ثم رأيت أن استبقاء الخاتم الذي ودت أخذه إلى القبر، رأيت أن استبقاءه معي حرمان لها، وتعالت في نفسي عاطفة طغت على كل عاطفة سواها فقلت مضطربا: «احتفظي بالخاتم إن شئت أن يكون نصيبي. لأن ما لك هو لي.» فأطالت النظر في وجهي دهشة متأملة، ثم تناولت الخاتم ووضعته في أصبعها وقبلت جبهتي مرة أخرى وقالت بصوتها العذب الرقيق: «أنت لا تدري ماذا تقول، أيها الفتى، فحاول أن تفهم نفسك لتسعد وتسعد الآخرين».
الفصل الرابع
الذكرى الرابعة
نجتاز من العمر أعواما يماثل تتابعها ممرا طويلا قامت على جانبيه أشجار الحور تحجب عنا استدارة الأفق فنظل جاهلين أي الأنحاء نجوب، ولا نحفظ منها سوى كئيب الذكر أننا قطعنا من الأيام مراحل وتقدمنا في السن. ونلهو في حدائقنا بمراقبة المد المنبسط من نهر الحياة فيلوح لنا المشهد واحدا وإن تغيرت منه المناظر وتجددت على الشطين، فإذا ما بلغنا شلالات الحياة، شلالات الجهاد والعناء والألم، كان عملها في نفوسنا شديد الأثر، وكلما ابتعدنا عنها زاد تعالي صخبها وهديرها وضجيجها. حتى إذا أخذنا في الدنو من أوقيانس الأبدية اجتلى في ذهننا معناها، ووضحت لنا أهميتها، فشعرنا بأن القوة التي ما فتئت تمدنا بالنشاط والفطنة والحكمة وما زالت تسوقنا إلى الأمام نحو غاية سامية إنما تلك الشلالات أصلها ومصدرها، ومنها منهلها الذي لا ينضب.
انقضت مدة دراستي ومضت معها أوقات السرور والخلو وذوى من أحلامي الجميلة كثير، على أنه بقي لي إيماني بالله وحسن ثقتي بالبشر. رأيت الحياة شديدة الاختلاف عما صورته مخيلتي، ولكن الشئون بدت لإدراكي كبيرة مهمة تزينها المعاني الرفيعة السامية. وما أشكل منها وجلب غما وألما صار في تقديري أقوى شاهد على أن يد الله تدير حركات الكون فليس لعقولنا المحدودة أن تحصر تلك الحكمة المتناهية. «لا يقع شيء إلا بإذن الله وسماحه» غدا هذا المبدأ الفلسفي موضع راحتي وتعزيتي.
عدت في عطلة الصيف إلى بلدتي. فرح العودة وفرح اللقاء، من ذا منا يشرح أسبابه؟ من ذا الذي يتفهم لذة نتذوقها في أن نرى مرة أخرى ما رأيناه من قبل، وأن نجد من جديد ما سبق وعرفناه قدما؟ يكاد يكون التذكار سر كل تمتع وكل مسرة. قد يكون ما نراه ونسمعه ونذوقه لأول مرة جميلا مرضيا لذيذا على أنه يدهشنا بجدته وغرابته فلا يتم الهناء به لأن مجهود السرور يجيء غالبا أقوى من السرور نفسه. ولكن إذا سمع المرء بعد مرور أعوام نغمة قديمة كان يزعم أنه نسي كل نبرة من نبراتها فعرفتها روحه وعانقتها كأنها صديق عزيز، أو وقف أمام صورة العذراء ناظرا في عيني طفل تحمله فتنبهت فيه عواطف اعتادها عند هذا المشهد في صغره، أو استنشق زهرة، أو ذاق طعاما لم يذكره منذ زمن الحداثة، شعر بلذة لا يدري لعمقها أهي آتية من السرور الحاضر وحده أم هي جمعت بين أطايب الساعة المارة وتذكارات عهد مضى.
