افتتاح
القسم الأول
الباب الأول: عصر ابن تيمية
1 - الناحية السياسية
2 - الناحية الاجتماعية
3 - الناحية العقلية والعلمية
الباب الثاني: حياة ابن تيمية
1 - أسرته ونشأته ودراساته ومكانته العلمية
2 - جهاده التتار وكفاحه الظلم والمنكرات
3 - خصومه، محنته، ووفاته
الباب الثالث: منهج وتطبيقات
1 - المنهج
2 - التطبيقات
القسم الثاني
الباب الأول: في الفقه وأصوله
1 - أصول الفقه
2 - فقه ابن تيمية
الباب الثاني: في التفسير
1 - سورة الأعلى
2 - تفسير سورة الفلق
3 - سورة الناس
الباب الثالث: في الاجتماع والسياسة
1 - في الاجتماع
2 - في السياسة
خاتمة البحث
افتتاح
القسم الأول
الباب الأول: عصر ابن تيمية
1 - الناحية السياسية
2 - الناحية الاجتماعية
3 - الناحية العقلية والعلمية
الباب الثاني: حياة ابن تيمية
1 - أسرته ونشأته ودراساته ومكانته العلمية
2 - جهاده التتار وكفاحه الظلم والمنكرات
3 - خصومه، محنته، ووفاته
الباب الثالث: منهج وتطبيقات
1 - المنهج
2 - التطبيقات
القسم الثاني
الباب الأول: في الفقه وأصوله
1 - أصول الفقه
2 - فقه ابن تيمية
الباب الثاني: في التفسير
1 - سورة الأعلى
2 - تفسير سورة الفلق
3 - سورة الناس
الباب الثالث: في الاجتماع والسياسة
1 - في الاجتماع
2 - في السياسة
خاتمة البحث
ابن تيمية
ابن تيمية
تأليف
محمد يوسف موسى
افتتاح
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم إنا نستمد بك المنحة، كما نستدفع بك المحنة، ونسألك العصمة، كما نستوهب منك الرحمة.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، ويسر لنا العمل كما علمتنا، وأوزعنا شكر ما آتيتنا، وانهج لنا سبيلا يهدي إليك، وافتح بيننا وبينك بابا نفد منه عليك. لك مقاليد السماوات والأرض، وأنت على كل شيء قدير.
1
وبعد، فهذا كتاب كلفت بكتابته عن علم من أعلام العرب والإسلام، وهو الإمام «ابن تيمية»، وقديما أعجبت بفقهه إعجابا شديدا، ورأيته أحد الأئمة الذين شاء الله أن يجدد بهم الإسلام، وأن يعز بهم دينه وشريعته، وأن يحفظ به وبأمثاله أمة العروبة والإسلام.
وقد جعلته على قسمين وخاتمة، وكل قسم ينتظم أبوابا ثلاثة. وعنيت في القسم الأول ببيان عصره من نواحيه المختلفة، وبالكلام على حياته الخصبة المباركة وجهاده، وبتجلية منهجه في البحث، مع ذكر تطبيقات له في العلوم المختلفة.
وفي القسم الثاني، عنيت بالكلام على آرائه في الدين والحياة؛ في الفقه وأصوله، وفي تفسير ما اضطلع به من كتاب الله، وفي الاجتماع وسياسة الحكم وأصوله التي يقوم عليها.
وأخيرا، أشرت إلى مكانته ومنزلته العلمية، وإلى خصومه وأنصاره - وما أكثرهم! - فيه. كما أشرت إلى مقدار ما نفيد من دراسته ومنهجه في الحياة، وإلى أثره فيمن بعده.
ربنا آتنا من لدنك رحمة، وهيئ لنا من أمرنا رشدا، ومنك نستمد العون والتوفيق والسداد.
محمد يوسف موسى
روضة القاهرة في سنة 1381ه/1962م
القسم الأول
عصره وحياته ومنهجه
الباب الأول
عصر ابن تيمية
البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه
كما يقول العليم الحكيم، ومن أصدق من الله قيلا! وللبيئة - كما للوراثة - أثرها الكبير في الإنسان إلا أن يشاء الله، سواء في ذلك البيئة الطبيعية والاجتماعية والسياسية. وقد تحكمت البيئة في حياة كثير من الناس ومصايرهم، وبخاصة الذين صبروا على ما فيها من عادات وتقاليد متأصلة، فلم يعملوا للخروج عنها مع ما قد يكون فيها من ضلال وفساد، ومنهم من كانوا يقولون كما حكى الله عنهم:
إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون .
1
ولم يخرج عن أحكام البيئات الضالة إلا الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وكذلك المصلحون المجددون الذين ثاروا على ما توارثوه من عادات وتقاليد ليست من الحق في شيء، فعملوا على الوقوف دونها وتغييرها، وتحملوا صابرين راضين بما لقوا من اضطهاد وبلاء في هذه السبيل، ومنهم كان الإمام تقي الدين ابن تيمية، كما سنعرف في القسم الخاص بحياته وجهاده وكفاحه.
ولذلك، يجب علينا أن نبدأ هذا الكتاب بالكلام، دون تفصيل، عن العصر الذي عاش فيه ابن تيمية وما سبقه بقليل،
2
فنعرض أولا للحال السياسية، ثم بعدها للحال الاجتماعية؛ لننتهي بالحال العقلية والعلمية.
ومن ثم نتبين أي زمن عاش فيه من نواحيه كلها، وكيف كان قدرا مقدورا عليه أن يكافح ما رأى فيه من فساد، وذلك من حين بلغ الشيخ أشده واستوى وآتاه الله حكمة وعلما.
الفصل الأول
الناحية السياسية
(1) تمهيد
ظلت الدولة العربية الإسلامية دولة موحدة في الشرق والغرب طوال عهد الخلفاء الراشدين والدولة الأموية، لها أهدافها وغاياتها المعروفة، وتصدر عن رأي واحد جميع، وسياسة واحدة يرسمها الخليفة بالمدينة، ثم بدمشق من بعد.
وكان أول هزة عنيفة نالت من هذه الوحدة، ما كان من صراع معروف بين الأمويين والعباسيين، وانتهى هذا الصراع بقيام الدولة العباسية في الشرق والدولة الأموية بالغرب في الأندلس، ثم بالدول الأخرى التي قامت بشمالي أفريقية.
واستقر الأمر للدولة العباسية بالمشرق، ومشت قدما إلى الأمام حتى كانت فتنة الأمين والمأمون، فكانت إيذانا بتمزق الوحدة الإسلامية. ثم جدت عوامل أخرى جعلت عقد الوحدة ينتثر، وتظهر في رقعة الوطن الإسلامي الأكبر دولة صغيرة هنا وهناك، وكان لذلك أثره القوي في مركز الخلافة وضعف نفوذ الخلفاء وسكون ريحهم.
نعم، مرت الدولة العباسية من ناحية القوة والضعف بأدوار مختلفة، كان لخلفائها في بعضها الكلمة العليا والحكم النافذ، وفي بعضها لم يكن لهم من الحكم والخلافة إلا الاسم والرسم، فكانت السيادة الفعلية للمتغلبين عليهم، أمثال بني بويه الديالمة (334-447ه)، والأتراك السلاجقة (447-590ه)، وفي بعضها الآخر كانوا يسترجعون شيئا من القوة الذاهبة والعز الذي ولى، حتى انتهى أمرهم على أيدي التتار سنة 656ه.
وقد كان اصطناع الخليفة المعتصم بالله (218-227ه) للأتراك، يتخذ منهم جندا يستغني به عن العرب والموالي من خراسان إيذانا ببدء طور الضعف وزوال هيبة الخلفاء وذهاب الوحدة للأمة.
وذلك بأنه عندما أحس هؤلاء الجند الأتراك بأنهم عدة الخلفاء وقوتهم، أخذوا في الاستئثار بالسلطان حتى تحكموا في الخلافة وأمورها، بل في الخلفاء وحياتهم، وانتهى الأمر بأن صار الخليفة في منزلة من الهوان لا يملك من أمر نفسه شيئا.
وهذه المنزلة تظهر للباحث من حالة النظر في بعض كتب التاريخ، مثل: «الطبري» وصلته، و«الكامل» لابن الأثير، و«مروج الذهب» و«التنبيه والإشراف» للمسعودي، و«البداية والنهاية» لابن كثير، و«تاريخ بغداد» للخطيب ، و«شذرات الذهب» لابن العماد الحنبلي .
وكان لذلك أثره المحتوم: استقلال كثير من أمراء الأطراف، وظهور عدد غير قليل من الدول في رقعة البلاد العربية الإسلامية؛ مثل الفاطمية بمصر، والحمدانية بالجزيرة، والسامانية فيما وراء النهر، والبويهية، والخوارزمية، والسلجوقية، وذلك كله فضلا عن الدول التي ظهرت بالمغرب.
هذا، وقد كان مما حدث في مصر والشام في هذا العصر حدثان لهما في هذين البلدين الشقيقين أكبر الخطر من الناحية السياسية والاجتماعية معا، ولهما في حياة ابن تيمية بصفة خاصة أثر أي أثر، هما: ظهور التتار بالمشرق واستيلاؤهم على بغداد وزحفهم إلى الشام ومصر، والثاني: خروج الفرنج الصليبيين إلى هذين الإقليمين أيضا.
وينبغي أن نتناول هنا - ولو بإيجاز - هذين الحدثين اللذين عاصرهما الشيخ ابن تيمية، وأخذ كل منهما جانبا كبيرا من جهاده الحربي والسياسي، راجعين إلى ابن الأثير، وهو مؤرخ ثقة معاصر، وإلى غيره من المؤرخين المعاصرين له أو الذين جاءوا بعده. يقول ابن الأثير في أحداث سنة 617ه: «لقد بلي الإسلام والمسلمون في هذه المدة بمصائب لم يبتل بها أحد من الأمم؛ منها ظهور هؤلاء التتر - قبحهم الله - أقبلوا على المشرق ففعلوا الأفعال التي يستعظمها كل من سمع بها، وستراها مشروحة مفصلة إن شاء الله تعالى.
ومنها، خروج الفرنج - لعنهم الله - من المغرب إلى الشام، وقصدهم ديار مصر، وملكهم ثغر دمياط منها، وأشرفت ديار مصر والشام وغيرها على أن يملكوها، لولا لطف الله تعالى ونصره عليهم.»
1 (2) أولا: ظهور التتار
عن هذا الحدث، نجد المؤرخ نفسه يتحدث عن مقدار ما في خروج التتار إلى البلاد الإسلامية بصفة عامة، فيقول: «لقد بقيت عدة سنين معرضا عن ذكر هذه الحادثة؛ استعظاما لها كارها لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلا وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين! ... ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي.
إن هذا الفصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، عمت الخلائق وخصت المسلمين. فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن لم يبتل بمثلها، لكان صادقا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها ...
ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج. وأما الدجال فإنه يبقي على من اتبعه ويهلك من خالفه، وهؤلاء لم يبقوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنة ...
فإن قوما خرجوا من أطراف الصين، فقصدوا بلاد تركستان ... ثم منها إلى بلاد ما وراء النهر؛ مثل سمرقند وبخارى وغيرهما، فيملكونها ويفعلون بأهلها ما نذكره، ثم تعبر طائفة منهم إلى خراسان فيفرغون منها ملكا وتخريبا وقتلا ونهبا، ثم يتجاوزونها إلى الري وهمذان وبلد الجبل وما فيه من البلاد إلى حد العراق ... في أقل من سنة، هذا ما لم يسمع بمثله ...
ومضى طائفة أخرى غير هذه الطائفة إلى غزنة وأعمالها وما يجاورها من بلاد الهند وسجستان وكرمان، ففعلوا فيها مثل فعل هؤلاء وأشد؛ هذا ما لم يطرق الأسماع مثله.
فإن الإسكندر، الذي اتفق المؤرخون على أنه ملك الدنيا، لم يملكها في هذه السرعة، إنما ملكها في نحو عشر سنين ولم يقتل أحدا، إنما رضي من الناس بالطاعة، وهؤلاء (أي التتار) قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض وأحسنه وأكثره عمارة وأهلا، وأعدل أهل الأرض أخلاقا وسيرة، في نحو سنة، ولم يبت أحد من البلاد التي لم يطرقوها إلا وهو خائف يتوقعهم ويترقب وصولهم ...»
ثم يتكلم المؤرخ الثقة عن ديانتهم وبعض عاداتهم وتقاليدهم، فيقول: «أما ديانتهم فإنهم يسجدون للشمس عند طلوعها، ولا يحرمون شيئا؛ فإنهم يأكلون جميع الدواب حتى الكلاب والخنازير وغيرهما، ولا يعرفون نكاحا، بل المرأة يأتيها غير واحد من الرجال، فإذا جاء الولد لا يعرف أباه.»
2
وليس فيما يقوله ابن الأثير وغيره من المؤرخين عن ابتلاء العالم، وبخاصة البلاد الإسلامية، بالتتار وما ارتكبوه من الفظائع وعظيمات الأمور، شيء ما من المبالغة، فإن زحفهم الجياش، ومدهم المتلاطم الأمواج، قد أوقع الرعب في العالم كله حتى للقارة الأوروبية، وبدل الناس جميعا من بعد أمنهم خوفا .
ونعتقد أن المؤرخ «جيبون» قد صدق حين يمثل لقارئه مدى ما أصاب العالم من ذعر ورعب بسبب موجات التتار أو المغول، وذلك بقوله: «إنها كانت أشبه بهزات الطبيعة العنيفة التي تغير وجه الأرض»، وحين يقول: «إن بعض سكان السويد، وقد سمعوا عن طريق روسيا نبأ ذلك الطوفان المغولي، لم يستطيعوا أن يخرجوا كعادتهم للصيد في سواحل إنجلترا؛ خوفا من المغول!»
3
سقوط بغداد وأثره
يذكر المؤرخون لسقوط بغداد وذهاب الخلافة العباسية من العراق، أو على الأقل لتعجيل هذا المصير الذي كان حتما مقضيا، عوامل مختلفة؛ منها ما وصلت إليه الدولة من الضعف والفرقة لعوامل لا ضرورة لذكرها هنا، ويكفي أن نشير إلى الصراع بسبب الجنس، والنزاع العنيف بسبب اختلاف العقيدة أو المذهب الديني، وانصراف بعض الخلفاء ورجالات الدولة إلى ضرب من الحياة أنساهم الواجب عليهم لأمة العروبة والإسلام.
ولكن إذا كان كل ذلك حقا، فهل من الحق أن الخلاف بين أهل السنة والشيعة الرافضة، كان من تلك العوامل التي يسرت للتتار دخول بغداد أيضا؟ هذا ما يقرره كثير من المؤرخين، ومنهم ابن كثير الذي عاصر تلك الأحداث.
إنه يذكر في حوادث سنة 656ه أن وزير الخليفة المستعصم بالله آخر الخلفاء العباسيين، وهو مؤيد الدين محمد بن العلقمي - وهو من الرافضة - عمل لذلك بسبب ما كان من عداء وحرب بين أهل السنة وشيعته، «فكان هذا مما أهاجه على أن دبر على الإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيع الذي لم يؤرخ أبشع منه منذ بنيت بغداد ...» إلى آخر ما قال.
4
ومهما يكن من أمر، فقد أخذ التتار بغداد، وقتلوا أكثر أهلها حتى الخليفة، وانقضت دولة بني العباس منها، وأزالوا معالم الحضارة والثقافة الإسلامية، وكان لذلك كله أكبر الآثار في حياة مصر والشام وسائر بلاد الإسلام. ونكتفي هنا بالكلام عن الناحية السياسية وحدها.
ليس علينا أن نتتبع التتار في معاركهم في الشرق حتى كفى الله شرهم وارتدوا على أدبارهم، ولكن نتعرض فحسب إلى مجيئهم بجموعهم إلى الشام ومحاولتهم امتلاك هذا القطر أولا ثم مصر ثانيا، ثم إلى ما كان من قيام الخلافة بمصر بعد بغداد.
في سنة 658 صار ملك العراقين وخراسان وغيرها من بلاد الشرق للسلطان هولاكو ملك التتار، فأصبح الطريق مفتوحا أمامه إلى الشام، فبادر إليها بجيوشه عابرين الفرات، وما لبثوا أن ملكوا حلب ثم دمشق، وجاسوا خلال الديار، وقد ملأ الرعب قلوب الأهلين بعد أن وصل التتار إلى غزة في طريقهم إلى مصر كنانة الله في أرضه.
وأرسل هولاكو رسله إلى مصر بكتاب يهدد فيه الملك المظفر قطز تهديدا بالغا بدأه بقوله: «من ملك الملوك شرقا وغربا»، وفيه يقول له: «فعليكم بالهرب وعلينا الطلب، فأي أرض تأويكم، وأي طريق تنجيكم، وأي بلاد تحميكم؟ فما لكم من سيوفنا خلاص!»
ولكن الملك المظفر لم ينخلع قلبه من هذه الرسالة، وأعد للأمر عدته مستعينا بالله الذي ينصر عباده المؤمنين به حق الإيمان، وذلك أنه - كما يذكر ابن كثير - لما بلغه ما كان من أمر التتار بالشام، وأنهم عازمون على الدخول إلى ديار مصر، بادرهم قبل أن يبادروه، فخرج في عساكره وقد اجتمعت الكلمة عليه، حتى انتهى إلى الشام.
ثم التقى الجمعان بالشام على «عين جالوت»، وكان قتال شديد انتهى بنصر الإسلام وأهله انتصارا مبينا، وبهزيمة التتار هزيمة شنيعة وبفرارهم، فلحق بهم الجيش الإسلامي يقتلونهم في كل موضع ومكان.
ولما بلغ هولاكو ما صار على جيشه من المسلمين بعين جالوت، أرسل جيشا آخر يحاول استعادة الشام، فحيل بينه وبين ما يشتهون، ورجعوا إليه خائبين خاسرين؛ وذلك على يد الملك الظاهر بيبرس الذي خلف الملك المظفر، وكان ذلك بفضل الله وتضامن المصريين ومن عاونهم من أمراء الشام وأهله.
ويذكر المقريزي أن الملك المظفر، وقد عاين أن المسلمين زلزلوا زلزالا شديدا، ألقى خوذته على الأرض وصرخ بأعلى صوته: «وا إسلاماه (ثلاث مرات)! يا الله انصر عبدك قطز على التتار، وحمل بنفسه وبمن معه حملة صادقة، كان بعدها نصر الله المبين.»
ثم يقول المقريزي: «وأما التتار، فإنهم لما لحقهم الطلب إلى أرض حمص، ألقوا ما كان معهم من متاع وغيره وأطلقوا الأسرى، وعرجوا نحو طريق الساحل ، فتخطف المسلمون منهم وقتلوا خلقا كثيرا وأسروا أكثر. فلما بلغ هولاكو كسرة عسكره وقتل نائبه كتبغا، عظم عليه، فإنه لم يكسر له عسكر قبل ذلك، ورحل من يومه.»
5
وهكذا هزم الله التتار على أيدي المصريين ومن انضم إليهم من جند الشام من العرب وغيرهم، وأيقن التتار أن مصر لهم بالمرصاد، وأن قضاء الله هو الغالب، وأن العزة لله ورسوله وللعرب وللمؤمنين. •••
هذا عن الأثر السياسي الأول لسقوط بغداد بأيدي التتار، وإزالة الخلافة العباسية عنها، وكان الأثر الثاني هو إقامة هذه الخلافة بمصر بعد أن أصبحت مثابة للمسلمين ودرعا لهم، وستبقى كذلك بفضل الله إلى يوم الدين.
ظل منصب الخلافة شاغرا بعد قتل آخر الخلفاء ببغداد ثلاث سنين ونصف سنة، وفي هذه الفترة علا شأن مصر وبخاصة بعد وقوفها أمام التتار وردهم على أعقابهم مدحورين إلى غير رجعة.
وأحس القائمون بمصر من المماليك بضرورة العمل لإضفاء صفة «الشرعية» على ولايتهم وسائر تصرفاتهم، وكان من ذلك أن فكروا في إقامة خليفة بالقاهرة يستمدون منه سلطاتهم شرعا دون أن يتحيف ذلك شيئا من إمرتهم ونفوذهم، وقد تم لهم هذا على أيسر سبيل، وفرح الناس فرحا شديدا باحتضان مصر للخلافة والخلفاء الشرعيين.
وذلك بأن قدم إلى مصر سنة 659، في عهد سلطنة الملك الظاهر بيبرس، الأمير أبو القاسم أحمد ابن أمير المؤمنين الظاهر بأمر الله، وهو عم الخليفة المستعصم الذي قتله التتار ببغداد، فخرج السلطان الظاهر إلى لقائه ومعه القاضي والوزير والعلماء والأعيان وآخرون من دونهم.
وفي الإيوان بقلعة الجبل أثبت الأمير نسبه بمحضر السلطان ومن معه، فبويع بالخلافة، وكان أول من بايعه شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام، وتلاه السلطان والقاضي ثم الأمراء ومن إليهم،
6
ولقب «المستنصر بالله»، وضرب اسمه على السكة، وكتب ببيعته إلى الآفاق.
فلما كان يوم الجمعة بعد ذلك بأيام، ركب الخليفة إلى الجامع بالقلعة، وخطب على المنبر ذاكرا شرف بني العباس، ثم دعا للسلطان ونزل وصلى بالناس. وبعد بضعة عشر يوما ، في رابع شعبان من ذلك العام، ألبس الخليفة السلطان بيده خلعة توليته، وفوض إليه الأمور في البلاد الإسلامية، ولقبه بقسيم أمير المؤمنين، وقرأ فخر الدين بن لقمان رئيس الكتاب تقليد الخليفة للسلطان.
وكانت بيعة السلطان للخليفة، كما يذكر المقريزي في كتابه «السلوك»، على العمل بكتاب الله وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم ، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، وعلى أخذ الأموال بحقها وصرفها في مستحقيها.
7
ونشير هنا إلى أن هذه الخلافة كانت رمزية لا أكثر، وذلك ما كان يتفق وطبيعة ذلك الزمان والحاكمين المتسلطين فيه، فلم يكن للخليفة - كما يقول المقريزي في «الخطط» - أمر ولا نهي، إنما حظه أن يقال: أمير المؤمنين!
ومهما يكن، فقد تبنى الخلافة بلد قوي، وآوت إلى ركن شديد، وأصبحت الأنظار ترنو إلى مصر بعد أن ردت التتار عن الشرق والإسلام والمسلمين، وبعد أن ظفر سلاطينها من المماليك بسند شرعي يتمثل في تقليد الخلفاء إياهم وتوليتهم لهم. (3) ثانيا: ظهور الفرنج
إذا كان ظهور التتار بالشام لم يكن إلا بعد سقوط بغداد سنة 656 كما رأينا، فإن الفرنج بدءوا في غاراتهم على الشام ومصر قبل ذلك بأكثر من قرن ونصف من الزمان، فإن ابن الأثير يذكر في حوادث سنة 491 أنه في سنة 490 خرج الفرنج إلى بلاد الشام، ثم يقول: «وقيل - أي في بيان سبب خروجهم إلى الشام - إن أصحاب مصر من العلويين (يريد أصحاب الدولة الفاطمية الشيعية) لما رأوا قوة الدولة السلجوقية، وتمكنها واستيلاءها على بلاد الشام إلى غزة، ولم يبق بينهم وبين مصر ولاية أخرى تمنعهم من دخولها وحصرها، خافوا وأرسلوا إلى الفرنج يدعونهم إلى الخروج إلى الشام؛ ليملكوها ويكونوا بينهم وبين المسلمين، والله أعلم.»
8
ومهما يكن سبب خروج الفرنج إلى الشام، فإنهم استمروا في غاراتهم عليها وعلى مصر، ينتصرون مرة وينهزمون أخرى، وظلت الحرب سجالا بين الطرفين نحو قرنين من الزمان، حتى انتهى الأمر بطردهم نهائيا، على يد الملك الأشرف خليل بن المنصور قلاوون سنة 690ه، وفي هذا يقول ابن كثير: «وفيها فتحت عكا وبقية السواحل التي كانت بأيدي الفرنج من مدد متطاولة، ولم يبق لهم فيها حجر واحد، ولله الحمد والمنة.»
9
من أجل ذلك كان عدم الاستقرار في مصر والشام هو طابع ذلك العصر؛ بسبب هؤلاء الصليبيين الذين انضم إليهم التتار، وقد ظهروا في الميدان في النصف الثاني من القرن السابع الهجري، وكانت معارك لا يكاد يخمد أوارها حتى تندلع من جديد هنا أو هناك في الشام ومصر، وكان على الشيخ ابن تيمية وأمثاله واجب يقومون به، وقد قاموا به فعلا.
ولسنا هنا في مقام قص أخبار أولئك الصليبيين حتى انتهى أمرهم وألقتهم سيوف المجاهدين إلى البحر، فقد حفلت بذلك كتب التاريخ التي هي على حبل الذراع لمن يريد. ولكن نشير إلى أمور تعتبر من صوى ذلك الزمن وأعلامه، ومنها يتبين أي عصر عاش فيه ابن تيمية حين رأى نور الحياة: (أ)
توطدت أقدام الصليبيين بالشام منذ زمن بعيد، واستولوا على أكثر حصونها وقلاعها ومدنها، ثم عكا ويافا وبيروت وصور وعسقلان وغيرها، كما ملكوا بيت المقدس سنة 492، وقتلوا بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفا، منهم كثير من أئمة المسلمين وعلمائهم وزهادهم وعبادهم، وذلك فضلا عما سبوه من الحريم والأولاد.
10 (ب)
إلا أن مصر، بأهلها وأولي الأمر فيها، لا تنام على ثأر ولا ترضى بالضيم، والمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، ومثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، كما يقول الرسول
صلى الله عليه وسلم .
ولذلك كان من الطبيعي أن تهب مصر لنجدة إخوانهم بالشام، وأن يعمل البلدان الشقيقان على رد عادية الفرنج، بل لطردهم من الأماكن المقدسة. ومن أجل هذا يروي التاريخ أن المعارك والحروب لم تفتر بينهم وبين المعتدين طوال تلك السنين. (ج)
ثم دار الفلك دورات، وتأذن الله بالفرج بعد الشدة، وبالنصر المبين على الصليبيين، فهب جيش مصر، بقيادة السلطان والبطل الخالد صلاح الدين الأيوبي لحرب هؤلاء العتاة الذين عاثوا في الأرض فسادا، وعبثوا بالأماكن المقدسة حتى أحالوا المسجد الأقصى أول القبلتين كنيسة.
وكان أن فتح الله عليه كثيرا من مدن الشام وحصونها، واستنقذها من أيدي غاصبيها الظالمين. ومن هذه المدن والبلاد: عكا، ويافا، وعسقلان وما جاورها، وطبرية، واللاذقية، وبيروت، وصور،
11
ثم بيت المقدس، وغير ذلك كله من البلاد والنواحي الهامة الأخرى.
غير أن الأمر لم يستتب نهائيا على هذا الوضع، فإن رغبة الصليبيين الجامحة في امتلاك موطن المسجد الأقصى لم تهن أو تضعف، والاعتداء يغري بالاعتداء مرارا؛ ولذلك كانت المدينة الواحدة، مثل عكا وبيت المقدس، كانت تنتقل من طرف إلى طرف أكثر من مرة، كما هو معروف من التاريخ. (د)
وكان من ذلك أن رأينا الحرب سجالا بين الطرفين، وأن خرج كثير من الفرنج في البحر إلى الشام وأرسوا بعكا وبيتوا أمرهم على قصد بيت المقدس؛ استنفادا له من المسلمين، وكان هذا سنة 600 على ما يقصه علينا ابن الأثير، ثم كثرت غاراتهم ببلاد الشام على ما يرويه المؤرخ نفسه في أحداث سنة 604.
وبعد بضع سنوات رأى الفرنج أن يشغلوا مصر بنفسها حتى لا تمد يدها لنجدة الشام، وطمعا فيها نفسها من ناحية أخرى، فسارت منهم جموع كثيرة بحرا إلى دمياط، وبعد حصار طويل وقتال شديد استولوا عليها، ولكنهم لم يلبثوا بها إلا يسيرا؛ إذ اضطرهم جيش مصر إلى الجلاء عنها سنة 618 بعد أن ذهب الكثير ما بين قتيل وأسير وغريق في البحر، بحمد الله تعالى.
12 (ه)
وننتهي من هذا العرض الموجز بالإشارة إلى أن الفرقة دبت بين ملوك بني أيوب بعد وفاة أبيهم السلطان صلاح الدين حتى صاروا أحزابا وفرقا، فقويت نفوس الفرنج بكثرتهم وبمن جاءوا إليهم من البحر، فطلبوا من المسلمين أن يردوا إليهم ما كان صلاح الدين افتتحه من أيديهم، وتم الصلح على أن يرد إليهم بيت المقدس وحده فتسلموه، وكان هذا سنة 626،
13
ثم استرده المسلمون منهم بحمد الله سنة 636.
14
وهكذا كان ذلك العصر مليئا بالأحداث السياسية، وكان أهم هذه الأحداث ما نعرفه من غارات الفرنج والتتار مجتمعين ومنفردين على الشام ومصر، والمعارك التي قامت بين المسلمين وبينهم على مدى الزمان، حتى أدال الله منهم، وتخلص منهم الإسلام وبلاده إلى غير رجعة.
الفصل الثاني
الناحية الاجتماعية
عاش الشيخ ابن تيمية في مجتمع بعيد عن أن تجمعه وحدة أو ما يقاربها في الجنس والمنزلة الاجتماعية، أو في الدين ومذاهبه التعبدية، أو في القضاء والقواعد التي يتحاكم الناس بموجبها، أو في غير ذلك كله مما يجعل لأفراد المجتمع وحدة لها أسسها وأهدافها وغاياتها المشتركة؛ بل كان مجتمعا متنافرا في هذه النواحي وما إليها بسبيل، ويتضح ذلك من هذه الكلمات التي نتناوله بها.
أجناس وطبقات
كان المجتمع في الشام ومصر في ذلك الزمان يموج بكثير من الأجناس المختلفة، بل المتباينة، في الطباع والعادات والتقاليد، وفي فهم الحياة وألوان المعيشة، ومع هذا فقد عاشت هذه الأجناس في هذين البلدين في عصر واحد، وامتزج بعضها ببعض حالة الحروب وفي ظل السلام، وكان لذلك أثر كبير فيما كانوا عليه هم وذرياتهم من الناحية النفسية والفكرية ونحوهما.
التقى في هذا العصر أقوام من أجناس مختلفة: أتراك، ومصريون، وشاميون، وعراقيون وفدوا إلى الشام وبخاصة بعد خراب بغداد، وفرنجة وتتار وقعوا في الأسر وأقاموا في البلاد، وأرمن وإسرائيليون.
هؤلاء جميعا وآخرون غيرهم، عاشوا في صعيد واحد على اختلافهم في عاداتهم وأخلاقهم وتقاليدهم، فكان منهم مجتمع لا يعرف الاستقرار، بل مجتمع فيه من الاضطراب وعوامله شيء كثير، وكان لهذا أثر بالغ خطير في الحياة السياسية والفكرية والقضائية حينذاك.
وكان من الطبيعي أن يكون المجتمع الذي يقوم على هذا النحو، طبقات يتلو بعضها بعضا في المراتب الاجتماعية، وفي السلطان والنفوذ، وذلك ما سنفصل فيه القول بعض التفصيل بعد هذه الإشارة؛ وذلك لأن التدرج الطبقي في تلكم الأيام كان له شأن كبير في ابن تيمية ونشاطه وكفاحه.
وفي هذا وذاك يقول المؤرخ المقريزي من كلام طويل له عن التتار خاصة وأثرهم في الشام ومصر، ما يحسن أن ننقل بعضه بنصه، وذلك إذ يقول:« فلما كثرت وقائع التتر في بلاد المشرق والشمال وبلاد القبجاق، وأسروا كثيرا منهم وباعوهم، تنقلوا في الأقطار، واشترى الملك الصالح نجم الدين بن أيوب جماعة منهم، سماهم البحرية، ومنهم من ملك ديار مصر وأولهم المعز بن أيبك. ثم كانت للملك المظفر قطز معهم الواقعة المشهورة على عين جالوت، وهزم التتار وأسر منهم خلقا كثيرا صاروا بمصر والشام.
ثم كثرت الوافدية في أيام الملك الظاهر بيبرس وملئوا مصر والشام ... فغصت أرض مصر والشام بطوائف المغل، وانتشرت عاداتهم بها وطرائقهم. هذا وملوك مصر وأمراؤها وعساكرها قد ملئت قلوبهم رعبا من جنكيز خان وبنيه، وامتزج بلحمهم ودمهم مهابتهم وتعظيمهم.
وكانوا (أي التتار) إنما ربوا بدار الإسلام، ولقنوا القرآن وأحكام الملة المحمدية، فجمعوا بين الحق والباطل، وضموا الجيد إلى الرديء، وفوضوا لقاضي القضاة كل ما يتعلق بالأمور الدينية من الصلاة والصوم والزكاة والحج، وناطوا به أمر الأوقاف والأيتام، وجعلوا إليه النظر في الأقضية الشرعية كتداعي الزوجين وأرباب الديون، ونحو ذلك.
واحتاجوا في ذات أنفسهم إلى الرجوع لعهد جنكيز خان والاقتداء بحكم «الياسه»،
1
فلذلك نصبوا الحاجب ليقضي بينهم فيما اختلفوا فيه من عوايدهم، والأخذ على يد قويهم وإنصاف الضعيف منه على مقتضى ما في «الياسه»، وجعلوا إليه مع ذلك النظر في قضايا الدواوين السلطانية عند الاختلاف في أمور الإقطاعات؛ لينفذ ما استقرت عليه أوضاع الديوان وقواعد الحساب ...» إلى آخر ما قال.
2 •••
وبعد هذا، لنا أن نقول بصفة عامة بأن المجتمع كان فيه قوتان كبيرتان لكل منهما نفوذها؛ الأولى: طبقة الأمراء وعلى رأسهم السلطان، وكان لها نصيب الأسد من النفوذ والجاه إن لم يكن النصيب كله، ومصدر ذلك سلطان الحكم وقوته.
والأخرى: هي طبقة العلماء والفقهاء وكبار رجال الدين، ومأتى نفوذ هؤلاء هو الدين نفسه، هذا الدين الجياش بالقوة والذي يقوى به - حتى على من بيدهم الحكم - من يمثله حقا ويعمل به في كل الشئون والأحوال. ويرى العارفون بالتاريخ ما كان في هذا العصر من نفوذ عز الدين بن عبد السلام، ومحيي الدين النووي، وابن تيمية، وأمثالهم جميعا، على السلاطين أنفسهم ومن إليهم، وعلى الشعب والأمة كلها، وسنرى في الفصل الخاص بحياة ابن تيمية مصداق ذلك كله.
ويكفي هنا أن نشير إلى أحد مواقف الشيخ عز الدين بن عبد السلام مع سلاطين عصره وأمرائه، وذلك حين أراد الملك المظفر الخروج لقتال التتار بالشام، وجد قلة ما عنده من المال في خزانته، وأنه «محتاج إلى المساعدة بشيء من أموال الرعية لإقامة الجند وتجهيزهم للسفر وما يعينهم على ذلك»، فجمع القضاة والفقهاء والأعيان لاستشارتهم في هذا، وطلب الموافقة على ما عزم عليه، فسكت من كان في المجلس إلا الشيخ عز الدين الذي قال: «إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب على الحاكم قتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم، بشرط ألا يبقى في بيت المال شيء من السلاح والسروج الذهبية والفضية، والكبابيش المزركشة، وأسقاط السيوف والفضة وغير ذلك، وتبيعوا ما لكم من الحوائص الذهبية والآلات النفيسة، ويقتصر كل الجند على سلاحه ومركوبه ويتساووا هم والعامة. وأما أخذ الأموال من العامة مع بقايا في أيدي الجند من الأموال والآلات الفاخرة، فلا.»
3
قال الشيخ هذه الكلمة المدوية غير ناظر لما يلقاه بسببها من اضطهاد وبلاء، ولكن الملك المظفر قبلها منه وعمل بمشورته، فكان النصر من الله القوي العزيز.
وبلغ من مهابة الشيخ عز الدين في قلوب السلاطين والأمراء، أنه لما مات سنة 660 ومرت جنازته بالملك الظاهر بيبرس ورأى كثرة الخلق الذين معها، قال لبعض خواصه: «اليوم استقر أمري في الملك؛ لأن هذا الشيخ لو كان يقول للناس: اخرجوا عليه؛ لانتزع الملك مني!»
4
وبعد هذا، نشير إلى ما كان للشيخ محيي الدين النووي المتوفى سنة 676 في عهد الملك الظاهر بيبرس من مواقف مشهودة خطيرة معه، ومراسلات إليه فيها التوجيه الرشيد والنصح الصريح الشديد، وفيها طلب أن يعدل مع الرعية وأن يرفع عنهم المكوس الظالمة.
5
وإذا كان الواحد من أولئك الفقهاء العلماء لا يخاف في الله لومة لائم، ويرعى لما آتاه الله من العلم كرامته ومن الدين حرمته، فقد كان في ذلك العصر من تنزله الحاجة أو الحرص على الدنيا ومتاعها منزلة الدون ، فهو يستذل للسلطان ويضرع إليه في قصة له، وكان معاصرا لابن تيمية.
وفي هذا، ينقل السيوطي صور قصة «رفعها الفقير إلى رحمة ربه محمد بن مالك، يقبل الأرض وينهي إلى السلطان (هو الظاهر بيبرس) أيد الله جنوده وأبد سعوده أنه أعرف أهل زمانه بعلوم القراءات والنحو واللغة وفنون الأدب، وأمله أن يعينه سيد السلاطين ومبيد الشياطين - خلد الله ملكه، وجعل المشارق والمغارب ملكه - على ما هو بصدده من إفادة المستفيدين والمسترشدين بصدقة تكفيه هم عياله، وتغنيه عن التسبب في صلاح حاله ...
وقد نفع الله بهذه الدولة الظاهرية الناصرية الناس خصوصا وعموما، وكشف بها عن الناس أجمعين غموما، ولم بها من شعث الدين ما لم يكن ملموما؛ فمن العجائب أن يكون المملوك من مرتدي خيراتها وعن يمين عنايتها غائبا محروما، مع أنه من ألزم المخلصين للدعاء بدوامها، وأقوم الموالين بمراعاة زمامها.
لا برحت أنوارها زاهرة، وسيوف أنصارها قاهرة ظاهرة، وأياديها مبذولة موفورة، وأعاديها مخذولة مقهورة، بمحمد وآله.»
6
ونعتقد أن هذا الصنف من العلماء لا يخلو منه عصر، وهو لا يذكر بجانب العلماء والفقهاء الآخرين الذين أحاطهم الله برعايته، وملأت هيبتهم قلوب السلاطين والأمراء وعامة الأمة، بما عرفوا للدين من حرمة، وللعلم من كرامة، أمثال العز والنووي وابن تيمية وتلاميذهم، حتى كان الواحد منهم تهون عليه نفسه، ولا يعطي الدنية في دينه أو كرامته.
وكانت الطبقة الثالثة تجيء بعد هاتين الطبقتين السالفتين: الحكام ورجال العلم والدين، وهذه الطبقة الثالثة تشمل العامة والشعب من تجار وصناع وزراع، وهم الذين عليهم الكد والكدح، ولم يكن الواحد منهم يصل إلى ثمرة عمله كله، لما كان ينوبهم من مظالم ومكوس مختلفة تئودهم أحيانا كثيرة.
وكان الشيخ ابن تيمية يعنى كل العناية بهذه الطبقة العاملة: فهو عليها حان عاطف، ولها موجه مرشد، وكثيرا ما عمل لرفع ما كان ينزل بهم من مظالم على اختلاف ضروبها، كما كان كذلك معنيا بالطبقة الأولى الحاكمة، فهو يبذل جهده في إبعادهم عن الظلم، وتوجيههم للخير في الدنيا والدين، وسنعرف من ذلك الكثير بعد حين. •••
ولعل من الواجب أن نلاحظ أن العلماء ورجال الدين البارزين بصفة خاصة، كانوا يعيشون في ذلك العصر معيشة راضية، بفضل ما كان يغدقه عليهم السلاطين والأمراء من وظائف ذات مرتبات طيبة؛ رغبة منهم في استمالتهم إلى جانبهم وضمانا لرضاهم عنهم؛ لأن إليهم قياد العامة في السخط والرضا.
