Ibrahim le scribe
إبراهيم الكاتب
Genres
وانطلق هاربا من الغرفة. وخلفها واقفة مبهوتة واجمة تحملق في أثره وفمها مفتوح من الدهشة؛ حتى كأنما أحالها بصيحته هذه تمثالا للبلاهة.
الفصل الرابع
«إلى أن يفيح النهار وتنهزم الظلال اذهب إلى جبل المر وإلى تل اللبان»
1
قبل أن نتقدم بخطوة أخرى في هذا التاريخ - أو في هذه الفترة من حياة صاحبنا إبراهيم - نكر راجعين بالقارئ بضعة أسابيع لنجلو ما عساه يكون مشكلا مما أسلفنا قصة في الفصل السابق. وهي أوبة تردنا إلى أيام عشرة قضاها في مستشفي لا حاجة بنا إلى اسمه إذ كنا لن نعود إليه مرة ثانية، وكانت طلبتنا عنده قد زايلته. وكان كبير الأطباء صديقا لإبراهيم فأوصى به الخدم والممرضات، وأطلق له الحرية في استقبال الزوار، وأمرهم أن يتوخوا في ذلك مرضاته. وكان هذا شرط إبراهيم لما ألح عليه الطبيب أن يجري له العملية، فقبله واكتفى بأن ينبه إلى وجوب الإقلال من تقبل الزيارات في الأيام الأولى على الأقل.
وفى صباح اليوم المضروب للعملية ذهب إبراهيم وحده إلى المستشفى دون أن يخبر أمه أو ابنه. وهما كل أهل بيته إذا أسقطنا الخدم - كأنه ماض إلى عمله. وتقدم إلى غرفة الجراحة بجأش رابط ونفس - لا نقول مطمئنة - ولكنا نقول غير مكترثة لما عساه أن يكون. ومع أن الطبيب احتاج أن ينشقه مقدارا كبيرا من الكلوروفورم، فإنه لم يكد يغسل يديه حتى كان إبراهيم قد فتح عينيه وأفاق إلى حد كببر، فحملوه وهو متنبه ووضعوه في سريره وتركوا إلى جانبه ممرضة تعنى به، فلبث نحو ساعة لا يتحرك ولا يتكلم ولا يصنع أكثر من أن يدير عينيه في السقف والجدران أو يرفع يديه من حين إلى حين ويمسح جبينه لغرض واحد هو أن يثبت لممرضته أنه مفيق. وهي تحدجه بنظرها ولا تكاد تحول نظرها عنه كأنما تعجب لجلده. ثم لفت وجهه فجأة وقال: «ما اسمك؟» ولم يكن ذلك منه التفات سائل عادي بل كان أشبه بحركة متوجع.
ويظهر أن هذا آخر ما كانت تنتظر أن يسألها عنه، فلم تجد الجواب حاضرا وتلعثمت وهي تخبره أن اسمها «ماري» وحول وجهه عنها قبل أن تنطق وعاد إلى صمته، وكأنما توهمت أنه لم يسمع وخشيت أن يسوءه حسبانه أنها لم تجب أو كأنما ملت طول الصمت الذي ألزمها إياه - والصمت أشق على النساء منه على الرجال - فمالت إليه وحنت عليه وكفاها على السرير لتعتمد عليه وقالت: أقول إن اسمي ماري.
فتصلبت عضلات وجهه وانزوى ما بين عينيه وتضاغطت شفتاه هنيهة قبل أن يقول لها: «نعم سمعت ... أرجو ألا تضعي يدك على الفراش فيتحرك ... مؤقتا على الأقل ...».
فرفعت يديها بسرعة عن السرير وقد أدركت أن صمته تجلد؛ وأنه يكابد من الألم ما يود أن يكتمه لسبب ما، ونهضت وقد حدثتها نفسها أن خير ما تحسن به إليه هو أن تدعه وحده. وفطن هو أيضا إلى ما خطر لها وأوما إليها بعينيه فعادت إلى كرسيها فقال: هل تعلمين أن أهلي يجهلون أني هنا؟ - كلا!
وبدا عليها شىء من الدهشة فلم تدر ماذا تقول أكثر من «كلا» ومضى هو في كلامه فقال: أرجو أن تغتفري لي ما أنا قائل. إن وجودك معي الآن على الأقل لا يكاد يجديني. وأنت في الخارج أنفع لى منك هنا. كم الساعة الآن؟. - التاسعة والربع. - لا يزال إذا في الوقت فسحة. إن أخى على موعد معي هنا. وهو لا يعرف شيئا مما حدث ولا يتوقعه. وكل ما أطلعته عليه هو أني سأعرض نفسي على الدكتور ... وأني أحب أن يكون معي. وسيحضر بعد قليل. والآن افتحي الدولاب وناوليني الورقة التي في الجيب الأيمن من سترتي ... أشكرك.. متى جاء أخى فأطلعيه على الحقيقة وهوني عليه الأمر ما استطعت، وإذا طلب أن يراني فقولي له إني نائم - فإني أخشى أن يكثر من الاسئلة الفارغة البلهاء. وأكدي له أني كتبت هذه الورقة بعد أن أفقت من العملية وزال عني ألمها وذلك ليطمئن قلبه - إنها كذبة ولكن يكون في بعض الأوقات ضروريا، واطلبي منه أن يعمل بما في الورقة حرفيا ... أحسبني أتكلم أكثر مما يلزم فهل أستطيع أن أعتمد على ذكائك وحسن تصرفك؟
Page inconnue