كذلك يعود الطالب منا إلى وطنه بعد غياب أعوام فتخوض نفسه بحر خواطر تحمله منه الموجات المترنحة نحو شواطئ الأيام القصية، وإذ يسمع ساعة البرج يضطرب خوفا من التأخر عن ميعاد الدرس ثم يعود من رعبه جذلا بانقضاء أيام الدراسة. يرى كلبا يعبر الشارع هو الكلب الذي طالما لاعبه في الماضي، وها هو الآن قد كبر وشاخ حتى قام الفراغ مكان أنيابه. وهاك بائع السلع المتجول الذي طالما جربتنا تفاحاته وما زالت في حكمنا، رغم غبار يلتصق بها ويغلفها، أشهى صنوف التفاح في العالم. وهناك هدم منزل قديم وشيد غيره مكانه. ذاك كان منزل معلم الموسيقى. ما كان أبهج الوقوف تحت نوافذه في ليالي الصيف والإصغاء إلى ما يبتكره ارتجالا للتسلية بعد ساعات العمل الطويلة، فتنطلق الألحان كأنها بخار تجمع في نفسه خلال النهار فأنشأ يعتقه ليلقي عنه حملا ثقيلا. وهنا في هذا الزقاق الضيق الذي كنت أخاله أوسع قليلا، هنا اجتمعت ليلة بابنة الجيران الجميلة. لم أكن فيما مضى لأجرأ على محادثتها والنظر إليها. على أننا نحن الصبيان كنا نتناقل أخبارها في المدرسة ونسميها «الفتاة الحسناء»، فإن رأيتها آتية في الشارع عن بعد اغتبطت لهذه المصادفة دون أن أطلب الدنو منها. وكان أنها مرة في هذا الزقاق المؤدي إلى المقبرة اتكأت على ذراعي وسألتني أن أسير بها إلى البيت. مشينا ولم ننبس بكلمة طول الطريق. كنت صامتا وظلت هي ساكتة، ولكن سروري كان من الشدة بحيث إني الآن بعد مرور أعوام، إن ذكرت تلك البرهة تمنيت انقلاب الزمن ورجوع ما لا يرجع ليتسنى لي السير مرة أخرى صامتا سعيدا تستند على ساعدي «الفتاة الحسناء».
وهكذا تتوارد خاطرة إثر خاطرة حتى تعج موجات التذكار فوق رءوسنا، ونرسل زفرة تلفتنا إلى أن الهجس أقلق انتظام التنفس منا، فيختفي عالم الأحلام بغتة كما تتلاشى الأشباح عند صياح الديك في الضحى.
ولما مررت أمام القصر القديم المحاط بأشجار الليمون ورأيت الحراس على خيلهم عند الدرجات العاليات توافدت التذكارات متلازبة في خاطري واكتأبت لدوران الأيام. لم أدخل هذا القصر منذ أعوام عديدة. لقد توفيت الأميرة، واعتزل الأمير خدمة الحكومة وسكن منزلا منفردا في إيطاليا، وصار نجله الأكبر الذي نشأت وإياه نائبا عنه. يقيم في هذا القصر تحف به بطانة من شبان الأشراف والقواد يتمتع بحديثهم ويهنأ بعشرتهم، فكيف لا يحسب أصدقاء طفولته غرباء عنه؟ ومما رغبني في الابتعاد أنني ككل شاب ألماني عرف احتياج الشعب الألماني من جهة وخطأ الحكومة الألمانية من جهة أخرى، كنت انضممت إلى حزب الأحرار واعتنقت نظرياته المغايرة لنظريات بلاط الملوك كل المغايرة.
نعم، منذ أعوام لم أصعد على ذلك الدرج. ورغم ذلك ألفظ كل يوم اسما قطنت صاحبته في هذا القصر ومثلت صورتها في ذهني لا تبتعد عني. اعتدت فراقها الجسدي لأنها نمت خيالا جميلا وثقت من أن لا أصل له في الواقع. صارت ملكي الحارسي وذاتي الأخرى، أحادثها ساعة أحادث نفسي، وأستشيرها وأعمل بنصيحتها. لست أدري كيف تجسمت في إلى هذا الحد على قلة معرفتي بها. ولكن كما أن النظر يبدع من السحب أشكالا كذلك حفظت ذكرى طفولتي رؤياها اللطيفة وكونت من خطوط الحقيقة الضعيفة الواهية صورة كاملة بارزة. أصبح تعاقب أفكاري محاورة بيني وبينها، وما هو حسن في، وكل ما أتوق إليه، وأسعى في سبيله، وأومن به، كل ذاتي المثلى كانت تخصها، كانت مهداة إليها كما أنها آتية من روحها، من روح ملكي الحارس الأمين.
Page inconnue