وفي ذلك يذكر المؤرخ ابن كثير أنه في سنة 690 طلب القاضي بدر الدين بن جماعة من القدس على البريد إلى الديار المصرية لتوليته قضاء القضاة، بدل تقي الدين ابن بنت الأعز الذي عزل من هذا المنصب، فجاء القضاة إلى تهنئته.
ثم يقول عن ابن بنت الأعز: «وكان بيده سبعة عشر منصبا، منها: القضاء والخطابة، ونظر الأحباس، ومشيخة الشيوخ، ونظر الخزانة، وتداريس كبار.»
7
ويقول عنه ابن السبكي وعن مناصبه العديدة: «إنه كان من أحسن القضاة سيرة، جمع بين القضاء والوزارة، وولي مشيخة الخانقاه وخطابة الجامع الأزهر، وتدريس الشريفية وتدريس الشافعي والمشهد الحسيني بالقاهرة ...» إلى آخر ما قال عن المحنة التي جرت له.
8
وكذلك يقول المقريزي: «ولزم ابن بنت الأعز داره ولم يترك بيده شيء من الوظائف، وكان بيده سبع عشرة منها، وهي: القضاء بديار مصر، وخطابة الجامع الأزهر، ونظر الأحباس، ومشيخة الشيوخ، ونظر التركة الظاهرية ... وعدة تداريس، وألزم الإقامة في زاوية الشيخ نصر المنبجي خارج القاهرة ...» إلى آخر ما قال.
9
وبعد هذا نجد ابن كثير يذكر في حوادث سنة 701 أنه: «في يوم الأربعاء تاسع عشر ربيع الأول جلس قاضي القضاة وخطيب الخطباء بدر الدين بن جماعة بالخانقاه الشمساطية شيخ الشيوخ بها عن طلب الصوفية له بذلك ورغبتهم فيه، وذلك بعد وفاة الشيخ يوسف بن حمويه، وفرحت الصوفية به وجلسوا حوله. ولم تجتمع هذه المناصب لغيره قبله، ولا بلغنا أنها اجتمعت إلى أحد بعده في زماننا هذا: القضاء والخطابة ومشيخة الشيوخ.»
10
ومن ذلك كله يتبين لنا أن كثيرا من رجال العلم والفقه كانوا يجمعون وظائف كثيرة، ولعل ذلك يرجع أولا إلى ما كانوا يتميزون به من كفايات نادرة، ومع هذا فقد كان جمهرة رجال العلم والدين البارزين يحيون حياة طيبة بسبب ما كانوا يقومون به من أعمال عديدة يسندها إليهم السلاطين والأمراء ومن إليهم.
جهات التقاضي وأحكامه
لم يكن في هذا المجتمع في ذلك العصر وحدة تجمع بين طبقاته كلها من ناحية جهة التقاضي التي يتحاكمون إليها، ولا من ناحية الشرائع والقواعد القانونية التي ينزلون على أحكامها، بل كان الاختلاف واضحا وكثيرا في هاتين الناحيتين بسبب اختلاف الأجناس.
وذلك بأن التتار الذين كثروا بمصر والشام بسبب الأسر أو غيره، ثم أقاموا في هذين البلدين، ونشئوا على الإسلام، أحلهم ملوك مصر محلا ممتازا لما كان لهم من عظمة وهيبة في القلوب، ومنهم من وصل إلى أن صار من ملوك مصر وحكامها، وأولهم المعز ابن أيبك كما يقول المقريزي في خططه.
وكان من هذا، أن هؤلاء التتار احتفظوا بكثير من العادات التي نشئوا أولا عليها، وبكثير من القواعد القانونية التي وضعها لهم جنكيز خان، والتي كانوا يعظمونها تعظيم الشرائع المنزلة من السماء، والتي كان يتضمنها كتابهم المشهور: «الياسه».
إنهم - كما قلنا آنفا - جعلوا لقاضي القضاة القضاء فيما كان من الأمور الدينية، وجعلوا للحاجب الحكم فيما شجر بينهم فيما يكون من الأمور التي ترجع إلى ذات أنفسهم، وهنا كان الحكم حسب قواعد «الياسه» لا الشريعة الإسلامية.
وكان من هذه القواعد، كما يذكر ابن كثير والمقريزي، أن من زنا قتل محصنا كان أو غير محصن، ومن لاط قتل، ومن تعمد الكذب قتل، ومن تجسس قتل، ومن دخل بين اثنين يختصمان فأعان أحدهما قتل، ومن بال في الماء الواقف قتل، ومن أطعم أسيرا أو سقاه أو كساه بغير إذن أهله قتل، وكذلك من وجد هاربا ولم يرده، ومن أكل ولم يطعم من عنده، ومن ذبح حيوانا ذبحة المسلمين، إلى غير هذه القواعد التي لا تتفق وشريعة الإسلام العادلة.
11
ومن ثم نرى ابن كثير بعد ذكر ما نقلناه عنه يقول: وفي ذلك كله مخالفة لشرائع الله المنزلة على عباده الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى «الياسه» وقدمها عليه!
من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين، قال الله تعالى:
أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ، وقال:
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما . •••
هذا ما كان متبعا بالنسبة للتتار ومن إليهم، أما بالنسبة للمسلمين فكان القضاة طبعا يفتون حسب شريعة الله ورسوله، فكانت جهة التقاضي واحدة، وكذلك الشريعة التي يحكم بها، فكان للبلد الواحد أو لجملة بلاد، من ديار مصر والشام، قاض واحد يحكم حسب مذهبه الفقهي.
وظل الأمر كذلك إلى سنة 663، ففي هذه السنة كان القضاء في مصر كلها (في عهد السلطان الظاهر بيبرس) للشيخ تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز وهو شافعي، فرأى السلطان بيبرس تولية قضاة من بقية المذاهب الأربعة، وأن يكون كل منهم مستقلا بالحكم فيما يرفع إليه من دعاوى حسب مذهبه، وأن يولي كل منهم من جهته نوابا في البلاد التي جعل إليه القضاء فيها. وكان السبب في هذا التغيير الكبير - كما يذكر ابن كثير - كثرة توقف القاضي ابن بنت الأعز في أمور تخالف مذهب الشافعي وتوافق غيره من المذاهب.
12
وبهذا ذهبت وحدة القضاء وجهاته؛ لأن من المعروف أن المذاهب الفقهية تختلف فيما بينها اختلافات كثيرة في الأصول والآراء والأحكام التي تنبني عليها، فربما كان في المسألة أو القضية الواحدة آراء كثيرة مختلفة على ما هو معروف.
أديان ومذاهب
وكما كان المجتمع في ذلك العصر كثير الأجناس والطبقات - على ما عرفنا - مثله مثل سائر المجتمعات في كل مكان في تلكم الأيام، كان كذلك كثير الأديان والعقائد، كثير النحل والمذاهب في الدين الواحد، وكان هذا كله من بواعث القلق والفتنة والاضطراب، ومن العوامل التي يسر للفرنج والتتر أن يعيشوا زمنا طويلا في البلاد.
نعم، كان هنالك المسلمون أهل البلاد والكثرة الغالبة بطبيعة الحال، وكان بجانبهم أهل الذمة اليهود والنصارى، وكان المسلمون فرقا مختلفة من ناحية العقائد الدينية كما نعرف في علم الكلام، وكان هناك الإسماعيلية وغيرهم من الشيعة الروافض الذين يكيدون للإسلام وأهله منذ قديم الزمان وإلى اليوم كيدا كثيرا.
وهنا نشير إلى ظاهرة بدت ملحوظة في ذلك العصر، ولكنها أخذت تختفي في هذه الأيام التي نعيش فيها، وهي أن العاطفة الدينية كانت أقوى في ذلك الزمان بكثير جدا من العاطفة الوطنية، بل كانت هذه لا شيء أمام تلك.
وذلك ما يفسر لنا إلى حد كبير ما ملأ ذلك العصر من عداء النصارى للمسلمين والإسلام، في العصر الذي عاش فيه ابن تيمية وما اكتنفه قبله وبعده، بل ما كان من فرحهم وترحيبهم بالفرنج والتتار حين غزوا الوطن المشترك! كما يفسر أيضا موقف الشيعة الرافضة في مصر والشام والعراق وميلهم إلى أعداء الدين والوطن، الغازين الظالمين.
ومهما يكن فنحن نسجل هنا هذه الظاهرة التي استشففناها من أحداث ذلك العصر، ثم نأخذ في الكلام بإجمال عما كان فيه من أحداث، سببها تعدد الديانات والنحل والمذاهب الدينية المختلفة؛ هذه الأحداث التي عاصر ابن تيمية الكثير منها، واستنفدت منه كثيرا من جهده، واستوجبت الكثير من جهاده وكفاحه الديني والسياسي المحمود. (أ)
ونبدأ هنا بالإشارة إلى ما ذكرناه من قبل من مكاتبة الدولة الفاطمية بمصر للفرنج يدعونهم للدخول إلى الشام؛ وذلك ليكونوا حائلا بينهم وبين الدولة السلجوقية التي استولت على الشام كله حتى مدينة غزة، على ما يذكره ابن الأثير وغيره من المؤرخين.
كما نشير إلى موقف ابن العلقمي الرافضي وزير آخر الخلفاء العباسيين ببغداد مع التتار وتيسيره لهم دخول العاصمة كما ذكرنا سابقا؛ بسبب ما كان من عداء شديد بين أهل السنة وشيعته، فكان هذا - كما يؤكد ابن كثير - مما أهاجه على تدبير ذلك الأمر الفظيع؛ يعني دخول التتار بغداد واجتياحهم بلاد الإسلام. (ب)
والإسماعيلية طائفة من الشيعة الروافض
13
الذين خرجوا عن الإسلام بكثير من العقائد التي يذهبون إليها، ولهم في الكيد للمسلمين ؛ أهل السنة والجماعة تاريخ سيئ قبيح مشهور، وبخاصة في الشام. وزعيمهم في أيامنا هذه هو «أغا خان» المشهور، وكان المسلمون يقفون لهم بالمرصاد على مر الزمان والعصور.
ولذلك نجد السلطان صلاح الدين الأيوبي يوقع بهم، ويخرب بلدهم بالشام ويحرقها، ولم يرجع عنهم إلا بشفاعة شهاب الدين الحارمي خاله وصاحب حماه.
14
وفي سنة 655، يذكر ابن كثير في تاريخه أنه كانت فتنة عظيمة ببغداد بين الرافضة وأهل السنة، فنهب الكرخ ودور الرافضة حتى دور قرابات الوزير ابن العلقمي؛ وكان ذلك أقوى الأسباب التي دعته إلى ممالأة التتار على آخر الخلفاء العباسيين بها.
15 (ج)
أما المسيحيون؛ فإنهم بعد دخول التتار بغداد، أظهروا عداءهم للإسلام والمسلمين، وفي هذا يقول المقريزي في حوادث سنة 658: «واستطال النصارى بدمشق على المسلمين، وأحضروا فرمانا من هولاكو بالاعتناء بأمرهم وإقامة دينهم، فتظاهروا بالخمر في نهار رمضان، ورشوه على ثياب المسلمين في الطرقات، وصبوه على أبواب المساجد، وألزموا أرباب الحوانيت بالقيام إذا مروا بالصليب عليهم، وأهانوا من امتنع عن القيام للصليب.
وصاروا يمرون به في الشوارع إلى كنيسة مريم، ويقفون به ويخطبون في الثناء على دينهم، وقالوا جهرا: ظهر الدين الصحيح دين المسيح. فقلق المسلمون من ذلك، وشكوا أمرهم لنائب هولاكو وهو كتبغا، فأهانهم وضرب بعضهم، وعظم قدر قسوس النصارى، ونزل إلى كنائسهم وأقام شعارهم ...» إلى آخر ما قال ذلك المؤرخ الأمين.
16 (د)
وأخيرا، نشير بعد هذا وذاك، إلى ما كان يسود هذا المجتمع أحيانا كثيرة من قلق واضطراب بسبب اختلاف بعض الفرق الإسلامية في بعض مسائل علم الكلام، مثل مسألة كلام الله تعالى وقدمه وأزليته، وهل القرآن القديم الأزلي ينقلب مدادا وحروفا وأصواتا، كما نراه في المصحف ونقرؤه ونسمعه، فيكون كل ذلك قديما أزليا أيضا؟
نسب القول بذلك إلى فريق من الحنابلة؛ لأنه في رأيهم كلام الله تعالى، وقال الأشاعرة ليس شيء من ذلك قديما، والقديم الأزلي هو كلام الله النفسي، وما نكتبه بالمداد ونقرؤه باللسان ونسمعه بالآذان دليل عليه، وهذا كله محدث لأنه من أفعال العباد لا من أفعال الله تعالى.
وكان هذا الاختلاف في هذه المسألة مثار فتنة كبيرة أيام الخليفة المأمون، كما كان مثار فتن كثيرة أخرى في أزمنة مختلفة.
ومن ذلك ما كان بين العز بن عبد السلام شيخ الإسلام وسلطان العلماء وإمام عصره (توفي سنة 660)، وبين هذا الفريق من الحنابلة بسبب تلك المسألة الكلامية الشائكة، وكان هذا في دمشق في عهد الملك الأشرف ابن الملك العادل الأيوبي، وكان هذا الملك يعرف للعز منزلته وأنه سيد أهل عصره وحجة الله على خلقه.
ولكنه مع هذا سمع للحنابلة وصدق ما أوهموه به من أن الشيخ زائغ العقيدة، منحرف عما صح من العقائد الدينية الصحيحة التي يسندها في رأيهم القرآن والحديث، وأن الذي هم عليه هو اعتقاد السلف والإمام أحمد بن حنبل وفضلاء أصحابه رضي الله عنه.
وكان عز الدين أشعريا في عقيدته، وكان السلطان ميالا إلى المحدثين والحنابلة، فآمن بما قالوه، وصار يعتقد أن من يخالف ذلك من الأشاعرة يكون كافرا حلال الدم.
وهكذا بدأت الفتنة تقوم، وصارت قضية كبيرة بين العز وخصومه يؤيدهم السلطان وشغل العلماء بذلك، بل شمل القلق والاهتمام بالأمر القاهرة أيضا. وبعد رسائل كتبها الشيخ في بيان الحق الذي لا يخاف فيه أحدا حتى السلطان، وبعد رده على ما رآه هذا ردودا عنيفة، حكم السلطان عليه بألا يفتي أحدا ولا يجتمع بأحد، وبأن يلزم بيته.
وهكذا انتصر خصومه، ولكنه كان لا يبالي لأنه صدع بالحق. إلا أن هذا الانتصار لم يدم طويلا؛ فقد انتصر له الملك الكامل أخو الأشرف، وكان سلطان مصر وأشعريا في عقيدته، كما انتصر له كثير من العلماء بعد لأي، وانتهى الأمر بأن عرف السلطان الأشرف أن الشيخ على حق، فعاد إلى تقديره وتعظيمه واسترضائه.
17
إلحاد وانحلال خلقي
كان من الطبعي أن تكون ملامح هذا المجتمع التي ألمعنا إليها، والتي اكتفينا بها عن غيرها لتصويره، من العوامل القوية التي دعت إلى ظهور كثير من صور الانحلال الخلقي وشيوع المنكرات من ناحية أخرى، فكان هذا وذاك من الدواعي الشديدة التي حفزت كثيرا من رجال الدين والفقهاء والعلماء، ومنهم الشيخ ابن تيمية، إلى مكافحة ذلك كله بكل سبيل، وكانوا يجدون العون على ذلك من السلاطين.
ولا نرى ضرورة الإطالة في هذا، فإن هذا المجتمع في ذلك العصر لم يشذ في ذلك عن كثير من المجتمعات الأخرى التي تقدمته أو جاءت بعده، ومن ثم نرى أن نكتفي في تلك الناحية بهذه الكلمات الموجزة: (أ)
يذكر المؤرخون للعز بن عبد السلام المتوفى في القرن السابع أنه رأى السلطان الأشرف موسى ابن الملك العادل بن أيوب جالسا يوم عيد في مجلس المملكة وفي أبهة عظيمة، وقد أخذت الأمراء تقبل الأرض بين يديه على العادة، فناداه بقوله: «يا أيوب، ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوئ لك ملك مصر ثم تبيح الخمور؟» فقال: «هل جرى هذا؟» فقال: «نعم، الحانة الفلانية يباع فيها الخمر وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة!»
فقال السلطان: «يا سيدي، هذا أنا ما عملته، هذا من زمان أبي.» فقال الشيخ: «أنت من الذين يقولون: إنا وجدنا آباءنا على أمة!»
18
فرسم السلطان بإبطال تلك الحانة.
ويذكرون أن الشيخ قال لمن سأله عن الحال حتى فعل ما فعل من مجابهة السلطان، فقال: «يا بني، رأيته في تلك العظمة، فأردت أن أهينه؛ لئلا تكبر عليه نفسه فتؤذيه.» فقيل له: «أما خفته؟» فقال: «يا بني، إني استحضرت هيبة الله تعالى فصار السلطان أمامي كالقط.»
ولا عجب أن يكون هذا من الشيخ ابن عبد السلام، فقد كان كما يذكر ابن العماد الحنبلي زاهدا ورعا، مع قيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومع الصلابة في الدين.
19 (ب)
ويذكر المقريزي في حوادث سنة 664 أن السلطان الملك الظاهر بيبرس اشتد إنكاره للمنكر، وأراق الخمور، وعفى آثار المنكرات، ومنع الخانات والخواطئ بجميع أقطار مملكته بمصر والشام، فطهرت البقاع من ذلك.
20
ويقول المؤرخ نفسه في حوادث 667: «وكتب السلطان (هو الظاهر بيبرس) بإزالة الخمور وإبطال المفاسد والخواطئ من القاهرة ومصر وجميع أعمال مصر، فطهرت البلاد كلها من المنكر ، ونهبت الخانات التي جرت عادة أهل الفساد بالإقامة بها ، وسلبت جميع أموال المفسدات وحبسن حتى يتزوجن، ونفي كثير من المفسدين، وكتب السلطان إلى جميع البلاد بمثل ذلك.»
21
وتكرر مثل ذلك من الظاهر بيبرس طول حياته (توفي سنة 676)، كما يذكر المقريزي أيضا في كتابه «السلوك» في مواضع كثيرة منه. (ج)
ويذكر ابن كثير أنه في سنة 701 قتل الفتح أحمد بن الثقفي بمصر بحكم القاضي زين الدين بن مخلوف المالكي؛ وذلك لما ثبت عنده من حطه للشريعة واستهزائه بالآيات القرآنية ومعارضة المشتبهات منها بعضها ببعض، ولأنه كان يحل المحرمات من اللواط والخمر وغير ذلك لمن كان يجتمع لذلك من الفسقة من الترك وغيرهم.
22 (د)
وأخيرا، نذكر في هذه الناحية أنه في سنة 726 ضربت رقبة ناصر بن أبي الفضل الهيتي في ظاهر دمشق، بعد أن حكم القاضي المالكي بكفره وزندقته وتلاعبه بدين الإسلام. ويذكر ابن العماد الحنبلي أن الذي ثبتت زندقته عنده هو قاضي القضاة شرف الدين بن مسلم الحنبلي، ثم نقل الثبوت إلى قاضي القضاة شرف الدين المالكي، فأنفذه وحكم بإراقة دمه.
وذكر أيضا أنه في ابتداء أمره عاشر الكبار وانتفع بهم، كما كان كثير المجون، ولما كبر اجتمع بمحلولي العقيدة، مثل ابن المعمار والباجريقي والمنجم بن خلكان وغيرهم، فانحلت عقيدته وتزندق من غير علم.
23
الفصل الثالث
الناحية العقلية والعلمية
نستطيع أن نقول بصفة عامة: إن هذا العصر كان زاخرا بالعلم والعلماء، وبالإنتاج الكثير الضخم في جميع العلوم الإسلامية أمهاتها وفروعها، وقد بقي لنا حتى اليوم جمهرة المؤلفات في هذه الناحية باختلاف أنواعها وضروبها، فنحن نفيد منها أجل الفوائد؛ إذ تعتبر من مراجعنا الأصلية الأولى، سواء في التفسير والحديث والفقه، أو في اللغة العربية وعلومها، أو في التاريخ وما يتصل به، أو في غير ذلك كله من العلوم الإسلامية المختلفة.
ولكل عصر مميزاته التي يتميز بها عن غيره من العصور وملامحه وسماته التي يعرف بها، ومعالمه التي تمكن الباحث من فهمه وتقديره. ولهذا، ينبغي أن نتكلم عن كل ذلك كلمة موجزة؛ ليكون من مجموع هذه الكلمات ما يجلي هذا العصر الحافل من الناحية الفكرية والثقافية.
ملامح وسمات
ليس لنا أن نقدر أن التجديد والابتكار الفكري كان طابع هذا العصر أو من سماته بوجه عام، بل كانت الظاهرة التي تسوده هي العكوف على ما وصل أهله من تراث العرب والمسلمين السابقين، وهو تراث قيم مجيد بلا ريب، وكان عملهم فيه هو الانكباب عليه لفهمه والإفادة منه، ثم الزيادة عليه ما وسعهم الجهد، دون خروج عن الروح الذي كان يسري فيه، وهو التقيد بالأفكار والآراء التي وصلت إليهم عن الفقهاء والمتكلمين ونحوهم من رجال الدين.
وكان من ذلك جمودهم على المذاهب الفقهية الأربعة المعروفة يوجبون تقليد واحد منها، وكانوا في هذا متأثرين بالفقهاء السابقين الذين حكموا بسد باب الاجتهاد في القرن الرابع، وقد استمر ذلك فيما بعد، وربما ما يزال ذلك حتى اليوم!
وفي هذا يقول ابن خلدون: «ووقف التقليد في الأمصار عند هؤلاء الأربعة، ودرس المقلدون لمن سواهم، وسد الناس باب الخلاف وطرقه ... وردوا الناس إلى تقليد هؤلاء ... ولم يبق إلا نقل مذاهبهم، وعمل كل مقلد بمذهب من قلده منهم بعد تصحيح الأصول واتصال مسندها بالرواية. لا محصول اليوم للفقه غير هذا، ومدعي الاجتهاد في هذا العهد مردود على عقبه مهجور تقليده، وقد صار أهل الإسلام اليوم على تقليد هؤلاء الأربعة.»
1 •••
وكما جمد الفقهاء على هذه المذاهب الأربعة يتناولون المؤلفات فيها بالشرح حينا والاختصار حينا آخر، جمدت جمهرتهم وجمهرة رجال علم الكلام على مذهب الأشاعرة أتباع الإمام أبي الحسن الأشعري، وهذا الإمام يعتبر في آرائه وسطا بين السلف وبين المعتزلة على ما هو معروف. وقد استمر هذا التقليد في العقائد الدينية إلى ما بعد ذلك العصر، بل إلى هذه الأيام في أكثر الأمصار الإسلامية، أو فيها كلها تقريبا ما عدا بلاد المملكة العربية السعودية.
وبالرجوع إلى المقريزي المؤرخ الثقة، نجده يتكلم عن الحال في عقائد أهل الإسلام إلى أن انتشر مذهب الأشاعرة، ثم يشرح حقيقة مذهب الأشعري، ويذكر كيف نصره بشدة السلطان صلاح الدين الأيوبي وأولاده الملوك من بعده في مصر والشام ، ثم في أيام مواليهم الملوك الأتراك الذين عاش في عهدهم ابن تيمية.
وفي آخر البحث يقول: «فهذه جملة من أصول عقيدته (أي عقيدة أبي الحسن الأشعري) التي عليها الآن (توفي المقريزي سنة 845) جماهير أهل الأمصار الإسلامية، والتي من جهر بخلافها أريق دمه!»
2 •••
وكان من سمات هذا العصر أيضا قوة أمر التصوف واشتداد نفوذ رجاله على العامة من الناس ومن إليهم، بل على بعض الفقهاء والسلاطين كذلك. ولعل هذا كان من عوامل ضعف الحركة العلمية؛ فإن العلم يعتمد على العقل والفكر، على حين يعود التصوف - إن كان تصوفا حقا - إلى الذوق والوجدان.
وزاد التصوف قوة على قوته، ما أثر عن الإمام الغزالي من إشادته به حتى جعله الطريق الصحيح الموصل إلى الله تعالى، وذلك في كتابيه المشهورين: «إحياء علوم الدين»، و«المنقذ من الضلال»؛ هذان الكتابان اللذان كان لهما أثر كبير في ذلك العصر وفيما جاء بعده من عصور حتى اليوم.
كما زاد من قوته أيضا ظهور كثير من رجاله في ذلك العصر حتى صاروا من أقطابه المشاهير، ويكفي أن نشير في مصر وحدها إلى الشيخ أبي العباس أحمد البدوي المتوفى سنة 675، والشيخ إبراهيم الدسوقي المتوفى سنة 676. وهذا فضلا عن المتصوفة ومدعي التصوف الذين كانوا منبثين في جوانب العالم الإسلامي، وكان لكل منهم نفوذه على المحيط الخاص به. •••
ونذكر أخيرا من ملامح هذا العصر الواضحة، ما كان من عداء ملحوظ للفلسفة والمشتغلين بها تعلما وتعليما، وكان السبب القوي لذلك حملة الغزالي عليها وعلى رجالها حملات أصابتها في الصميم ودعت الفيلسوف ابن رشد للرد عليها والانتصاف لها.
3
وحسبنا هنا أن نشير إلى حادث قتل شهاب الدين السهروردي وهو في ميعة الصبا حتى صار معروفا في التاريخ بأنه «الشاب المقتول»، وقد كان كما يقول ابن أبي أصيبعة: «أوحد في العلوم الحكمية، بارعا في الأصول الفقهية، مفرط الذكاء جيد الفطرة»، ولكن الفقهاء شنعوا عليه ورموه بالتفلسف والإلحاد، بعد أن كان ناظرهم في حلب فأفحمهم.
إلا أنهم عملوا محاضر بكفره رفعوها إلى السلطان صلاح الدين بدمشق، وطلبوا منه استئصال الشر بقتله حتى لا ينفث إلحاده بكل بلد يحل فيه، فكان لهم ما أرادوا، وفعلا قتل بأمر السلطان، وكان ذلك بحلب سنة 587، عن ستة وثلاثين عاما.
4
ونجد بعد هذا، فتوى خطيرة تتسم بطابع ذلك العصر، وكان لها أثرها البالغ الذي دام قرونا طويلة، وهي فتوى أبي عمر تقي الدين الشهرزوري المعروف بابن الصلاح المتوفى سنة 643، وقد أصدرها إجابة لمن سأله عن حكم الله فيمن يشتغل بكتب ابن سينا وتصانيفه، فقال له: «من فعل ذلك فقد غدر بدينه وتعرض للفتنة العظمى؛ لأن ابن سينا لم يكن من العلماء، بل كان شيطانا من شياطين الإنس!»
وسئل عمن يشتغل بالمنطق والفلسفة تعليما وتعلما، فقال من كلام طويل: «الفلسفة أس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة ... ومن تلبس بها تعليما وتعلما قارنه الخذلان والحرمان، واستحوذ عليه الشيطان ...»
إلى أن يقول: «فالواجب على السلطان أن يدفع عن المسلمين شر هؤلاء المياشيم ... ويعاقب على الاشتغال بفنهم، ويعرض من ظهر منه اعتقاد عقائد الفلاسفة على السيف أو الإسلام، لتخمد نارهم وتمحي آثارهم ...» إلى آخر ما قال.
ونجد شبيها لهذا الرأي في الفلسفة والحكم عليها، في رأي الإمام الذهبي في القرن الثامن، وهذا إذ يقول: «إن الفلسفة الإلهية ما ينظر فيها من يرجى فلاحه، ولا يركن إلى اعتقادها من يلوح نجاحه، فإن هذا العلم في شق، وما جاءت به الرسل في شق. وما دواء هذه العلوم وعلمائها القائمين بها علما وعملا إلا التحريق والإعدام من الوجود؛ إذ الدين كان كاملا حتى عربت هذه الكتب ونظر فيها المسلمون، فلو أعدمت لكان فتحا مبينا.»
5
يا لله، ما أشد هذا التعصب!
ونختم بذكر ابن خلدون في الفلسفة وكتبها والنظر فيها، وذلك إذ يعقد فصلا لإبطال الفلسفة وفساد أمر منتحليها، فيقول فيه: «إن هذا العلم كما رأيته غير واف بمقاصدهم التي حوموا عليها، مع ما فيه من مخالفة الشرائع وظواهرها.»
ثم يقول عن علومها الطبيعية وما يستعمله أصحابه من البراهين: «فليكن الناظر فيها متحرزا جهده من معاطبها، وليكن نظر من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات والاطلاع على التفسير والفقه، ولا يكبن أحد عليها وهو خلو من علوم الملة، فقل أن يسلم لذلك من معاطبها.»
6
ونحن نعتقد أن ما ذهب إليه مؤسس علم الاجتماع من رأي، وما انتهى إليه من حكم، وما قدمه لنا من إرشاد وتوجيه، هو الحق كل الحق، وهو الذي يليق بالعلماء الباحثين غير المتعصبين. •••
هذا، وقد كان لما أجملناه من سمات هذا العصر وملامحه، أثر قوي في الشيخ ابن تيمية؛ فقد كان حربا على الجامدين والمقلدين بغير علم من الفقهاء، وعلى الجامدين على مذهب الأشاعرة في علم الكلام، وعلى المتصوفة والتصوف الذي دخله الكثير من مقالات غير المسلمين وآرائهم.
كما كان لذلك شديد الثورة على الفلسفة ورجالها الذين اعتنقوا كثيرا من نظريات الفلاسفة اليونان وأمثالهم بغير برهان صحيح.
وكل ذلك سنعرفه في الفصل الخاص بحياته ونشاطه بعد حين.
مراكز العلم في هذا العصر
كانت مصر والشام منذ قديم الزمان من مراكز العلم الكبيرة في العالم الإسلامي، ثم زاد خطرهما وأهميتهما في هذه الناحية بعد زوال الخلافة من بغداد سنة 656، وقيامها بعد ذلك في القاهرة، فقد كان هذا سببا طبيعيا لهجرة جمهرة العلماء - أو فرارهم - من بغداد إليها وإلى دمشق، أو إلى غيرهما من مدائن مصر والشام، واستقرارهم فيها، واتخاذها أوطانا لهم تكون مجال نشاطهم الفكري وإنتاجهم العلمي في ضروبه العديدة المختلفة.
إنه بعد هذا الحادث الجلل، نرى انتقال مراكز العلم التي كانت في بغداد والري وبخارى ونيسابور، وغيرها من مدن العراق وغيره من ولايات الدولة العربية الإسلامية أيام العباسيين إلى القاهرة والإسكندرية والفيوم وأسيوط ودمشق وحلب وحمص وحماة، وإلى غيرها من مدن مصر والشام.
ومن ثم نجد في هذا العصر وما تلاه هذه النسب التي يعرف بها العلماء: القاهري، الإسكندري، الفيومي، السيوطي، الدمشقي، الحلبي، الحموي، ونحوها. كما نجد كثيرا من العلماء يقال في تعريف الواحد منهم: نزيل دمشق، أو نزيل حلب، أو نزيل حماة، أو نزيل القاهرة، أو نزيل الإسكندرية ... وهكذا.
وكان المركز من هذه المراكز له جامعه الذي يفد إليه الكثيرون من طلاب العلم ورجاله، ومكتبته الضخمة التي تضم عيون التراث الإسلامي المجيد، فيتزود الراغبون في المعارف والعلوم - من الجوامع والمكتبات الملحقة بها - ما يفيدهم في دينهم ودنياهم، ويعلون بذلك صروح العلم التي بناها العلماء السابقون.
والجامع الأزهر هو بلا ريب قمة هذه الجوامع، وأهم موطن للعلم والمعرفة منذ قديم الزمان؛ فقد أنشأه الفاطميون في النصف الثاني من القرن الرابع، ووقفوا عليه من الأملاك الدارة ما يضمن له الخلود على الزمن، وما يهيئ المعيشة الطيبة لقاصديه من شتى البلاد والجهات، وما ييسر لهم سبيل الدرس والبحث من الكتب والمراجع العلمية العديدة.
وإذا تركنا جوامع القاهرة التي كانت تعتبر بحق مواطن العلم والبحث والدرس، نجد في هذه الناحية جامع العطارين بالإسكندرية الذي أنشأه أمير الجيوش بدر الجمالي سنة 477، كما يذكر أبو المحاسن في كتابه «النجوم الزاهرة». وكان هذا الجامع ينبوعا من ينابيع العلم والثقافة طوال عصر الحروب الصليبية وبعده، كما كان حافلا دائما في تلك الأيام بطلاب العلم وشيوخه الذين يقومون بالتدريس فيه.
ونجد في الشام جامعه المعدود في طليعة معاهد العلم فيها، والذي درس فيه طائفة من أعيان العلماء الذين لا زلنا نتدارس آثارهم في الفقه والتفسير والحديث والتاريخ والنحو، وغير ذلك من علوم الدين واللغة العربية.
ومن هؤلاء العلماء الأفذاذ، الحافظان الكبيران: ابن عساكر، وعبد الغني المقدسي، وتوفي الأول عام 571، والثاني عام 600، وكلاهما من رجال الحديث وعلومه المشاهير.
ومن العلماء الكبار الذين درسوا في هذا الجامع أيضا، الإمام علم الدين السخاوي المتوفى سنة 643، وفيه يقول ابن خلكان - وكان معاصرا له ورآه: «كان قد اشتغل بالقاهرة على الشيخ أبي محمد القاسم الشاطبي، وأتقن عليه علم القراءات والنحو واللغة ... ثم انتقل إلى مدينة دمشق، وتقدم بها على علماء فنونه ...»
7
كما كان من أولئك العلماء، رجلان عظيمان لا تزال تدرس آثارهما بالأزهر حتى اليوم؛ الأول هو عثمان بن عمر بن أبي بكر المعروف بابن الحاجب، صاحب المؤلفات المعروفة في الفقه وأصوله، والنحو وغيرهما من العلوم. وقد توفي عام 646، ويقول عنه ابن خلكان: «انتقل إلى دمشق ودرس بجامعها في زاوية المالكية، وأكب الخلق على الاشتغال عليه، والتزم لهم الدروس، وتبحر في الفنون ...» إلى آخر ما قال.
8
والثاني هو الإمام محمد بن مالك الطائي الجياني (نسبة إلى جيان؛ بلد من بلاد الأندلس) نزيل دمشق، كان حجة العرب في علوم اللغة والنحو والصرف. وفيه يقول ابن العماد: «وأما اللغة، فكان إليه المنتهى في الإكثار من نقل غريبها والاطلاع على وحشيها، وأما النحو والتصريف فكان فيه بحرا لا يجارى وحبرا لا يبارى ...» •••
تلك إشارات عابرة إلى المراكز الأولى للعلم والفكر في مصر والشام في ذلك العصر، بل وفي كل عصر وبلد من بلاد الإسلام الأخرى، ثم ظهرت بعد ذلك مراكز أخرى للحياة العقلية والفكرية، وهي المدارس والمكتبات العامة، وهذا ما نعرض له الآن بإيجاز:
لم تعرف المدارس في البلاد الإسلامية زمن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، بل لم تعرف حتى جاء القرن الخامس الهجري. ويقول المؤرخ المقريزي: «إن أول من حفظ عنه أنه بنى مدرسة في الإسلام أهل نيسابور، فبنيت بها المدرسة البيهقية.
ثم كان أشهر ما بني في القديم المدرسة النظامية ببغداد؛ لأنها أول مدرسة قرر بها للفقهاء معاليم، وتنسب إلى أبي علي الحسين الطوسي نظام الملك وزير ملك شاه أبي أرسلان السلجوقي، وتم بناؤها عام 459، ودرس بها أبو إسحاق الشيرازي، وأبو حامد الغزالي، وغيرهما من الأعلام.
ثم اقتدى بنظام الملك الناس من حينئذ، في بلاد العراق وخراسان وما وراء النهر، وبلاد الجزيرة وديار بكر.
ولما كان عهد صلاح الدين الأيوبي، أبطل مذهب الشيعة من مصر وأقام بها مذهب الشافعي ومذهب مالك، واقتدى بالملك نور الدين محمود بن زنكي، فإنه بنى بدمشق وحلب وأعمالهما عدة مدارس للشافعية والحنفية، وبنى لكل من الطائفتين مدرسة بمصر.»
وبعد هذا يقول المؤرخ نفسه أيضا: «ثم اقتدى بالسلطان صلاح الدين في بناء المدارس بالقاهرة ومصر وغيرهما من أعمال مصر، وبالبلاد الشامية والجزيرة ، أولاده وأمراؤه، ثم حذا حذوهم من ملك مصر بعدهم من ملوك الترك وأمرائهم وأتباعهم.»
9
وقد ذكر المؤرخون لهذا العصر، وبخاصة المقريزي في كتابيه العظيمين: «الخطط»، و«السلوك»، هذه المدارس، التي كان بعضها يبنى لأصحاب مذهب بعينه من المذاهب الفقهية الأربعة المعروفة، وبعضها كان يبنى لأصحاب أكثر من مذهب، وبعضها الآخر لأصحاب المذاهب الأربعة كلها.
وكان يوقف على كل منها ما يضمن لها البقاء ويهيئ لطلابها وشيوخها سبيل المعيشة الراضية، ويلحق بها مكتبة تعينهم على البحث والدرس والتزود من مختلف العلوم بخير زاد، وما على الراغب في معرفة أهمية هذه الضروب من مراكز العلم والمعرفة إلا أن يرجع إلى كتب التاريخ التي عنيت بهذا العصر.
فقد بنى السلطان صلاح الدين بالقاهرة المدرسة السيوفية للأحناف، ووقف عليها ما ينفق منه على من يقوم بالتدريس فيها وعلى الطلبة وعلى قدر طبقاتهم.
وبنى القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني المدرسة الفاضلية سنة 580، وجعلها لطائفتي الفقهاء الشافعية والمالكية، ووقف بها - كما يقول المقريزي - جملة عظيمة من الكتب في سائر العلوم يقال إنها كانت مائة ألف مجلد.
10
وكان بالقاهرة أيضا المدرسة الصالحية التي بناها الملك الصالح نجم الدين أيوب، وجعلها لفقهاء المذاهب الأربعة؛ إذ رتب لكل أصحاب مذهب درسا فيها في سنة 641، وهو أول من عمل بديار مصر دروسا أربعة في مكان كما يقول المقريزي.
11
ويذكر المقريزي بعد ذلك المدرسة المنصورية التي بناها هي والقبة التي تجاهها الملك المنصور قلاوون الألفي سنة 684، ورتب بها دروسا أربعة لأصحاب المذاهب الأربعة المعروفة، ودرسا للطب، كما جعل بالقبة درسا للحديث ودرسا للتفسير، وكانت هذه التداريس لا يعمل فيها إلا أجل الفقهاء المعتبرين.
ويذكر المقريزي أنه كان بهذه القبة خزانة جليلة كان فيها عدة أحمال من الكتب في أنواع العلوم، مما وقفه الملك المنصور وغيره، وقد ذهب معظم هذه الكتب وتفرق في أيدي الناس.
12
وذكر هذا المؤرخ بعد ذلك المدرسة الناصرية التي كمل بناؤها سنة 703، وكان هذا بأمر الملك الناصر محمد بن قلاوون، وكانت لأصحاب المذاهب الأربعة، يقوم بتدريس كل مذهب فقيه من أجل فقهائه، كما كان لطلابها معاليم تجري عليهم.
وأخيرا، نذكر من مدارس القاهرة المدرسة المحمودية التي أنشأها الأمير محمود بن علي الأستادار سنة 797، وكانت خارج باب زويلة كما يذكر المقريزي في خططه، كما يقول: «وعمل بها خزانة كتب لا يعرف اليوم بديار مصر ولا الشام مثلها ... وبهذه الخزانة كتب الإسلام من كل فن، وهذه المدرسة من أحسن المدارس في مصر.»
13 •••
وإذا تركنا مصر إلى بلاد الشام، نجد الأمر مثل ذلك أو قريبا منه في هذه الناحية، ولا عجب أن يكون هذا؛ فقد كان هذان القطران الشقيقان بلدا واحدا في ذلك العصر، وقد صار في هذه الأيام التي نعيش فيها بلدا واحدا كما كانا من قبل بفضل الله تعالى.
