
وقد لا حظ عضد الدولة خلو مجلسه من أهل السنة، فقال: هذا ليس مجلس عامر بالعلماء، إلا إنى لا أرى فيه واحدا من أهل الاثبات والحديث، أما لهؤلاء المثبتة من ناصر؟ فقال القاضى بشر بن الحسين: ليس لهم ناصر، وإنما هم عامة، أصحاب وتقليد ورواية، يروون الخبر وضده ويعتقدونهما جميعا، لا يعرفون النظر والمعتزلة هم فرسان الجدل والمناظرة.
فقال عضد الدولة: محال أن يخلو مذهب طبق الارض من ناصر! فانظر إلى موضع فيه مناظر يكتب فيه فيجلب.
فلما تبين القاضى العزم في حديثه، قال: سمعت أن بالبصرة شيخا وشابا، الشيخ يعرف
بأبى الحسن الباهلى، والشباب يعرف بابن الباقلانى.
فكبت عضد الدولة يومئذ إلى عامله بالبصرة ليبعثهما إليه، وأرسل إليهما خمسة آلاف درهم من الفضة، فلما وصل الكتاب إليهما قال الشيخ: هؤلاء الديلم قوم كفرة فسقة روافض، لا يحل
1 / 20
لنا أن نطأ بساطهم، وليس غرض الملك من هذا إلا أن يقال: إن مجلسه مشتمل على أصحاب المحابر كلهم، ولو كان ذلك خالصا لله لنهضت.
وشايعه على ذلك بعض أصحابه.
ولكن الباقلانى لم يعجبه رأى شيخه فقال له: كذا قال ابن كلاب والحارث ابن أسد المحاسبى ومن في عصرهم: إن المأمون فاسق ظالم لا نحضر مجلسه، حتى ساق أحمد بن حنبل، وجرى عليه بعد مما عرف، ولو ناظروه لكفوه عن هذا الامر، وتبين له ما هم عليه بالحجة.
وأنت أيضا - أيها الشيخ - تسلك سبيلهم حتى يجرى على الفقهاء ما جرى على أحمد، ويقولوا: بخلق القرآن ونفى الرؤية وها أنا خارج إن لم تخرج.
فقال الشيخ: أما إذا شرح الله صدرك لذلك فافعل.
قال الباقلانى: فخرجت إلى شيراز، فلما دخلت المدينة استقبلني ابن خفيف في جماعة من الصوفية وأهل السنة، فلما جلسنا في موضع كان ابن خفيف يدارس فيه أصحابه " اللمع " للشيخ أبى الحسن الاشعري، فقلت له: تماد على التدريس كما كنت، فقال لى: أصلحك الله، إنما أنا بمنزلة المتيمم عند عدم الماء، فإذا وجد الماء فلا حاجة إلى التيمم.
فقلت له: جزاك الله خيرا، وما أنت بمتيمم، بل لك حظ وافر من هذا العلم، وأنت على الحق، والله ينصرك.
ثم قلت: متى الدخول إلى فنا خسرو؟ فقالوا لى: يوم الجمعة لا يحجب عنه صاحب طيلسان.
فدخلت والناس قد اجتمعوا، والملك قاعد على سرير ملكه، والناس صفوف على يسار الملك، وفوق الكل قاضى القضاة: بشر بن الحسين، وكان يدخل مع الوزراء في وزارتهم، ويصغى الملك إلى رأيه في أمر
الدولة، فلما رأيت ذلك كرهت أن أتقدم على الناس وأتخطى رقابهم، من غير أن أرفع، ولم تدعني نفسي أن أقعد في أخريات الناس.
وكان عن يمين الملك المجلس خاليا، ولا يقعد هناك إلا وزير وملك عظيم.
فمضيت وقعدت عن يمينه، بحذاء قاضى القضاة، فوجدوا من ذلك، وفزعوا واضطربوا، لانه كان عندهم من الجنايات العظام، ونظر الملك لقاضي القضاة نظرا منكرا، وما في المجلس من يعرفني إلا رجل واحد.
فقال للقاضى: هذا هو الرجل الذى طلبه الملك من البصرة، فأعلم الملك بذلك، فقال قاضى القضاة: أطال الله بقاء مولانا، هذا هو الرجل
1 / 21
الذى كتبت فيه، وهو لسان المثبتة.
