Ibrahim le scribe
إبراهيم الكاتب
Genres
دفع إبراهيم باب الحديقة الخلفي بقدمه، وانثنى إلى اليسار ثم وقف. ذلك أن شوشو كانت حانية على حوض الزهر تقطف زهرة من أزهار الأراولة وظهرها إليه. فعض شفته وخطر له أن يتراجع غير أنه خشي أنه تنتبه، فظل واقفا وقد بدأ المنظر يروقه، فقد نفخت شوشو الزهرة لتطير عنها الحشرات، ثم قبلتها ثلاثا وراحت تنزع غلائها المستطيلة المتحازية على مدار كأسها - واحدة واحدة - وتلقيها وهى تقول على التوالي: «نعم، لا، نعم، لا.» فوافقت «لا» آخر ورقة، فتجهم وجهها وتفلت ما بقي من الزهرة من بين أصابعها إلى الأرض، ولبثت هنيهة جامدة لا تتحرك، ثم أهوت على الحوض فجأة واقتلعت زهرة أخرى وأعادت التجربة فكان ختامها «نعم» في هذه المرة، فلم تكد تقوى على الوقوف ساكنة وراحت تدب برجليها وتضم كأس الزهرة إلى فمها بكلتا يديها.
ثم كأنما طاف برأسها أن الكفتين متعادلتان وأن «نعم» يقابلها «لا» فالمسألة لم تتزحزح عن موضعها الذي كانت فيه من قبل، فلابد من تجربة ثالثة للترجيح، وشكت في أنها بدأت التجربة الثانية كما بدأت الأولى «نعم» فقد يكون عدد الغلائل واحدا في كل زهرة من هذه الأزهار، فإن كان هذا هكذا فلا شك أن النتيجة تختلف تبعا لاختلاف ما تبدأ به. وإذا صح أن البدايتين اختلفتا، وأن عدد الغلائل واحد. فهل غشت إلا نفسها؟ وهل يمكن أن تكون النتيجة إلا واحدة فى كل مرة؟
ولكن هل الغلائل عددها متساو؟ هذه هي المسألة! ولحلها حنت على الزهر فقطفت اثنتين ومضت تشد الورق وتعد، فاختلف الرقمان، فتهلل وجهها وبدا السرور في وقفتها وحركاتها، فقد صار التجريب معقولا، والأمر متروكا للمصادفة والاتفاق، وليس مما يسهل العلم بنتيجته من غير أن يتكلف المرء قطف الزهر وإفساده بنزع ورقه، وصاحت «لنبدأ من جديد».
فعلم إبراهيم أنها محت التجربتين وأسقطتهما من حسابها، وراحت تنزع الورق في تؤدة وأناة وتثني رأسها على صدرها في كل مرة، حتى بقيت ورقة واحدة قالت من غير أن تنزعها «نعم» طويلة ممطوطة كأنها الصعداء تتنفسها وتحط بها عن كاهلها وقرا، ثم وقفت ساكنة لا تصنع شيئا ولا تتحرك. ورأسها مثني على صدرها وعينها ترنو إلى الكاس الذي لم تبق على حافته سوى ورقة واحدة وفي وجهها طول، وفي هيئتها استرخاء كأن جسمها موشك أن يتهافت وأن يهوي إلى الأرض كوما مفكك الذرات.
فعجب إبراهيم لهذه التي كانت تطفر كالفراشة قبل دقيقة لماذا وجمت بغتة؛ وللنفس الإنسانية وسرعة انتقالها من المرح والكآبة، ولخفاء البواعث التي تفضى إلى هذا أو ذاك؛ على حين تدعو الظواهر إلى النقيض، وود في هذه اللحظة لو يستطيع أن يرد إليها البشر الذي كان ينضح به وجهها، والخفة التى كانت فى روحها، والمرح الذي كان في سلوكها، والضحكات الكروانية والدعابة التي كانت تركب بها الحياة نفسها - في ليال معدودات - غاب كل هذا، وذهبت شوشو اللعوب المفراح التي لم تحتج يوما أن تفكر أن تمد بصرها إلى ما وراء اللحظة التي هي فيها. ولكن هذا ليس في وسعه، وما هو بأحسن منها حالا ولا بأقل حاجة إلى الغوث، نعم، الغوث، ولكنه رجل مجرب وهي فتاة غريرة، وهو قد خاض العباب وغالب التيار وتدرب على المكافحة، وهذا أول عهدها باللجة الطامية، وما أهول الغصص التي تعانيها وهي تغوص وتطفو وتختنق وتشرق وتدفع باليدين والرجلين وتحاول أن تصيح طلبا للنجدة فيخرسها الماء الذي يملأ فمها، وتومئ فلا يراها أحد، ومن ذا الذي يغيث في هذا الخضم الضاغي؟
أين اليد التي ليست في شاغل من أمرها؟
ومع أن ما كانت شوشو فيه، واضح المعنى، فقد شاء إبراهيم أن يتجاهله وارتد إلى الباب ففتحه ثم أغلقه بعنف كأنما كان داخلا لتوه، وأقبل على شوشو التي انتبهت على صوت الباب، وتكلف البشاشة وفي صدره أظافر تمزقه وبسط إليها كفيه وقال وهو يسرع إليها: ما أبدع الجو في البكور! هل أفطرت؟
فمنحته كلتا يديها وسألته بصوت خافت: أين كنت؟
فأبقى كفيها في يديه ونظر إليها وقال بلا تكلف: ما ابدعك! - إبراهيم! - إنك تفرغين على الحديقة جمالا جديدا. أحب أن أخبرك أني اليوم مجرم ... لماذا تتراجعين؟ أتتخلين عني في محنتي؟ نعم لقد قتلت رجلا. لا تراعي! إنه ليس إلا أحمد الميت؟ غرق أو هو يغرق الآن أو لا أدري فقد يعود إلى الحياة ثانية! على كل حال ليست هذه أول ميتاته إن صح ما تحكون عنه.
ولما رآها حائرة مضطربة قص عليها ما حدث وبالغ في الوصف فسرى عنها وأغربت في الضحك وجعلت هي تطمئنه وتؤكد له أن لا خوف أن يقاد به. •••
Page inconnue