وكان الفضل الكبير في هذا العصر، في إنشاء هذه المدارس، أو المراكز العلمية الهامة، للسلطان صلاح الدين،
14
ولأبنائه الملوك من بعده، ثم للأمراء ومن إليهم من ذوي الجاه والفضل، ثم تتابع الأمر أيام دولة المماليك الذين عاش في أيامهم ابن تيمية.
والباحث في الكتب التي أشرنا إليها آنفا، وفي أمثالها من المراجع التي أرخت لمصر والشام في القرن السادس والسابع وما بعدهما، يتبين أن مدائن الشام كانت زاخرة بالمدارس والمعاهد العلمية التي كانت مثابة للطلاب والشيوخ، وأنه تخرج ودرس فيها كثير لا يحصون من الفقهاء والعلماء الذين برزوا في فنون العلم وفروعه العديدة المختلفة، حتى الطب والهندسة وما إليهما.
15
ففي دمشق وحدها وجد في القرنين السادس والسابع نحو تسعين مدرسة للفقه بمذاهبه المختلفة، وللتفسير والحديث وغيرهما من العلوم الدينية الإسلامية وعلوم اللغة العربية، وكان منها أربع للطب وحده؛ إذ كان يدرس نظريا في المدارس وعمليا في المارستانات أو المستشفيات بلغتنا الحالية.
وكان لمدينة حلب حظها الموفور من هذه المدارس، فهي ثاني المراكز العلمية في الشام بعد دمشق، كما كانت مثابة للعلماء وإليها يرحلون. وكذلك كان الحال في القدس وحماة وحران وحمص، وغيرها جميعا من بلاد الشام، ففي كل هذه المدن والبلاد كانت مدارس عديدة زاهرة تعج بالعلم وطلابه وشيوخه.
هذه العلوم وأثرها
كانت مصر والشام في العصر الذي عاش فيه ابن تيمية؛ أي في القرنين السابع والثامن (وكل منهما يعتبر إلى حد كبير امتدادا للقرن السابق له)، يموجان موجا بالعلم على مختلف فروعه، وبالثقافة بمتنوع ألوانها، وكان طريق العلم والمعرفة ممهدا لسالكيه.
كان يدرس في هذه المؤسسات العلمية التي ملأت البلاد: علوم القرآن، والتفسير، والحديث، والسنة النبوية، والفقه بمذاهبه المعروفة، والنحو والصرف، وسائر علوم اللغة العربية، والتاريخ، وتاريخ الرجال وطبقاتهم ...
وبجانب هذه العلوم الإسلامية المعروفة، كان يوجد مكان ملحوظ لعلوم أخرى من علوم الحياة؛ مثل: الفلسفة، والهيئة أو الفلك، والهندسة، والرياضيات، والطب وما يتصل به، إلى غير ذلك كله مما عرفه العرب والمسلمون من علوم وفنون عديدة مختلفة.
وكان الطب يدرس في تلكم الأيام على ما ينبغي؛ أي من الناحية النظرية والعملية، فقد كان في القاهرة ودمشق وحلب مدارس للطب خاصة، كما كان هذا العلم يدرس في مدارس أخرى بجانب غيره من العلوم، وكانت المارستانات موطن الدراسة العلمية لهذا العلم.
ومن أجل ذلك كله، نستطيع أن نقرر بأن هذا العصر كان عصرا مجيدا من ناحية الثروة العلمية التي جمعت فيه في علوم الدين واللغة والتاريخ وعلوم الحياة أيضا، حتى إنه ليعتبر بحق عصر المؤلفات المطولة والموسوعات الجامعة في علوم القرآن، والتفسير، والحديث، والفقه، والتاريخ، وطبقات الرجال، وغيرها من العلوم الإسلامية المختلفة.
ولكنه لم يكن فيه من أصالة الفكر والتجديد والابتكار في الآراء، حظ كبير يتميز به ويتناسب ولو إلى حد ما مع كثرة ما جمع فيه من معارف وعلوم، اللهم إلا ما كان لدى نفر قليل على رأسهم الشيخ ابن تيمية كما سنعرف بعد حين.
هذا، وقد كان لإنشاء المدارس آثار طيبة جدا من نواح كثيرة، ولكن - في رأينا - كان لها أثر آخر غير محمود نكتفي هنا بالإشارة إليه؛ ونعني به أنها أذكت روح التعصب بين الفقهاء والعلماء، وهذا ما أدى إلى تباغضهم وتحاسدهم أحيانا كثيرة.
فقد كانت المدرسة تخصص أحيانا لعلم واحد كالحديث، أو لمذهب واحد من المذاهب الفقهية ، وهكذا، فكان كل فريق بما لديهم فرحين وعليه مستمسكين وله ينصرون، غير مبالين ولا طالبين في حالات كثيرة للحق في ذاته، وغير ملتفتين إلى أن العلم وطلبه يقضي بالتعاون والتناصر عليه متى ظهر في أي جانب ومهما كان قائله.
ولهذه العصبية التي قد تؤدي إلى الخلاف والجدل بغير حق، عرق قديم في العالم الإسلامي كما في سائر العالم كله بين أصحاب المقالات والمذاهب المختلفة؛ نعرف ذلك بين أصحاب المذاهب الفقهية الأربعة وغيرها من مذاهب الشيعة وابن حزم، ونعرفها بين المعتزلة والأشاعرة وغيرهم من رجال الفرق الإسلامية، ونعرفها بين أهل السنة وأهل الرأي، ونعرفها بين الفلاسفة والمتصوفة، وبين غيرهم من رجال الفقه وعلم الكلام.
كما نعرفها أخيرا بين الشيخ ابن تيمية وبين من عاصره من الفقهاء والمتصوفة والفلاسفة وغيرهم من رجال المذاهب والفرق في العقائد الدينية.
وقد أدت هذه العصبية التي بلغت أحيانا حدا ممقوتا، إلى جدل عنيف؛ بل إلى معارك شديدة، وكان من آثار ذلك طمس الحق وضياع معالمه، وبخاصة بسبب ما كان يذكيها ويزيد في أوارها من اختلاف مناهج التفكير، والاعتماد على النقل عند فريق مهما يؤد إليه، أو الاعتماد على العقل والمنطق مهما تكن نتائجه عند فريق آخر؛ ولله في خلقه شئون! يؤتي الحكمة في القول والعمل لمن يشاء، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا. •••
ومهما يكن من أمر، فقد ظهر ابن تيمية في هذا الوسط الزاخر بالمعرفة والعلم من قديم الزمن وحديثه حتى الأيام التي عاش فيها، وأفاد من ذلك أكثر بكثير جدا مما أفاد معاصروه، وساعده على هذا الهبات الكبيرة الجليلة التي منحها الله له: نفس طلعة، وقلب مشغوف بحب المعرفة والعلم، وعقل نافذ لما فات غيره، وحافظة لا تضيع، وذاكرة قوية لا تنسى.
ولم تكن هذه المناهل العلمية الدافقة هي كل ما أفاد منه الشيخ، بل كان من الطبيعي أن يستفيد أيضا من كبار الشيوخ الذين عاصروه أو سبقوه بقليل من الزمان، أمثال الحافظ ابن عساكر وابن الأثير في التاريخ، كما أفاد من ابن قدامة، وابن الصلاح، والعز بن عبد السلام، ومحيي الدين النووي، وابن دقيق العيد، في الفقه وأصوله والتفسير والحديث واللغة وغيرها من العلوم الإسلامية.
16
وبعد، فقد جلينا فيما نعتقد عصر ابن تيمية من نواحيه المختلفة كلها، ومن أجل هذا ننتقل إلى الشيخ نفسه لنعرف حياته، وما كان فيها من صراع وكفاح وجهاد، انتهى به إلى أن صار حقا من الخالدين.
الباب الثاني
حياة ابن تيمية
عرفنا العصر الذي عاش فيه الشيخ العظيم، وما سبقه مما يعتبر عصره امتدادا له، من النواحي السياسية والعلمية والاجتماعية. ونأخذ الآن في الكشف عن حياته الحافلة بالنشاط والأحداث من جوانبها المختلفة، وسيكون هذا في فصول أو مباحث على هذا النحو: (1)
أسرته، ونشأته ودراساته ومكانته العلمية. (2)
جهاده في حروب التتار. (3)
مواقفه مع مخالفيه. (4)
محنته في مصر والشام ووفاته.
أما آراؤه الفقهية والكلامية، والسياسية، والاجتماعية، وغيرها في النواحي العلمية الأخرى، فستأتي بعد ذلك في الأبواب الأخرى.
الفصل الأول
أسرته ونشأته ودراساته ومكانته العلمية
أسرته
نبت ابن تيمية من أسرة ثابتة الدعائم قوية الأركان، فهي كدوحة سامقة وارفة الظلال، أو كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، فكانت هي وهو كما يقول الشاعر العربي:
وهل ينبت الخطي
1
إلا وشيجه
وتغرس إلى في منابتها النخل
وفي الحق، إنه سليل أسرة كريمة اشتغل أبناؤها بالعلم، وكلهم عرف به وبرز فيه، فعني تاريخ الفقه والعلم بهم، وخلد أسماءهم والكثير من آثارهم.
فأبوه هو شهاب الدين أبو أحمد عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن تيمية، نزيل دمشق، ولد بحران
2
سنة 627، وسمع من أبيه وكثيرين غيره، حتى إذا أتقن العلوم درس وأفتى وصار شيخ البلد وخطيبه وحاكمه.
ويذكر الذهبي في تاريخه أنه قرأ المذهب الحنبلي على أبيه حتى أتقنه، ودرس وأفتى وصنف، وكان إماما محققا كثير الفنون، دينا متواضعا حسن الأخلاق، كما كان جوادا من حسنات العصر، وكان من أنجم الهدى، وإنما اختفى من نور القمر وضوء الشمس؛ يشير بذلك إلى أبيه وابنه.
ويقول البرزالي عنه: «كان من أعيان الحنابلة، باشر بدمشق مشيخة دار الحديث السكرية، وكان له كرسي بالجامع يتكلم عليه أيام الجمع من حفظه.»
3
ذلك أبوه، وأما جده فهو شيخ الإسلام مجد الدين أبو البركات عبد السلام بن عبد الله بن تيمية الحراني، الفقيه الحنبلي، الإمام المقرئ المحدث المفسر الأصولي النحوي، وأحد الحفاظ الأعلام.
ولد بحران سنة 590 تقريبا، وحفظ القرآن الكريم بها، وسمع من عمه الخطيب فخر الدين وغيره، ورحل في سبيل طلب العلم إلى بغداد سنة 603، وأقام بها ست سنوات يشتغل بأنواع العلوم، ثم عاد إليها (بعد أن كان قد رجع إلى حران) فازداد فقها وعلما.
ويذكر الذهبي عن ابن تيمية الأشهر؛ أي الحفيد موضوع هذه الدراسة، أنه قال: «كان جدنا عجبا في حفظ الأحاديث وسردها، وحفظ مذاهب الناس بلا كلفة.» وينقل عنه أيضا أن الشيخ جمال الدين بن مالك قال: «ألين للشيخ المجد الفقه كما ألين الحديد لداود!»
وذكر الذهبي أيضا أن الشيخ مجد الدين كان معدوم النظير في زمانه، رأسا في الفقه وأصوله، بارعا في الحديث وما فيه، له اليد الطولى في معرفة القراءات والتفسير، صنف التصانيف، واشتهر اسمه وبعد صيته، وكان فرد زمانه في معرفة المذهب الحنبلي، مفرط الذكاء، متين الديانة، كبير الشأن.
4
وإذا تركنا أباه وجده نجد آخرين كثيرين مشهورين من أعضاء هذه الأسرة الكبيرة من الرجال والنساء، لكل منهم مقامه في العلم في زمنه، ولا نرى التعرض لذكرهم، فأمرهم معروف في التاريخ، فليرجع إلى كتب تاريخ الرجال والطبقات من يريد معرفة ما كان لهم من كبير المنزلة وعظم الأثر.
نشأته ودراساته
أكد العلم الحديث ما عرفه القدامى من العرب من أن الوراثة والبيئة هما العاملان اللذان لهما أكبر الأثر على ما يكون عليه الإنسان في نشأته وتربيته ومستقبله، وأنه بالوراثة تنتقل الاستعدادات الخلقية والعقلية من جيل إلى جيل، وأن البيئة هي التي تمهد لظهور هذه الاستعدادات فعلا.
وقد جمع الله لابن تيمية كل العوامل التي جعلت منه رجلا عظيما فريدا في عصره في الفقه وسائر العلوم الإسلامية : من وراثة طيبة قوية، وبيئة صالحة تزخر بالعلم وتدفع إليه دفعا، عقل واع ألمعي، وحافظة ذاكرة لا تنسى ما وعته، وشجاعة تستهين بالأخطار في سبيل الحق، وإرادة لا تقف أمامها العقبات، وغير ذلك كله من أسباب العبقرية والنجاح والنبوغ والخلود على الأيام، وصدق العليم الحكيم إذ يقول:
والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه .
ولد أحمد بن عبد الحليم بن تيمية في عاشر ربيع الأول سنة 661 بحران، وأنبته الله نباتا حسنا، فعاش بها بضع سنين في كنف أبيه وتحت رعايته، ثم انتقل أبوه به وبأخويه إلى دمشق سنة 667 عند قدوم التتار إلى الشام، وكاد هذا البلاء الزاحف يدركهم في سيرهم لولا أن من الله عليهم بالسلامة والنجاة، وكان هذا لخير الإسلام والعلم والمسلمين.
وفي دمشق، إحدى مدائن العلوم الكبيرة في ذلك الزمان، نشأ أحمد وترعرع، ثم درس ونضج، حتى بلغ أشده وأتاه الله العلم والحكمة، وصار أحد الأئمة الأعلام، ومن كبار شيوخ الإسلام الذين خلدوا على الزمن بفضل ما قاموا به من جلائل الأعمال وما خلفوه لنا من عظيم الآثار.
ولا عجب أن ينبغ الفتى أحمد بن عبد الحليم، فقد وفر العليم الحكيم له كل عوامل الفوق والنبوغ ومؤهلاته: وراثة طيبة عميقة الجذور، بعيدة الأصول، سامقة الفروع، وبيئة علمية أوفت على الغاية، وقوى عقلية وذهنية بلغت حد العجب والإعجاب بها حتى صار فريد عصره.
استقرت الأسرة إذن بدمشق الفيحاء، وفي كتاب من كتاتيبها حفظ ابن تيمية كتاب الله وهو حدث ولم ينس شيئا منه حتى قضى نحبه؛ إذ كان سريع الحفظ جدا بطيء النسيان، حتى ليقال إنه لم يحفظ شيئا من قرآن أو حديث أو علم ثم نسيه، شهد له بذلك تلاميذه ومعاصروه، ومنهم من كانوا من خصومه المعروفين.
ثم أخذ في الدرس وطلب العلم، وعاش متبتلا له طول حياته حتى بلغ منه الغاية، وبز معاصريه وشآهم وجاوز أقدارهم جميعا؛ كل ذلك في عفة وتدين ومروءة وأخلاق فاضلة مرضية تحدث بها الجميع، وقول للحق في قوة حتى لا يخاف في الله لومة لائم.
ويذكر ابن الوردي
5
أنه بعد أن تعلم الخط والحساب وحفظ القرآن في المكتب، أقبل على الفقه والعربية وبرع في النحو، ثم أقبل على التفسير إقبالا كليا حتى سبق فيه، وأحكم أصول الفقه؛ كل هذا وهو ابن بضع عشرة سنة. فانبهر الفضلاء من فرط ذكائه وسيلان ذهنه وقوة حافظته وإدراكه، ونشأ في تصون تام وعفاف وتعبد، واقتصاد في الملبس والمأكل.
وكان يحضر المحافل في صغره، فيناظر ويفحم الكبار ويأتي بما يتحيرون منه، وأفتى وله أقل من تسع عشرة سنة، وشرع في الجمع والتأليف. مات والده وله إحدى وعشرون سنة، وبعد صيته في العالم فطبق ذكره الآفاق، وأخذ في تفسير القرآن أيام الجمع في المسجد من حفظه، لا يتوقف ولا يتلعثم.
وكان للشيخ خبرة تامة بالرجال رواة الحديث، وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم، ومعرفة بفنون الحديث وبالعالي والنازل والصحيح والسقيم، مع حفظه لمتونه الذي انفرد به، وهو عجيب في استحضاره واستخراج الحجج منه، وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة والمسند، بحيث يصدق عليه أن يقال إن كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث، ولكن الإحاطة لله؛ غير أنه يغترف فيه من بحر، وغيره من الأئمة يغترفون من السواقي!
ثم يقول ابن الوردي: «وأما التفسير فمسلم إليه، وله في استحضار الآيات للاستدلال بها قوة عجيبة، ولفرط إمامته في التفسير وعظمة اطلاعه بين خطأ كثير من أقوال المفسرين، ويكتب في اليوم والليلة - من التفسير، أو من الفقه، أو من الأصلين،
6
أو من الرد على الفلاسفة والأوائل - نحوا من أربعة كراريس.» قال: «وما يبعد أن تصانيفه إلى الآن تبلغ خمسمائة مجلدة.»
وإذا كان هذا هو رأي أحد تلامذته فيه، فإن رأي غيره، ولو كان من خصومه، لا يبعد عنه فيما يتصل بقوى ابن تيمية العقلية والذهنية ومبلغ ما وصل إليه من الإمامة في العلم. هذا هو كمال الدين بن الزملكاني، وكان شيخ الشافعية بالشام وغيرها وإليه انتهت رياسة المذهب، يكتب مجلدا في الرد على بعض آراء ابن تيمية الفقيه، وكان غير صالح النية من جهته بل يميل إلى إيذائه،
7
ومع ذلك يقول فيه:
8 «كان إذا سئل عن فن من الفنون ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم أن أحدا لا يعرف مثله، وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جلسوا معه استفادوا في سائر مذاهبهم منه ما لم يكونوا يعرفونه قبل ذلك!
ولا يعرف أنه ناظر أحدا فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم - سواء كان من علوم الشرع أو غيرها - إلا فاق فيه أهله والمنسوب إليه، وكانت له اليد الطولى في حسن التصنيف وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتبيين.»
ولم يكتف ابن الزملكاني بهذا، بل كتب على بعض تصانيف الشيخ هذه الأبيات، وهي كما ترى ناطقة بمبلغ ما وصل إليه ابن تيمية من العلم والفضل:
ماذا يقول الواصفون له؟
وصفاته جلت عن الحصر
هو حجة لله قاهرة
هو بيننا أعجوبة الدهر
هو آية في الخلق ظاهرة
أنوارها أربت على الفجر
ولا ندري مع هذا الثناء والتقديم العظيم كيف يصدق ما ذكره ابن كثير من أن ابن الزملكاني كانت نفسه خبيثة، وأنه كان يروم أذى ابن تيمية! ولعل الحق أنه قدره حق قدره وأثنى عليه بصفة عامة، وهذا لا يمنع من خلافه له في بعض الآراء الفقهية ورده عليها ردا عنيفا، وبخاصة أنهما كانا متعاصرين ومن كبار العلماء، فقد توفي ابن الزملكاني سنة 727.
هذا، وبالرجوع إلى الذين ترجموا له من معاصريه ومن جاءوا بعده؛ مثل ابن الوردي في تاريخه، والحافظ شمس الدين الذهبي في كتبه العديدة، وابن الألوسي في «جلاء العينين»، وابن رجب في طبقاته، وصلاح الدين بن شاكر الكتبي في «فوات الوفيات»، وابن العماد الحنبلي في «شذرات الذهب»، نقول: إنه بالرجوع إلى هؤلاء ونحوهم من أثبات المؤرخين، نعلم أن ابن تيمية بذل غاية الجهد لطلب العلم من أبوابه، وتنوعت دراساته حتى شملت علوم عصره كلها، وأنه بلغ الغاية وصار إماما في الكثير منها.
ولا نرى الإطالة في هذا، فحسبنا ما ذكرناه سابقا عن نشأته ودراساته، ومن يريد التفصيل فما عليه إلا أن يرجع إلى المراجع التي ذكرناها، ففيها الخبر اليقين عن العلوم التي حصلها وبرز فيها جميعا.
مكانته العلمية والدينية
بلغ من نبوغ ابن تيمية أنه تأهل للتدريس والفتوى وهو في صدر شبابه قبل أن يتم العشرين من عمره، ثم قام بوظائف أبيه العلمية بعد وفاته وله حينئذ عشرون سنة أو تزيد قليلا.
وعنه يقول الإمام الذهبي في «معجم شيوخه»:
9 «شيخنا وشيخ الإسلام، وفريد العصر علما ومعرفة، وشجاعة وذكاء، وتنويرا إلهيا، وكرما ونصحا للأمة، وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر.
سمع الحديث وأكثر بنفسه من طلبه، وكتب وخرج، ونظر في الرجال والطبقات، وحصل ما لم يحصله غيره، وبرع في تفسير القرآن، وغاص في دقيق معانيه ... واستنبط منه أشياء لم يسبق إليها، وبرع في الحديث وحفظه، فقل من يحفظ ما يحفظه من الحديث معزوا إلى أصوله وصحابته ...
وفاق الناس في معرفة الفقه، واختلاف المذاهب، وفتاوى الصحابة والتابعين، بحيث إذا أفتى لم يلتزم بمذهب، بل يقول بما دليله عنده.
وأتقن العربية أصولا وفروعا، وتدليلا واختلافا، ونظر في العقليات (نعتقد أنه يريد بصفة خاصة الفلسفة وعلومها)، وعرف آراء المتكلمين ورد عليهم ونبه على خطئهم وحذر منهم.
ونصر السنة بأوضح حجج وأبهر براهين، وأوذي في ذات الله من المخالفين، وأخيف في نشر السنة المحضة، حتى أعلى الله مناره، وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له، وكبت أعداءه وهدى به رجالا من أهل الملل والنحل.
وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالبا وعلى طاعته، وأحيا به الله الشام بل والإسلام، بعد أن كاد ينثلم لما أقبل حزب التتر والبغي في خيلائهم ...
ومحاسنه كثيرة، وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي، فلو حلفت بين الركن والمقام لحلفت أني ما رأيت بعيني مثله، وأنه ما رأى مثل نفسه.»
ويذكره الشيخ فتح الدين بن سيد الناس، أحد الحفاظ المعروفين، فيقول في كلام طويل: «كاد يستوعب السنن والآثار حفظا، إذا تكلم في التفسير فهو حامل رايته، أو أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو ذاكر بالحديث فهو صاحب علمه وروايته، أو حاضر بالنحل والملل لم تر أوسع من نحلته في ذلك ولا أرفع من درايته.
برز في كل فن على أبناء جنسه، ولم تر عين من رآه مثله، ولا رأت عينه مثل نفسه ...» إلى آخر ما قال.
10
وذكره الشيخ عماد الدين الواسطي، وقد توفي قبله، فقال بعد ثناء طويل جميل ما لفظه: «فوالله، ثم والله، ثم والله، لم ير تحت أديم السماء مثل شيخكم ابن تيمية علما وعملا، وحالا وخلقا، واتباعا، وكرما وحلما، وقياما في حق الله عند انتهاك حرماته. أصدق الناس عقدا، وأصحهم علما وحزما، وأنفذهم وأعلاهم في انتصار الحق وقيامه همة، وأسخاهم كفا، وأكملهم اتباعا لنبيه محمد
صلى الله عليه وسلم ...»
وقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، وقد سئل رأيه فيه بعد اجتماعه به، فقال: «رأيت رجلا سائر العلوم بين عينيه، يأخذ ما شاء منها ويترك ما يشاء ...»
11
وننتهي من كلام الأئمة الحفاظ والمؤرخين الدال على عظم مكانة ابن تيمية العلمية، بتلخيص كلمة الحافظ ابن ناصر الدين، وذلك إذ يذكر بعد ثناء جميل وكلام طويل: حدث عنه خلق كثير، منهم الذهبي والبرزالي وأبو الفتح بن سيد الناس، وحدثنا عنه جماعة من شيوخنا الأكياس، وقال الذهبي في عد مصنفاته المجودة: وما أبعد أن تصانيفه الآن تبلغ خمسمائة مجلدة.
12
وأثنى عليه الذهبي وخلق بثناء حميد، منهم الشيخ عماد الدين الواسطي، والعلامة تاج الدين عبد الرحمن الفزاري، و(كمال الدين) بن الزملكاني، وأبو الفتح (لعله يريد: ابن سيد الناس)، وابن دقيق العيد.
وحسبه من الثناء الجميل قول أستاذ أئمة الجرح والتعديل، أبي الحجاج المزي الحافظ الجليل: «ما رأيت مثله، ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت أحدا أعلم بكتاب الله وسنة رسوله ولا أتبع لهما منه.»
وترجمه بالاجتهاد وبلوغ درجته، والتمكن في أنواع العلوم والفنون، ابن الزملكاني والذهبي والبرزالي بن عبد الهادي، ولم يخلف بعده من يقاربه في العلم والفضل.
13
هكذا كان الشيخ العظيم فذا في عصره، وإماما يقتدى به في حياته وبعد مماته، ونجما متألقا لم يعتره أفول منذ ولد حتى اليوم، لم ير في عصره مثله ولم ير هو أحدا مثل نفسه كما قيل عنه بحق من بعض من ترجموا له، وكان وما يزال بحرا زخارا بالعلم ارتوى منه معاصروه، ويرتوي الناس منه في كل جيل وزمان ومكان.
الفصل الثاني
جهاده التتار وكفاحه الظلم والمنكرات
المؤمن الصادق القوي
الإسلام عقيدة وعلم، هو الاعتقاد والإيمان الصادق الذي لا ريب فيه بالله الواحد الأحد، مالك الأمر كله، وله مقاليد السماوات والأرض وما بينهما، وهو مع هذا عمل بما توجبه هذه العقيدة وتدفع إليه من شرائع وأحكام، وتعاليم وأخلاق وآداب.
ومتى صار الإنسان إلى هذه العقيدة فملكت عليه نفسه وقلبه، وأصبح لا يعيش إلا بها ولها؛ كان مؤمنا صادقا قويا حقا، وهان عليه كل أمر بعد ذلك، وعز به الإسلام والمسلمون كما كان شأن الصدر الأول من المسلمين ومن ساروا على طريقهم من بعد.
وفي هؤلاء المؤمنين وأمثالهم يقول الله تعالى:
إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ،
1
ويقول:
إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون .
2
والمؤمن القوي هو قضاء الله الغالب وقدره الذي لا يرد، وهو أحب إلى الله من المؤمن الضعيف، ويكون لهذا أهلا لتأييد الله ونصرته، وذلك وفاء من الله بوعده؛ إذ يقول:
وكان حقا علينا نصر المؤمنين ، ويقول:
يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم .
والمؤمن القوي بإيمانه بالله وتوكله حق التوكل عليه وحده، لا تهوله كثرة الأعداء، ولا ينخلع قلبه لمرأى الجموع الزاحفة، فهو يلجأ لله القوي العزيز وليه وناصره، ويندفع للجهاد طالبا إحدى الحسنيين: الظفر والنصر، أو الاستشهاد في سبيل الله والحق، وحينئذ يكون بفضل الله ومشيئته من الذين قال فيهم:
يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين * الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم * الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم .
3
وبهؤلاء المؤمنين الأقوياء بالله والذين صدقوه ما وعدوه، انتصر الإسلام، وغلبت القلة المؤمنة الكثرة المشركة بفضل الله، وانتشر الإسلام شرقا وغربا حتى ملأ الأرض، ودالت دولتا الأكاسرة والقياصرة، والله دائما مع المؤمنين.
المدافع عن الدين والوطن
وابن تيمية لم يكن على ما عليه الجمهور من علماء الدين هذه الأيام، بل كان مؤمنا حقا بالله، عاملا بشريعته، متوكلا حق التوكل عليه، معتزا بحوله وقوته، عالما بأن الجهاد في سبيل الله والوطن من أفضل القربات إلى الله، وأنه فرض على القادر عليه بنفسه وماله أو بهما كليهما معا، موقنا بأن الله لا يضيع أجر المجاهدين والعاملين، وبأنه تعالى فضل المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما.
لم يتردد، إذن، الشيخ ابن تيمية في أن يكون في طليعة المجاهدين للتتار بنفسه، هؤلاء الذين زحفوا على الشام كالطوفان أو السيل العرم، والذين لا تصلهم وشيجة بالعرب أو الإسلام من جنس أو عقيدة، والذين كانوا يرون أنه لن تقف أمة أو دولة أو قوة أمامهم في أي بلد من البلاد في العالم كله.
وهنا يظهر ابن تيمية العالم العامل، المؤمن القوي، المجاهد في سبيل الله وأمته حامية دينه وشريعته ومثله العليا، فتكون له مع هذا العدو الداهم مواقف محمودة من الله والناس، وتكون لهذه المواقف آثارها العظيمة في إذكاء الروح الديني والوطني لدى الملوك والسلاطين وعامة الناس.
وتكون النتيجة أن عرف التتار الهزيمة الساحقة بعد طول انتصارهم، وبذلك كفى الله أخيرا الإسلام والعرب والمسلمين شرهم إلى الأبد.
مواقف مجيدة
ونحن نذكر هنا بعض هذه المواقف المجيدة، وبهذا يتبين لنا أي رجل كان ابن تيمية في هذه الناحية بعد أن عرفنا سابقا كيف كان في علمه وفضله ودينه: (1)
لما زحف التتار على الشام، وتسامع الناس بأنهم يريدون أيضا قصد مصر، تملك الرعب قلوب الأهلين، واتفق بعض أعيان البلد والشيخ على لقاء ملكهم قازان
4
فذهبوا إليه وتكلم معه ابن تيمية كلاما شديدا، وكانت الغاية أخذ الأمان لأهل دمشق ثم إيقاف زحفهم الداهم وإنقاذ العباد والبلاد منهم.
ويشير بعض المؤرخين إلى هذه المقابلة (كانت سنة 699) بقوله: إن شجاعته كانت تضرب بها الأمثال، وببعضها يتشبه أكابر الأبطال، وقد أقامه الله في نوبة غازان، وقام بأعباء الأمر بنفسه، واجتمع بالملك مرتين، وكان «سيف الدين قيجق المنصوري»
5
يتعجب من إقدامه على المغول (هم التتار).
قال القاضي شهاب الدين أبو العباس أحمد بن فضل الله في ترجمته: جلس الشيخ إلى السلطان غازان؛ حيث تجم الأسود في آجامها، وتسقط القلوب داخل أجسامها ... خوفا من ذلك السبع المغتال، والنمروذ المحتال، والأجل الذي لا يدفع بحيلة محتال ...
جلس إليه، وأومأ بيده إلى صدره، وواجهه ودرأ في نحره (كان الحديث طبعا بواسطة ترجمان)، وطلب منه الدعاء، فرفع يديه ودعا له دعاء منصف أكثره عليه، وغازان يؤمن على دعائه.
6 (2)
وفي سنة 700 اشتد الخطر على الشام من ذلك العدو الرهيب، فأصبح الناس ما بين هارب أو لا يجد بدا من الاستسلام، فخرج الشيخ في مستهل جمادى الأولى - والناس على خطة صعبة من الخوف والفزع - إلى نائب الشام، فثبتهم وقوى جأشهم ووعدهم النصر على الأعداء إن صبروا وأعدوا العدة للقائه، وتلا قوله تعالى:
ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور ، وبات عند العسكر.
ثم لم يجد أولو الأمر والناس ملاذا إلا إليه، فطلب النائب والأمراء إليه أن يركب على البريد إلى مصر يستحث السلطان أن يجيء بالجيش لإنقاذ الشام، وهنا في القاهرة قال لهم فيما قال: «إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته، أقمنا له سلطانا يحوطه ويحميه ويستغله في زمن الأمن»، ثم قال: «لو قدر أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه، واستنصركم أهله، وجب عليكم النصر، فكيف وأنتم حكامه وسلاطينه، وهم رعاياكم وأنتم مسئولون عنهم.» وقوى جأشهم وضمن لهم النصر هذه الكرة، فخرجوا إلى الشام وكان الظفر والنصر.
7
ويصف ابن رجب هذه السفارة التي نجحت نجاحا عظيما بقوله: وقد سافر الشيخ على البريد إلى الديار المصرية يستنفر السلطان عند مجيء التتر سنة من السنين، وتلا عليهم آيات الجهاد، وقال: «إن تخليتم عن الشام ونصرة أهله والذب عنهم، فإن الله تعالى يقيم لهم من ينصرهم غيركم، ويستبدل بكم سواكم»، وتلا عليهم قوله تعالى:
وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ، وقوله تعالى:
إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا .
وبلغ ذلك الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، وكان هو القاضي حينئذ، فاستحسن ذلك وأعجبه هذا الاستنباط، وتعجب من مواجهة الشيخ للسلطان بمثل هذا الكلام.
8 (3)
ولم يكتف الشيخ بالعمل الدائب على تحريض الناس والسلطان والأمراء في مصر والشام على القتال، بل نراه سنة 702 يلقي بنفسه في الميدان، وذلك في واقعة «شقحب» التي جمع فيها التتار جموعهم واستعدوا لها بكل قواهم، وكان بسبب ذلك أن بلغت القلوب الحناجر وزلزل الناس زلزالا شديدا.
في هذه الموقعة شهد ابن تيمية القتال بنفسه، وقاتل فيها هو وجماعة من أصحابه، وكانت في رمضان من العام المذكور، وانتهت بنصر الله المسلمين نصرا مؤزرا، وقتل فيها من التتار خلق كثير لا يعلم عدتهم إلا الله بحيث لم يسلم منهم إلا القليل. واستقرت القلوب بهذا الفتح العظيم والنصر المبارك الكبير، وأقبل الناس على الشيخ بالتهنئة والدعاء بما يسر الله على يديه من الخير الكثير.
وذلك - كما يذكر ابن كثير
9 - بأن العسكر الشامي ندبه إلى السير إلى السلطان يستحثه على السير إلى دمشق بعد أن كاد يرجع إلى مصر، ففعل ذلك وجاء هو وإياه إلى المدينة، ثم سأله السلطان أن يقف معه في المعركة، فقال: السنة أن يقف الرجل تحت راية قومه، ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معهم.
ثم أخذ يحرض السلطان على القتال، وبشره بالنصر، وجعل يحلف بالله الذي لا إله إلا هو إنكم لمنصورون عليهم، فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا.
الله أكبر، والعزة له تعالى ولرسوله وللمؤمنين، ما أكبر هذه الثقة بالله التي ملأت قلب ابن تيمية وفاضت على كل من حوله من المجاهدين المقاتلين! إنها ثقة المؤمن الصادق القول في ربه القوي العزيز، فكأنه كان يستشف الغيب من ستار رقيق.
ولم لا؟ والله لن يخلف وعده، وقد وعد في كتابه العظيم عباده المؤمنين بالنصر؛ إذ قال:
وكان حقا علينا نصر المؤمنين ، وقال:
إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ، ومن أوفى بعهده ووعده من الله!
أثره في هذا الجهاد
نكتفي بهذه المواقف لابن تيمية في جهاد التتار بنفسه، فهذه المواقف كثيرة نستطيع أن نعد منها لا أن نعدها كلها، ونعتقد - ويؤيدنا التاريخ والواقع فيما نعتقد - أن أثر الشيخ العظيم كان كبيرا وفعالا في هذه الناحية.
فقد رأينا كيف كانت هزيمة التتار الساحقة، وبخاصة في موقعة «شقحب»؛ نتيجة لسعيه المشكور في جمعه جيش مصر مع جيش الشام في الميدان، ولتحريضه الدائب للسلطان والأمراء والناس جميعا على الثبات، والثبات للعدو الداهم العظيم البأس والخطر.
ونرى سنة 699 التتار يقتربون من دمشق فتزايد فزع الأهلين، وطلب سيف الدين قبجق من نائب القلعة تسليمها لهم فأبى، ثم تكلم معه أعيان البلد في ذلك فأبى أيضا وصمم على ترك تسليمها إليهم وفيها عين تطرف، ونحن نقول: لماذا وقف نائب القلعة هذا الموقف المجيد؟
ذلك ما يجيب عنه ابن كثير في تاريخه إذ يقول: إن الشيخ تقي الدين أرسل إلى نائب القلعة يقول له ذلك: لو لم يبق فيها إلى حجر واحد فلا تسلمهم ذلك إن استطعت! وكان في ذلك مصلحة عظيمة لأهل الشام، فإن الله حفظ لهم هذا الحصن والمعقل الذي جعله الله حرزا لهم.
10
وقصارى القول: إن الله «أحيا به الشام، بل والإسلام بعد أن كاد ينثلم بتثبيت أولي الأمر لما أقبل حزب التتار والبغي في خيلائهم، فظنت بالله الظنون، وزلزل المؤمنون، واشرأب النفاق وأبدى صفحته» كما يقول الحافظ الذهبي في ترجمته له في معجم شيوخه.
11
وذلك لأن الله فطر قلوب الناس والملوك والأمراء على طاعته والانقياد له في أغلب الأمر؛ لأن تأثيره عليهم كان قويا عظيما، فقد كان إيمانه بالله وبما يقول مددا ضخما لقوة تأثيره، كما كان لتكوينه الجسمي والعقلي ما يجعله مهيبا مسموع الكلمة.
فقد ذكر الذين رأوه ووصفوه أنه كان قوالا بالحق نهاء عن المنكر، ذا سطوة وإقدام وعدم مداراة، كما كان أبيض شديد سواد الرأس واللحية قليل الشيب، شعره إلى شحمتي أذنيه، عيناه لسانان ناطقان، ربعة بين الرجال، جهوري الصوت، فصيح اللسان، مع فرط ذكاء، وسيلان ذهن.
كل هذا، وما إليه من سائر خلاله وصفاته العقلية والخلقية جعل لكلامه ومواقفه التأثير القوي والعاقبة الطيبة، حتى نصر الله به الجيش، وأعز به الإسلام والمسلمين.
كفاحه الظلم
ننتقل بعد ذلك إلى مواقفه المحمودة القوية ضد الظلم والظالمين، وضد البدع والمنكرات وأصحابها والمتشيعين لها، وقد فطره الله تعالى على ما علمنا من الجهر بالحق لا يخاف فيه لومة لائم، كما كان شديدا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل الجاد لإزالته.
كان لشيخ الإسلام من الإيمان والشجاعة والتأسي برسول الله وصحابته، ومن الأخلاق الرفيعة القوية، ما يجعله لا ينام على ظلم ولا ينيم الظالم مهما يكن بأسه شديدا؛ وذلك لما رواه سيدنا أبو بكر أنه سمع الرسول
صلى الله عليه وسلم
يقول: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه.»
كما كان له من ذلك كله ما يجعله لا يرى الوقوف على إنكار المنكر بلسانه، فإن هذا هو أضعف الإيمان كما جاء في الحديث، بل هو يعمل بقوة لإنكاره باللسان ثم باليد إن لزم الأمر.
وهو في هذا يتأسى بالرسول
صلى الله عليه وسلم
إذ يقول: «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم.»
والباحث في كتب التاريخ والتراجم يجد الكثير من مواقف ابن تيمية لله في هذه الناحية، ولكننا نكتفي هنا بذكر القليل منها مما يدل دلالة كافية قوية على ما نريد: (1)
يذكر ابن شاكر الكتبي، على سبيل التمثيل بشجاعته وعمله على رفع الظلم، أن رجلا من الناس شكا إليه من ظلم نزل به من قطلو بك الكبير، وكان هذا فيه جبروت ويأخذ أموال الناس غصبا، فدخل عليه الشيخ غير هياب ولا وجل، وتكلم معه فيما جاء به إليه، فقال له قطلو بك: أنا كنت أريد أن أجيء إليك لأنك عالم زاهد! يعني الاستهزاء به، فقال له الشيخ: موسى كان خيرا مني، وفرعون كان شرا منك، وكان موسى يجيء إلى باب فرعون كل يوم ثلاث مرات، ويعرض عليه الإيمان.