فنظر الملك إلى الغلمان والحجاب فطاروا من بين يديه، ثم قال: اذكروا له مسألة، وكان في المجلس رئيس البغداديين من المعتزلة، وهو الاحدب.
وكان أفصح من عندهم وأعلمهم، وعدد كثير من معتزلة البصرة، أقدمهم أبو إسحاق النصيبينى، فقال الاحدب لبعض تلاميذه: سله، هل لله أن يكلف الخلق ما لا يطيقون، أو ليس له ذلك؟ - وكان غرضه تقبيح صورتنا عند الملك - فقلت له: إن أردتم بالتكليف القول المجرد فقد وجد ذلك، لان الله تعالى قال: (قل: كونوا حجارة أو حديدا) ونحن لا نقدر أن نكون حجارة ولا حديدا.
وقال تعالى: (أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، قالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم) فطالبهم بما لا يعلمون.
وقال تعالى: (يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون) .
وهذا كله أمر بما لا يقدر عليه الخلق.
وإن أردتم بالتكليف الذى نعرفه، وهو ما يصح فعله وتركه، فالكلام متناقض، وسؤالك فاسد، فلا تستحق جوابا، لانك قلت: تكليف، والتكليف: اقتضاء فعل ما فيه مشقة على المكلف، وما لا يطاق لا يفعل لا بمشقة ولا بغير مشقة.
فسكت السائل، وأخذ الكلام الاحدب فقال: أيها الرجل، أنت سئلت عن كلام مفهوم فطرحته
في الاحتمالات، وليس ذلك بجواب، وجوابه إذا سئلت أن تقول: نعم أو لا.
فأحفظنى كلامه لما لم يوقرني توقير الشيوخ ولم يخاطبني بما يليق.
وقلت له: يا هذا أنت نائم ورجلاك في الماء: إنما طرحت السؤال في الاحتمالات، وقد بينت لك الوجوه المحتملة، فإن كان معك في المسألة كلام فهاته، وإلا تكلم في غيرها.
فقال الملك للاحدب: أيها الشيخ، قد بين الاحتمال، وليس لك أن تعيد عليه، ولا أن تغالطه، ثم إنى ما جمعتكم إلا للفائدة لا للمهاترة، ولما لا يليق بالعلماء.
ثم التفت إلى وقال لى: تكلم على المسألة.
فقلت: ما لا يطاق على ضربين: أحدهما لا يطاق للعجز عنه، والآخر لا يطاق للاشتغال عنه بضده، كما يقال: فلان لا يطيق التصرف لاشتغاله بالكتابة وما أشبه ذلك، وهذا سبيل الكافر: أنه لا يطيق الايمان، لا لانه عاجز عن الايمان، لكنه لا يطيقه لاشتغاله بضده الذى
1 / 22
هو الكفر، فهذا يجوز تكليفه بما لا يطاق.
وأما العاجز فما ورد في الشريعة تكليفه، ولو ورد لكان جائزا وصوابا، وقد أثنى الله تعالى على من سأله أن يكلفه ما لا يطيق، فقال ﷿: (ولا تحملنا مالا طاقة لنا به)، لان الله تعالى له أن يفعل في ملكه ما يريد.
ثم تجاوز الاحدب الكلام إلى غيره، ومال الملك إلى قولى.
ثم سألني النصيبينى عن مسألة الرؤية: هل يرى الباري سبحانه بالعين؟ وهل تجوز الرؤية عليه أو تستحيل؟ وقال: كل شئ يرى بالعين، فيجب أن يكون في مقابلة العين.
فالتفت الملك إلى وقال: تكلم أيها الشيخ في المسألة.
فقلت: لو كان الشئ يرى بالعين لوجب أن يكون في مقابلة العين على ما قال: ولكن لا يرى الله بالعين.
فتعجب الملك من قولى، والتفت إلى قاضى القضاة، فقال: إذا لم ير الشئ بالعين، فبأى شئ يرى؟ فقال: يسأله الملك.
فقال أيها الشيخ
فبأى شئ يرى إذا لم ير بالعين؟ فقلت: يرى بالادراك الذى في العين، ولو كان الشئ يرى بالعين لكان يجب أن ترى كل عين قائمة، وقد علمنا أن الاجهر عينه قائمة ولا يرى شيئا.
