92

ابن تيمية: حياته وعصره، آراؤه وفقهه

ابن تيمية: حياته وعصره، آراؤه وفقهه

Maison d'édition

دار الفكر العربي

كانت تفاخر به كل بقاع الإسلام، ودعت النفس التي احتملت كل ما يحتمل الحر الكريم في سبيل الدفاع عن الحق الذي يعتقده.

١٠١- مات ابن تيمية في المحبس الذي ألقاه فيه صديقه السلطان الناصر، وكان في أول أمره محبساً كريماً يليق بمثله، ثم صار محبسا ضيقا قد منع فيه ذلك العقل الكبير الجبار من الانطلاق؛ وكأن الله سبحانه وتعالى كتب على ذلك العالم الجليل ألا يموت إلا في ميدان الجهاد؛ لقد جاهد بسيفه، وجاهد بلسانه، وجاهد بقلمه، فلما حبسوا اللسان انطلق القلم، فكان يرسل من سجنه صيحات الحق البين الجلي في نظره يرد على المخالف، ويناصر ما يعتقده الدين، ويزكي قوله بأقوال السابقين؛ ثم لما حاولوا حبس القلم لم يلبث إلا قليلا حتى قبضه ربه، فكان كالأسير أخذه الخصم من ميدان الحرب، فكان جهاده أشق وأعظم.

ولقد قدر الله لهذا العالم الجليل، والمجاهد العظيم أن يموت حراً ليس لابن أنثى عليه فضل، لقد توثقت العلائق بينه وبين السلطان الناصر، وحكمه هذا في رقاب العلماء الذين آذوه فما قال إلا خيراً، وكأنه كان يقتدي بالرسول عندما قال فيمن راموه بالسوء من عشيرته: اذهبوا فأنتم الطلقاء؛ ولو مات وهو ممكن عند السلطان ذلك التمكين لقال بعض الناس إنه كان تابعاً للسلطان، أو ما ظهر إلا بسطوته، وما علا إلا بقوته؛ ولكن يأبى الله العلي القدير إلا أن يظهر ذلك العالم العظيم على حقيقته، العالم المستقل القوي، الذي لا يتبع أحداً؛ ولا يرجو المكانة من أحد، إنما يرجوها من رضا الله سبحانه، وقول الحق الذي يعتقده في إبانه، والنطق به في مكانه، لا يضطرب ولا يتلعثم؛ فكانت عظمته من ذات نفسه، وخرج كالدوحة العظيمة يستظل بظلها الناس؛ ولا تستمد قوتها إلا من فالق الحب والنوى؛ فالناصر عندما يلاقي التتار يرجوه أن يكون بجواره؛ ليستمد منه بعد الله البأس والقوة؛ أما هو فلم يستمد القوة إلا من الله، وقام البرهان، إذ لو كان يستمدها من الناصر ما ألقى به في غيابات السجن، فكان الدليل القاطع على أنه كان متبوعا ولم يكن تابعاً؛ وحراً سيداً، وليس عبداً رقيقاً.

91