12 (2)
وفي إبان اشتداد الحال مع التتار، ووجوب التقرب إلى الله بالطاعات والبعد عن المنكرات حتى يكونوا أهلا لنصره، كان كثير من الناس لا يزالون مصرين على عاداتهم الخبيثة من الاتجار بالخمر وفتح الخمارات، وكان ذلك خليقا بأن يثير المؤمنين الصادقين وعلى رأسهم الشيخ العظيم ابن تيمية.
ولهذا يذكر ابن كثير في حوادث سنة 699 أنه في السابع عشر من رجب دار الشيخ تقي الدين رحمه الله وأصحابه على الخمارات والخانات، فكسروا أواني الخمور وأراقوها، وعزروا جماعة من أهل الحانات المتخذة لهذه الفواحش، ففرح الناس بذلك.
ولعل شدة ابن تيمية في هذه الناحية، وتكرر ذلك منه، قد أثار ضده جماعة من شانئيه، فثار بعضهم وشكوا منه بأنه يقيم الحدود ويعزر الناس على ما يرى. ولكن الأمر سكن بعد أن تكلم هو أيضا في شكاتهم وبين لهم أنه محق وأنهم مخطئون.
13 (3)
وكان من الطبيعي أن يكون للشيخ أنصار يؤازرونه على إزالة المنكرات وقتال المفسدين، عملا بقوله تعالى:
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون .
ولذلك نرى أنه في شوال سنة 700 يخرج ومعه خلق كثير لقتال ناحية جبال الجرد وكسروان بسبب فساد نيتهم وعقائدهم وضلالهم، لممالأتهم التتار حين كانوا ينتصرون، فلما وصلوا إلى بلادهم جاء رؤساؤهم إليه معتذرين، فاستتابهم وبين لهم الحق، فحصل بذلك خير كثير وانتصار كبير على أولئك المفسدين.
14
ومن المعروف أن الشيخ كان شديد الإنكار للتوسل بغير الله الواحد الأحد، وشديد الإنكار أيضا لتقديم شيء من شعائر العبادة والتقديس لغيره تعالى ؛ ولهذا نراه في شهر رجب سنة 704 يروح إلى مسجد التاريخ، ويأمر أصحابه ومعهم حجارون بقطع صخرة كانت هناك بنهر «قلوط» تزار وينذر الناس لها، فقطعها وأراح الله المسلمين منها ومن الشرك بها كما يقول ابن كثير.
15
ويظهر أن ابن تيمية كان وحده رأس القائمين بتغيير المنكر باللسان، وباليد إن وجب الأمر، فإنه في تلك السنة نفسها - على ما يذكر ابن كثير - أحضر إليه شيخ كان يلبس دلقا كبيرا متسعا جدا يسمى المجاهد إبراهيم القطان، فأمر بحلق شعره وتقليم أظافره وكان ذلك طويلا جدا، وحف شاربه المسبل على فمه المخالف للسنة.
وقد فعل به ذلك كله، ثم استتابه من فاحش القول الذي كان يصدر عنه، ومن أكل ما يغير العقل من الحشيشة، ومن كل ما لا يجوز من سائر المحرمات. (4)
وأخيرا نشير إلى خروج الشيخ الأكبر في أوائل شهر المحرم من سنة 705 إلى بلاد الجرد والرفض واليتامنة، وتبعه نائب السلطنة جمال الدين الأفرم بنفسه، فنصرهم الله عليهم، وأبادوا كثيرا منهم ومن فرقتهم الضالة، ثم عاد نائب السلطنة في صحبة الشيخ إلى دمشق.
وقد كان لحضور الشيخ هذه الغزوة بنفسه أثر فعال في النصر، وأبان فيها ما هو معروف عنه من العلم والشجاعة، وكان منها خير كثير.
16
وبعد، إني أكتب هذه الكلمات موقنا بأن ابن تيمية لم يكن مؤمنا حقا قويا فحسب، ولا ذا شخصية عارمة فحسب، ولكنه كان مع ذلك كله يشعر شعورا بالغ المدى بالمسئولية التي ألقاها الله على عاتقه باعتباره رجلا مسلما عربيا، وباعتباره من العلماء بدين الله وشريعته الذين يراهم الناس موضع الأسوة والقدوة.
إن هذا الشعور القوي بما عليه من مسئوليات هو مفتاح شخصيته في رأينا، هذه الشخصية التي جعلته يأتي بالعجب العجاب في زمنه، فصار من الخالدين على مر الزمان.
إن إحساسه بما عليه من مسئولية باعتباره ابنا من أبناء الإسلام والعروبة، جعله يجاهد بنفسه في حرب التتار لتحرير الوطن الكبير منهم، ودفع شرهم عن الإسلام والمسلمين ؛ وبذلك كان فعالا لا واعظا قوالا فقط كما هو شأن الأكثرية الكاثرة من رجال الدين هذه الأيام!
وإن إحساسه بما فرض الله من مسئوليات - باعتباره عالما من علماء الدين، والعلماء ورثة الأنبياء - في بيان الدين والحفاظ عليه، ألقى على كتفيه تبعات ثقالا قام بها خير قيام على ما رأينا، أو على ما سنرى في فصول البحث القادمة، إن شاء الله تعالى.
الفصل الثالث
خصومه، محنته، ووفاته
رأينا الشيخ ابن تيمية فارسا مجليا في حرب التتار يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، ويقذف بها في المعارك في سبيل الله والوطن والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، حتى كتب الله النصر للعرب والمسلمين.
ورأيناه مع ذلك على رأس الذين يعملون بألسنتهم وأيديهم لإقامة دين الله ونصر سنة رسوله
صلى الله عليه وسلم ، فهو يحارب البدع وأصحابها، والظلم ومقترفيه، والمنكر على كافة ضروبه، يحارب ذلك كله بكل سبيل، ولا يألو جهدا.
والآن نراه فارسا يصول ويجول في حلبة صراع أخرى مع خصوم أشداء أجمعوا أمرهم على عدائه ومناوأته، صراع لم يخمد أواره وينقشع غباره إلا بوفاته ولحاقه بربه الذي يعلم السر وأخفى.
خصومه
كان خصومه في هذا الصراع المستميت من الفقهاء والمتصوفة، وهو الذي خلقهم بصراحته وجرأته، وبذهابه إلى آراء لم تؤثر عن الفقهاء السابقين، وإرساله كلمات أحجم عن التصريح بمثلها الأولون والآخرون، ومست بعض ما يعده القوم مقدسات لا يجوز المساس بها، بل ينبغي أن تظل هكذا أبد الآبدين.
وهذه الأسباب التي جلبت على ابن تيمية خصومات كثير من معاصريه من الفقهاء وأصحاب الحديث وغيرهم، قد عرفها وأحسها كثير من عارفي الشيخ ومحبيه ومقدريه، وفي هذا يقول ابن رجب وهو يتحدث عن الشيخ عماد الدين الواسطي وإجلاله وتعظيمه لابن تيمية: ولكن كان هو وجماعة من خواص أصحابه ربما أنكروا من الشيخ كلامه في بعض الأئمة الكبار الأعيان، وفي أهل التخلي والانقطاع (يريد الزهاد والمتصوفة) ونحو ذلك، وكان الشيخ رحمه الله لا يقصد بذلك إلا الخير والانتصار للحق .
وطوائف من أئمة أهل الحديث وحفاظهم وفقهائهم كانوا يحبون الشيخ ويعظمونه، ولم يكونوا يحبون له التوغل مع أهل الكلام ولا الفلاسفة، كما هو طريق أئمة أهل الحديث المتقدمين كالشافعي وأحمد ...
وكذلك كثير من العلماء، من الفقهاء والمحدثين والصالحين، كرهوا له التفرد ببعض شذوذ المسائل التي أنكرها السلف على من شذ بها، حتى إن بعض قضاة العدل من أصحابنا (يريد الفقهاء الحنابلة) منعه من الإفتاء ببعض ذلك.
1
ثم يذكر ابن رجب بعد هذا، وهو ينقل عن الذهبي بعض ما قاله فيه: «ولقد نصر السنة المحضة والطريقة السلفية، واحتج لها ببراهين ومقدمات وأمور لم يسبق إليها، وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا، وجسر هو عليها.
حتى قام عليه خلق من علماء مصر والشام قياما لا مزيد عليه، وبدعوه وناظروه وكابروه، وهو ثابت لا يداهن ولا يماري، بل يقول الحق المر الذي أداه إليه اجتهاده ...
فجرى بينه وبينهم حملات حربية، ووقعات شامية مصرية، وكم من نوبة قد رموه عن قوس واحدة فينجيه الله، فإنه دائم الابتهال، كثير الاستغاثة والاستعانة به، قوي التوكل، ثابت الجأش ...» إلى آخر ما قال.
ولعل من الحق علينا هنا أن نضيف إلى تلك الأسباب التي خلقت هذه الخصومات، سببا آخر نحس آثاره في كل عصر، وهو داء الحسد الذي إذا تملك قلب إنسان أفسده وأعمى بصيرته، وجعله لا يبغي لخصمه إلا الشر والأذى؛ ولهذا أمرنا الله أن نتعوذ من الحسد والحاسدين في سورة من قصار المفصل.
ومهما يكن فإن الشيخ العظيم لم يكن يبالي شيئا من ذلك كله، بل كان يصدع بالحق الذي أداه إليه اجتهاده وإن كان مرا، متوقع الأذى، ويقبله راضيا محتسبا، وفي هذا يصدق عليه قول الشاعر العربي المؤمن:
ولست أبالي حين أقتل مسلما
على أي جنب كان في الله مصرعي
مواقف ومحن
كان ابن تيمية على ما عرفنا بحرا زاخرا بالعلوم العديدة المختلفة، وكان في جميع علومه ومباحثه مجتهدا حر الرأي لا يتقيد إلا بكتاب الله وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم ؛ ومن ثم ظهر بآراء شذ بها في رأي معاصريه من الفقهاء والعلماء، فوقفوا دونه فيها ونالوه بالأذى من أجلها، وظاهرهم في بعض مواقفهم رجال من ذوي الجاه والسلطان.
ومن هذه الآراء ما هو في الفقه، ومنها ما هو في العقيدة الدينية وعلم الكلام، ومنها ما هو في التصوف والفلسفة بصفة عامة التي كان يعاديها عداء شديدا. ومن ذلك، كان خصومه عديدين، وكانت له مواقف كثيرة معهم، ونتج عن هذا ضروب من المحن والشدائد حاقت به حتى انتهى الأمر بوفاته وهو معتقل مسجون.
ونحن لا نتعرض هنا لكل مواقفه مع خصومه، ولا لكل آرائه التي خالفه فيها معاصروه، فربما تناولنا هذا فيما بعد في القسم الخاص بفقهه وآرائه في علم الكلام والفلسفة والتصوف، وغير هذا كله من العلوم والدراسات.
وحسبنا أن نتناول في هذا الفصل بعض المسائل الهامة التي كان له في كل منها موقف مع خصومه، وبخاصة التي كان لها أكبر الأثر فيما أصيب به من محن قابلها بالصبر والرضا حتى لحق بالرفيق الأعلى: (1)
يذكر صاحب «فوات الوفيات»
2
أن الشيخ العظيم أملى سنة 698 المسألة المعروفة بالحموية في قعدة بين الظهر والعصر، وهي رسالة أجاب بها عن سؤال ورد من «حماة» في الصفات، وجرى له بسببها محنة، ولكن الله نصره وأذل أعداءه.
والواقع أن مسألة صفات الله تعالى، التي وصف بها ذاته في القرآن، أثارت وما تزال تثير خلافا وجدلا كثيرا بين رجال علم الكلام.
مثلا، يقول الله تعالى:
الرحمن على العرش استوى ، ويقول:
وجاء ربك والملك صفا صفا ، ويقول:
يد الله فوق أيديهم . فهل هذه الآيات تدل على أنه تعالى استوى حقا على العرش، وأنه يجيء وينتقل، وأن له يدا، مع ما في القول بذلك من التجسيم أو التشبيه؟ أو يجب تأويل الآية الأولى بأن المراد أنه استولى على العرش، والثانية بأنه جاء أمرنا، والثالثة بأن قدرته فوق قدرة البشر جميعا. وبهذا التأويل نبعد الله سبحانه وتعالى عن شبهة التجسيم وعن مشابهة المخلوقات.
يرى علماء السلف رضوان الله عليهم بأن علينا أن نؤمن بما جاء في القرآن من هذه الصفات دون تأويلها؛ لأن تأويلها وبيان المراد منها حقا فوق طاقتنا، مع الاعتقاد في الوقت نفسه بتنزيه الله عن مشابهته لبعض ما خلق.
ويرى المتأخرون من رجال علم الكلام، وبخاصة الأشاعرة منهم، وجوب تأويل هذه الآيات وأمثالها على النحو الذي ذكرناه أو ما يشبهه، وبهذا انسد باب التجسيم والتشبيه عن الله سبحانه وتعالى.
وقد كان شيخ الإسلام سلفيا في كل آرائه، فاتهم بلا حق بأنه يرى رأي المجسمة أو المشبهة، وأثار خصومه الناس وبعض السلاطين والأمراء عليه بسبب آرائه في هذه المسألة التي جاءت في الرسالة الحموية، فكانت فتنة ومحنة نجاه الله منها كما ذكرها صاحب «فوات الوفيات».
ويبسط ابن كثير القول قليلا في هذه المسألة، فيذكر أنه في أواخر دولة الملك المنصور لاجين السلحداري قام على ابن تيمية جماعة من الفقهاء وأرادوا أن يحضر إلى مجلس القاضي الحنفي جلال الدين، ولكنه أبى أن يحضر، فشنعوا عليه بالمناداة في البلد ضد رأيه الذي أبانه في الرسالة الحموية.
ولكن أحد الأمراء انتصر له وأرسل يطلب من قالوا ضده، فاختفى الكثيرون منهم، كما ضرب بعض من نادوا عليه فسكت الباقون وسكنت الفتنة.
ثم اجتمع الشيخ بالقاضي إمام الدين وعنده جماعة من العلماء والفضلاء، وبحثوه في الرسالة وناقشوه في مواضع منها، فأجاب الشيخ عما سألوه بما أسكتهم بعد كلام كثير، وكان القاضي إمام الدين معتقده حسنا ومقصده صالحا.
3 (2)
على أن خصومه لم يتركوه هادئا، واستعدوا عليه ذوي السلطان متخذين عقيدته والطعن فيها لذلك سببا يتذرعون به للنيل منه، وفي هذا يقول ابن رجب: ثم امتحن سنة 705 بالسؤال عن معتقده بأمر السلطان، فجمع نائبه القضاة والعلماء بالقصر، وأحضر الشيخ وسأله عن ذلك، فبعث الشيخ من أحضر من داره «العقيدة الواسطية»، فقرءوها في ثلاثة مجالس، وحاققوه وبحثوا معه، ووقع الاتفاق بعد ذلك على أن هذه عقيدة سنية سلفية، فمنهم من قال ذلك طوعا، ومنهم من قاله كرها.
وورد بعد ذلك كتاب من السلطان فيه: إنما قصدنا براءة ساحة الشيخ، وتبين لنا أنه على عقيدة السلف.
4
وهنا نذكر أن هذه العقيدة الواسطية نشرت مرات كثيرة، وآخر نشرة لها سنة 1380ه/1961م بمطبعة المدني بالقاهرة، ومن الخير أن نأتي هنا ببعض افتتاحه لها، وذلك إذ يقول رحمه الله تعالى: «أما بعد، فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة، أهل السنة والجماعة، وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره.
ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله محمد
صلى الله عليه وسلم ، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، بل نؤمن بأن الله سبحانه
ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يلحدون في أسماء الله وآياته، ولا يكيفون ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه.
لأنه سبحانه لا سمي له، ولا كفو له، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه، سبحانه وتعالى؛ فإنه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلا وأحسن حديثا من خلقه. ثم رسله صادقون مصدقون، بخلاف الذين يقولون عنه ما لا يعلمون.»
5 (3)
على أن الخصومة تجددت ثانيا في السنة نفسها؛ أي سنة 705، وإن اختلف الخصوم هذه المرة، فقد كانوا هم رجال الطائفة الأحمدية من أهل الطرق الذين يموهون على الناس بما يزعمون كرامات لهم، ومن هذه الكرامات أنهم يدخلون النار ولا تمسهم بأذى.
وكان الفارس المتهم المشكو منه هو هو نفسه ابن تيمية الذي لا تفوت عليه هذه الحيل، والذي لا يجامل ولا يداهن، بل يقف دون البدع والدجالين صريحا شجاعا لا يخاف في قول الحق لومة لائم.
ففي جمادى الأولى من هذا العام حضر جماعة من هذه الطائفة إلى نائب السلطنة، وحضر الشيخ ابن تيمية، فسأل الأولون من نائب السلطنة بحضرة الأمراء - كما يقول ابن كثير
6 - أن يكف الشيخ عنهم وأن يتركهم وحالهم، فقال الشيخ: هذا ما لا يمكن، ولا بد لكل أحد أن يدخل تحت الكتاب والسنة قولا وفعلا، ومن خرج عنهما وجب الإنكار عليه. ومن أراد منهم أن يدخل النار منهم فليدخل أولا الحمام ويغسل جسده جيدا، ثم يدخل إلى النار بعد ذلك إن كان صادقا.
ولو فرض أن أحدا من أهل البدع دخل النار بعد أن يغتسل، فإن ذلك لا يدل على صلاحه ولا على كرامته، بل حاله من أحوال الدجاجلة المخالفة للشريعة إذا كان صاحبها على السنة، فما الظن بخلاف ذلك!
وهنا ابتدر شيخ منهم وقال: نحن أحوالنا إنما تنفق عند التتار وليست تنفق عند الشرع، فضبط الحاضرون عليه تلك الكلمة، وكثر الإنكار عليهم من كل أحد.
ثم انتهى الحال على أن يخلعوا أطواق الحديد من رقابهم، وأن من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه.
وكان من أجل ذلك أن كتب الشيخ جزءا في هذه الطريقة، وبين فيه أحوالهم ومسالكهم وتخيلاتهم، وما فيها من مقبول ومردود بالكتاب، وأظهر الله السنة على يديه، وأخمد بدعتهم وباطل ما كانوا يعملون. (4)
وتقوم الفتنة مرة ثالثة بشأن عقيدته في هذه السنة نفسها، بحيث يصح لنا أن نسميها «سنة المحنة» أو «سنة المحن المتتابعة». وذلك أنه في أوائل رمضان من هذه السنة ورد إلى دمشق كتاب من السلطان يحمل ابن تيمية إلى القاهرة للكشف عما كان منه، فتوجه إليها على البريد وخرج معه خلق كثير من أصحابه باكين خائفين عليه من أعدائه.
وكان من نائب السلطنة ابن الأفرم أن أشار عليه - كما يذكر ابن كثير
7 - بعدم الذهاب إلى مصر، وقال له: أنا أكاتب السلطان في ذلك وأصلح القضايا. فاعتذر الشيخ عن عدم قبول هذه المشورة، وذكر له أن الخير في الذهاب إلى مصر، وأن في ذلك مصالح كثيرة.
فلما جاءت لحظة السفر إلى مصر ازدحم الناس لوداعه ورؤيته، «وهم بين باك وحزين من أجله، ومتفرج ومتنزه، ومزاحم متغال فيه»، كما يقول ابن كثير. ووصل الشيخ إلى القاهرة في الثاني والعشرين من رمضان، وعقد له غداة يوم وصوله مجلس بالقلعة اجتمع فيه القضاة وأكابر الدولة، وأقيم الشمس بن عدنان مدعيا احتسابا، ثم أخذوا في التحقيق معه.
وهنا ينبغي أن نشير إلى ما ذكره ابن رجب بشأن هذه المسألة ،
8
وهو أن المصريين هم الذين دبروا الحيلة في أمر الشيخ، ورأوا أنه لا يمكن البحث والجدل معه، وأجمعوا أمرهم على أن يعقد له مجلس ويدعى عليه فيه وتقام عليه الشهادات.
وكان القائمون في ذلك منهم بيبرس الجاشنكير الذي صار سلطانا فيما بعد، ونصر المنبجي،
9
وكان خصما للشيخ لأكثر من سبب شديد المراس، وابن مخلوف قاضي المالكية.
ومهما يكن من أمر، فقد عقد المجلس لمحاكمته، وادعى عليه المدعي بأنه يعتقد أن الله على العرش حقيقة، وأنه يشار إليه بالإشارة الحسية، وأنه يتكلم بحرف وصوت، ثم قال: أطلب التعزير على ذلك؛ التعزير البليغ، يشير إلى القتل على مذهب مالك.
فقال القاضي ابن مخلوف: ما تقول يا فقيه؟ فأخذ في حمد الله والثناء عليه، فقيل له: أسرع، ما جئت لتخطب، فقال: أأمنع من الثناء على الله تعالى! فقال القاضي: أجب، فقد حمدت الله تعالى. فسكت الشيخ. فقال: أجب!
فقال الشيخ له: من هو الحاكم في؟ فأشاروا: القاضي هو الحاكم، فقال الشيخ لابن مخلوف: أنت خصمي فكيف تحكم في؟! وغضب، فأقيم الشيخ ومعه أخواه، ثم رد وقال: رضيت أن تحكم في، فلم يمكن من الجلوس.
ويقال: إن أخاه شرف الدين ابتهل إلى الله ودعا عليهم في حال خروجهم، فمنعه الشيخ وأمره أن يقول: اللهم هب لي نورا يهتدون به إلى الحق!
ونعتقد نحن أنه رحمه الله كان يتأسى فيما أمر به أخاه بقوله
صلى الله عليه وسلم ، وقد اشتد إعراض قريش وأذاهم له: «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون.»
وكان بعد هذا أن حبسوه في برج أياما نقل بعدها ليلة عيد الفطر إلى السجن المعروف بالجب، وتلا ذلك إرسال كتاب سلطاني إلى الشام بالطعن عليه والحط منه وإلزام الناس - وبخاصة أهل مذهبه - بالرجوع عن عقيدته وإلا كان العزل والحبس مصيرهم، ونودي بهذا في الجامع والأسواق.
وكان من الطبعي بعد ذلك أن ينال الحنابلة بمصر والشام أذى كثير، حتى حبس بعضهم، وأخذ خطوط بعضهم بالرجوع عن العقيدة التي حوكم الشيخ وعوقب بالحبس هو وأخوه شرف الدين من أجلها، كما جرت فتن كثيرة بسببها.
ولبث في السجن عاما وبضعة أشهر، ورفض الإفراج عنه على أن يرجع عن بعض عقيدته. حتى إذا كان شهر ربيع الأول سنة 707 حضر حسام الدين مهنا بن عيسى أمير العرب إلى مصر ودخل السجن وأخرج الشيخ بنفسه بعد أن استأذن في ذلك، وعقدت له مجالس حضرها أكابر الفقهاء وانتهت على خير كما يقول ابن رجب.
10
ولكنه بعد إطلاقه رفض العودة إلى دمشق، وأقام بالقاهرة يقرئ العلم على عادته ويتكلم في الجوامع والأماكن العامة، ويجتمع الناس للإفادة منه. (5)
على أنه لم يخرج من السجن إلا ليعود إليه في العام نفسه بسبب شكاية تقدم بها الصوفية في شهر شوال ضده إلى القاضي (أو الحاكم كما جاء في بعض النصوص)، وذكروا في شكايتهم أنه يحمل على ابن عربي وغيره من أعلام التصوف،
11
وبعد سماع كلام الشيخ قال بعض الحاضرين إنه ليس عليه في هذا شيء.
ولكن الدولة لم ترض بهذا (أغلب الظن أن ذلك كان بإشارة من الشيخ نصر المنبجي عدو ابن تيمية، والذي كان له التأثير الكبير على الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير) فخير بين أشياء، وهي - كما يقول ابن رجب: الإقامة بدمشق أو بالإسكندرية بشروط أو الحبس، فكان أن اختار الحبس مؤثرا له على قبول تلك الشروط.
إلا أن أصحابه رغبوا إليه في السفر إلى دمشق ملتزما ما شرطوه عليه، فأجابهم وركب فعلا متوجها إليها، إلا أنه صدر الأمر برده، فرد في الغد إلى القاهرة وحضر عند القاضي، فقيل له: ما ترضى الدولة إلا بالحبس، إلا أن أحدا من القضاة لم يجرؤ على الحكم عليه؛ لأنه ما ثبت عليه شيء.
ولما رأى الشيخ تحيرهم بين الحق وبين ما تريده الدولة، قال: أنا أمضي إلى الحبس وأتبع ما تقتضيه المصلحة، فأرسل إلى حبس القاضي المعروف، واستمر فيه على عادته من التعليم والإفتاء في الفتاوى المشكلة التي تأتيه من الأمراء وأعيان الناس، وكان أصحابه يدخلون عليه كلما أرادوا.
وحينئذ لم يجدوا بدا من إخراجه إلى الإسكندرية، وبقي في حبس بها مدة سلطنة الملك المظفر بيبرس الجاشنكير. فلما عاد الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى السلطنة، أمر بإحضار الشيخ إلى القاهرة في شوال سنة 709، وأكرمه إكراما زائدا، وقام إليه وتلقاه في مجلس حفل بالقضاة المصريين والشاميين وأعيان الدولة.
ثم استشاره في خصومه؛ إذ كان هم بقتل بعضهم فصرفه عن ذلك وأثنى عليهم. وكان ابن مخلوف المالكي، يقول: ما رأينا أفتى (من الفتوة والمروءة) من ابن تيمية، سعينا في دمه، فلما قدر علينا عفا عنا.
12
واستمر الشيخ بالقاهرة على ما أخذ نفسه به من الاشتغال بالعلم والفتوى، والناس والأمراء والجند يترددون عليه، وكذلك الفقهاء الذين أخذ بعضهم في الاعتذار إليه. ثم عاد إلى دمشق بعد غيبته عنها أكثر من سبع سنين، وكان هذا سنة 712. (6)
لبث الشيخ بعد أن عاد إلى دمشق بضع سنين لا يزعجه خصومه، فتفرغ لنشر العلم والتأليف والإفتاء، ولكنه تكلم في مسألة الحلف بالطلاق وهي من المسائل الفقهية التي تفرد في عصره بالقول بها، ورأيه أنه لا يقع الطلاق بالحلف به بدل الحلف بالله، ولكن على الحالف إذا حنث في يمينه كفارة اليمين المعروفة في القرآن. كما كان رأيه أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد لا يقع به إلا طلقة واحدة رجعية.
ولكن القوم وجدوا الأمر خطيرا، فإن الحلف بالطلاق يقع به الطلاق عند الحنث في رأيهم، فصدر سنة 718 مرسوم سلطاني بمنعه من الفتوى بعدم وقوع الطلاق، وعقد لذلك مجلس ونودي بذلك في البلد ليكون الناس على بينة من أمورهم.
ولم يقفه هذا المرسوم عن الجهر برأيه لكل من يستفتيه، وقال: لا يسعني كتمان العلم، واستمر على هذا حتى حبس بالقلعة خمسة أشهر وثمانية عشر يوما، ثم أخرج من السجن بعد ذلك وعاد إلى ما كان عليه من الاشتغال بالعلم والتعليم.
13
وقد أجمل ابن رجب ما كان في هذه المسألة بكلام واضح وذلك إذ يقول: ثم في سنة 718 ورد كتاب من السلطان بمنعه من الفتوى في مسألة الحلف بالطلاق بالتكفير،
14
وعقد له مجلس بدار السعادة، ومنع من ذلك ونودي به في البلد.
ثم في سنة 719 عقد له مجلس أيضا كالمجلس الأول، وقرئ كتاب السلطان بمنعه من ذلك، وعوتب على فتياه بعد المنع، وانفصل المجلس على تأكيد المنع.
ثم بعد مدة عقد له مجلس ثالث بسبب ذلك، وعوتب وحبس بالقلعة لأجل ذلك مرة أخرى، ومنع بسببه من الفتيا مطلقا، فأقام مدة يفتي بلسانه، ويقول: لا يسعني كتم العلم.
15 (7)
وكاد الأمر ينتهي عند هذا الحد، لولا أن خصومه ظفروا بفتيا قديمة له في مسألة «شد الرحال» المعروفة، فكان اعتقال لم ينته إلا بوفاته.
وذلك بأنه يرى أن الذي عليه أئمة المسلمين وجمهور العلماء هو أن السفر لأضرحة الأولياء، غير مشروع، بل هو معصية من أشنع المعاصي لقوله
صلى الله عليه وسلم : «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والأقصى، ومسجدي هذا.»
على أنه يرى مع هذا أن السفر المشروع إلى مسجد النبي
صلى الله عليه وسلم
أو إلى المسجد الأقصى إنما يكون للصلاة التي ورد الحديث في فضلها في أحدهما، وليس لأحد أن يفعل في ذلك ما هو من خصائص البيت العتيق، كما يفعله بعض الضلال من الطواف بالصخرة أو الحجرة النبوية.
16
وكان من الطبعي أن تثير هذه الفتوى خصوم الشيخ؛ إذ رأوا فيها تنقصا لمقامات الأنبياء والأولياء والصالحين، فرفعوا الأمر إلى السلطان، وهذا أصدر سنة 726 مرسوما باعتقال صاحبها.
وسر الشيخ حين أخبر رسميا بهذا المرسوم، وقال: أنا كنت منتظرا لذلك، وهذا فيه خير كثير ومصلحة كبيرة، وفعلا اعتقل بقاعة بالقلعة بدمشق، وأقام معه أخوه زين الدين يخدمه بإذن السلطان، ولكنه منع من الفتيا.
ولم يقف الأمر عند هذا، بل حبس بسجن الحكم جماعة من أصحابه بأمر قاضي القضاة الشافعي، وذلك بمقتضى مرسوم نائب السلطنة وإذنه له بأن يعمل في أمرهم ما توجبه الشريعة، فعذر بعضهم ثم أطلقوا، سوى تلميذه الأشهر شمس الدين محمد ابن قيم الجوزية، فإنه حبس بالقلعة أيضا، وعلى هذا سكنت القضية إلى حين.
17
وأقبل الشيخ الصابر الراضي بقضاء الله وقدره على عبادة الله وقراءة كتابه والتأليف والرد على مخالفيه، كما كتب في المسألة التي حبس بسببها شيئا كثيرا، وكان فيما كتبه فيها سنة 728 رد على ابن الإخنائي المالكي، وقد استجهله في هذا الرد وبين له أنه قليل البضاعة في العلم، كما يذكر ابن كثير.
فكان هذا سببا في أن رسم السلطان بحرمانه من الكتب وأدوات الكتابة، فأخرجوا في تاسع جمادى الآخرة من هذا العام كل ما كان عنده من الكتب والأوراق والدواة والقلم، وبذلك منع من الكتابة والمطالعة.
وفي هذا يذكر صاحب «وفيات الوفيات» أنه كتب عقيب ذلك بفحم يقول: إن إخراج الكتب من عنده من أعظم النقم، ثم بقي أشهرا على ذلك، وزاد إقباله على التلاوة والعبادة والتهجد حتى أتاه اليقين، فلم يفجأ الناس إلا نعيه؛ إذ ما كانوا علموا بمرضه عشرين يوما.
وفاته
وأخيرا، آن لابن تيمية العالم العابد الأواب، والمجاهد في سبيل الدين والوطن، وفي سبيل كتاب الله وسنة رسوله، أن يلقى ربه الذي يعلم السر وأخفى، والذي لا يضيع أجر العاملين.
آن له أن ينطلق من سجنه، وأن يرتاح من خصومه، وأن يترك الدنيا وما فيها من متاع وزينة وجاه يتقاتل الناس من أجله، وقد كان ذلك كله على حبل الذراع لو أراد، ولكنه صدف عن كل ذلك، وقصر حياته على إقامة الدين ونشر العلم ابتغاء رضوان الله وحسن مثوبته.
وكانت وفاته - كما يقول علم الدين البرزالي في تاريخه - ليلة الإثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة 728، وهو لا يزال في سجنه بقلعة دمشق، وكان انتقاله إلى الرفيق الأعلى من أكبر الأحداث التي أخذت على الناس أنفاسهم وقلوبهم.
وكان مشهد تشييعه إلى المقر الأخير أمرا عظيما، فقد تزاحم الناس على جنازته، وعلت الأصوات بالبكاء والنحيب والثناء عليه والدعاء له. ولم تصل الجنازة إلى مستقرها إلا قبيل وقت العصر مع أنها حضرت في الساعة الرابعة من النهار؛ وذلك من كثرة الآتين للصلاة من أهل البساتين والغوطة والقرى وغيرهم.
ويذكر ابن كثير، فيما قال في وصف جنازته وكثرة مشيعيها، أنه لم يتخلف عن الحضور إلا من لم يستطع إلى ذلك سبيلا، وحضر نساء كثيرات بحيث حزرن بخمسة عشر ألفا غير اللاتي كن على الأسطحة وغيرهن، والجميع يترحمن ويبكين عليه. وأما الرجال فحزروا بستين ألفا، إلى مائة ألف، إلى أكثر من ذلك، إلى مائتي ألف.
18
ولما قضيت الصلاة عليه من الناس جماعة بعد أخرى، حمل إلى مقبرة الصوفية، فدفن إلى جانب أخيه شرف الدين عبد الله.
رحم الله ابن تيمية، وأجزل ثوابه جزاء ما قدم للدين والعلم والأمة من خير، وجعله مع الأنبياء والشهداء والصديقين والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
وبعد:
فما كان ابن تيمية بائسا حزينا في سجنه، بل كان يراه قدرا مقدورا عليه وفيه خير كثير له، ووجده فرصة طيبة للتفرغ للعلم والعبادة، وكان يذكر ما فتح الله به عليه في هذه المرة الأخيرة من العلوم العظيمة والأهوال الجسيمة.
وكان من قوله في هذا كما ينقل ابن رجب: قد فتح الله علي في هذا الحصن في هذه المدة من معاني القرآن، ومن أصول العلم، بأشياء كان كثير من العلماء يتمنونها، وندمت على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن.
وكذلك كان يقول فيما نقله عنه تلميذه ابن القيم: «إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.» كما قال: «ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة!»
وكان في حبسه في القلعة يقول: «لو بذلت ملء هذه القلعة ذهبا ما عدل عندي شكر هذه النعمة.» أو قال: «ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير»، ونحو هذا.
وكان يقول في سجوده وهو محبوس: «اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، ما شاء الله. وقال مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه.»
ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها، نظر إليه وقال: «فضرب بينهم بسور له باب، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب.»
وهذه كلمات قصار لابن تيمية في أيامه الأخيرة، ولكنها على وجازتها تظهرنا على إيمانه العميق بالله ورضائه من كل قلبه بقضائه وقدره، وتدلنا على فهمه حق الفهم للحياة وما تأتي به من نعيم وبؤس، وقدرته على أن ينظر من كل حدث إلى ما فيه من خير ونعمة، وبذلك يعيش قرير العين راضي النفس، وهكذا كان رضوان الله عليه.
بعض رثائه
ترك ابن تيمية الدنيا للراغبين فيها المتقاتلين في سبيلها، فكان طبعيا أن يشعر المسلمون وبخاصة أصحابه وتلاميذه بالحزن واللوعة لفقده، وأن تترجم ألسنتهم نثرا وشعرا عن هذا الألم والأسى؛ ولهذا كثر الذين قاموا برثائه شعرا.
ونحن نذكر بعض هذا الذي رثي به من الشعر، وهو إلا يكن من جيد الشعر ومشرقه من ناحية ألفاظه وأسلوبه، فإنه يعبر عن العاطفة الصادقة والتقدير العظيم للإمام الكبير.
فمن ذلك قصيدة للشيخ زين الدين عمر بن الودري، يقول فيها:
19
عثا في عرضه قوم سلاط
لهم من نثر جوهره التقاط
تقي الدين أحمد خير حبر
خروق المعضلات به تخاط
توفي وهو محبوس فريد
وليس له إلى الدنيا انبساط
ولو حضروه حين قضى لألفوا
ملائكة النعيم به أحاطوا
فتى في علمه أضحى فريدا
وحل المشكلات به يناط
ثم يقول:
فيا لله ما قد ضم لحد
ويالله ما غطى البلاط
هم حسدوه لما لم ينالوا
مناقبه فقد مكروا وشاطوا
وكانوا عن طرائقه كسالى
ولكن في أذاه لهم نشاط
وحبس الدر في الأصداف فخر
وعند الشيخ بالسجن اغتباط
بآل الهاشمي له اقتداء
فقد ذاقوا المنون ولم يواطوا
ثم يقول:
ألم يك فيكمو رجل رشيد
يرى سجن الإمام فيستشاط؟!
إمام لا ولاية كان يرجو
ولا وقف عليه ولا رباط
ولا جاراكمو في كسب مال
ولم يعهد له بكم اختلاط
ثم ينتهي بقوله:
فها هو قد مات واسترحتم
فعاطوا ما أردتم أن تعاطوا
وحلو واعقدوا من غير رد
عليكم، وانطوى ذاك البساط
ورثاه ابن فضل الله العمري بقصيدة طويلة، ونحن نذكر منها:
20
مثل ابن تيمية في السجن معتقل
والسجن كالغمد، وهو الصارم الذكر
مثل ابن تيمية تذوي خمائله
وليس يلقط من أفنانه الزهر
مثل ابن تيمية شمس تغيب سدى
وما ترق بها الآصال والبكر
مثل ابن تيمية يمضى وما عبقت
بمسكه العاطر الأردان والطرر
ثم يقول في حساده ومناوئيه:
وهل فيهمو صادع للحق مقوله
أو خائض للوغى والحرب تستعر؟
رمى إلى نحر «غازان» مواجهة
سهامه من دعاء عونه القدر
بتل راهط والأعداء قد غلبوا
على الشآم وطال الشعر والشرر
وشق في المرج والأسياف مصلتة
طوائفا كلها أو بعضها تتر
هذا، وأعداؤه في الدار أشجعهم
مثل النساء بظل الباب مستتر
هذا قليل من كثير رثي به الشيخ من عارفي فضله وحسن بلائه في سبيل الإسلام والمسلمين والوطن، بعد أن صار من المتقين في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
تراثه العلمي
تناول ابن تيمية علوم عصره بالدرس الواسع العميق، ثم بالتأليف بعد أن أحاط بها خبرا، ورد على مخالفيه - وبخاصة علماء الكلام والمنطق والتصوف والفلسفة - برسائل لطيفة أحيانا، وبكتب مطولة أحيانا أخرى، وكانت نتيجة ذلك كله أن ترك عددا ضخما من المؤلفات يقول أكثر من ترجموا له إنه يصل إلى خمسمائة.
21
ويكتفي ابن الوردي بأن يذكر أنه ما يبعد أن تصانيفه إلى الآن خمسمائة مجلدة، ثم يقول: وله في غير مسألة مصنف مفرد كمسألة التحليل وغيرها، وله مصنف في الرد على ابن مطهر الرافضي الحلي (أو إمام الشيعة الإمامية في زمنه ابن المطهر الحلي البغدادي، كما يذكر بعض الباحثين) في ثلاثة مجلدات كبار، وتصنيف في الرد على «تأسيس التقديس» للرازي في سبعة مجلدات.
وكتاب في الرد على المنطق، وكتاب في الموافقة بين المعقول والمنقول في مجلدين، وقد جمع أصحابه من فتاويه ست مجلدات كبار ... وله مصنف سماه «السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية»، وكتاب «رفع الملام عن الأئمة الأعلام».
22
وإذا كان ابن الوردي كان موجزا هكذا في بيان بعض مؤلفات شيخه الإمام، فإن ابن الكتبي كان مطيلا في هذه الناحية ، كما حاول أن يصنف ما ذكره من مؤلفاته حسب العلوم المختلفة ؛ أي في التفسير، وأصول الدين، وأصول الفقه، وغيرها من العلوم والمعرفة.