فزاد الملك تعجبا، وقال للنصيبينى: تكلم.
فقال: إنى لم أعلم أنه يقول هذا، ولا بنيت إلا على ما نعرف، وظننت أنه يسلم أن الشئ يرى بالعين! فغضب الملك وقال: ما أنت مثل الرجل، لانك بنيت المسألة على الظن.
ثم التفت إلى وقال لى: تكلم أنت.
فقلت: العين لا ترى، وإنما ترى الاشياء بالادراك الذى يحدثه الله تعالى فيها، وهو البصر، ألا ترى أن المحتضر يرى الملائكة ونحن لا نراهم؟ وكان النبي ﷺ، يرى جبريل ﵇ ولا يراه من يحضره؟ والملائكة يرى بعضهم بعضا ولا نراهم نحن؟ والدليل على جواز رؤية الباري تعالى أنه ليس فيها قلب للحقائق، ولا إفساد للادلة، ولا إلحاق صفة نقص بالقديم تعالى، فوجب أن يكون كسائر الموجودات، لانه تعالى موجود، والشئ إنما يرى لانه موجود، لان المرئى لم يكن مرئيا لانه جنس، لانا نرى سائر الاجناس المختلفة، ولا لقيام معنى بالمرئى، لانا نرى الاعراض التى لا تحمل المعاني، وقد ثبت بالنص وجوب رؤية الحق سبحانه في الدار الآخرة.
ثم جرى
1 / 23
في المجلس كلام كثير، وقال الملك على إثره لقاضي القضاة: ألم أقل لك: إن مذهبا طبق الارض لابد له من ناصر.
ولما انقضى المجلس صحبني بعض الحجاب إلى منزل هيئ لى فيه جميع ما أحتاج إليه، فسكنته.
ولما خرج الباقلانى قال الملك لقاضيه: فكرت بأى قتلة أقتله لجلوسه حيث جلس بغير أمرى، وأما الآن فقد علمت أنه أحق بمكانى منى.
ثم دفع ابنه صمصام الدولة، ليعلمه مذهب أهل السنة، فعلمه وألف له كتاب " التمهيد " ولم يزل الباقلانى مع عضد الدولة، إلى أن أقدم بغداد.
وكان دخوله أياها في
سنة ٣٦٧، وظل الباقلانى أثيرا لديه، حتى إنه جعله رئيس البعثة التى أوفدها في سنة ٣٧١ إلى ملك الروم.
وقد قال الاستاذ " محمود محمد الخضيرى " والدكتور " محمد عبد الهادى أبو ريدة " في مقدمتهما لكتاب التمهيد: " إن هذه المناظرة جرت في مجلس الامبراطور باسيليوس الثاني، الذى حكم من سنة ٣٦٥ إلى سنة ٤١٦ هـ ".
ثم قالا: " ومهما يكن أمر سفارة الباقلانى بين عضد الدولة وبين ملك الروم، فنحن لا نعرف ظروفها التاريخية، وربما كان ملك الروم قد أراد من يبين له أمر الاسلام، أو يجيب عن أسئلة النصارى بشأن ما يعتقده المسلمون.
ويتبين من تفصيل المناقشات أن مهمة الباقلانى كانت مدنية علمية، هي أشبة ببعثة تبادل الآراء ومعرفة وجهات النظر الدينية، ولا سيما أنه ليس عندنا في التاريخ ما يدل على اتصال وثيق بين عضد الدولة وبين الروم من شأنه أن يكون داعيا لبعثات سياسية أو حربية أو أشبه ذلك، وأن المؤرخين يشيرون إلى هذه السفارة باختصار، أو هم يذكرون ما يدل على صبغتها الفكرية الدينية الخالصة.
على أنه من الجائز أن يكون ظهور شأن السلطان الفاتح عضد الدولة، بعد حروب دامت طويلا بين البيزنطيين والمسلمين وبعد تمرد أحد قواد الروم على الامبراطور في الشرق، كان مما دعا الامبراطور البيزنطى إلى عقد صلات التعارف مع عضد الدولة " ثم قالا: " إن الغرض الذى رمى إليه عضد الدولة من بعثة الباقلانى إلى بيزنطة هو إرضاء شعور
1 / 24