23
هذا، وبالرجوع إلى دائرة المعارف الإسلامية نجد أن كاتب مادة «ابن تيمية» وهو الأستاذ محمد بن شنب يذكر أنه وصل إلينا من الخمسمائة مؤلف التي يقال إنه صنفها: (1) رسالة الفرقان بين الحق والباطل. (2) معالم الأصول، وهو تفنيد لقول الفلاسفة والقرامطة الذين يذهبون إلى أن الأنبياء قد يكذبون في بعض الأحيان. (3) التبيان في نزول القرآن. (4) الوصية في الدين والدنيا (ويطلق عليه الوصية الصغرى). (5) رسالة النية في العبادات. (6) رسالة العرش هل هو كري أم لا؟ (7) الوصية الكبرى. (8) الإرادة والأمر. (9) العقيدة الواسطية. (10) المناظرة في العقيدة الواسطية. (11) العقيدة الحموية الكبرى. (12) رسالة في الاستغاثة. (13) الإكليل في المتشابه والتأويل. (14) رسالة الحلال. (15) رسالة في زيارة بيت المقدس. (16) رسالة في مراتب الإرادة. (17) رسالة في القضاء والقدر. (18) رسالة في الاحتجاج بالقدر. (19) رسالة في درجات اليقين. (20) كتاب بيان الهدى من الضلال في أمر الهلال. (21) رسالة في سنة الجمعة. (22) تفسير المعوذتين. (23) رسالة في العقود المحرمة. (24) رسالة في معنى القياس. (25) رسالة في السماع والرقص.
24 (26) رسالة في الكلام على الفطرة. (27) رسالة في الأجوبة عن أحاديث القصاص. (28) رسالة في رفع الحنفي يديه في الصلاة. (29) كتاب مناسك الحج.
25 (30) الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان. (31) الواسطة بين الخلق والحق. (32) رفع الملام عن الأئمة الأعلام. (33) كتاب التوسل والوسيلة. (34) كتاب جواب أهل العلم والإيمان بتحقيق ما أخبر به رسول الرحمن من أن
قل هو الله أحد
تعدل ثلث القرآن. (35) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح.
26 (36) الرسالة البعلبكية. (37) الجوامع في السياسة الإلهية والآيات النبوية. (38) تفسير سورة النور. (39) كتاب الصارم المسلول على شاتم الرسول. (40) تخجيل أهل الإنجيل، وهو رد على النصرانية. (41) المسألة النصيرية. (42) العقيدة التدمرية. (43) اقتضاء الصراط المستقيم ومجانبة أصحاب الجحيم، وهو في الرد على اليهود والنصارى. (44)، (45) كتاب الرد على النصارى، (46) مسألة الكنائس، (47) الكلام على حقيقة الإسلام والإيمان. (48) العقيدة المراكشية. (49) مسألة العلو؛ أي في التحدث عن الله. (50) نقد تأسيس الجهمية. (51) رسالة في سجود القرآن. (52) رسالة في سجود السهو . (53) رسالة في أوقات النهي والنزاع في ذوات الأسباب وغيرها. (54) كتاب في أصول الفقه. (55) كتاب الفرق المبين بين الطلاق واليمين. (56) مسألة الحلف بالطلاق. (57) الفتاوى. (58) السياسة الشرعية. (59) جوامع الكلم الطيب في الأدعية والأذكار. (60) رسالة العبودية. (61) رسالة تنوع العبادات. (62) رسالة في زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور. (63) رسالة المظالم المشتركة. (64) رسالة الحسبة في الإسلام.
تلك بعض رسائل ومؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية، ومنها ما هو مطبوع ومنها ما لم ير النور بعد، فأي رجل عظيم كان!
وفي رأينا أنه يجب العناية به وبأمثاله كل العناية، ووجوب البحث والتنقيب عن كل مؤلفاته وطبعها طبعا علميا دقيقا كما ينبغي، حتى نعرف ونوقن ما لأجدادنا وأسلافنا العظماء من فضل لا يقادر قدره في العلم والحضارة الإسلامية والإنسانية، ولعلنا فاعلون بفضل الله تعالى وتوفيقه، والله لا يضيع أجر العاملين.
الباب الثالث
منهج وتطبيقات
الفصل الأول
المنهج
نرى قبل أن نتناول بالبحث مذهب ابن تيمية وآراءه في القرآن وتفسيره، والفقه وأصوله، وعلم الكلام والعقائد الدينية، والتصوف والمنطق والفلسفة، وما ذهب إليه من الآراء الاجتماعية والسياسية، نقول: نرى قبل ذلك كله وما إليه، أن نتكلم عن منهجه في البحث الذي سار عليه في كل هذه النواحي.
وذلك، بأننا نرى بحق أن الباحثين من العلماء يجمعون على أنهم لا يعملون إلا للحق، ولا يبحثون إلا عنه، ولكنهم مع هذا يختلفون في نتائج بحوثهم - حتى في العلم الواحد أو المسألة الواحدة من مسائل هذا العلم - اختلافا كثيرا؛ وذلك بسبب اختلافهم في المناهج التي يسيرون عليها.
وتكون النتيجة الحتمية هذه الاختلافات التي رأينا الكثير منها بين الشيخ ابن تيمية ومعاصريه، بل التي لا زلنا نحسها بينه وبين كثير من العلماء والفقهاء في هذا العصر الذي نعيش فيه.
بيان منهج ابن تيمية ضرورة إذن لا بد منها، فقد آمن بهذا المنهج إيمانا راسخا لا يزول، والتزمه في كل ما كتب، وصدر عنه في كل رأي ذهب إليه، ونحن نتعرض له في هذه الكلمات:
الاعتماد على الكتاب والسنة
إنه يعتمد على كتاب الله وما صح عنده من أحاديث الرسول وسنته، ثم على آراء الصحابة، على أنه قد يحتج أحيانا بأقوال التابعين والآثار التي رويت عنهم، مستأنسا بها وبخاصة في الجدل والمناظرة.
وذلك بأن القرآن قد تضمن الشريعة التي أمرنا باتباعها - في أصول الدين وفي فروعه وأحكامه العلمية المعروفة بالفقه، وفي غير هذا وذاك كله من الآداب والأخلاق - أحيانا في إجمال، وأحيانا في تفصيل. ثم بين الرسول ذلك كله، وأخذ الصحابة رضي الله عنهم بيانه وتفسيره، وعنهم أخذ التابعون بإحسان.
فليس لنا بعد هذا إلا أن نسير على هذا النهج فنصل إلى ما نريد من معرفة الدين وأصوله، وشريعة الله ورسوله، وسائر ما يجب معرفته مما فيه خير الدنيا والآخرة. وليس لنا أن نتبع غير ما عرفناه عن السلف الصالح الذين بلغوا إلينا ما فهموه عن الرسول فأحسنوا التبليغ، وإلا ضللنا ضلالا بعيدا.
هذا، ونجد هذا العنصر الأول من عناصر منهجه واضحا في كل كتبه ورسائله، ومن هذه الرسائل رسالة عنوانها: معارج الوصول إلى معرفة أن أصول الدين وفروعه قد بينها الرسول، وهي مما كتبه وهو بقلعة دمشق، ويكفي هذا العنوان للدلالة على ما نريد.
1
وقد افتتح هذا الرسالة بقوله: فصل في أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بين الدين، أصوله وفروعه، باطنه وظاهره، علمه وعمله. فإن هذا الأصل هو أصل أصول العلم والإيمان، وكل من كان أعظم اعتصاما بهذا الأصل كان أولى بالحق علما وعملا ...
2
ثم يقول بعد أن أشار إلى منهج المتكلمين والفلاسفة والصوفية: وأما أهل العلم والإيمان فمتفقون على أن الرسل لم يقولوا إلا الحق، وأنهم بينوه مع علمهم بأنهم أعلم الخلق بالحق، فهم الصادقون المصدوقون، علموا الحق وبينوه ...
3
ويزيد الأمر بيانا وتفصيلا فيقول بعد ما تقدم: وأما العمليات، وما تسميه أناس الفروع والشرع والفقه، فهذا قد بينه الرسول أحسن بيان، فما من شيء مما أمر الله به أو نهى عنه أو حلله أو حرمه إلا بين ذلك. وقد قال الله تعالى:
اليوم أكملت لكم دينكم
وقال:
ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين .
وقال:
وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب
وقال:
فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ، وهو الرد إلى كتاب الله أو إلى سنة رسوله بعد موته.
4
ولا يخالف الشيخ في أن الإجماع والقياس من أصول الفقه، ولكنه يردهما إلى كتاب الله وسنة رسوله اللذين هما الأصل في كل حال؛ ولهذا نراه يقول في الرسالة نفسها: والمقصود هنا أن الرسول بين جميع الدين بالكتاب والسنة، وأن الإجماع - إجماع الأمة - حق، فإنها لا تجتمع على ضلالة.
5
وكذلك القياس الصحيح حق يوافق الكتاب والسنة ...
ثم يقول: فلا يوجد قط مسألة مجمع عليها إلا وفيها بيان للرسول، ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس، ويعلم الإجماع فيستدل به ... وقد استقرينا فوجدناها كلها منصوصة.
هكذا نجد ابن تيمية يرد الإجماع إلى الكتاب والسنة، وكذلك الأمر في القياس؛ إذ يذكر - كما عرفنا - أن القياس الصحيح هو ما وافق الكتاب والسنة، ويشير بعد ذلك إلى أن بعض الفقهاء قد لا يعرفون النص فيجتهدون بالرأي الذي هو القياس ونحوه، ولكن ما أداهم إليه اجتهادهم بالرأي موجود في كتاب الله أو سنة رسوله.
6
وفي غير الفقه وأصوله نجده يسير على نفس المنهج، ففي أصول الدين أو علم العقائد نراه في آرائه لا سند له إلا القرآن وأحاديث الرسول وسنته وما صح عنده من أقوال الصحابة والتابعين وآرائهم، وكذلك في رده على الفلاسفة وأمثالهم ممن يحكمون عقولهم في العقائد الدينية.
ونجد هذا ماثلا أمامنا في جميع ما كتبه من رسائل في هذه الناحية، وما أكثر هذه الرسائل التي تتناول العقائد التي جاء بها القرآن وبينتها أحاديث الرسول
صلى الله عليه وسلم .
ومن باب التمثيل لهذا، نذكر العقيدة الواسطية التي كتبها سنة 698 إجابة لطلب أحد قضاة واسط، ففي هذه الرسالة لا نجد الشيخ استدل لشيء من العقائد التي يجب على كل مسلم اعتقادها في الله وصفاته، وغير ذلك من العقائد الأخرى التي يتكلم عنها في علم التوحيد ، إلا بالكتاب والسنة والصحيح من الآثار.
ولذلك نجده يقول في بعض فصولها: ثم من طريقة أهل السنة والجماعة، اتباع آثار رسول الله
صلى الله عليه وسلم
باطنا وظاهرا، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، واتباع وصية رسول الله حيث قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة.»
7
وفي رسالة أخرى كتبها إجابة عن استفتاء ورد إليه، بشأن ما يجب على المسلم الإيمان به من صفات الله تعالى، نراه يقول بعد أن ذكر بعض ما جاء في القرآن والسنة من الصفات: «إذا تبين هذا، تبين أن ما جاء به الرسول هو الحق الذي يدل عليه المعقول، وأن أولى الناس بالحق أتبعهم له وأعظمهم له موافقة، وهم سلف الأمة وأئمتها الذين أثبتوا ما دل عليه الكتاب والسنة من الصفات، ونزهوه من مماثلة المخلوقات ...» إلى آخر ما قال رحمه الله تعالى.
8
ونكتفي بما قدمناه عن هذا العنصر الأساسي الأول لمنهج ابن تيمية، وسنجده واضحا تماما في تفسيره لكتاب الله، وفي غيره من العلوم الإسلامية التي كتب فيها، وذلك عندما نبحث في القسم الثاني آراءه ومذهبه فيها، ونعرض الآن للعنصر الثاني من المنهج الذي لم يحد عنه قيد شعرة في كل ما كتبه.
اعتماده على العقل في مجاله
وما ينبغي لنا أن نظن أن ابن تيمية يهمل العقل وتفكيره حين يجعل الكتاب والسنة وآثار الصحابة ومن إليهم سنده الأول في بحوثه وآرائه، بل مستنده الوحيد بعبارة أدق، فإن فهم كتاب الله وسنة رسوله فهما عميقا حقا يحتاج بلا ريب إلى قلب واع وعقل مفكر نافذ، ولكنه كان يعرف للعقل قيمته ومجاله الذي يصول فيه ويجول، فلا يجاوز به هذا المجال ولا يرتفع به عن قدره.
ولكن معرفة هذا المجال هي المشكلة التي شغلت الفلاسفة والمفكرين في كل عصر، وبخاصة مفكري الإسلام ورجال الفلسفة فيه، فإن منهم من آمن بالعقل ونظره إيمانا راسخا، ووثقوا به ثقة مطلقة، فكان هذا سبب ضلال بعضهم إلى حد كبير، حين ظنوا أنهم بعقولهم وحدها قادرين على معرفة عالم الشهادة وعالم الغيب أيضا!
إن القرآن دعا حقا إلى وجوب ملاحظة ما خلق الله من عوالم مختلفة، وإلى إعمال العقل فيها؛ وذلك ليصل الإنسان إلى الإيمان بإله واحد خلق ذلك كله؛ ولذلك نجد آيات كثيرة تختم بهذه الجمل وأمثالها التي لها دلالتها: لعلكم تعقلون، لعلكم تذكرون، لعلكم تهتدون، لقوم يتفكرون.
وكان من تنبيه القرآن، باشتماله على هذا الضرب من الآيات وأمثالها، العقل إلى التفكير للوصول إلى الإيمان بالله الخالق العلي الحكيم، أن ظهر في البيئة الإسلامية كتب «العقل» لداود بن المجبر بن فهدم أبي سليمان البصري وأمثاله، وروى أصحاب هذه الكتب أحاديث عن الرسول
صلى الله عليه وسلم
تشيد بالعقل إلى أكبر الحدود، وتجعل له الأثر البالغ في كل شيء.
9
ويذكر ابن تيمية حين سئل رأيه في هذا الحديث: «أول ما خلق الله العقل، فقال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر، فقال: وعزتي ما خلقت خلقا أكرم علي منك، فبك آخذ، وبك أعطي، وبك الثواب والعقاب»، حين سئل الشيخ عن هذا الحديث قال: هذا الحديث باللفظ المذكور قد رواه من صنف في فضل العقل كداود بن المجبر ونحوه. ثم يذكر رأيه في الحديث فيقول: واتفق أهل المعرفة بالحديث على أنه ضعيف بل موضوع. ثم ينقل عن الحفاظ أن الأحاديث المروية عن الرسول في «العقل» لا أصل لشيء منها، وبخاصة والمراد بالعقل فيها هو العقل الإنساني كما يزعم الذين رووها.
10
ومهما يكن من أمر، فقد كان المعتزلة أول من أشادوا من بين الفرق الإسلامية بالعقل، فجعلوه الفيصل في أمر الإيمان والعقيدة، حتى ليقول في مدحه أحد قدامى رجالهم، وهو بشر بن المعتمر من بغداد:
لله در العقل من رائد
وصاحب في العسر واليسر
وحاكم يقضي على غائب
قضية الشاهد للأمر
وإن شيئا بعض أفعاله
أن يفصل الخير من الشر
لذو قوى، قد خصه ربه
بخالص التقديس والطهر
11
على هذا النحو افتتن كثير من المفكرين المسلمين بالعقل ، وجاوزوا به قدره ومجاله، حتى رأوا فيه فيصلا بين الحق والباطل ، ومميزا الخير من الشر، ومن ثم، عمدوا إلى تأويل كثير من نصوص القرآن والحديث الصحيح، إذا تعارضت ومن ثم، عمدوا إلى تأويل كثير من نصوص القرآن والحديث الصحيح، إذا تعارضت في ظاهرها مع نظر العقل، لتتفق وما يرونه من حقائق أدى إليها النظر العقلي الصحيح.
ونجد هذا الضرب من التأويل الذي يفترض أولا تعارض النقل والعقل أحيانا كثيرا عند المعتزلة والمتصوفة والشيعة، وكذلك بعض رجال الأشاعرة كأبي حامد الغزالي الذي وضع لأجل هذا قانونا للتأويل؛ وذلك ليكون التزامه حائلا دون الغلو في تأويل النصوص.
12
وإذا كان الإمام الغزالي قد اضطر للخوض في مشكلة التأويل، وكان التأويل من عناصر منهجه في البحث، فلذلك سببه الواضح؛ فهو متكلم وفيلسوف ومتصوف معا، فهل كان الأمر كذلك بالنسبة للإمام ابن تيمية؟ وهل كان من عناصر منهجه في البحث تأويل ما لا يتفق ونظر العقل من النصوص؟
ذلك ما سنتناوله هنا بإيجاز، وسنقتبس فيه بعض ما كتبناه في هذه الناحية في كتاب ظهر لنا منذ سنوات.
13 •••
لم تعرض مشكلة تأويل نصوص القرآن والحديث لابن تيمية، وإنما هو الذي رأى ضروريا أن يعرض لها، وذلك حتى يدفع عن النصوص المقدسة عادية «المؤولين» الذين أسرفوا في التأويل لتشهد هذه النصوص لما ذهبوا إليه من آراء، فقد كانوا يعتقدون ثم يستدلون، أما هو فكان يستدل أولا ثم يعتقد ثانيا ما أداه إليه الدليل النصي.
إنه يرى أولا أن يفرق بين التأويل في عرف السلف، وبينه عند المتكلمين - وبخاصة المعتزلة منهم - والفلاسفة والمتصوفة الإسلاميين.
فالتأويل عند رجال السلف هو التفسير وبيان المراد من النص القرآني أو الحديثي، وبهذا المعنى ورد كثيرا في القرآن نفسه، وهو التأويل المقبول. ومن ثم، يقال: إن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم كانوا على علم بتأويل القرآن الذي فهموه وفسروه كله، وفي هذا يقول الحسن البصري من التابعين: ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم ما أراد بها.
14
ولهذا لا يجوز التوقف وترك بيان معنى الآية من آيات القرآن؛ لأن الله أمرنا أن نتدبره وأن نفهمه، والرسول
صلى الله عليه وسلم
لم يترك هذا من غير بيان للصحابة. اللهم إلا أن يقال إن الرسول كان لا يعلم معاني القرآن الذي أنزل عليه، أو كان يعلمها ولم يبلغها كلها مع أنه مأمور من الله بالتبليغ، وكل ذلك غير معقول ولا مقبول.
وأما النوع الآخر من التأويل، الذي قال به كثير من فلاسفة الإسلام ومتصوفيه ورجال علم الكلام، فهو أمر آخر غير النوع الأول. إنه في اصطلاحهم الخاص، كما يذكر ابن تيمية نفسه «صرف اللفظ عن المعنى المدلول عليه المفهوم منه إلى معنى آخر يخالف ذلك»؛ أي صرف اللفظ عن معناه الظاهري إلى معنى آخر خفي.
ومع ذلك، فهذا ضرب من التأويل لم يغب عن الرسول
صلى الله عليه وسلم ، فإنه نفسه بين، في كل موضع يجب فيه ترك المعنى الظاهري، المعنى الآخر المراد بهذا اللفظ؛ وذلك لأنه «لا يجوز عليه أن يتكلم بالكلام الذي مفهومه ومدلوله باطل ويسكت عن بيان المراد الحق، ولا يجوز أن يريد من الخلق أن يفهموا من كلامه ما لم يبينه لهم ويدلهم عليه» إلى آخر ما قال.
15
وما دام الأمر كذلك، فلا تعارض بين المعقول الصريح والمنقول الصحيح عن الرسول في رأي الشيخ الكبير؛ أي لا تعارض بين ما وصل إليه العقل السليم، وبين ما ثبت نقله عن رسول رب العالمين بطريق صحيح لا ريب فيه.
هكذا يرى بحق، وهو يؤكد في مواضع كثيرة من كتبه أنه قد تحقق ذلك بنفسه؛ إذ تبين له بعد استقصاء وتفكير طويل اتفاق ما جاء به السمع عن الرسول مع ما وصل إليه العقل الصحيح النظر، وهو في هذا يقول: «المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح قط، وقد تأملت ذلك في عامة ما تنازع الناس فيه فوجدت ما خالف النصوص الصحيحة الصريحة شبهات فاسدة يعلم بالعقل بطلانها بل يعلم بالعقل ثبوت نقيضها الموافق للشرع.
وهذا تأملته في مسائل الأصول الكبار، كمسائل التوحيد والصفات، ومسائل القدر والنبوات والمعاد، وغير ذلك.
ووجدت ما يعلم بصريح العقل لم يخالفه سمع قط، بل السمع الذي يقال إنه يخالفه، إما حديث موضوع، أو دلالة ضعيفة، فلا يصلح أن يكون دليلا لو تجرد عن معارضة العقل الصريح، فكيف إذا خالفه صريح المعقول!»
16
ولنا أن نقرر بعد ما تقدم أن ابن تيمية لم ير أن هناك مشكلة تسمى مشكلة التأويل تتطلب حلا لها، ولم ير أن يقوم منهجه في البحث للوصول إلى الحق على التأويل الذي أمعن فيه غيره من المعتزلة والفلاسفة وغيرهم.
وذلك لأن هذه المشكلة عرضت لهؤلاء من المسلمين لما قام لديهم من وجود تعارض بين ما جاء به الشرع؛ قرآنه وحديثه، وبين ما أدتهم إليه عقولهم، فقام منهجهم على تأويل ما لا يتفق ونظرهم العقلي من النصوص الدينية الوحيية.
ولكنه هو لا يرى وجود تعارض مطلقا بين طريق النقل الصحيح وطريق العقل الصريح، والمنقول الذي يخالف العقل لا يكون إلا حديثا موضوعا أو نصا آخر لا يدل دلالة قاطعة على ما يراد الاستدلال به عليه، وعلى فرض وجود تعارض بين العقل والنص، يجب ترجيح الأخذ بالنص الثابت عن الأنبياء على ما يؤدي إليه العقل واستدلاله.
ومن الحق - وهذا ما ينبغي علينا هنا أن نشير إليه - أنه ذكر في بعض كتبه أنه عند تعارض العقل والسمع، يجب تقدير ما تكون دلالته قطعية، سواء أكان هو الدليل العقلي أم الدليل السمعي، ولكنه قال بعد ذلك بقليل: «لكن كون السمعي لا يكون قطعيا دونه خرط القتاد»؛
17
يريد أن يقول بأن الدليل السمعي، متى ثبت صحة نقله، يقدم دائما على العقل وما يؤدي إليه.
وكل هذا ينتهي بنا إلى النتيجة التي استخلصناها آنفا، وهو أن مشكلة التأويل لم تعرض لابن تيمية بل هو الذي عرض لها، وأن التأويل ليس من عناصر منهجه الذي اتبعه بأمانة في كل بحوثه ومناظراته وكتاباته.
ومن البدهي مع ذلك كله، أنه لم يكن يهمل العقل والفكر في دراساته، وما كان لمثله أو لأي باحث آخر أن يهمل أشرف جزء في الإنسان، وبه كرمه الله وأعلاه على كل ما خلق، ولكنه لم يجاوز به قدره ومجاله، ولم يجعله حاكما على نص قرآني أو حديث صحيح، بل أراد له أن يكون دائما في مدار الشريعة وكتابيهما المقدسين: كتاب الله المحكم، وسنة رسوله الصحيحة، فإذا خرج به الإنسان عن هذا المدار ضل ضلالا بعيدا.
عدم التعصب والجمود
لم يكن الشيخ ابن تيمية بالرجل الذي يتبع غيره في رأي له بغير بينة أو دليل، ولا بالذي يتعصب لرأي ويجمد عليه، وقد بان له خطؤه، بل كان حرا في تفكيره في دائرة الكتاب والسنة، وما صح عن الصحابة من الآثار، غير متعصب إلا للحق وللحق وحده.
خلع عن عنقه ربقة التقليد للغير، ولم يقيد نفسه إلا بالقرآن وسنة الرسول
صلى الله عليه وسلم
وآثار السلف الصالح، إذا تبين له صحة صدورها عنهم. وفي هذه المصادر الأولى للإسلام وشريعته كان له جولات ومجال أي مجال.
على كل هذا يجمع مؤرخوه، وبكل هذا تنطق رسائله وكتبه وآراؤه التي تفرد بها وهي غير قليلة، كما تنطق به حياته وما لقي من سجن واعتقال مرات بسبب بعض هذه الآراء حتى لحق بربه تعالى وهو سجين بقلعة دمشق.
وسنعرض فيما يأتي عند الكلام على فقهه، إلى هذه الآراء التي انفرد بها، والتي حوكم وسجن من أجلها،
18
وحسبنا هنا أن نشير إلى ما فيها من دلالة على حريته في الفكر وعلى عدم جموده على آراء قال بها قبله كثير من أعيان الفقهاء والعلماء، مستهينا في هذا السبيل بما يلقى من عنت وأذى شديدين.
ومن ثم، كان من الحق ما قاله ابن الوردي عنه في هذه الناحية: «وأعان أعداءه على نفسه بدخوله في مسائل كبار لا تحتملها عقول أبناء زماننا ولا علومهم، كمسألة التكفير في الحلف بالطلاق (أي لا يقع الطلاق ولكنه يلزم الحالف عند الحنث كفارة اليمين)، ومسألة أن الطلاق بالثلاث لا يقع إلا واحدة، وأن الطلاق في الحيض لا يقع.»
19
وهو وإن كان حنبلي المذهب في نشأته، إلا أن ما أخذ به نفسه - من الرجوع إلى المعين الصافي الذي أخذ منه أئمة الفقه المعروفون - أداه بعد دراسات وتمحيص إلى أن يخالف مذهب الإمام ابن حنبل، بل مذاهب الفقهاء الآخرين أيضا في بعض ما ذهب إليه.
ومن ذلك أن هؤلاء الفقهاء أجمعوا على أنه يحرم بالرضاع ما يحرم بالمصاهرة، وهذه قاعدة وصلوا إليها باجتهادهم واستنباطهم، ولكن ابن تيمية لم يذهب إلى هذا الرأي الذي لم يشر إليه قرآن أو حديث، فقد نقل عنه أن تحريم المصاهرة لا يثبت بالرضاع، فلا يحرم على الرجل نكاح أم زوجته وابنتها من الرضاع، ولا يحرم على المرأة نكاح أبي زوجها وأبي أمه من الرضاع.
20
وكذلك في جواب هذا السؤال: ما الذي يحرم من الرضاع وما الذي لا يحرم؟ يذكر أن زوجة الأب من الرضاع تحرم على ابنه رضاعا في المشهور عند الأئمة، ولكن فيها نزاع لكونها من المحرمات بالصهر لا بالنسب.
21
ونحن نقول: إن هذا النزاع لم يأت إلا من أن القرآن نص بالإجماع على سبب حرمة الرضاع، ونص الرسول
صلى الله عليه وسلم
على أنه يحرم بالرضاع ما يحرم بالنسب، فمن أين أتى قول الفقهاء بأنه يحرم بالرضاع ما يحرم بالمصاهرة أيضا! ذلك في رأينا، هو ما جعل الشيخ ابن تيمية يذهب إلى الرأي الذي انفرد به في هذه المسألة.
22
ويظهر لنا أيضا ما يتسم به منهج ابن تيمية من حرية الفكر، وعدم الجمود على ما رآه الفقهاء قبله مهما بلغت شهرتهم وجلالتهم في الفقه، من رأيه الذي ذهب إليه في حرية المتعاقدين في الشروط التي يريانها ويرتضيانها فيما يعقدون من عقود، سواء في هذا عقود المعاوضات والزواج وغيرها.
إنه يجيز كل شرط يرضى به المتعاقدان، ما دام لا يتناقض أو يتعارض مع حكم الله ورسوله، ولا يستثني من هذا الأصل شيئا حتى في عقد الزواج. وهو يستدل لهذا بقوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ، ويقول الرسول
صلى الله عليه وسلم : «المسلمون عند شروطهم، إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا.» ثم يقول: «إن الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة، ولا يحرم ويبطل منها إلا ما دل [الشرع] على تحريمه وإبطاله نصا، أو [قياسا] عند من يقول به، وأصول مذهب أحمد رضي الله عنه المنصوصة يجري أكثرها على هذا القول، ومالك قريب منه، لكن أحمد أكثر تصحيحا للشروط، فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحا للشروط منه.»
23
ثم يقول في موضع آخر كلمة موجزة جيدة جامعة، تعبر عن مذهبه بصفة عامة في العقود والشروط، وهي: «ومقاصد العقلاء إذا دخلت في العقود، وكانت من الصلاح الذي هو المقصود، لم تذهب عفوا ولم تهدر رأسا، كالآجال في الأعواض، ونقود الأثمان المعينة ببعض البلدان، والصفات في المبيعات، والحرفة المشروطة في أحد الزوجين، وقد تفيد الشروط ما لا يفيده الإطلاق، بل ما يخالف الإطلاق.»
24
وبعد:
تلك عناصر منهج الشيخ ابن تيمية في البحث والدراسة، وسماته: الاعتماد على كتاب الله وما صح عنده من أحاديث الرسول وسنته وآثار السلف الصالح، معرفة قيمة العقل والانتفاع به غير مجاوز به قدره ومجاله، رحابة صدر وعدم تعصب وجمود، فلننظر الآن كيف كان أمينا لهذا المنهج، وكيف التزمه وطبقه في دراساته ورسائله وكتبه.
الفصل الثاني
التطبيقات
لا نريد هنا بيان التزام الشيخ ابن تيمية لمنهجه في جميع العلوم التي كتب فيها، فذلك أمر فوق الطاقة، ولا ضرورة إليه في هذا البحث، فضلا عن أن الكثير من كتبه لم تصل إلينا؛ ولهذا نكتفي ببيان ذلك في أهم ما كتب فيه من العلوم؛ أي في علم تفسير القرآن، وعلم الكلام، وعلم الفقه.
في التفسير
قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي: «قال الشيخ أبو عبد الله بن رشيق، وكان من أصحاب شيخنا (يريد ابن تيمية)، وأكثرهم كتابة لكلامه وحرصا على جمعه: كتب الشيخ رحمه الله نقول السلف مجردة عن الاستدلال على جميع القرآن، وكتب في أوله قطعة كبيرة بالاستدلال، ورأيت له سورا وآيات يفسرها ويقول في بعضها: كتبته للتذكرة ونحو ذلك.
ثم لما حبس في آخر عمره كتبت له أن يكتب جميع القرآن تفسيرا مرتبا على السور، فكتب يقول: إن القرآن فيه ما هو بين بنفسه، وفيه ما قد بينه المفسرون في غير كتاب، ولكن بعض الآيات أشكل تفسيرها على جماعة من العلماء، فربما يطالع الإنسان عليها عدة كتب ولا يتبين له تفسيرها، وربما كتب المصنف الواحد في آية تفسيرا ويفسر غيرها بنظيره، فقصدت تفسير تلك الآيات بالدليل؛ لأنه أهم من غيره، وإذا تبين معنى آية تبين معاني نظائرها.
وقال: قد فتح الله علي في هذه المرة (أي من مرات الاعتقال والسجن) من معاني القرآن ومن أصول العلم بأشياء كان كثير من العلماء يتمنونها، وندمت على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن، أو نحو هذا.»
1
وأرسل إلينا شيئا يسيرا مما كتبه في هذا الحبس، وبقي شيء كثير عند الحكام لما أخرجوا كتبه من عنده، وتوفي وهي عندهم إلى هذا الوقت
2
نحو أربع عشرة رزمة، ثم ذكر الشيخ أبو عبد الله (ابن رشيق) ما رآه ووقف عليه من تفسير الشيخ.
3
ولنا أن نقرر من هذا النص الذي نقلناه لابن رشيق، أن ابن تيمية لم يحاول تفسير القرآن الكريم كله، وإن كان قد فهمه جميعه طبعا، ولكن هذا الذي قام ببيان معانيه وتفسيره منه، وإن كان قليلا بالنسبة لمجموع القرآن، إلا أنه كثير حقا في نفسه، ومنهجه واضح كل الوضوح فيه.
ومع هذا، نرى أن نرجئ النظر فيما كتبه في التفسير نظرا شاملا إلى القسم الخاص ببيان آرائه في العلوم المختلفة العديدة؛ أي في التفسير والفقه والعقائد وغيرها. ونقتصر هنا في بيان تطبيق منهجه العام في فهم القرآن وتفسيره، على الرجوع إلى الرسالة التي كتبها هو نفسه في أصول التفسير، فإن فيها الكفاية في هذه الناحية.
يبدأ ابن تيمية رسالته ببيان مبلغ عناية الصحابة والتابعين بمعاني القرآن، والرسول بين لهم هذه المعاني كما بلغهم ألفاظه ونصه الكريم، فإن قوله تعالى:
وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم
يتناول هذا وهذا.
وكانت طريقتهم في تعلم القرآن هي السبب في بلوغهم درجة معرفة معانيه، فقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن - كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما - أنهم كانوا تعلموا من النبي
صلى الله عليه وسلم
عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا؛ ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة.
4
وإذا كانت آيات كثيرة في القرآن توجب علينا تدبره وفهمه وعلم ما جاء به من عقائد وأحكام، فإن الشيخ الكبير يقول بعد ذلك: وأيضا فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابا في فن من العلم كالطب والحساب دون أن يستشرحوه، فكيف بكتاب الله الذي هو عصمتهم وفيه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم! ولهذا كان النزاع بين الصحابة قليلا جدا، وهو وإن كان في التابعين أكثر منه في الصحابة فهو قليل بالنسبة إلى ما بعدهم ...
ومن التابعين من تلقى جميع التفسير عن الصحابة، كما قال مجاهد:
5 «عرضت المصحف على ابن عباس، أوقفه عند كل آية وأسأله عنها ...» والمقصود أن التابعين تلقوا التفسير عن الصحابة كما تلقوا عنهم علم السنة، وإن كانوا قد يتكلمون في بعض ذلك بالاستنباط والاستدلال، كما كانوا يتكلمون في بعض السنن بالاستنباط والاستدلال.
6
فإذا أضفنا إلى ذلك كله أن القرآن كتاب عربي مبين، وأن بعضه يفسر بعضا آخر منه، خلص لنا أن منهج ابن تيمية في فهم القرآن وتفسيره وبيان معانيه يقوم على هذه الأصول، وكل منها تكون عنه مرتبة في التفسير أحسن وأقوى مما يليها، وهذه الأصول هي: (1)
تفسير القرآن بالقرآن، وهي أحسن طرق التفسير وأعلاها مرتبة، فإن ما أجمل في مكان قد فسر وبين في موضع آخر، وما اختصر في مكان قد بسط في موضع آخر. (2)
فإن أعيانا أن نجد تفسيرا لبعض آيات القرآن فيه، فعلينا بالمرتبة الثانية لتفسيره وهي سنة الرسول، فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، وفي هذا يقول الله تعالى:
وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ؛ ولهذا قال الرسول: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه»؛ يعني السنة. (3)
فإن لم نجد تفسير ما نريد لا في القرآن ولا في السنة، كانت المرتبة الثالثة هي تفسيره بأقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرآن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح، لا سيما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين ومنهم عبد الله بن مسعود والحبر البحر عبد الله بن عباس.
وابن مسعود هو الذي يقول - كما رواه ابن جرير الطبري في تفسيره:
7 «والله الذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيما نزلت وأين نزلت، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته.»
وابن عباس هو ابن عم رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وهو ترجمان القرآن ببركة دعاء الرسول له إذ قال: «اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل.» ويقول عنه ابن مسعود فيما رواه الطبري: «نعم ترجمان القرآن ابن عباس!» (4)
وبعد مرتبة تفسير القرآن به أو بالسنة أو بأقوال الصحابة، تجيء مرتبة تفسيره بأقوال التابعين (إن لم نجد لأحد من الصحابة قولا فيما نريد تفسيره من كتاب الله)، مثل مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وغيره من رجال العلم بكتاب الله ومعانيه، والذين استفادوا علمهم من الصحابة رضي الله عنهم.
8
إلا أن الشيخ رحمه الله تعالى يتكلم هنا بحذر شديد ولا يرضى كل ما نسب إلى التابعين من الأقوال في تفسير القرآن، وهو من أجل هذا يقول: «إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته في أقوال الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين كمجاهد فإنه كان آية في التفسير.»
ثم يذكر أنه يجب أن يتفطن اللبيب لما أثر عنهم في هذا العلم؛ لأن أقوالهم ليست حجة في الفروع، فكيف تكون حجة في التفسير على غيرهم ممن خالفهم! ويختم كلامه هنا بهذه الكلمة الموجزة الجامعة: «أما إذا اجتمعوا على الشيء (يريد: الرأي) فلا يرتاب في كونه حجة، فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض ولا على من بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن، أو السنة، أو عموم لغة العرب، أو أقوال الصحابة.»
تلك تطبيقات لمنهج ابن تيمية العام على تفسير كتاب الله، ومعنى هذا أن الرسول
صلى الله عليه وسلم
بين لأصحابه كل معاني القرآن، فعلينا أن نلتمسها من أقوالهم جميعا، فقد يغيب شيء منها عن بعضهم، ولكنه لا يغيب عنهم جميعا. ثم ورث التابعون هذا العلم عن الصحابة، إلا أنه لا يرى أن آراء التابعين حجة على من خالفهم إلا إذا أجمعوا على رأي أو قول واحد.
9
هو إذن سلفي تماما في التفسير، كما هو شأنه في سائر العلوم التي اشتغل بها، وهو إذن لا يرى تفسير كتاب الله بالرأي الذي لا يسنده حديث أو قول مأثور؛ ولذلك نجده يقول: «فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام.» وينقل في تأييد ما يراه أحاديث وآثارا كثيرة نذكر منها ما يلي:
10 (1)
عن ابن عباس أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار.» (2)
وعن جندب أنه قال: «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ»؛ أي لأنه لم يأت الأمر من بابه. (3)
وعن معمر أن أبا بكر الصديق قال: «أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني، إذا قلت في كتاب الله ما لم أعلم.» (4)
وقال عبد الله بن عمر: «أدركت فقهاء المدينة وإنهم ليعظمون
11
القول في التفسير، منهم سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، ونافع.»
وبعد أن ذكر ابن تيمية آثارا كثيرة أخرى، قال في ختام مقدمته في أصول التفسير: «فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف، محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به، فأما من يتكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعا، فلا حرج عليه. ولهذا روي عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير، ولا منافاة؛ لأنهم تكلموا فيما علموه وسكتوا عما جهلوه، وهذا هو الواجب على كل أحد.
فإنه كما يجب السكوت عما لا علم للمتكلم به، فكذلك يجب القول فيما سئل عنه مما يعلمه، لقوله تعالى:
لتبيننه للناس ولا تكتمونه ، ولما جاء في الحديث المروي من طرق: «من سئل عن علم فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار.»
وأخيرا، ينقل أن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: «التفسير على أربعة أوجه، وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله.» والله سبحانه وتعالى أعلم.»
وبعد، إن الشيخ الكبير رضوان الله عليه لم يكن بدعا فيما وضعه وطبقه من أصول التفسير، فإن كثيرا غيره من مفسري كتاب الله الذين سبقوه كانوا مثله في تفسير القرآن بالقرآن، ثم بالسنة، ثم بأقوال الصحابة، ثم يستأنسون بأقوال التابعين يقبلون منها ما صح عندهم ورضوه، وهذا كله ما يعرف بالتفسير بالمأثور.
وكذلك، كما ذكر هو نفسه وكما ذكر الإمام ابن جرير الطبري في مقدمة تفسيره الكبير، كانوا يتحرجون من التفسير بالرأي المجرد، ولا يذهبون إليه.
ولكن ما ينبغي لنا مع هذا أن نظن أن شيخ الإسلام حصر نفسه دائما وفي كل حال في دائرة التفسير بالمأثور لا يعدوها مطلقا، فقد كان رحمه الله عميقا في فهم القرآن وما فيه من أسرار وحكم، وما يؤخذ منه من تشريعات لها عللها التي يستنبطها، وغاياتها التي يعمل عقله في تعرفها، إلى غير ذلك كله من معاني القرآن ومراميه التي سنعرف إن شاء الله جانبا كبيرا منها عند بحث آرائه الفقهية والكلامية والاجتماعية والسياسية.
ومن ثم، يكون لنا أن نقرر أنه كان حقا يمنع تفسير القرآن «بالرأي المجرد» من غير علم، الرأي الذي لا يسنده - من قريب أو بعيد - إشارة من قرآن أو حديث أو قول مأثور، ولكنه أعمل عقله فكان له في فهم كتاب الله آراء قال بها عن علم، وإن لم تكن كلها مأثورة قبله.
ومهما يكن من اعتداد شيخ الإسلام بالعقل في فهم معاني كلام الله، فإنه يحمل حملة شديدة صادقة على تفاسير المعتزلة والشيعة الرافضة والفلاسفة ومن إليهم من أهل الفرق الأخرى المبتدعة، وعلى الطرق التي اتبعوها في التفسير.
فإن من هؤلاء «قوما اعتقدوا معاني ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها، ومنهم قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه من كان من الناطقين بلغة العرب، من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن، والمنزل عليه، والمخاطب به»؛ ومن ثم كان خطؤهم وضلالهم جميعا في كثير مما ذهبوا إليه.
12
ومن باب التطبيق، أشار إلى تفسير الكشاف للزمخشري الذي يمثل رأي المعتزلة، ثم ذكر أمثلة غير قليلة لتفاسير الشيعة الرافضة الباطلة، كقولهم:
تبت يدا أبي لهب
وهما أبو بكر عمر، و
إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة
أي عائشة، و
مرج البحرين
عليا وفاطمة، و
اللؤلؤ والمرجان
الحسن والحسين!
ثم يقول بعد ذلك: «وفي الجملة من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئا في ذلك، بل مبتدعا ... فمن خالف قولهم وفسر القرآن بخلاف تفسيرهم، فقد أخطأ في الدليل والمدلول جميعا.»
ويذكر أن من أعظم أسباب الاختلاف في التفسير البدع الباطلة التي دعت أهلها إلى أن حرفوا الكلم عن مواضعه، وفسروا كلام الله ورسوله بغير ما أريد به، وتأولوه على غير تأويله.
13
في علم الكلام
في هذا العلم نجد واضحا كل الوضوح تطبيق الشيخ رحمه الله لمنهجه العام في إثبات العقائد الدينية، مثل وجود الله وحدوث العالم عنه، ووجوب صفات الكمال، وصلة العبد بربه وما يجب الإيمان به من القضاء والقدر، على غير ذلك من العقائد التي لا يبينها ولا يستدل لها إلا بالقرآن والسنة، مع الميل والاستئناس بالصحيح من آثار السلف الصالح.
وهو بذلك يبعد عن هذا العلم كل ما أدخله فيه رجاله من العناصر الفلسفية؛ ولهذا ينتقدهم بشدة كما ينتقد المناطقة والفلاسفة ومنهم الغزالي؛ لأنهم أدخلوا في أصول الدين ما لم يأذن به الله العليم الحكيم، وأوقعوا الناس في شبهات وضلالات جعلتهم ينحرفون عما جاء به كتاب الله وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم .
إنه يذكر في بعض كتبه
14
أن الرسول بين أصول الدين الحق (وهذه الأصول هي موضوع علم الكلام) الذي أنزل به كتابه أحسن بيان، وأنه دل الناس وهداهم إلى الأدلة العقلية والبراهين اليقينية التي بها يعلمون إثبات ربوبية الله ووحدانيته وصفاته، وصدق رسوله، وغير ذلك مما يحتاج إلى معرفته، وكان بيانه لذلك بالأدلة النقلية السمعية والأدلة العقلية أيضا في مواطن الحاجة.
ثم يقول بعد هذا: «بل الكتاب والسنة دلا الخلق وهدياهم إلى الآيات والبراهين والأدلة المبينة لأصول الدين، وهؤلاء المغالطون (يريد رجال علم الكلام من الجهمية والمعتزلة والأشعرية ونحوهم) الذين أعرضوا عما في القرآن من الدلائل العقلية والبراهين اليقينية، صاروا - إذ صنفوا في أصول الدين - أحزابا يتكلمون في جنس النظر وجنس الدليل وجنس العلم بكلام اختلط فيه الحق بالباطل ...»
15
ولذلك تراه في رسالته المسماة «العقيدة الواسطية» يشرح ما يجب الإيمان به من العقائد الدينية، ويتكلم عنها وعن أدلتها بإجمال، ولا يلجأ فيما يقول إلا إلى الكتاب والسنة، سواء في هذا الإيمان بالله وصفاته، والإيمان بكتابه واليوم الآخر وأحواله، والإيمان بقضاء الله وقدره، والإيمان بكرامات الأولياء وشفاعة الرسول.
ونراه في رسالة أخرى يبين بشيء من التفصيل كيفية الاستدلال لثبوت صفات الكمال لله من القرآن، فهو يأتي ببعض آيات هذا الكتاب العزيز، ونذكر من باب التمثيل هذه الآيات:
16 (1)
قوله تعالى:
أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون ! فبين الله هنا أن الخلق صفة كمال، وأن الذي يخلق أفضل من الذي لا يخلق، وأن من عدل هذا بهذا فقد ظلم. (2)
وقال:
ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون ؟ فبين أن كونه مخلوقا عاجزا صفة نقص، وأن القدرة والملك والإحسان صفة كمال، وأنه ليس هذا مثل هذا، وهذا لله، وذاك لما يعبد من دون الله. (3)
وقال:
ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون .
يقول الله تعالى: إذا كنتم ترضون بأن يشارك المملوك مالكه لما في ذلك من النقص والظلم، فكيف ترضون ذلك لي وأنا أحق بالكمال والغنى منكم؟! وهذا يبين أنه أحق بكل كمال من كل أحد. (4)
وقال حكاية لقول سيدنا إبراهيم عليه السلام لأبيه:
يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ! فدل على أن السميع والبصير والغني أكمل، وأن المعبود يجب أن يكون كذلك، ومثل هذا في القرآن متعدد وكثير.
وهكذا يخلص لشيخ الإسلام الاستدلال من القرآن على ثبوت صفات الكمال لله تعالى، وعلى تنزهه عن كل صفات النقص، مبتعدا عما سلكه المتكلمون والفلاسفة في هذه العقائد وناقدا لهم أشد النقد.
وكذلك نراه يسير على المنهج الصحيح في رسالة أخرى خصصها أيضا لصفات الله وعلوه على خلقه، وهي كسابقتها جواب عن استفتاء رفع إليه.
17
يفيض شيخ الإسلام في الإجابة عن هذه المسألة المهمة الدقيقة؛ مسألة علو الله تعالى على خلقه، ويستدل لإثبات هذه الصفة من القرآن والحديث والآثار الصحيحة المروية عن الصحابة ومن إليهم، وهو يقول في ذلك ما نصه: «وجوب إثبات العلو لله تعالى ونحوه يتبين من وجوه
18
أحدها: أن يقال إن القرآن والسنن المستفيضة المتواترة، وكلام السابقين والتابعين، بل وسائر القرون الثلاثة، مملوء بما فيه من إثبات العلو لله على عرشه بأنواع من الدلالات، ووجوه من الصفات، وأصناف من العبارات.
تارة يخبر أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش، وقد ذكر الاستواء على العرش في سبعة مواضع، وتارة يخبر بعروج الأشياء وصعودها وارتفاعها إليه، كقوله تعالى:
بل رفعه الله إليه ...
وتارة يخبر بنزولها منه أو من عنده، كقوله تعالى:
والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق ،
قل نزله روح القدس من ربك بالحق ... وتارة يخبر بأنه في السماء، كقوله تعالى:
أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور * أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير ؟ وكذلك قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «ألا تأمنونني وأنا أمين من في السماء !» وقال للجارية: «أين الله؟» قالت: «في السماء.» قال: «اعتقها فإنها مؤمنة».»
وبعد أن أورد الشيخ رحمه الله هذه النصوص وأخرى من أمثالها، قال: إنه لا يخلو الأمر من أن يكون الحق هو ما تضافرت عليه هذه النصوص من علو الله على خلقه، أو أن يكون الحق هو نفي ذلك ونقيضه.
فإن كان نفي هذا هو الحق، فإن من المعلوم أن القرآن لم يبين هذا نصا ولا غير نص، ولا الرسول، ولا أحد من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، ولا يمكن أن ينقل عن واحد من هؤلاء أنه نفى ذلك أو أخبر به، وأما ما نقل من الإثبات عن هؤلاء فأكثر من أن يحصى أو يحصر، وإذن يكون الحق هو إثبات صفة العلو؛ لأن الحق لا يخرج عن أحد النقيضين كما قلنا.
ولكن لنا ولغيرنا أن يتساءل: ما حقيقة أو كيفية استواء الله تعالى على العرش، وكيف يكون في السماء وتعرج إليه الأشياء وتنزل من عنده؟ وذلك ما يشعر بالتجسيم أو التشبيه على الأقل، فهلا يجب تأويل هذه الآيات والأحاديث على أي نحو من أنحاء التأويل؛ أي بما يدل على أن المراد بالعلو فيها هو علوه تعالى في المكانة مثلا؟
هنا يذكر ابن تيمية أن هذا التأويل المجازي لا يمكن القول به، فإنه «معلوم باتفاق العقلاء أن المخاطب المبين إذا تكلم بمجاز فلا بد أن يقرن بخطابه ما يدل على إرادة المعنى المجازي.
فإذا كان الرسول المبلغ المبين الذي بين للناس ما نزل إليهم، يعلم أن المراد بالكلام خلاف مفهومه ومقتضاه، كان عليه أن يقرن بخطابه ما يصرف القلوب عن فهم المعنى الذي لم يرد لا سيما إذا كان باطلا لا يجوز اعتقاده في الله.»
19
يريد الشيخ رحمه الله بذلك أن يقول بأنه ليس في هذه الآيات والأحاديث وأمثالها قرينة تصرفها عن ظواهرها، وترشدنا إلى وجوب تأويلها مجازيا.
وإذن، يكون الواجب أن نؤمن - كما قال في «العقيدة الواسطية» - بما وصف الله به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، مع الإيمان بأنه تعالى ليس كمثله شيء كما جاء في كتابه الكريم. وهذا هو ما ذهب إليه رجال السلف الصالح، وفي ذلك يقول بعضهم: الاستواء معقول (أو معلوم)، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة.
هذا، ونجد شيخ الإسلام سلفيا تماما في الاستدلال على سائر العقائد الأخرى، مثل أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنه تعالى تكلم به حقيقة، وأن المؤمنين يرون الله يوم القيامة، ثم بعد دخول الجنة، عيانا بأبصارهم على الكيفية التي يشاؤها جل شأنه، وكذلك عقيدة الإيمان بفتنة القبر وعذابه ونعيمه، وما يكون بعد البعث من أحوال الدار الأخرى من حساب يتلوه ثواب أو عقاب.
20
وبعد، تلك مثل تطبيقية ترينا أن شيخ الإسلام ابن تيمية سار في علم الكلام على المنهج العام الذي أنار له طريق البحث في كل العلوم التي تناولها بالدراسة والبحث، هو المنهج السلفي لم يحد عنه قيد شعرة.
في الفقه وأصوله
تكلمنا فيما سبق من هذا الباب عن اعتماد شيخ الإسلام في الفقه على الكتاب والسنة أولا، ثم عن اعتباره الإجماع الحق - إجماع الأمة - والقياس الصحيح، من أصول الفقه، على أنه يرجعهما إلى الكتاب والسنة؛ لأنهما الأصلان المقدسان في كل حال.
كما ذكر أنه رحمه الله كان يعمل العقل في مجاله، ولا يرضى التعصب والجمود، بل لا يذهب إلى ما يذهب إليه من الآراء الفقهية أو الكلامية إلا عن دليل، ولا يبالي بعد ذلك أن يخالف غيره من الفقهاء الماضين أو المعاصرين، واستشهدنا لهذا برأيه في الحرية في العقود والشروط، ما دام لا يعارض شيء منها نصا محكما من كتاب الله أو حديثا من أحاديث رسوله الصحيحة.
والآن نأخذ في الإتيان بشيء من آرائه الفقهية يتبين فيها عناصر ذلك المنهج السديد الذي اتبعه، والذي نراه ماثلا في آرائه الفقهية وغيرها. وهذه النماذج - ما عدا واحدا فقط منها - أخذناها من مختصر فتاويه المصرية، تاركين بحث فتاويه الكاملة إلى القسم الثاني من هذا الكتاب. (1)
يذكر في حكم الهدية لمن يتولى عملا من الأعمال العامة، أن من أهدى شيئا لواحد من هؤلاء لينال ما لا يحق له كان ذلك حراما على المهدي والمهدى له، وهي من الرشوة التي قال فيها الرسول
صلى الله عليه وسلم : «لعن الله الراشي والمرتشي.»
أما إذا فعل هذا ليكف ظلمه عنه أو ليعطيه حقه الواجب، فهذه الهدية تكون حراما على الآخذ، وجاز للدافع فيها أن يدفعها، كما قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «إني لأعطي أحدهم الهدية فيخرج بها نارا يتأبطها.» قيل: «يا رسول الله، فلم تعطيهم؟» قال: «يأبون إلا أن يسألوني، ويأبى الله لي البخل.»
وهذا هو الحكم في الهدية للشفاعة، مثل أن يشفع لرجل عند ولي أمر في أن يرفع عنه مظلمة، أو يوصل إليه حقه، أو يوليه ولاية يستحقها ... فهذه أيضا لا يجوز فيها قبول الهدية، ويجوز للمهدي أن يبذل ما يتوصل به إلى أخذ حقه أو دفع الظلم عنه.
هذا هو المنقول عن السلف والأئمة الأكابر، وقد رخص فيه بعض المتأخرين من الفقهاء، وجعل هذا من باب «الجعالة»، وهو مخالف للسنة وأقوال الصحابة رضي الله عنهم والأئمة، فهو غلط.
وذلك لأن مثل هذا العمل من المصالح العامة التي يجب القيام بها فرض عين أو فرض كفاية، ومتى سوغ أخذ الجعل على مثل هذا لم ينل غير الباذل حقه ولم يرتفع الظلم عنه.
21 (2)
من المعروف أن من قتل نفسا عمدا بغير حق عليه القود، ولكن ما الحكم فيمن لم ير طريقا لاسترداد ما سرق منه إلا بقتل السارق فقتله عمدا؟ هنا يقول الشيخ رحمه الله تعالى: «ومن نزل مكانا فجاء لص سرق قماشه، فلحق السارق فضربه بالسيف فمات، وكان هذا هو الطريق في استرجاع ما مع السارق، لم يلتزم الضارب بشيء، فقد روي عن عمر رضي الله عنه أن لصا دخل داره فقام إليه بالسيف، فلولا أنهم ردوه عنه لضربه بالسيف. وفي الصحيحين: «من قتل دون ماله فهو شهيد».»
22 (3)
ومثال آخر ذكره بعد المثال السابق بقليل، وهو أن من كذب على رجل حتى ضرب وأهين وحبس يجب عقابه عقوبة تردعه وأمثاله، بل جمهور السلف يوجبون القصاص في مثل ذلك، فمن ضرب غيره أو جرحه بغير حق، فإنه يفعل به كما فعل، وفي هذا قال عمر رضي الله عنه: «أيها الناس، إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن ليعلموكم كتاب الله وسنة نبيكم ويقسموا بينكم فيئكم، فلا يبلغني أن أحدا ضربه عامله بغير حق إلا أقدته. فراجعه عمرو بن العاص (كان والي مصر حين ذاك) في ذلك، فقال: إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أقاد من نفسه.» (4)
بينا ونحن نتكلم عن العصر الذي عاش فيه ابن تيمية، أنه كان عصرا مليئا بأصحاب المقالات والمذاهب والطوائف المختلفة، وأن من هذه الطوائف طائفة «النصيرية» التي كانت تزعم الإسلام ولا تعمل به، فكان من الطبعي أن يرى الشيخ وجوب قتالهم الذي اشترك بنفسه فيه، وأن يصدر فتوى شرعية فيهم وفي أمثالهم.
ولهذا نجده يقول: «ويجوز، بل يجب بإجماع المسلمين قتال كل طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، مثل الطائفة الممتنعة عن إقامة الصلوات الخمس، أو عن أداة الزكاة، أو عن الصيام المفروض، ومثل من لا يمتنع عن سفك دماء المسلمين وأخذ أموالهم بالباطل ...
فهؤلاء يجب قتالهم كما أمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، بقتل الخوارج مع كون الصحابة كان أحدهم يحقر صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، فقاتلهم علي رضي الله عنه.»
23 (5)
ونذكر أخيرا من مختصر الفتاوى المصرية هذا المثال، وهو خاص بضروب من الرياضة البدنية (كالمسابقة والمصارعة) التي تعين على تربية الناشئة والمجتمع تربية طيبة.
24
إنه يبدأ الكلام بذكر أن الأعمال التي تكون بين اثنين فصاعدا، وفيها يطلب كل منهما الغلب لنفسه، ثلاثة أصناف، وهي: (أ) «صنف أمر به الله ورسوله كالسباق بالخيل، والرمي بالنبل ونحوه من آلات الحرب؛ لأنه مما يعين على الجهاد في سبيل الله.» (ب) «الثاني ما نهى الله ورسوله عنه بقوله تعالى:
إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ، ومحط الاستدلال هنا هو الميسر ونحوه.» (ج) «والثالث ما هو مباح لعدم المضرة الراجحة، وليس مأمورا به أمر وجوب لعدم احتياج الدين إليه، كالمصارعة والمسابقة على الأقدام ونحوه، فهذا مباح إذا خلا عن مفسدة راجحة، وقد صارع النبي وسابق وكان أصحابه يتسابقون بحضرته على أقدامهم.
ثم أخذ بعد ذلك في بحث طويل عن اختلاف الفقهاء في جواز أو تحريم أن يكون في هذا جعل للسابق الفائز فبعضهم وهو أبو حنيفة، أجاز هذا بشرط، والجمهور على عدم الجواز مستندين إلى حديث للرسول
صلى الله عليه وسلم ، ولأن ذلك يكون من باب الميسر الذي حرمه الله في كتابه، ولكنه رحمه الله مال إلى الجواز مبينا أن ذلك ليس من الميسر الذي حرمه الله تعالى، والله أعلم.» (6)
ونختم الأمثلة التطبيقية بهذا المسألة: هل من شرط جواز المسح على الخفين أن يكون الخف غير مخرق حتى لا يظهر شيء من القدم؟ وهل للتخريق حد؟ وما هو القول الراجح بالدليل كما قال تعالى:
فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا .
وذكر الشيخ رحمه الله أن في المسألة قولين مشهورين للعلماء، فمذهب مالك وأبي حنيفة أنه يجوز المسح على ما فيه خرق يسير مع اختلافهم في حد ذلك، واختار هذا بعض أصحاب ابن حنبل، ومذهب الشافعي وأحمد وغيرهما أنه لا يجوز المسح إلا على ما يستر جميع محل الغسل.
ويقول أصحاب هذا القول الثاني: «إنه إذا ظهر بعض القدم فرض غسل ما ظهر ومسح ما بطن، فيلزم إذن الجمع بين الأصل والبدل وهذا لا يجوز؛ لأن على المرء أن يغسل القدمين، أو أن يمسح على الخفين.»
ولكن ابن تيمية يذهب إلى أن القول الأول أصح، وهو قياس مذهب الإمام ابن حنبل؛ وذلك بأن السنة القولية والعملية أجازت المسح على الخفين مطلقا دون اشتراط أن يكونا ساترين لكل القدمين، فضلا عما هو معروف من العفو عن ظهور يسير العورة وعن وجود يسير النجاسة.
ومن هذا قول صفوان بن عسال : أمرنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إذا كنا سفرا أو مسافرين ألا ننزع أخفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن لا تنزع من غائط وبول ونوم.
وقد استفاض عن الرسول في الصحيح أنه
صلى الله عليه وسلم
مسح على الخفين، وتلقى عنه أصحابه ذلك، فأطلقوا القول بجواز المسح على الخفين، ونقلوا عنه أيضا أمره بذلك مطلقا ... ومعلوم أن الخفاف في العادة لا يخلو كثير منها من فتق أو خرق، ولا سيما مع تقادم عهدها، وكان كثير من الصحابة فقراء لم يكن يمكنهم تجديد ذلك ...
فلما أطلق الرسول الأمر بالمسح على الخفاف مع علمه بما هي عليه من العادة، ولم يشترط أن تكون سليمة من العيوب، وجب حمل أمره على الإطلاق، ولم يجز أن يقيد كلامه إلا بدليل شرعي. وكان مقتضى لفظه أن كل خف يلبسه الناس ويمشون فيه عادة فلهم أن يمسحوا عليه، وإن كان مفتوقا أو مخروقا من غير تحديد لمقدار ذلك، فإن التحديد لا بد له من دليل.
25
وأخيرا، بهذه الأمثلة التي ترينا أن شيخ الإسلام كان أمينا في تطبيق منهجه العام في الفقه، أمانته في تطبيقه في سائر العلوم، انتهينا من القسم الأول من هذا الكتاب، وهو القسم الذي قصرناه على بحث عصره وحياته ومنهجه، وننتقل بعد ذلك إلى القسم الثاني الذي نقصره على فقهه وآرائه الاجتماعية والسياسية وغير ذلك من مختلف الآراء التي ذهب إليها.
القسم الثاني
آراؤه في الدين والحياة
الباب الأول
في الفقه وأصوله
يراد اصطلاحا بكلمة «الدين» هنا كل ما شرعه الله للمسلمين بالقرآن الكريم أو بسنة الرسول
صلى الله عليه وسلم ، فهو لهذا يشمل أصول الدين أو علم الكلام، والفقه الذي يجب أن ننزل على أحكامه في العبادات والمعاملات على اختلاف ضروبها، والأخلاق التي ينبغي أن نسير عليها لنكون حقا خير أمة أخرجت للناس؛ والدين بهذا المعنى العام يسمى شريعة أيضا، كما يسمى كذلك ملة.
وفي هذا، نجد محمد على التهانوي يقول وهو يتكلم عن الشريعة: «الشريعة ما شرع الله تعالى لعباده من الأحكام التي جاء بها نبي من الأنبياء صلى الله عليهم وعلى نبينا وسلم، سواء أكانت متعلقة بكيفية عمل، وتسمى فرعية وعملية، ودون لها علم الفقه، أم بكيفية الاعتقاد، وتسمى أصلية واعتقادية، ودون لها علم الكلام، ويسمى الشرع أيضا بالدين والملة.»
1
ولذلك نريد بآرائه في الدين آراءه في الفقه وفهم القرآن وتفسيره وعلم الكلام والفلسفة. كما نريد بآرائه في الحياة الآراء الاجتماعية والسياسية التي ذهب إليها وعمل على الأخذ بها في الحياة العامة للمجتمع والأمة.
ومن مجموع هذا وذاك تتكون أبواب هذا القسم الثاني من الكتاب، وسنتناول مباحث كل باب منها على نحو وسط بين الإيجاز والإطناب، ومن الله التوفيق.
الفصل الأول
أصول الفقه
لكل فقيه من الأئمة أصحاب المذاهب الفقهية المعروفة أصول يرجع إليها في استنباط الأحكام، وابن تيمية رحمه الله لم يكن صاحب مذهب عرف به كغيره من أولئك الأئمة، ولكنه مع اجتهاده كان حنبليا؛ ولذلك كانت أصوله في الفقه هي في جملتها أصول مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه.
وقد كانت هذا الأصول التي اعتمد عليها الإمام ابن حنبل في فقهه وفتاويه، على ما يذكره أبو عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن القيم (توفي سنة 751ه)،
1
خمسة أصول وهي: النص من الكتاب والحديث، فمتى ظفر بنص في المسألة أفتى بموجبه دون التفات إلى ما خالفه، ولا إلى من خالفه ولو كان من كبار الصحابة؛ ولهذا لم يلتفت إلى قول معاذ ومعاوية من الصحابة بتوريث المسلم من الكافر، عندما صح عنده الحديث المانع من التوارث بينهما بسبب اختلاف الدين.
وعند عدم النص يلجأ إلى فتوى الصحابي، فإذا وجد لبعض الصحابة فتوى لا يعرف لها منهم مخالفا لم يتجاوزها إلى رأي آخر، دون أن يدعي أن ذلك إجماع بل يقول تورعا ما يفيد أنه لا يعلم شيئا يعارض هذه الفتوى.
وإذا تعددت الآراء من الصحابة في المسألة الواحدة، يلجأ إلى اختيار أقربها إلى كتاب الله وسنة رسوله، بمعنى أنه لا يخرج عن رأي من هذا الآراء؛ ولهذا كان يتوقف أحيانا عن الفتوى إذا لم يجد مرجعا لأحد تلك الآراء.
وبعد ذلك، كان يرجع إلى الحديث المرسل أو الضعيف مرجحا له على القياس، ما دام ليس هناك أثر آخر يدفعه، ولا قول صاحب ولا إجماع على خلافه.
وأخيرا، إن لم يجد شيئا من الأصول الأربعة المتقدمة، لجأ إلى القياس فاستعمله للضرورة.
ومن ذلك نرى أن ابن حنبل رضي الله عنه كان رجل نص وأثر أكثر منه رجل فقه وقياس، وهكذا كان الشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى، وإن كان له في بعضها نظر خاص أو زيادة في البيان والتفصيل؛ إذ يذكر أن طرق الأحكام الشرعية التي نتكلم عنها في أصول الفقه، هي بإجماع المسلمين الكتاب، والسنة على اختلاف أنواعها، والإجماع، والقياس، والاستصحاب، ثم المصالح المرسلة.
وسنتكلم عن كل من هذه الأصول بإجمال؛ لنتبين ما يريده شيخ الإسلام بكل منها، ولنعرف المعين الضخم الذي استقى منه تراثه الفقهي الجليل.
2
الكتاب والسنة
أما كتاب الله فلم يختلف أحد من المسلمين في أنه الأصل الأول للإسلام عقائده وتشريعاته، وأخلاقه وآدابه، وأما السنة فهي الأصل الثاني بعد القرآن بالإجماع أيضا. ويذكر الشيخ رحمه الله أنها في هذه الناحية أنواع ثلاثة:
النوع الأول:
هو السنة المتواترة التي تفسر القرآن ولا تخالف ظاهره، مثل ما جاء منها في عدد صلوات اليوم والليلة، وعدد ركعات كل صلاة، ومقدار نصاب الزكاة في أنواع الأموال المختلفة، ومناسك الحج والعمرة وكيفية أدائهما، وغير ذلك كله من الأحكام التي بينتها السنة، ولم تعلم إلا بها.
والنوع الثاني منها:
هو ما لا يفسر القرآن أو يقال يخالف ظاهره في شيء، ولكنه أتى بحكم جديد، مثل السنة التي جاءت في تقدير نصاب السرقة، ورجم الزاني، وما شاكل ذلك من السنن التي جاءت بأحكام غير منصوص عليها في القرآن ولا تخالف ظاهره مطلقا.
ومن البدهي أن السنة التي من النوع الأول تكون حجة فيما جاءت به؛ إذ إنها متممة لما جاء به القرآن من التشريعات التي جاء بها الدين ، وكذلك النوع الثاني يجب العمل به إلا عند الخوارج أو بعضهم، وهو في هذا يقول عن هذا النوع من السنة: «فمذهب جميع السلف العمل بها أيضا، إلا الخوارج، فإن من قولهم أو قول بعضهم مخالفة السنة (أي التي من هذا النوع) حيث قال أولهم للنبي
صلى الله عليه وسلم
في وجهه: «هذه القسمة ما أريد بها وجه الله.»
ويحكى عنهم أنهم لا يتبعونه
صلى الله عليه وسلم
إلا فيما بلغه عن الله من القرآن والسنة المفسرة له، وأما ظاهر القرآن إذا خالفه الرسول فلا يعملون إلا بظاهره؛ ولهذا كانوا مارقة مرقوا من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية.
وقال النبي
صلى الله عليه وسلم
لأولهم: «لقد خبت وخسرت إن لم أعدل.» فإذا جوز أن الرسول يجوز أن يخون ويظلم فيما ائتمنه الله عليه من الأموال، وهو معتقد أنه أمين الله على وحيه، فقد اتبع ظالما كاذبا ... وقد ينكر هؤلاء كثيرا من السنن طعنا في النقل لا ردا للمنقول، كما ينكر كثير من أهل البدع السنن المتواترة عند أهل العلم، كالشفاعة والحوض والصراط والقدر وغير ذلك.»
3
والنوع الثالث من أنواع السنة:
هو أحاديث أو أخبار الآحاد التي وصلت إلينا بروايات الثقات عن الثقات، والمتلقات بالقبول، ويعتبرها ابن تيمية حجة وأصلا من أصول الفقه، ويجب تقديم العمل به على المصادر الأخرى التي تجيء بعده، وفيها يقول: «وهذه أيضا مما اتفق أهل العلم على اتباعها من أهل الفقه والحديث والتصوف وأكثر أهل العلم، وقد أنكرها بعض أهل الكلام ... وكثير من أهل الرأي قد ينكر كثيرا منها بشروط اشترطها
4
ومعارضات دفعها بها ووضعها.
كما يرد بعضهم بعضا (أي من السنة)؛ لأنه يخالف ظاهر القرآن فيما زعم، أو لأنه خلاف الأصول أو قياس الأصول، أو لأن عمل متأخري أهل المدينة على خلافه،
5
أو غير ذلك من المسائل المعروفة في كتب الحديث والفقه وأصول الفقه.»
وهكذا نرى ابن تيمية يشتد في العمل بالسنة متى صحت، وفي اعتبارها أصلا من أصول الفقه ولو كانت أخبار آحاد، ولا يرد بعضها لأنها مثلا تخالف عموم القرآن أو ظاهره في رأي البعض، ولا يذهب مذهب أبي حنيفة ومالك في ردهما لبعضها لهذا السبب، أو لأنها تخالف ما عليه عمل أهل المدينة عند الأخير.
وإن كثيرا من آي القرآن وأحاديث الرسول تؤيده في المنهج الذي سلكه، فالله تعالى يقول:
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ، وليست طاعة الله إلا العمل بكتابه، كما أن طاعة الرسول تكون بالعمل بسنته الصحيحة.
والرسول
صلى الله عليه وسلم
يقول محذرا من ترك العمل بما صح عنه من السنة: «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر بما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري! ما وجدناه في الكتاب اتبعناه.»
6
وبخاصة أن كثيرا من الأحكام الشرعية مأخوذ من السنة النبوية، وكثيرا أيضا من هذه الأحكام التي ثبتت بالسنة هي في الواقع تخصيص لظاهر القرآن وعمومه، ومن هذا القبيل قوله تعالى:
حرمت عليكم الميتة والدم
الآية، فهي بنصها وظاهره عامة في تحريم كل ميتة ودم، ولكن الرسول قال في حديث له: «أحلت لنا ميتتان السمك والجراد، ودمان الكبد والطحال»، فكان هذا الحديث مخصصا لتلك الآية العامة.
الإجماع
والإجماع طريق من طرق الأحكام التشريعية، ولكنه يجيء بعد نصوص الكتاب والسنة بلا ريب، والإجماع الذي عليه اتفاق عامة المسلمين، والذي يعلمونه جميعا، هو ما كان عليه الصحابة، وأما ما كان بعد ذلك فالعلم به متعذر غالبا.
ولذلك يقول ابن تيمية في رسالته عن المعجزات والكرامات: «ولهذا اختلف أهل العلم فيما يذكر من الإجماعات الحادثة بعد الصحابة، واختلف في مسائل منه، كإجماع التابعين على أحد قولي الصحابة، والإجماع الذي لم ينقرض عصر أهله حتى خالفهم بعضهم، والإجماع السكوتي، وغير ذلك.»
كما يذكر في إحدى فتاويه أن معنى الإجماع هو أن يجتمع علماء المسلمين على حكم من الأحكام، وإذا ثبت ذلك لم يكن لأحد أن يخرج عن إجماعهم، فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة. ولكن كثيرا من المسائل يظن بعض الناس فيها إجماعا ولا يكون الأمر كذلك، بل يكون القول الآخر أرجح في الكتاب والسنة.
7
وبعد هذا لا بد للإجماع الذي يعتبر حجة وأصلا من أصول الفقه من سند من النصوص؛ وذلك لأن كل ما أجمع عليه المسلمون من الأحكام الفقهية يكون منصوصا عليه من الرسول، وقد بينه في حديث له، ولكن قد يخفى النص على بعض الناس فيستدل بالإجماع الذي علمه، مع أنه لا توجد مسألة يتفق الإجماع عليها إلا وفيها نص.
8
ويأتي الشيخ رحمه الله بمسائل كثيرة ترى بادئ الرأي أن أحكامها ثبتت بالإجماع من غير نص عن الرسول فيها، كما يقول بعض الفقهاء، ولكنه بالبحث يظهر أن ثبوت هذه الأحكام هو بالسنة لا بالإجماع.
ومن ذلك مسألة المضاربة، فإنها - كما يقول - كانت مشهورة بينهم في الجاهلية لا سيما قريش، فإن الأغلب عليهم كان التجارة، وكان أصحاب الأموال يدفعونها إلى العمال، والرسول
صلى الله عليه وسلم
قد سافر بمال غيره قبل النبوة، كما سافر بمال خديجة، والعير التي كان فيها أبو سفيان (هي العير التي جاء ذكرها في غزوة بدر) كان أكثرها مضاربة معه وغيره.
فلما جاء الإسلام أقرها الرسول، وكان أصحابه يتاجرون بمال غيرهم مضاربة ولم ينه عن ذلك، والسنة قوله وفعله وتقريره فلما أقرها كانت ثابتة بالسنة.
9
وفي رأينا أن هذا استدلال جيد، وفيه رد الأحكام إلى أصولها الصحيحة الأولى.
ونستطيع أن نذكر هنا مثالا آخر، وهو عقد السلم، فإن الفقهاء الأحناف مثلا يرون جوازه استحسانا على خلاف القياس لأن فيه بيع المعدوم، ولكن الحق أنه ثابت بسنة الرسول
صلى الله عليه وسلم ، فإنه جاء والناس في المدينة يتعاملون به، فأقرهم عليه كما هو معروف.
وفي رأينا أن الأمر كما يقول ابن تيمية بعد ذلك بحق؛ أي أن المسائل المجمع عليها قد تكون راجعة إلى أن طائفة من الفقهاء المجتهدين لم يعرفوا فيها نصا فقالوا فيها باجتهاد الرأي الموافق للنص، لكن كان النص عند غيرهم.
وابن جرير الطبري مع طائفة من الفقهاء يقولون بأنه لا ينعقد الإجماع إلا عن نص عن الرسول، مع قولهم بصحة القياس وحجيته، ونحن لا نشترط أن يكونوا جميعا قد علموا النص فنقلوه بالمعنى كما تنقل الأخبار، ثم يقول: لكنا استقرينا موارد الإجماع فوجدنا كلها منصوصة، وكثير من العلماء لم يعلم النص وقد وافق الجماعة.
هذا، ومن الطبعي أن تكون المسائل المجمع عليها قليلة في رأي ابن تيمية، بعدما رأيناه يشترط لحجية الإجماع أن يكون إجماعا من علماء المسلمين كافة في عصر من العصور، ثم أن يكون سنده نصا عن الرسول
صلى الله عليه وسلم ؛ ولهذا نجده ينكر القول بأن الإجماع هو المستند الذي يرجع إليه أكثر مسائل الشريعة الإسلامية، فيقول: «ومن قال من المتأخرين إن الإجماع مستند معظم الشريعة فقد أخبر عن حاله، فإنه لنقص معرفته بالكتاب والسنة احتاج إلى ذلك، وهذا كقولهم إن أكثر الحوادث يحتاج فيها إلى القياس لعدم دلالة النصوص عليها، فإنما هو قول من لا معرفة له بالكتاب والسنة ودلالتهما على الأحكام.
وقد قال الإمام أحمد رضي الله عنه إنه ما من مسألة إلا وقد تكلم فيها الصحابة أو في نظيرها، فإنه لما فتحت البلاد وانتشر الإسلام، حدثت جميع أجناس الأعمال فتكلموا فيها بالكتاب والسنة، وإنما تكلم بعضهم بالرأي في مسائل قليلة، والإجماع لم يكن يحتج به عامتهم؛ إذ هم أهل الإجماع فلا إجماع قبلهم.
لكن لما جاء التابعون كتب عمر إلى شريح: اقض بما في كتاب الله، فإن لم تجد فبما في سنة رسول الله، فإن لم تجد فبما قضى به الصالحون قبلك، وفي رواية فبما أجمع عليه الناس ... وكذلك ابن مسعود قال مثل ما قال عمر: قدم الكتاب، ثم السنة، ثم الإجماع.
وكذلك ابن عباس كان يفتي بما في كتاب الله، ثم بما في السنة، ثم بسنة أبي بكر وعمر لقوله
صلى الله عليه وسلم : «اقتدوا باللذين من بعدي؛ أبي بكر وعمر.»
وهذه الآثار ثابتة عن عمر وابن مسعود وابن عباس، وهم من أشهر الصحابة بالفتيا والقضاء، وهذا هو القضاء، وهذا هو عين الصواب.»
10
بقي بعد ذلك أن نعرف رأي ابن تيمية فيما إذا تعارض الإجماع مع نص عن الرسول
صلى الله عليه وسلم ، هل يؤخذ بالإجماع ويكون ناسخا للنص؟ أو يجب حينئذ ترك الإجماع والأخذ بالنص؟
هنا نراه يخطئ من قال من المتأخرين بأنه إن وجد نص يخالف الإجماع، اعتقد أن هذا النص قد نسخ بنص آخر لم يبلغه، بل قال بعضهم إن الإجماع هو الذي نسخه، ومعنى هذا أو ذاك وجوب الأخذ بالإجماع مع مخالفته للنص الذي ظهر.
ثم يقرر بعد هذا أن الصواب هو غير ذلك، وهو ما كان عليه السلف؛ «وذلك لأن الإجماع إذا خالفه نص فلا بد أن يكون مع الإجماع نص معروف به أن ذلك منسوخ. فأما أن يكون النص المحكم قد ضيعته الأمة وحفظت النص المنسوخ، فهذا ما لا يوجد قط، وهو نسبة الأمة إلى حفظ ما نهيت عن اتباعه وإضاعة ما أمرت باتباعه، وهي معصومة عن ذلك.» كما قال في رسالة «معارج الوصول».
ويختم هذه الرسالة بتأكيد أن السنة لا تنسخ الكتاب، وأن السنة لا ينسخها إجماع، وأن الإجماع الصحيح لا يعارض كتابا ولا سنة.
القياس
وتجيء مرتبة هذا الأصل بعد الإجماع، لكنه القياس الصحيح الذي يطابق النص، وأثر الاحتجاج به في استنباط الأحكام الشرعية عن بعض الصحابة، وأقر الرسول
صلى الله عليه وسلم
من ذهب إليه في حياته، وذلك كما فعل مع معاذ بن جبل حين أراد إرساله إلى اليمن وسأله كيف يقضي إذا عرضت له قضية.
ولأن من الصحابة من عمل بالقياس، نرى ابن تيمية يقول: «وقد روي عن علي وزيد أنهما احتجا بقياس، فمن ادعى إجماعهم على ترك العمل بالرأي والقياس مطلقا فقد غلط، ومن ادعى أنه من المسائل ما لم يتكلم فيها أحد منهم إلا بالرأي والقياس فقد غلط، بل كان كل منهم يتكلم بحسب ما عنده من العلم» إلى آخر ما قال.
11
والقياس المعتبر عند ابن تيمية هو القياس الصحيح دون الفاسد، وهو الذي جاءت به شريعة الله ورسوله، هذه الشريعة التي جمعت في الحكم بين المتماثلين وفرقت بين المختلفين، وذلك إنما يكون بطريق القياس في المتماثلين في العلة دون المختلفين فيها.
ويذكر الشيخ رحمه الله في أول رسالته عن القياس
12
صورتين للقياس الصحيح، وهما: (أ) «أن تكون علة الحكم التشريعي في الأصل موجودة في الفرع، من غير معارض في الفرع يمنع حكمها.» (ب) «القياس بإلغاء الفارق بين الصورتين؛ أي الأصل والفرع؛ أي ألا يكون بينهما فرق مؤثر في الشرع.»
ومثل هذا القياس لا تأتي الشريعة بخلافه، بل إذا جاءت الشريعة في بعض الأمور بحكم يخالف حكم نظائره، «فلا بد أن يختص ذلك النوع بوصف يوجب اختصاصه بالحكم ويمنع مساواته لغيره (أي في الحكم)، لكن الوصف الذي اختص به قد يظهر لبعض الناس وقد لا يظهر ... فمن رأى شيئا من الشريعة مخالفا للقياس، فإنما هو مخالف للقياس الذي انعقد في نفسه، وليس مخالفا للقياس الصحيح الثابت في نفس الأمر.» •••
ولعل ابن تيمية يشير بذلك الكلام إلى مشكلة كبيرة ثارت قبله وبعده، ولا تزال تثور بين الفقهاء حتى اليوم على ما نعتقد، وقد لمسنا نحن هذه المشكلة في كتاب ظهر لنا منذ سنوات.
13
إن النظام ومن تبعه من المعتزلة يقولون بأن من الحق أن العقل يقتضي التسوية في الحكم بين المتماثلات، والتفرقة فيه بين المختلفات، ولو اطرد الأمر كذلك في الشريعة كان القياس أمرا يدعو إليه العقل.
ولكن الشارع نراه يفرق في الحكم بين الأمور المتماثلة،
14
وقد يسوي بين أمور مختلفة،
15
وهذا على خلاف قضية العقل، وإذن لا يكون العقل مجوزا للقياس.
وبعد هؤلاء المتكلمين، نجد ابن حزم المتوفى سنة 456ه يشتد جدا في رفض القياس، اكتفاء بالقرآن والسنة، واستدلالا لمذهبه الظاهري وتقبيحا لمذهب معارضيه، وقد بسط ذلك كله في كتابه «الإحكام»، ورد على خصومه ردودا لم تخل من حدة لسانه وشديد نقده ومرير تهكمه.
إنه يرى أن من قال بالقياس في الشريعة قد تعدى حدود الله وقفا ما لا علم له به، وقال فيها برأيه ، ما دام لديه كتاب الله وسنة رسوله وفيهما كل غنية إذا عرفنا كل ما فيهما من الأحكام؛ ولهذا لم يقل صحابي قط بالقياس.
وأما كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري حين بعثه قاضيا إلى اليمن، وكذلك نحوه مما روي عن الصحابة من الآثار التي تفيد الأخذ بالقياس، فقد أنكر هذه الآثار جميعا بالطعن في أسانيدها من ناحية، وبإلزام خصومه؛ إذ خالفوا بعض ما توجبه من ناحية أخرى.
ثم ينتقل ابن حزم في كتابه «الإحكام» خطوة أخرى أبعد مما سار إليه، فيحاول أن يجد من القرآن والسنة نصوصا يدعم بها مذهبه في رفض القياس رفضا باتا شاملا، فيرى هذه النصوص مبطلة للقياس، داعية إلى وجوب رفضه والعمل به في شريعة الله ورسوله، وبخاصة أنه يرى أن القول بالعلل في شيء من الشريعة وأحكامها باطل.
وفي رأينا أنه مهما تكن شدة معارضة ابن حزم، وقوة جدله ولدده في الخصومة، ومهما تكن حجج الذين رفضوا الأخذ بالقياس من الطوائف الأخرى، فإن الحق هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أن القياس أصل من أصول الفقه ومصدر من مصادره، مصدر لا يستغني عنه فقيه، ولم ينكره صحابي من قبل، بل أرشد الله إليه في غير موضع من كتابه، كما يقول ابن تيمية وابن القيم.
لقد عرض ابن القيم - وكان أكبر حفيظ للتراث العلمي لشيخه الأكبر - في الجزء الأول من كتابه «إعلام الموقعين»، مسألة القياس عرضا وافيا، وبين أدلة القائلين به وأدلة الآخرين الذين يرفضونه.
وتكلم عن عدم إحاطة النصوص أو إحاطتها بالحوادث التي تزيد كل يوم، ومعنى هذا الحاجة للقياس أو عدم الحاجة إليه، ولم ينس أن يعرض لمسألة كون أحكام الله معللة -وحينئذ يتأتى القياس - أو غير معللة فلا يكون القياس ممكنا.
وبعد هذه البحوث وأمثالها المتعلقة بالقياس والخلاف الشديد فيه،
16
وبعد أن نقد كلا من الطرفين - الذين غلوا في الأخذ بالقياس، والذين غلوا في رفضه - نقول إنه بعد ذلك كله، ذكر بأن في نصوص الكتاب والسنة بيانا للأحكام الشرعية كلها، والقياس الصحيح مع هذا حق مطابق للنصوص، وليس في الشريعة شيء على خلاف القياس.
17 •••
هذا، وإذا كان ابن تيمية قد أخذ بالقياس الصحيح، وجعله أصلا من أصول الفقه، فإن هذا يوجب عليه بيان العلة التي بسببها نعطي للفرع حكم الأصل المقيس عليه.
وإذا كان قد رأى أن القياس المعتبر لا بد أن يطابق نصا من النصوص، كان لا بد له من الذهاب إلى اشتمال نصوص الكتاب والسنة على جميع الأحكام الشرعية جملة وتفصيلا.
وإذا كان قد قرر أن هذا القياس الصحيح لا تأتي الشريعة بخلافه قط، كان عليه بيان رأيه فيما يقال عن كثير من الأحكام التشريعية أنها ثبتت على خلاف القياس.
تلك مسائل ثلاث كان لزاما على شيخ الإسلام أن يتناولها بالبحث والبيان، وقد فعل رحمه الله تعالى، ونحن نتكلم عنها على هذا الترتيب:
الأولى:
علة القياس عند الفقهاء الأحناف ومن سلك طريقهم، هي الوصف الظاهر المنضبط المناسب الذي يبنى عليه الحكم الشرعي لأنه مظنته. وقرروا بعد تعريف العلة على هذا النحو أن تدور الأحكام الشرعية مع عللها وجودا وعدما.
ولهذا شرطوا فيها الشروط التي ذكرناها ومنها الانضباط؛
18
لأنها هي التي تعرفنا وجوب إعطاء الفرع حكم الأصل متى وجدت العلة فيه؛ وبذلك تكون تكاليف الله لعباده مستقيمة، وأحكام معاملاتهم متسقة على اختلاف ضروبها، ما دام مناط الأحكام هي عللها على النحو الذي عرفوها به.
ولكن ابن تيمية لا يسير معهم في تعريف العلة على هذا النحو، بل يختلف عنهم على ما نراه في كثير من كلامه وفتاويه، فهي المعنى المشترك بين الأصل والفرع، أو الوصف المعتبر في حكم الله ورسوله، أو الوصف الملائم المناسب الذي استوجب الحكم الشرعي لما فيه من مصلحة، أو الحكمة الحقيقية التي كانت سبب تشريع هذا الحكم.
وهذه العبارات متقاربة المعنى، وكلها تدور حول المصلحة أو الحكمة التشريعية، هذه الحكمة التي لا تخلو من أن تكون جلب منفعة أو دفع مضرة؛ وبذلك يتحقق قصد الشارع من تشريعاته، فإن كل أحكام الشريعة الإسلامية تحقق جلب المنافع ودفع المضار.
والذي يتبادر إلى العقل أن يكون الأمر كما قال ابن تيمية، فتكون العلة التي يبنى الحكم عليها وجودا وعدما هي حكمته؛ لأنها الباعث على تشريعه والغاية المقصودة منه، ولأن لكل حكم شرعي حكمته التي أرادها الله من العمل به.
ولكن هذه الحكمة إن ظهرت لنا وعرفناها في كثير من الأحكام، فقد تكون خافية لا نستطيع التحقق منها وجودا وعدما في كل حال؛ ومن ثم، شرط الأصوليون الآخرون في العلة ألا تكون وصفا ظاهرا مناسبا فقط، بل أن يكون أيضا منضبطا محددا يمكن التحقق من وجوده أو عدمه، ويتضح ذلك بهذا المثال: أباح الله للمسافر والمريض في رمضان الفطر، والعلة هي السفر في الأولى والمرض في الثاني، والحكمة هي دفع المشقة عن كل منهما، والسفر والمرض أمران منضبطان، على حين المشقة أمر تقديري غير منضبط فلا يمكن التحقق منه؛ ولهذا جعلت العلة هنا مجرد السفر أو المرض وإن لم توجد مشقة في هاتين الحالتين.
ولكن هؤلاء وجدوا عقبة في طريقهم الذي سلكوه؛ وذلك أنهم رأوا العلة التي جعلوها الوصف الظاهر الملائم المنضبط (أي لا الوصف الملائم وإن لم يكن منضبطا تماما، أو الحكمة التي هي سبب التشريع)، موجودة في أشياء كانت توجب تحريمها، ومع هذا فقد ثبت جوازها بالسنة، فلجئوا إلى القول بجوازها استحسانا لا قياسا.
وذلك مثل السلم الذي أجازه الرسول
صلى الله عليه وسلم
بحديث معروف أقر به هذا النوع من المعاملة؛ إذ وجد أهل المدينة يتعاملون به، ومثل عقد إجارة الأشياء أو الأشخاص، مع أن المعقود عليه في هذين العقدين معدوم غير مقدور التسليم حين العقد، فالعلة في تحريم كل منهما موجودة، ومع هذا هما جائزان شرعا.
ومهما يكن، فإن مسلك ابن تيمية لا يبعد كثيرا عن مسلك الآخرين، فإن مبنى الأحكام الشرعية على جلب المنافع ودفع المضار وليس من الأحكام ما لا حكمة له أو ما لا يحقق مصلحة معروفة حقيقية أو يدفع ضررا حقيقيا كذلك من تشريعه، وبذلك تلتقي الحكمة بالوصف الظاهر الملائم المنضبط في أكثر الأحوال.
ومع هذا، فإن نظر ابن تيمية في هذه الناحية يجعل القياس الصحيح قريب الإدراك، ومعينا على تعرف حكم التشريع، وأدنى إلى ما يتبادر إلى الذهن ويتعارفه الناس، ويجعل الأحكام الفقهية ذات آصرة قوية بتحقيق ما أراده الله من تحقيق المنافع ودفع المضار.
الثانية:
لشيخ الإسلام رسالة أشرنا إليها كثيرا فيما سبق، وهي «معارج الوصول إلى معرفة أن أصول الدين وفروعه قد بينها الرسول»، وقد افتتحها بقوله: «إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بين الدين، أصوله وفروعه، باطنه وظاهره، علمه وعمله.»
ولا ريب في أن المراد بفروع الدين وعمله هو الأحكام التشريعية التي تسمى أيضا الفقه أو الشرع، وهذا كاف في بيان ما يراد من أن في النصوص بيانا للشريعة الإسلامية وأحكامها، بالتفصيل حين يجب، وبالإجمال حين يكفي، وبالنص تارة، والحمل عليه تارة أخرى.
والآن نذكر أنه رحمه الله قد رفعت إليه فتوى تعتبر من صميم الموضوع الذي نعالجه، وأجاب عنها بما نرى من الخير تلخيصه بعد ذكر نص الفتوى، وهو: «من يقول إن النصوص لا تفي بعشر معشار الشريعة، هل قوله صواب، وهل أراد النص الذي لا يحتمل التأويل أو الألفاظ الواردة المحتملة؟ ومن نفى القياس وأبطله من الظاهرية، هل قوله صواب، وما حجته في ذلك، وما معنى قولهم النص؟»
19
وقد بدأ الجواب بقوله بأن هذا القول قاله طائفة من أهل الكلام والرأي، وهو خطأ، والصواب الذي عليه جمهور أئمة المسلمين أن النصوص وافية بجمهور أفعال العباد، ومنهم من يقول إنها وافية بجميع ذلك، وإنما أنكر ذلك من أنكره لأنه لم يفهم معاني النصوص العامة التي هي أقوال الله ورسوله، وشمولها لأحكام أفعال العباد.
وذلك أن الله بعث محمدا
صلى الله عليه وسلم
بجوامع الكلم، فيتكلم بالكلمة الجامعة العامة التي هي قاعدة عامة تتناول أنواعا كثيرة، وتلك الأنواع تتناول أعيانا لا تحصى، فبهذا الوجه تكون النصوص محيطة بأحكام أفعال العباد.
وضرب لهذا الخمر مثلا، فإن الله حرمها بنص القرآن والسنة، فظن بعض الناس أن لفظ الخمر لا يتناول إلا عصير العنب خاصة فلم يحرم إلا ذلك ، والبعض حرم أيضا بعض الأنبذة المسكرة، ومن العلماء من حرم كل مسكر مائعا كان أو جامدا، وهذا وذاك بطريق القياس لعلة الإسكار في كل منها كالخمر المتخذة من عصير العنب.
مع أن الصواب الذي عليه الأئمة الكبار هو أن الخمر المذكورة في القرآن والسنة تتناول كل مسكر، فصار تحريم كل مسكر بالنص العام والكلمة الجامعة، لا بالقياس وحده، وإن كان القياس دليلا آخر يوافق النص، كما جاء أيضا في صحيح مسلم أن الرسول قال: «إن كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام.»
فمن ظن أن النص القرآني لم يتناول إلا خمر العنب، وأن تحريم سائر المسكرات ثبت بالقياس، كان مخطئا في فهم النص. ومما يؤيد شمول النص لكل مسكر أن الخمر لما حرمت لم يكن بالمدينة شيء من خمر العنب، وإنما كان عندهم النخل يتخذون من ثمره خمرا، فلما نزلت آية التحريم أراقوا ما كان عندهم من أشربة، ومعنى هذا أنهم كانوا يعرفون من اللغة أو بيان الرسول أن لفظ الخمر ليس خاصا بعصير العنب وحده.
وبعد أن أتى بأمثلة أخرى، وتكلم عن القياس صحيحه وفاسده، قال: «ولفظ النص يراد به تارة ألفاظ الكتاب والسنة، سواء كان اللفظ دلالته قطعية أو ظاهرة، وهذا هو المراد من قول من قال: النصوص تتناول أحكام المكلفين ... ودلالة القياس الصحيح توافق دلالة النص، فكل قياس خالف دلالة النص فهو قياس فاسد، ولا يوجد نص يخالف قياسا صحيحا، كما لا يوجد معقول صريح يخالف المنقول الصحيح ...
ومن كان متبحرا في الأدلة الشرعية، أمكنه أن يستدل على غالب الأحكام بالنصوص وبالأقيسة، فثبت أن كل واحد من النص والقياس دل على هذا الحكم كما ذكرناه من الأمثلة.
فإن القياس يدل على تحريم كل مسكر كما يدل النص على ذلك، فإن الله حرم الخمر لأنها توقع بيننا العداوة والبغضاء، وتصدنا عن ذكر الله وعن الصلاة، كما دل القرآن على هذا المعنى، وهذا المعنى موجود في جميع الأشربة المسكرة لا فرق في ذلك بين شراب وشراب.
20
فالفرق بين جميع الأنواع المشتركة من هذا الجنس، تفريق بين المتماثلين، وخروج عن موجب القياس الصحيح، كما هو خروج عن موجب النصوص ...» إلى آخر ما قال.
الثالثة:
نرى أخيرا أن شيخ الإسلام يقرر أن القياس الصحيح لا تأتي الشريعة قط بخلافه، ويقول إنه لا يوجد نص يخالف قياسا صحيحا، وإذن، فما رأيه فيما يقول الفقهاء في كثير من الأحكام التشريعية أنها جاءت على خلاف القياس؟
إنه حقا لا يعبأ بالجواب، وعلمه بالسنة ودقة فهمه لنصوص القرآن والسنة التشريعية يبين في دقة صحة ما قال، ونكتفي هنا ببيان ذلك في بضع مسائل نعرف منها أنه سلك السبيل السوي لتأييد ما رآه حقا.
ولكن نرى من الخير قبل تناول هذه المسائل أن نشير إلى أن الأحكام التي يقال عنها إنها جاءت على خلاف القياس نوعان كما يذكر ابن تيمية:
21
نوع لا نزاع بين الفقهاء في حكمه، ونوع تنازعوا فيه:
والنوع الأول:
يتبين أنه على وفق القياس ما دام متفقا عليه، ولكن الخلاف فيه هو هل يقاس عليه أو لا؟ فذهب طائفة من الفقهاء، وحكي هذا عن أصحاب أبي حنيفة، أنه لا يقاس عليه، وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يقاس عليه غيره إن تحققت فيه شروط القياس، وهذا هو ما ذكره أصحاب الشافعي وابن حنبل وغيرهما.
وذلك بأنهم قالوا كما يحكي عنهم ابن تيمية نفسه: إنما ينظر إلى شروط القياس، فما علمت علته ألحقنا به ما شاركه في العلة، سواء قيل إنه على خلاف القياس أو لم يقل ... أما إذا لم يقم دليل على أن الفرع كالأصل فهذا لا يجوز فيه القياس، سواء قيل إنه على وفق القياس أو خلافه؛ ولهذا كان الصحيح أن العرايا يلحق بها (أي قياسا) ما كان في معناها.
وحقيقة الأمر أنه لم يشرع شيء على خلاف القياس الصحيح، بل ما قيل إنه على خلاف القياس لا بد من اتصافه بوصف امتاز به عن الأمور التي خالفها واقتضى مفارقته لها في الحكم، وإذا كان كذلك، فذلك الوصف إن شاركه غيره فيه فحكمه كحكمه ، وإلا كان من الأمور المفارقة له.
وأما المتنازع فيه فمثل ما يأتي حديث بخلاف أمر (أي مخالف للقياس)، فيقول القائلون هذا بخلاف القياس أو بخلاف قياس الأصول، وهذا له أمثلة من أشهرها المصراة، فإن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: «لا تصروا الإبل ولا الغنم، فمن ابتاع مصراة فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها؛ إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعا من تمر»، وهو حديث صحيح،
22
فقال قائلون هذا يخالف قياس الأصول من وجوه: منها أنه رد للمبيع بلا عيب ولا خلف في صفة، ومنها أن الخراج بالضمان فاللبن الذي يحدث عند المشتري غير مضمون عليه وهنا قد ضمنه، ومنها أن اللبن من ذوات الأمثال فهو مضمون بمثله، ومنها أن ما لا مثل له يضمن بالقيمة من النقد، وهنا ضمنه بالتمر ...
فقال المتبعون للحديث بل ما ذكرتموه خطأ، والحديث موافق للأصول (فهو لهذا يكون موافقا للقياس الصحيح)، ولو خالفها لكان هو أصلا كما أن غيره أصل، فلا نضرب الأصول بعضها ببعض، بل يجب اتباعها كلها، فإنها كلها من عند الله.
ثم أخذ الشيخ رحمه الله تعالى بعد ذلك يبين بالدليل أن كل ما ذكره أولئك الفقهاء، من مخالفة هذا الحكم الذي ثبت بحديث الرسول للقياس، ليس صحيحا في شيء منه، وأن هذا الحكم لا يخالف القياس بل يوافقه تماما، وقد نعرض لهذا الرد بالتفصيل بعد حين.
هذا، ونأخذ الآن في الكلام عن بعض العقود التي يرى شيخ الإسلام بحق أنها جاءت على وفق القياس، لا مخالفة له كما قال جمهور الفقهاء الآخرين، وقد اخترنا أن نمثل لذلك بهذه العقود: السلم، الإجارة، المضاربة، ثم مسألة المصراة:
السلم:
من شروط صحة العقد عند جمهور الفقهاء أن يكون موضوعه (أي المعقود عليه) موجودا حين العقد، فالمعدوم لا يصح إذن أن يكون محلا للتعاقد؛ لأنه من غير المعقول أن يتعلق حكم العقد وآثاره بشيء معدوم لا يقدر على تسليمه إلا بعد إتمام التعاقد، وحينئذ قد يثور النزاع والخصومة بين المتعاقدين، على حين أن العقود يجب أن تقوم على التراضي من الجانبين.
وترتب على هذا الشرط أو القاعدة، أنهم اضطروا للقول بأن عقود السلم والإجارة والمضاربة والاستصناع ونحوها مستثناة من هذه القاعدة العامة، وأنها تجوز شرعا استحسانا لا قياسا، للحاجة إليها.
ومن المعلوم أن السلم عقد على شيء معدوم، فإنه بيع شيء آجل بثمن عاجل، ومع هذا لا خلاف بين الفقهاء في جوازه شرعا، لما رواه الشيخان عن طريق ابن عباس الذي قال: قدم النبي
صلى الله عليه وسلم
المدينة، وهم يسلفون بالتمر السنتين والثلاث فقال: «من أسلف
23
في شيء ففي كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم.»
ولكن ابن تيمية ينكر ما ذهب إليه أولئك الفقهاء من اشتراط أن يكون موضوع العقد موجودا غير معدوم، ومن ثم ينكر أن يكون جواز عقد السلم والإجارة ونحوهما ثبت على خلاف القياس، وهو في ذلك يقول: «لا تسلم صحة هذه المقدمة (أي القاعدة أو الشرط المذكور)، فليس في كتاب الله ولا سنة رسوله، بل ولا عن أحد من الصحابة، أن بيع المعدوم لا يجوز، لا بلفظ عام ولا بمعنى عام.
وإنما فيه النهي عن بيع بعض الأشياء التي هي معدومة، كما في النهي عن بيع بعض الأشياء التي هي موجودة، وليست العلة في النهي لا الوجود ولا العدم، بل الذي ثبت في الصحيح عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه نهى عن بيع الغرر، والغرر ما لا يقدر على تسليمه سواء كان موجودا أو معدوما، كالعبد الآبق والبعير الشارد، ونحو ذلك مما قد لا يقدر على تسليمه بل قد يحصل وقد لا يحصل، وهو غرر لا يجوز بيعه وإن كان موجودا.
فإن موجب البيع تسليم المبيع، والبائع عاجز عنه، والمشتري إنما يشتريه مخاطرة ومقامرة، فإن أمكنه أخذه كان المشتري قد قمر البائع،
24
وإن لم يمكنه أخذه كان البائع قد قمر المشتري.
25
وهكذا المعدوم الذي هو غرر نهى عن بيعه لكونه غررا لا لكونه معدوما ، كما إذا باع ما يحمل هذا الحيوان أو ما يحمل هذا البستان، فقد يحمل وقد لا يحمل، وإذا حمل فالمحمول لا يعرف قدره ولا وصفه، فهذا من القمار، وهو من الميسر الذي نهى الله عنه.
ومثل هذا إكراء دواب لا يقدر على تسليمها، أو عقار لا يمكنه تسليمه، بل قد يحصل وقد لا يحصل، فإنه إجارة غرر» إلى آخر ما قال.
26
هكذا فحص الشيخ رحمه الله عن العلة في منع بعض الأشياء المعدومة، ووجدها بحق أنها الغرر الذي يكون فيها؛ أي عدم القدرة على تسليمها، فإذا وجدت هذه العلة في بعض الأشياء الموجودة كان بيعها أيضا منهيا عنه؛ لأن في المبيع أو الإجارة في الحالين قمارا وميسرا نهى عنه الله تعالى وحرمه بنص صريح من القرآن، وإذن يكون كل من السلم والإجارة على وفق القياس بلا ريب.
ولكنه مع هذا يخص كلا من هذين العقدين ونحوهما بكلمة خاصة يبين فيها أنه ثبت جوازه شرعا على وفق القياس، فهو يذكر أن قول الفقهاء إن السلم على خلاف القياس هو من جنس ما رووه من أن الرسول
صلى الله عليه وسلم
قال: «لا تبع ما ليس عندك، وأرخص في السلم»، وهذا لم يرو في الحديث وإنما هو من كلام بعض الفقهاء.
27
وذلك أن الرسول نهى حكيم بن حزام أن يبيع ما ليس عنده فيكون جواز السلم بسنة الرسول مخالفا للقياس. ولكن نهي النبي حكيم بن حزام عن بيع ما ليس عنده، إما أن يراد به بيع عين معينة ليست عنده ولا يملكها فيكون قد باع مال الغير قبل أن يشتريه، وفيه نظر.
وإما أن يكون المراد به النهي عن بيع الإنسان ما لا يقدر على تسليمه وإن كان في الذمة، وهذا أشبه، فيكون قد ضمن للمشتري شيئا لا يدري هل يحصل أو لا يحصل، وهذا في السلم الحال إذا لم يكن عنده ما يوفيه، والمناسبة فيه ظاهرة. وأما السلم المؤجل وهو المتعارف فهو أمر آخر.
إن موضوع العقد (وهو المسلم فيه) دين من الديون مؤجل في صحيفة إلى أجل معلوم، فهو كالابتياع بثمن مؤجل، ولا فرق بين أن يكون الثمن هو المؤجل أو يكون المؤجل هو موضوع العقد.
وفي هذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: أشهد أن السلف المضمون في الذمة حلال في كتاب الله (يريد أنه ثبت جوازه شرعا بالقرآن، لا استحسانا على خلاف القياس كما يقول الفقهاء الآخرون)، وقرأ قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه . وينتهي ابن تيمية من هذا بقوله: «فإباحة هذا على وفق القياس، لا على خلافه.»
الإجارة:
تكلم ابن تيمية بعد عقد السلم عن عقد الإجارة وناقش أقوال الفقهاء الذين ذهبوا إلى أن هذا العقد جار على خلاف القياس؛ لأنه بيع معدوم وهو المنفعة التي تتحقق بعد العقد شيئا فشيئا، ولأنه يجب في العقود التي تجري على القياس القدرة على تسليم المعقود عليه عقب العقد، وانتهى من هذه المناقشة إلى أن الإجارة على وفق القياس لا على خلافه.
28
إن قولهم بأن الإجارة نوع من البيع لا يخلو أن يكون المراد به أحد أمرين: البيع الخاص الذي يفهم من لفظ البيع عند الإطلاق، أو المعاوضة العامة. ولا يصح أن يراد بها المعنى الأول، فإنه إنما ينعقد على الأشياء المعينة المحدودة، أو المضمونة في الذمة، وليست الإجارة كذلك في كل حال.
والقول بأنها نوع من المعاوضة العامة التي تتناول العقد على الأعيان أو المنافع، قول صحيح، لكن قولهم إن هذه المعاوضة لا تكون على معدوم دعوى مجردة من الدليل، بل هي دعوى كاذبة، وذلك بأن الشارع أجاز المعاوضة على الموجود وعلى المعدوم.
ومن القياس الفاسد أن يقول قائلهم: «كما أن بيع الأعيان لا يكون إلا على موجود فكذلك بيع المنافع، وهذا حقيقة كلامه.» هذا القياس فاسد، بل في غاية الفساد، فإنه - كما يقول - من شرط القياس الصحيح أن يمكن إثبات حكم الأصل في الفرع، وهذا متعذر؛ لأن المنافع لا يمكن أن يعقد عليها في حال وجودها، فلا يتصور أن تباع المنافع في حال وجودها كما تباع الأعيان في حال وجودها.
ولهذا أمرنا الشارع أن نؤخر العقد على الأعيان التي لم تخلق إلى أن تخلق، كما نهى عن بيع الحمل قبل أن يولد، والتمر قبل بدو صلاحه، وعن بيع الحب حتى يشتد، وعلى هذا لا يبقى حكم الأصل مساويا لحكم الفرع في كل حال.
وإذا كان ذلك يظهرنا على أحد الفروق بين عقد البيع والإجارة، فإن هناك فرقا آخر ذكره شيخ الإسلام إجمالا، وفصل القول فيه من بعده تلميذه ابن القيم.
29
وهو أن الفقهاء حين لم يجيزوا بيع المعدوم في كل حال بنوا على هذا بطلان ضمان الحدائق والبساتين؛ لأنه - كما يقولون - بيع الثمار قبل بدو صلاحها، بل قبل وجودها، ومنهم من ذكر الإجماع على بطلانه.
والحق أنه ليس لهم دليل صحيح لما ذهبوا إليه، فضلا عن دعوى الإجماع، بل ربما كان الإجماع هو على جواز ضمان البساتين ونحوها شرعا. فقد جرى العرف الصحيح على صحة هذه المعاملة من أيام الصحابة حتى اليوم، بل - كما يذكر ابن تيمية - إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضمن حديقة أسيد بن خضير ثلاث سنوات، وتسلف مقدار الضمان فقضى به دينا كان على أسيد لأنه كان وصيه، ومثل هذا من عمر لم يكن ليخفى على أحد.
بل قد كان ذلك - كما يذكر ابن القيم - بمشهد من الصحابة، ولم ينكره منهم رجل واحد، ومن جعل هذا إجماعا فقد أجمع الصحابة على جواز ذلك، وأقل درجاته أن يكون قول صحابي بل قول الخليفة الراشد ولم ينكره منكر، وهذا حجة عند جمهور العلماء.
فالصواب، إذن، هو ما فعله سيدنا عمر الذي جعل الله الحق على لسانه وقلبه، وبصحة هذا يتضح الفرق الآخر بين البيع والإجارة، «إذ الفرق - كما يقول شيخ الإسلام - بين البيع والضمان هو الفرق بين البيع والإجارة، ألا ترى أن النبي
صلى الله عليه وسلم
نهى عن بيع الحب حتى يشتد، ثم إذا استأجر أرضا ليزرعها جاز هذا مع أن مقصوده الحب؟ لكن مقصوده ذلك بعمله لا بعمل البائع.»
بقي ما يقوله النافون لجريان الإجارة على وفق القياس، وهو أن موجب العقد تسليم المعقود عليه بعد إتمامه، وهذا مستحيل في الإجارة بالنسبة لموضوعها الذي يحدث آنا بعد آن في الزمان.
وهنا يذكر ابن تيمية أن هذا غير صحيح إن سلمنا أن عقد الإجارة هو عقد بيع، فإن موجب العقد هو ما أوجبه الشارع أو المتعاقدان على أنفسهما،
30
وكلاهما منتف، فلا الشارع أوجب أن يكون كل مبيع مستحق التسليم عقب العقد، ولا العاقدان التزما ذلك.
بل تارة يكون العقد على هذا الوجه؛ أي يكون تسليم الثمن والمثمن عقبه، وتارة يشترطان التأخير في أحدهما، أو في محل العقد بصفة خاصة لما في ذلك من المصلحة للبائع أو المشتري، وهذا كما كان لسيدنا جابر حين باع بعيره للرسول واستثنى ظهره إلى المدينة.
وإذن، لا دلالة في الشريعة على أن من موجبات العقد التسليم عقبه كما زعموا، وليس هذا أصلا من أصولها يكون الخروج عنه خروجا عن القياس، بل التسليم والقبض في الأعيان والمنافع على السواء كالقبض في الدين، تارة يكون موجب العقد قبضه عقبه حسب الإمكان، وتارة يكون موجبه تأخير التسليم لمصلحة من المصالح المشروعة.
وأخيرا، نذكر أنه إذا تركنا عقد الإجارة الذي لا يمكن فيه تسليم المعقود عليه عقب العقد، فإنه في عقد البيع إذا كان في تأخير تسليم المبيع ضرر يسير بالمشتري ومصلحة راجحة للبائع، نرى أنه من أصول الشريعة أنه إذا تعارضت المصلحة والمفسدة يجب أرجحهما كما هو معروف، كما يجب دفع الضرر الأكبر باحتمال الضرر الأدنى.
وهكذا وصل الإمام ابن تيمية إلى دفع ما يحتج به الفقهاء الذين ذهبوا إلى أن عقد الإجارة يجوز استحسانا لا قياسا، وإلى التدليل بحق على أنه موافق للقياس ولأصول الشريعة.
المضاربة والمزارعة:
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن هذين العقدين، وكذلك أيضا عقد المساقاة
31
تجوز شرعا على خلاف القياس؛ وذلك لأنها من جنس عقد الإجارة، ومن ثم يجب أن يكون الربح معلوما قدره حين العقد، ولكن الأمر في هذه العقود على غير هذا النحو.
وذلك لأن أجر العامل في كل منها لم يعرف قدره عند التعاقد، بل يكتفى فيها بأنه حصة شائعة في الربح العام
32
كنصفه أو ثلته على حسب ما يتفق المتعاقدان عليه؛ ولهذا لا يجوز كل من هذه العقود قياسا، بل استحسانا.
ولكن شيخ الإسلام لا يذهب مذهب أولئك الفقهاء؛ أي في إرجاع هذه العقود إلى الجنس الذي يدخل فيه عقد الإجارة وإلى ما استتبعه عندهم من جوازها استحسانا لا قياسا للسبب الذي ذكروه، بل يرى أنها من جنس عقد الشركة فتكون قياسية.
وإنه ليبني ما يراه على أصل هام يجب التنبه إليه، فيه تتميز العقود الواردة على عمل العامل من عقد الإجارة، وهو يقول في هذا ما ينبغي أن نأتي به ولو بشيء من الاختصار؛ إذ يذكر أن العمل ثلاثة أنواع:
أحدها: «أن يكون العمل مقصودا معلوما مقدورا على تسليمه، فهذا عقد الإجارة اللازمة؛ أي العقد اللازم.»
والثاني: «أن يكون العمل مقصودا لكنه مجهول أو غرر فهذه الجعالة، وهي عقد جائز ليس بلازم. فإذا قال: من رد عبدي الآبق فله مائة، فقد يقدر على رده وقد لا يقدر، وقد يرده من مكان قريب أو بعيد ... فمن عمل هذا العمل استحق الجعل وإلا فلا.
ويجوز أن يكون الجعل فيها إذا حصل بالعمل جزءا شائعا ومجهولا جهالة لا تمنع التسليم، مثل أن يقول أمير الغزو: من دل على حصن فله ثلث ما فيه، ويقول أمير السرية التي يسريها لك خمس ما تغنمين أو ربعه ...
ومن هذا الباب إذا جعل للطبيب جعلا على شفاء المريض جاز، كما أخذ أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم
الذين جعل لهم قطيع على شفاء سيد الحي، فرقاه بعضهم حتى برئ فأخذوا القطيع، فإن الجعل كان على الشفاء لا على القراءة.»
وأما النوع الثالث: «فهو ما لا يقصد فيه العمل، بل المقصود المال، وهو المضاربة، فإن رب المال ليس له قصد في نفس عمل العامل، كما للجاعل والمستأجر قصد في عمل العامل؛ ولهذا لو عمل ما عمل ولم يربح شيئا لم يكن له شيء ...
بل هذه (أي عقد المضاربة) مشاركة، هذا ينفع بدنه (أي بعمله) وهذا ينفع ماله، وما قسم الله من الربح كان بينهما على الإشاعة؛ ولهذا لا يجوز أن يخص أحدهما بربح مقدر؛ لأن هذا يخرجهما عن القول الواجب في الشركة ...»
33
هكذا يرى شيخ الإسلام ابن تيمية بحق، وأما الذين ذهبوا إلى أن هذه العقود الثلاثة على خلاف القياس فقد ظنوا أنها من جنس الإجارة فيشترط فيها مثلها العلم بالعوضين، فلما رأوا أن العمل في هذه العقود غير معلوم وكذلك الربح قالوا بمخالفتها للقياس.
وهذا من غلطهم كما يقول: فإن هذه العقود من جنس المشاركات لا من جنس المعاوضات الخاصة التي يشترط فيها العلم بالعوضين، والمشاركات جنس غير جنس المعاوضة وإن قيل إن فيها شوب المعاوضة.
34
وبعد أن بحث ابن تيمية هذه العقود الخمسة وعقودا كثيرة أخرى، وبين أنها جميعها على وفق القياس لا بخلافه كما زعم جمهور الفقهاء، قال ما ينبغي أن ننقله بنصه: «وبالجملة، فما عرفت حديثا صحيحا لا يمكن تخريجه على الأصول الثابتة، وقد تدبرت ما أمكنني من أدلة الشرع فما رأيت قياسا صحيحا يخالف حديثا صحيحا، كما أن المعقول الصريح لا يخالف المنقول الصحيح، بل متى رأيت قياسا يخالف أثرا فلا بد من ضعف أحدهما.
لكن التمييز بين صحيح القياس وفاسده مما يخفى كثير منه على أفاضل العلماء، فضلا عمن هم دونهم، فإن إدراك الصفات المؤثرة في الأحكام على وجهها، ومعرفة الحكم والمعاني التي تضمنتها الشريعة، من أشرف العلوم فمنه الجلي الذي يعرفه كثير من الناس، ومنه الدقيق الذي لا يعرفه إلا خواصهم.
فلهذا صار قياس كثير من العلماء يرد مخالفا للنصوص لخفاء القياس الصحيح عليهم، كما يخفى على كثير من الناس ما في النصوص من الدلائل الدقيقة التي تدل على الأحكام.»
35
مسألة المصراة
ولعل مصداق هذا التأكيد، فضلا عما ذهب إليه في تلك العقود، رأيه في «مسألة المصراة» وما جاء به حديث الرسول في ضمان لبنها الذي حلبه المشتري، فقد رأى الفقهاء قبله في أن جعل هذا الضمان صاعا من تمر هو حكم مخالف للقياس للوجوه التي ذكرنا عنهم من قبل.
36
إن الشيخ، رضي الله عنه وأرضاه، بعد أن بين هذه الوجوه أخذ في مناقشتها، وانتهى بأنه ليس في الحكم الذي جاء به حديث الرسول
صلى الله عليه وسلم
شيء يخالف القياس، بل هو على وفقه تماما، وذلك إذ يقول: «أما قولهم: «رد بلا عيب ولا فوات صفة» فليس في الأصول ما يوجب انحصار الرد في هذين الشيئين، بل التدليس نوع ثبت به الرد وهو من جنس الخلف في الصفة، فإن المبيع تارة تظهر صفاته بالقول وتارة بالفعل، فإذا ظهر أنه على صفة وكان بخلافها فهو تدليس ...
وأما قولهم: «الخراج بالضمان» (أي أن الأمر برد صاع من تمر مخالف للقياس الذي يؤخذ من الأثر الذي يقول: الخراج بالضمان)، فإن حديث المصراة أصح منه باتفاق أهل العلم مع أنه لا منافاة بينهما، فإن الخراج ما يحدث في ملك المشتري ...
وهنا كان اللبن موجودا في الضرع فصار جزءا من المبيع، ولم يجعل الصاع عوضا عما حدث بعد العقد، بل عوضا عن اللبن الموجود في الضرع وقت العقد.
وأما تضمين اللبن بغيره وتقديره بالشرع، فلأن اللبن المضمون اختلط باللبن الحادث بعد العقد فتعذرت معرفة قدره؛ فلهذا قرر الشارع البدل قطعا للنزاع، وقدر بغير الجنس لأن التقدير بالجنس قد يكون أكثر من الأول أو أقل فيفضي إلى الربا، بخلاف غير الجنس، فإنه كأنه ابتياع لذلك اللبن الذي تعذرت معرفة قدره، بالصاع من التمر، والتمر كان طعام أهل المدينة وهو مكيل مطعوم يقتات به كما أن اللبن مكيل مقتات به، وهو أيضا يقتات به بلا صنعة، بخلاف الحنطة والشعير فإنه لا يقتات به إلا بصنعة.
فهو (أي التمر) أقرب الأجناس التي كانوا يقتاتون بها إلى اللبن؛ ولهذا كان من موارد الاجتهاد أن جميع الأمصار يضمنون ذلك بصاع من تمر، أو يكون ذلك لمن يقتات بالتمر، كأمره
صلى الله عليه وسلم
في صدقة الفطر بأن يخرج أهل كل بلد مقدار الصاع مما يقتاتون به كالشعير ونحوه.»
وبعد ، فقد وصل الإمام ابن تيمية رحمه الله إلى بيان وإثبات ما اعتقده الحق، وهو أنه ليس في الشريعة الإسلامية من الأحكام ما يخالف القياس الصحيح، وقد تأتى له ذلك بما أوتيه من الحظ الوافر في فهم الفقه وأصوله الأولى، والقدرة على رد الأحكام الشرعية إلى أصولها الأصلية بعد إدراك عللها، والفهم العميق لكتاب الله والإحاطة بقدر المستطاع بسنة رسوله.
وهو لهذا حقيق بأن يوصف بأنه فقيه مجتهد حقا وإن كان ينتسب للمذهب الحنبلي لاتفاقه مع مؤسسه في أصوله الفقهية، ولو تقدم به الزمن إلى عصر الأئمة الأربعة لعد بلا ريب من المجتهدين بإطلاق.
الاستصحاب
ويجيء هذا الأصل بعد الأصول السابقة، وهو حجة عنده وعند غيره من الفقهاء في الوصول إلى الأحكام الفقهية، ويقول في تعريفه وحجيته: «وهو البقاء على الأصل فيما لم يعلم ثبوته وانتفاؤه بالشرع، وهو حجة على عدم الاعتقاد بالاتفاق، وهل هو حجة في اعتقاد العدم؟ فيه قولان.»
37
فإن عرض للمجتهد عقد أو تصرف جد في زمنه، وسئل عن رأيه فيه، ولم يجد نصا من الكتاب أو السنة أو دليلا شرعيا آخر يبين حكمه الشرعي بالإباحة أو التحريم، كان عليه أن يحكم بأنه مباح بناء على أن الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما حرم شرعا، وهذه الإباحة هي الحال التي خلق الله عليها ما في الأرض جميعا، فما دام لم يقم لديه دليل على تغير هذه الحال، يجب أن يكون الحكم باقيا على الإباحة الأصلية.
وكذلك الملك الثابت لشخص ما لشيء من الأشياء يعتبر قائما بدليل الاستصحاب، ما لم تتغير الحال فيجد ما يثبت زوال ملكه له، وذمة الإنسان البريئة من شغلها بدين أو التزام يظل حكمها أنها بريئة حتى يثبت أنها مشغولة؛ وذلك لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت ما يغيره.
ويقول الخوارزمي في كتابه «الكافي» عن هذا الدليل أو الأصل: «وهو آخر مدار الفتوى، فإن المفتي إذا سئل عن حادثة يطلب حكمها في الكتاب ثم في السنة ثم في الإجماع ثم القياس ، فإن لم يجده فيأخذ حكمها من استصحاب الحال في النفي والإثبات، فإن كان التردد في زواله، فالأصل بقاؤه وإن كان التردد في ثبوته فالأصل عدم ثبوته.»
38
ومع هذا، فإن الحق في رأينا أن من التجوز عد الاستصحاب دليلا؛ لأن الدليل في الحقيقة هو الدليل الذي ثبت به الحكم السابق، وما الاستصحاب إلا استبقاء دلالة هذا الدليل على حكمه.
39
وأخيرا، إن معنى قول الشيخ ابن تيمية رضي الله عنه أن الاستصحاب حجة على عدم الاعتقاد بالاتفاق، وفي كونه حجة في اعتقاد العدم خلاف، أنه حجة لمن لا يعتقد تغير الحال التي لها حكمها الثابت بالدليل، فيندفع بها (أي بهذه الحجة) دعوى مدعي التغير إلا إذا قام عليه دليل، ولكنه مع هذا، ليس حجة متفقا عليها في دعوى عدم تغير الحال فلا يصح حينئذ استصحاب الحكم، فقد تكون الحال قد تغيرت فعلا مع أنه دليل على هذا التغير.
ويظهر هذا واضحا لنا إذا أشرنا إلى مركز المفقود وحكمه عند الفقهاء؛ أي الذين يرون منهم أن الاستصحاب حجة لعدم الاعتقاد لا لاعتقاد العدم، فإن المركز الشرعي للمفقود عندهم هو اعتباره حيا في حق نفسه، وميتا في حق غيره حتى تعرف وفاته أو يحكم بها القضاء، ويترتب على هذا أمران: (أ)
عدم قسمة أمواله بين ورثته بعد فقده؛ وذلك استصحابا لحال حياته التي لم يقم دليل بعد على تغيرها. (ب)
ألا يرث أحد ممن مات من أقاربه بعد فقده؛ لأن الميراث يقتضي اعتقاد بقائه حيا، لا عدم اعتقاد موته فحسب. لكن استصحاب الحال يصلح علة وحجة لبقاء ما كان على ما كان (وهو حال الحياة) التي تمنع قسمة أمواله بين ورثته، لا لاكتساب حقوق جديدة لا تكون إلا إذا اعتقدنا عدم موته، وهذا ما لا يكون الاستصحاب حجة فيه عندهم، ومن هؤلاء الفقهاء الأحناف.
40
على حين أن الفقهاء الآخرين الذين ذهبوا إلى أن الاستصحاب يصلح حجة في الحالين، فإنهم يرون أنه استصحاب حال حياته لبقاء ما يملكه على ملكه حتى يثبت موته حقيقة أو حكما يستلزم اعتقادنا عدم موته فيكون له حينئذ وراثة من مات بعد فقده قبل الدليل على موته حقيقة أو حكما.
ونعتقد أن الرأي الأول الذي ذهب إليه بعض الأحناف هو الأصح، كما نرى أنه هو الذي يذهب إليه بعض الحنابلة ومنهم ابن تيمية وتلميذه الأكبر ابن القيم؛ وذلك بدليل ما جاء في كتبهم من المثل والأحكام الدالة على الذهاب إليه والأخذ به.
وفي هذا يذكر ابن القيم - وهو يتكلم عن الاستصحاب وتحميله البعض فوق ما يستحقه، وجزمهم بموجبه (أي في الحالين) لعدم علمهم بتغير الحال، مع أنه ليس عدم العلم علما بالعدم - ما ينبغي أن ننقله عنه، وذلك إذ يقول لبيان معنى رأي بعض الأحناف: «إنه يصلح لأن يدفع به من ادعى تغير الحال، لإبقاء الأمر على ما كان، فإن بقاءه على ما كان إنما هو مستند إلى موجب الحكم لا إلى عدم المغير له، فإذا لم نجد دليلا نافيا ولا مثبتا أمكننا ألا نثبت الحكم ولا ننفيه، بل ندفع بالاستصحاب دعوى من أثبته.
فيكون حال المتمسك بالاستصحاب كحال المعترض مع المستدل، فهو يمنعه الدلالة حيث يثبتها، لا أنه يقيم الدليل على نفي ما ادعاه، وهذا غير حال المعارض، فالمعارض لون والمعترض لون؛ المعترض يمنع دلالة الدليل، والمعارض يسلم دلالته ويقيم على نقيضه.
وذهب الأكثرون، من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيره، إلى أنه يصلح لإبقاء الأمر على ما كان عليه؛ لأنه إذا غلب على الظن انتفاء الناقل (أي المغير للحال الأولى)، غلب على الظن بقاء الأمر على ما كان عليه.»
41
والله أعلم.
المصالح المرسلة
عني ابن القيم بفقه الإمام أحمد بن حنبل وأصوله، فعليه تخرج وصار إماما من أئمة الفقه الإسلامي، ولكن نراه حين تكلم عن أصوله الفقهية لا يذكر فيها «المصالح المرسلة».
42
وعندما تناول شيخه ابن تيمية، في إحدى رسائله، بيان أصول الفقه التي يرجع إليها استنباط الأحكام التشريعية، نراه يذكر المصالح المرسلة من بينها، ولكنه يقف موقف المتشكك فيها، والمتردد في قبولها، كما سنعرف ذلك بعد حين.
نرى هذا وذاك من الشيخ وتلميذه، وهو أمر قد يثير الدهشة والعجب في بادئ الأمر؛ وذلك بأنه من المعروف أن هذا أصل من أصول الفقه عند الحنابلة، وقد استند إليه الإمام أحمد رضي الله عنه، وكذلك ابن تيمية وابن القيم، في كثير من الأحكام التي قالوا بها كما يتضح من تراثهم الفقهي الكبير.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى نرى الإمام أحمد نفسه فقيها سلفيا يتبع نصوص الكتاب والحديث فإذا ظفر بنص في المسألة أفتى بموجبه دون التفات إلى ما خالفه أو من خالفه ولو كان من كبار الصحابة؛ ولهذا لم يلتفت إلى قول معاذ ومعاوية من الصحابة بتوريث المسلم من غير المسلم، عندما صح عنده حديث الرسول المانع من التوارث بينهما لاختلاف الدين.
ثم هو يأخذ، عند عدم النص، بفتاوى الصحابة وآرائهم ويختار عند تعددها في المسألة الواحدة أقربها من كتاب الله وسنة رسوله، فهو على كل حال لا يخرج عن رأي من هذه الآراء، حتى إنه - كما يذكر ابن القيم نفسه - كان يتوقف أحيانا عن الفتوى إن لم يجد مرجحا يرضاه لأحد تلك الآراء، كما كان لا يلجأ إلى استعمال القياس إلا للضرورة.
فإذا صح هذا، وهو صحيح، يكون من البدهي أنه كان يأخذ بأصل المصالح المرسلة كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في كثير من أحكامهم وآرائهم الفقهية، ونذكر فيها بعض المثل التي تبين ذلك أجلى بيان، وقد تناولناها في كتاب ظهر لنا منذ بضع سنوات،
43
وهي: (أ)
ليس في القرآن ولا في سنة الرسول نص يوجب أو لا يوجب جمع كتاب الله من الصدور والصحف والرقاع التي كان محفوظا فيها، ومع هذا رأى الصحابة أيام الخليفة الصديق كتابته وجمعه رعاية للمصلحة العامة، بعد أن تحرج أبو بكر أول الأمر من هذا العمل وقال: كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؟ ولكن عمر ظل يراجعه حتى شرح الله صدره له. (ب )
ثم جاء سيدنا عثمان ورأى اختلاف المسلمين، وقد ازداد تفرقهم في البلاد، في قراءة بعض حروف من القرآن، فخشي أن يؤدي الأمر إلى اختلافهم فيه كما اختلف اليهود والنصارى في كتبهم، فأمر بجمع القرآن في مصحف واحد، وفرق منه نسخا في الأقطار المختلفة، ثم أمر بما سواه من الصحف ذات القراءات المخالفة فحرقت. (ج)
منع سيدنا عمر إعطاء «المؤلفة قلوبهم» على الإسلام نصيبا من الصدقات والزكاة مع ما جاء عن ذلك في القرآن وسنة الرسول العملية، وكان من قوله في هذا لعيينة بن حصن والأقرع بن حابس: «إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كان يتألفكما والإسلام يومئذ قليل، وإن الله قد أغنى الإسلام، اذهبا فاجهدا جهدكما، لا رعى الله عليكما إن رعيتما.»
44 (د)
إبقاؤه رضي الله عنه أرض العراق وغيرها من البلاد التي فتحت في عهده في أيدي أهلها، ووضع الخراج عليهم، بدل توزيع أربعة أخماسها على الفاتحين أصحاب الحق في ذلك كما هو معروف، وكان هذا الصنيع توفيقا من الله ورعاية للمصلحة العامة للمسلمين. (ه)
جواز أن يفرض الإمام العادل على الأغنياء من المال ما لا بد منه لتكثير الجند وإعداد السلاح؛ ليكون ذلك حماية للبلاد.
45 (و)
قضاء الخلفاء الراشدين بتضمين الصناع قيمة ما يضيع عندهم من حاجات الناس وأمتعتهم، مع أنها أمانات عندهم، والأمين لا يضمن، ولكن سيدنا علي بن أبي طالب خاف الخيانة والتقصير، فقال في هذا: لا يصلح الناس إلا ذاك.
والإمام أحمد، كما قلنا، فقيه سلفي بكل معنى الكلمة، فهو بلا ريب يأخذ بفتاوى الصحابة وبمنهاجهم في الاستنباط، وهو لهذا يرى بيقين أن من أصول الفقه مبدأ المصلحة المرسلة لما فيه من تحقيق الصالح العام، ودرء المفسدة العامة أيضا.
ومن ثم، نجد له آراء وفتاوى كثيرة كان مصدرها هذا المبدأ، وبخاصة في باب السياسة الشرعية، ونحن نذكر من ذلك هذه الأمثلة مكتفين بها: (أ)
يرى أن جزاء من شرب الخمر في رمضان، أو أتى شيئا نحو هذا، هو إقامة الحد عليه مع التغليظ فيه ، كمثل الذي يقتل في الحرم - أي قتلا خطأ - فعليه دية وثلث. (ب)
يرى وجوب نفي المخنث؛ لأنه لا يقع منه إلا الفساد والتعرض له، وللإمام نفيه إلى بلد يأمن فساد أهله، وإن خاف عليهم حبسه. (ج)
ومما نص عليه أيضا أن من طعن على الصحابة يجب على السلطان عقوبته، وليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه ويستتيبه، فإن تاب وإلا أعاد العقوبة.
46
وبعد الإمام ابن حنبل نجد أصحابه وأتباعه يأخذون بهذا الأصل أيضا على ذلك النحو، ومنهم أخيرا ابن القيم ففي كتبه - مثل: «إعلام الموقعين»، و«زاد المعاد»، و«الطرق الحكمية» - الكثير من الآراء التي بنيت عليه، ونذكر المثل الآتية من كتابه الأخير:
47 (أ)
روي عن الرسول
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «لا يحتكر إلا خاطئ»؛ ولهذا - كما يقول ابن القيم - كان لولي الأمر أن يكره المحتكرين على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند ضرورة الناس إليه، ومن اضطر إلى طعام - مثلا - عند غيره لا يحتاج إليه، كان له أن يأخذ بقيمة المثل.
ولو امتنع من بيعه له إلا بأكثر من سعره، فأخذه منه بما طلب، لم يجب عليه إلا قيمة مثله؛ وذلك دفعا لضرر المحتاج، وفي الوقت نفسه لا ضرر فيه على المالك. (ب)
وكذلك يرى أن من اضطر إلى الاستدانة من الغير فأبى أن يعطيه إلا بربا أو معاملة ربوية، فأخذه منه بذلك، لم يستحق عليه للدائن إلا مقدار رأس ماله. (ج)
وبعد ذلك تكلم عن التسعير وأن منه ما هو ظلم محرم، ومنه ما هو عدل جائز، ثم قال ممثلا لهذا النوع: «وأما الثاني فمثل أن يمتنع أرباب السلع عن بيعها مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة عن القيمة المعروفة، فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل، ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل، والتسعير ها هنا إلزام بالعدل الذي ألزمهم الله به، وفيه دفع مفسدة عامة وتحقيق مصلحة.» (د)
ومن هذا النوع أيضا - كما يقول - أن يحتاج الناس إلى صناعة طائفة، كالفلاحة والنساجة وغير ذلك، فلولي الأمر أن يلزمهم بذلك بأجرة مثلهم؛ فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بذلك . (ه)
ونذكر أخيرا أنه تكلم عن الاضطرار للسكنى فقال: إذا قدر أن قوما اضطروا إلى السكنى في بيت إنسان لا يجدون سواه، أو النزول في خان مملوك - أي لغيرهم - أو استعارة ثياب يستدفئون بها، أو رحى للطحين، أو دلو لنزع الماء، أو قدر، أو فأس، أو نحو ذلك، وجب على صاحبه بذله بلا نزاع.
لكن هل يجب أن يأخذ عليه أجرا؟ فيه قولان للعلماء، وهما وجهان لأصحاب أحمد، ومن جوز له أخذ الأجرة حرم عليه أن يطلب زيادة على أجرة المثل، قال شيخنا - يريد ابن تيمية: «والصحيح أنه يجب عليه بذل ذلك مجانا، كما دل عليه الكتاب والسنة.» إلى آخر ما قال. •••
لعلنا عرفنا مما تقدم كيف أخذ الصحابة بالمصالح المرسلة، وكيف أخذ بها الإمام ابن حنبل والذين اتبعوا مذهبه ومنهجه في الأخذ بها، فكان ذلك من العوامل التي جعلت فقهه خصبا متفقا مع مقاصد الشريعة التي هي تحقيق المصالح ودرء المفاسد عن الناس، هذه المصالح التي - وإن لم يشهد لاعتبارها دليل شرعي خاص - تتفق وما جاء به الدين، ولا تخالف أصلا من أصوله.
والآن، علينا بعد ذلك أن نعرض لهذه المسائل: ما هي المصلحة المرسلة، وما هو موقف ابن تيمية منها، ولماذا تشكك وتردد فيها، وسنتناول كلا من هاتين المسألتين على هذا الترتيب:
الأولى:
يجد الباحث العليم أن كل أمر تناوله الشارع بحكم من الأحكام لا بد فيه من معنى أو وصف مناسب اقتضى هذا الحكم الشرعي، وهذا المناسب ينقسم باعتبار شهادة الشرع له بالملاءمة والتأثير وعدم ذلك إلى أقسام ثلاثة: ما يعلم أن الشارع اعتبره، وما يعلم أنه ألغاه، وما لا يعلم أنه اعتبره أو ألغاه.
والمصالح المرسلة هي هذا القسم الثالث؛ أي الذي لا يشهد له أصل من أصول الشريعة لا بالاعتبار ولا بالإلغاء، وعلى هذا يراد بها كل مصلحة غير مقيدة بنص من الشارع يدعو إلى اعتبارها أو عدم اعتبارها، ويكون في اعتبارها مع ذلك جلب نفع أو دفع ضرر، وقد يقال: إنها المصالح التي يرجع معناها إلى اعتبار أمر مناسب لا يشهد له أصل من الشارع معين.
وليس صحيحا ما يقوله بعض العلماء من اشتهار الإمام مالك ورجال مذهبه بانفرادهم بالقول بهذا الأصل والأخذ به، فإن الفقهاء - كما يقول الشوكاني - في جميع المذاهب يكتفون بمطلق المناسبة، ولا معنى للمصلحة المرسلة إلا ذلك.
48
وإذن، يكفي أن نقول بأن المالكية هم أكثر الفقهاء أخذا بهذا الأصل المختلف فيه من أصول الأحكام الفقهية.
49
ومهما يكن، فإنه يشترط لاعتبار المصالح المرسلة مصدرا أو أصلا من أصول التشريع، في رأي القائلين بها، ثلاثة شروط وهي: (أ)
أن يكون ذلك في مسائل المعاملات لا العبادات؛ لأن هذه ثابتة لا تتغير باختلاف الزمن والأحوال، ولأن الله تعالى قد تعبدنا بها كما جاءت في الكتاب والسنة. (ب)
ألا تعارض هذه المصالح مقصدا من مقاصد شريعة الله ورسوله، ولا دليلا من أدلتها المعروفة. (ج)
أن تكون مصالح حقيقية ضرورية للمجتمع، أو على الأقل أن يكون فيها تحصيل نفع أو درء ضرر حقيقي.
وقد تعرض لها الإمام الشاطبي طويلا، وبحثها من كل جهاتها، فإذا رجعنا إليه نجده يلاحظ أنه لا بد لاعتبار المصالح المرسلة من أمور ثلاثة لا تخرج عما ذكرناه، وهي ما يأتي بنص كلامه:
أحدها:
الملاءمة لمقاصد الشرع، بحيث لا تنافي أصلا من أصوله ولا دليلا من دلائله.
والثاني:
أن عامة النظر فيها إنما هو فيما عقل منها وجرى على المناسبات المعقولة التي إذا عرضت على العقول تلقتها بالقبول، فلا مدخل لها في التعبدات ولا ما يجري مجراها من الأمور الشرعية؛ لأن عامة التعبدات لا يعقل لها معنى على التفصيل، كالوضوء والصلاة والصيام في زمان مخصوص دون غيره، والحج ونحو ذلك.
والثالث:
أن حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري ورفع حرج لازم في الدين، وأيضا مرجعها إلى حفظ الضروري من باب «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب»، فهي إذن من الوسائل لا من المقاصد، ورجوعها إلى رفع الحرج راجع إلى التخفيف لا إلى التشديد.
50
المسألة الثانية:
هذه هي المصالح المرسلة كما حققها الفقهاء الأثبات، فكيف وقف الشيخ ابن تيمية منها، ولم يبين من كلامه التردد في القول بها؟ نجد الإجابة من هذا وذاك فيما كتبه فيها، فلنرجع إليه،
51
كما نجد إشارات إلى ذلك في كثير من رسائله ومؤلفاته الأخرى.
إنه يعرف المصالح المرسلة فيذكر أن الطريق السابع من طرق الأحكام الشرعية هي المصالح المرسلة، وهو أن يرى المجتهد أن هذا الفعل يجلب منفعة راجحة وليس في الشرع ما ينفيه، فهذه الطريق فيها خلاف مشهور، فالفقهاء يسمونها المصالح المرسلة، ومنهم من يسميها الرأي، وبعضهم يقرب إليها الاستحسان.
ثم ينتقل إلى نقد من يضيقون مجالها، فيقول: «لكن بعض الناس يخص المصالح المرسلة بحفظ النفوس والأموال والأعراض والعقول والأديان، وليس كذلك، بل المصالح المرسلة في جلب المنافع وفي رفع المضار، وما ذكروه من دفع المضار عن هذه الأمور الخمسة فهو أحد القسمين.»
ومجال المصالح المرسلة عنده واسع يشمل أمور الدنيا والدين، ما دام مناطها تحصيل المنافع ودفع المفاسد، وآية ذلك بقسميه قوله: «وجلب المنفعة يكون في الدنيا وفي الدين، ففي الدنيا كالمعاملات والأعمال التي يقال فيها مصلحة للخلق من غير حظر شرعي، وفي الدين ككثير من المعارف والأحوال والعبادات والزهادات التي يقال فيها مصلحة للإنسان من غير منع شرعي، فمن قصر المصالح على العقوبات التي فيها دفع الفساد عن تلك الأحوال ليحفظ الجسم، فقد قصر.»
هذا، وقد عرفنا من دراستنا لعصر ابن تيمية أنه كان زاخرا بكثير من المتصوفة وأرباب المقالات المتعددة في الإسلام، فربما كان من أعمالهم ما لم يأذن به الله ورسوله ولكنهم مع هذا يرونها أعمالا طيبة تحقق منافع وتدفع مضار كثيرة. كما كان فيه من الأمراء والسلاطين والملوك من جنحوا إلى أعمال زينها لهم بعض من يحيطون بهم، زاعمين أنها كذلك تحقق منافع وتدفع أضرارا، وهؤلاء وأولئك قد يصدق عليهم كثيرا قوله تعالى:
أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا !
ولذلك نرى شيخ الإسلام يقف موقف المتريث، ويشكك في المصالح المرسلة، ويتردد في القول والأخذ بها إلا بعد التثبت وعن بينة، وهو لهذا يقول بعد الفقرة الأخير التي نقلناها عنه: «وهذا فصل عظيم ينبغي الاهتمام به، فإنه من جهته حصل في الدين اضطراب عظيم، وكثير من الأمراء والعلماء والعباد رأوا مصالح فاستعملوها بناء على هذا الأصل، وقد يكون منها ما هو محظور في الشرع ولم يعلموه ...
وكثير منهم من أهمل مصالح يجب اعتبارها شرعا، بناء على أن الشرع لم يرد بها، ففوت واجبات ومستحبات أو وقع في محظورات ومكروهات، وقد يكون الشرع ورد بذلك ولم يعلمه.
وحجة «الفريق» الأول، أن هذه مصلحة والشرع لا يهمل المصالح، بل قد دل الكتاب والسنة والإجماع على اعتبارها، وحجة «الفريق» الثاني، أن هذا أمر لم يرد به الشرع نصا ولا قياسا.»
يتبين من هذا أن الشيخ رحمه الله وأرضاه لم يتردد في الواقع في قبول «المصالح المرسلة»، وفي اعتبارها من أصول الشريعة واستخراج أحكام ما يجد من الحوادث والوقائع، شأنه في هذا شأن إمامه وجميع الحنابلة الذين أخذوا بها.
ولكنه كان يدعو إلى الوقوف حتى يظهر بجلاء أن ذلك من المصالح المرسلة حقيقة أو ليس كذلك، وبخاصة أنه يرى بحق أن أحكام الشرع كلها تقوم على تحقيق المصالح ودفع المفاسد؛ ولذلك نراه أخيرا يقول: «والقول الجامع: إن الشريعة لا تهمل مصلحة، بل الله تعالى قد أكمل الدين وأتم النعمة، فما من شيء يقرب إلى الجنة إلا وقد حدثنا به النبي
صلى الله عليه وسلم ، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك.
لكن ما اعتقده العقل مصلحة إن كان الشرع لم يرد به، فأحد أمرين لازم له: إما أن الشرع دل عليه من حيث لم يعلم هذا الناظر، وإما أنه ليس بمصلحة واعتقده مصلحة؛ لأن المصلحة هي المنفعة الحاصلة، أو الغالبة، وكثيرا ما يتوهم الناس أن الشيء ينفع في الدين والدنيا ويكون فيه منفعة مرجوحة بالمضرة، كما قال تعالى في الخمر والميسر:
قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس .» •••
والآن، وقد وفقنا الله للكلام على أصول فقه شيخ الإسلام نأخذ في الكلام على فقهه نفسه، وسنرى إن شاء الله أثر هذه الأصول في آرائه الفقهية التي تزخر بها فتاويه ورسائله، وكم هو فقه خصب فيه توسعة على الناس في تصرفاتهم ومعاملاتهم.
ولا عجب في ذلك، فإن مرجعه الأول والأخير في هذه الآراء هو كتاب الله وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم ، والله يقول في كتابه العظيم:
وما جعل عليكم في الدين من حرج ، ويقول أيضا:
يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر .
الفصل الثاني
فقه ابن تيمية
(1) نظرة عامة
نشأ ابن تيمية حنبليا كما هو معروف، وأفاد كثيرا جدا من أصول الإمام أحمد وفقهه، إلا أنه لم يلتزمه في آرائه وفتاويه، بل كان مجتهدا يقول ويفتي بما قام عليه الدليل وإن خالف مذهب إمامه أو مذاهب الفقهاء الآخرين المعروفين.
كل من كتبوا عنه من معاصريه أو الذين جاءوا من بعده يصفونه بالفوق في الفقه وسائر العلوم الإسلامية، وبالاجتهاد الذي اجتمعت له أدواته وتوافرت فيه شروطه، وهذا الشيخ كمال الدين بن الزملكاني وكان معاصرا له، يقول عنه في كلام له: «واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها.»
1
ويذكره الحافظ الكبير أبو الحجاج المزي، وهو أستاذ أئمة الجرح والتعديل في زمنه، فيقول: «ما رأيت أحدا أعلم بكتاب الله وسنة رسوله، ولا أتبع لهما منه»، كما جاء في كتاب «شذرات الذهب» في ترجمته.
كما يقول عنه الإمام الذهبي في تاريخه الكبير: «ولقد كان عجبا في معرفة علم الحديث، فأما حفظه متون الصحاح وغالب متون السنن والمسند، فما رأيت من يدانيه في ذلك أصلا»، على ما نقله ابن رجب في «الذيل على طبقات الحنابلة».
ويضاف إلى هذا، عنايته التامة بتتبع فتاوى الصحابة والتابعين، فصار عليما بها، كما عني كذلك بدراسة فقه كل من المذاهب المعروفة فوقف على آرائهم واختلافاتهم وأسباب هذه الاختلافات، حتى «كان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جالسوه استفادوا منه في مذاهبهم أشياء» كما يذكر ابن رجب في الطبقات .
لا عجب، بعد هذا كله، إذا رأيناه قد انكسرت عنه ربقة التقليد لمذهب الإمام أحمد أو غيره، بل كان يذهب إلى ما يراه حقا وقام الدليل عليه، غير ناظر إلى موافقته أو مخالفته لأي من هذه المذاهب، كما كان فيما يختاره من مذهب إمامه ابن حنبل يصدر عن دليل لا عن تقليد.
وفي ذلك يقول الإمام الذهبي أيضا عنه في معجم شيوخه: «وفاق الناس في معرفة الفقه، واختلاف المذاهب، وفتاوى الصحابة والتابعين، بحيث إذا أفتى لم يلتزم بمذهب، بل بما يقوم دليله عنده.»
2 (2) أنواع آرائه
إن الذي يتتبع جمهرة آراء الشيخ الأكبر وفتاويه، يرى أنها تتنوع إلى مجموعات، لكل منها طابع خاص أو وصف تدخل تحته، وكان من عوامل هذا التنوع تدرج صاحبها في الزمن والبحث والتعمق فيه، وهذه الأنواع أو المجموعات هي: (أ)
آراء صدر فيها عن مذهب الإمام أحمد بن حنبل. (ب)
آراء اختارها لم يلتزم فيها مذهبا معينا، ولكنها لا تخرج عن أقوال فقهاء المذاهب المعروفة. (ج)
آراء خالف فيها كل هذه المذاهب، أو المشهور من أقوال فقهائها.
وكان من الطبعي أن يكون ترتيب آرائه وفتاويه على هذا النحو، فقد كان أول أمره حنبليا كما عرفنا؛ ومن ثم كان يتقيد غالبا بمذهب إمامه بعد بحث واقتناع بأدلته. ثم انتقل به الزمن والبحث خطوة أخرى، فطوف في محيط المذاهب المعروفة، وحلق في سماواتها، فكان يفتي بما يراه الحق غير متقيد بمذهب واحد منها، وإن كانت فتاويه في هذه الحقبة لا تخرج عن دائرتها جميعا.
وحين صارت دراساته محيطة عميقة كل العمق، واستحصد عقله وتفكيره، كانت له اجتهادات بعقله، في دائرة النصوص ومقاصد الشريعة العامة، خالف فيها هذه المذاهب جميعا، وهذا ما يضعه بعض مؤرخيه تحت عنوان «مفرداته وغرائبه».
ولا نرى ضرورة لأن نتعرض للطائفة الأولى من فتاويه، فهي كثيرة بطبيعة الحال وبخاصة في فتاويه المصرية، وليس له أصالة في استنباط أحكامها التي تدخل في دائرة المذهب الحنبلي، وإن كان له كبير فضل في تحرير هذا الآراء وبيان أدلتها ورجحانها على غيرها ولهذا رأى الأخذ بها.
ولكننا لا نجد بدا من ذكر نماذج لآرائه وفتاويه الأخرى؛ أي التي اختارها من بين المذاهب الفقهية المختلفة أو انفرد بها، وبعدها نعرض لبعض مفرداته التي خالف فيها المذاهب المعروفة، كما نعرض بعدها لبعض المسائل التي يبين فيها بوضوح مقدار عنايته بالفقه المقارن، وهذا كله على النحو التالي: (3) نماذج من اختياراته
إذا كان لابن تيمية آراء كثيرة لم يلتزم في القول أو الإفتاء بها مذهبا فقهيا معينا، ولكنها لا تخرج عن أقوال فقهاء المذاهب الأربعة المعروفة؛ فذلك لأنه يرى أن الحق في عامة مسائل الشريعة لا يخرج عنها، وهو في هذا يقول: «قول القائل: لا أتقيد بأحد هؤلاء الأربعة، إن أراد به أنه لا يتقيد بواحد بعينه دون الباقين، فقد أحسن، بل هو الصواب من القولين، وإن أراد أني لا أتقيد بها كلها بل أخالفها، فهو مخطئ في الغالب قطعا؛ إذ الحق لا يخرج عن هذه الأربعة في عامة الشريعة.
ولكن تنازع الناس: هل يخرج عنها في بعض المسائل؟ على قولين، وقد بسطنا ذلك في موضع آخر.»
3
هذا ونعرض هنا بعض هذه الآراء التي اختارها، وذلك من كتابه «الاختيارات العلمية»،
4
وهي آراء تعالج مسائل اجتماعية سواء ما كان منها في العبادات والمعاملات.
في الزكاة
هل يجوز نقل زكاة أهل بلد إلى فقراء بلد آخر؟ وهل يجوز نقلها من الريف إلى فقراء أهل المصر الجامع؟ في الإجابة عن هذين السؤالين يختلف الفقهاء، وقد تعرض ابن تيمية لذلك إذ يقول: «وإذا نقل الزكاة إلى المستحقين بالمصر الجامع، مثل أن يعطي من بالقاهرة من العشور التي بأرض مصر، فالصحيح جواز ذلك؛ فإن سكان المصر إنما يعانون من مزارعهم (أي مزارع أهل غير المصر)، بخلاف النقل من إقليم مع حاجة أهل الإقليم المنقول عنه.»
5
وهل يجوز إعطاء شيء من الزكاة لمن لا يقوم بما عليه من طاعة الله والعمل بشرائعه؟ يقرر ابن تيمية في ذلك أنه لا ينبغي أن يعطي الزكاة لمن لا يستعين بها على طاعة الله، فإن الله فرضها معونة على طاعته، فمن لا يصلي (مثلا) من أهل الحاجات الذين هم من مصارف الزكاة، لا يعطى شيئا حتى يتوب ويلتزم أداء الصلاة.
6
ويصدر ابن تيمية رحمه الله في هذا عن أصل له في باب الأطعمة من كتاب «الاختيارات العلمية» السابق ذكره، وذلك إذ يقول: «والأصل فيها (أي في الأطعمة) الحل لمسلم يعمل صالحا؛ لأن الله تعالى إنما أحل الطيبات لمن يستعين بها على طاعته لا في معصيته، لقوله تعالى:
ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات .»
ولهذا لا يجوز أن يعان بالمباح على المعصية، كمن يعطي اللحم والخبز لمن يشرب عليه الخمر ويستعين به على الفواحش، إلى آخر ما قال.
ولعل مما جعل ابن تيمية يتخذ هذا أصلا له، ويبني عليه عدم جواز إعطاء الزكاة لمن لا يستعين بها على طاعة الله (وإن كان لنا في هذا الرأي مقال)، رغبته الشديدة في جعل المجتمع الإسلامي مجتمعا مثاليا لا يخالف فيه أحد عن أمر الله ورسوله في عامة أحواله.
هذا، ومن المعروف أن من عليه الزكاة تبرأ ذمته منها إذا أعطاها بنفسه لأحد مصارفها، أو سلمها له وكيله في دفعها، أو أعطاها للوالي الذي هو بحكم منصبه نائب عن المسلمين جميعا، فهل تبرأ ذمته بإعطائها لولي الأمر عادلا كان أو ظالما؟
هنا نجد ابن تيمية يقول: «ويبدأ بدفع الزكاة إلى ولي الأمر العادل. وإن كان ظالما لا يصرف الزكاة في المصارف الشرعية، فينبغي لصاحبها ألا يدفعها إليه، فإن حصل له ضرر بعدم دفعها إليه، فإنه يجزئ عنه إذا أخذت منه في هذه الحالة عند أكثر العلماء. وهم في هذه الحالة ظلموا مستحقها، كولي اليتيم وناظر الوقف إذا قبضا المال وصرفاه في غير مصارفه الشرعية.»
7
في البيع
المعروف أن العقد يتم إذا اتصل الإيجاب بالقبول وإذا توافرت في كل منهما شروطه الصحيحة شرعا، ولكن قد يتخذ أحد المتعاقدين من العقد سببا غير مشروع، فهل ينعقد العقد حينئذ، ويكون صحيحا شرعا لوجود ركنه وهو مجموع الإيجاب والقبول؟ أو يعتبر غير صحيح لسببه غير المشروع؟
يرى أبو حنيفة والشافعي صحة هذا العقد لأن ركنه وهو الإيجاب والقبول قد تحقق، ونية السبب أو الغرض غير المباح شرعا مستترة فيترك أمره لله وحده.
ولكن الصاحبين وابن حنبل يرون عدم صحة هذا الضرب من العقود، ولا يجعلون للإيجاب والقبول أثرا متى قام الدليل أو القرينة الصحيحة على هذا القصد الآثم، وقد اختار ابن تيمية هذا الرأي.
وعلى ذلك، يكون بيع عصير ممن يتخذه خمرا صحيحا على الرأي الأول، ويكون باطلا على الرأي الثاني الذي اختاره ابن تيمية إذ يقول: «ولا يصح بيع ما قصد به الحرام كعصير يتخذه خمرا إذا علم ذلك، كمذهب أحمد وغيره، أو ظن، وهو أحد القولين، يؤيده أن الأصحاب قالوا لو ظن الآجر أن المستأجر يستأجر الدار لمعصية كبيع الخمر ونحوه لم يجز له أن يؤجره تلك الدار ولم تصح الإجارة، والبيع والإجارة سواء.»
8
وفي بيان هذا الرأي نجد ابن قدامة المقدسي الحنبلي (توفي سنة 620ه) يقول: «إن بيع العصير لمن يعتقد أنه يتخذه خمرا محرم ... إذا ثبت هذا، فإنما يحرم البيع ويبطل إذا علم قصد المشتري بذلك، إما بقوله، وإما بقرائن مختصة به تدل على ذلك، فإن كان محتملا، مثلا أن يشتريه من لا يعلم حاله أو من يعمل الخمر والخل معا، ولم يلفظ بما يدل على إرادة الخمر، فالبيع جائز.
وإذا ثبت التحريم فالبيع باطل، ويحتمل أن يصح وهو مذهب الشافعي»، إلى آخر ما قال، وفيه استدلال جيد لمذهب القائلين بعدم صحة العقد.
9
ونحن نرى أن الرأي الذي اختاره ابن تيمية هو الأولى بالاتباع، فإنه رأي يساعد على تصحيح الأوضاع الفاسدة في المجتمع، ويتفق مع قول الرسول
صلى الله عليه وسلم : «إنما الأعمال بالنيات.» وليس يغني عن اتباع الإمامين أبي حنيفة والشافعي ما ذهبوا إليه لتصحيح الرأي الآخر وترجيحه، ومنهم الطحاوي إذ يقول: «ومن كان له عصير فلا بأس عليه ببيعه، وليس عليه أن يقصد بذلك إلى من يأمنه أن يتخذه خمرا دون من يخاف ذلك عليه؛ لأن العصير حلال فبيعه حلال ، كبيع ما سواه من الأشياء الحلال مما ليس على بائعها الكشف عما يفعله المشتري بها.»
10
ليس يغني هذا التدليل من الحق شيئا في رأينا، وبخاصة الأحناف الذين يقولون دائما: العبرة بالمعاني لا بالألفاظ والمباني، والله أعلم.
في الهبة
يذكر ابن تيمية، في باب الهبة من كتاب الاختيارات، أنه لا يجوز للإنسان أن يقبل هدية من شخص ليشفع له عند ذي أمر، أو ليرفع عنه ظلما، أو ليوصل إليه حقه، أو يوليه ولاية يستحقها، أو يستخدمه في الجند المقاتلة، وهو مستحق لذلك.
وإذا كان لا يجوز شرعا أن يقبل الإنسان هدايا أو هبات لهذه الأعمال وأمثالها، فإنه يجوز للإنسان أن يبذل ما يتوصل به إلى أخذ حقه أو دفع الظلم عنه، وكل هذا وذاك هو المنقول عن السلف والأئمة الأكابر، وفيه حديث مرفوع رواه أبو داود وغيره.
وقد تعرض الشيخ رحمه الله لهذا الموضوع بتفصيل في فتاويه المصرية، فذكر - بعد أن بين ذلك الرأي الذي اختاره - أنه قد رخص بعض المتأخرين من الفقهاء في قبول الهدية لمثل تلك الأعمال ويكون ذلك من باب «الجعالة»، ثم قال: وهو مخالف للسنة وأقوال الصحابة رضي الله عنهم والأئمة، فهو غلط.
وأفاض في بيان أن هذا الرأي غلط وخطأ من ناحيتين؛ الأولى: أن هذا ليس من باب الجعالة في شيء؛ لأنه في الجعالة يكون النفع للجاعل الباذل، وهنا «إنما المنفعة لعموم الناس، أعني المسلمين، فإنه يجب أن يولى في كل مرتبة أصلح من يقدر عليها ... وهذا واجب على الإمام، وعلى الأئمة أن يعاونوه في ذلك، فمن أخذ جعلا من شخص معين على ذلك أفضى إلى أن تطلب هذه الأمور بالعوض، ونفس طلب الولاية منهي عنه فكيف بالعوض!»
ومن الناحية الثانية، يلزم من إجازة قبول الهدية لمثل ذلك ضرر كبير تام إذا كان الأمر أمر تولية عمل من الأعمال؛ أي ينتهي الحال إلى «تولية الجاهل والفاسق والفاجر، ويترك العالم العادل القادر، وأن يرزق في ديوان المقاتلة الفاسق والجبان العاجز عن القتال، ويترك العدل والشجاع النافع للمسلمين ، وفساد هذا كثير.»
وبعد أن انتهى الشيخ من ذكر ما يجوز وما لا يجوز في هذه المسألة، نراه لا يترك المشكلة دون حل، بل يذكر أن على ذي الجاه أن يساعد المستحق بجاهه بلا عوض، وكذلك المظلوم حتى يصل إلى حقه ويرفع عنه ظلمه، وأن ينصح لأولي الأمر بأن يبين لهم من يستحق الولاية والعطاء ومن لا يستحق، فإن هذا من أعظم ما يجب عليه من ضروب طاعة الله ورسوله.
11 (4) من مفرداته وغرائبه
كان الشيخ رحمه الله تعالى يفتي بما أداه إليه اجتهاده، فتارة يوافق بعض أئمة المذاهب الأربعة، وتارة يخالفهم جميعا أو يخالف المعروف من آرائهم ومذاهبهم، وهذا هو ما يسميه كثير من مؤرخيه بمفرداته وغرائبه في الفقه.
ونذكر هنا جملة من هذه المفردات والغرائب التي حوكم بسبب البعض منها ومنع من الإفتاء بها، راجعين إلى «العقود الدرية» لابن عبد الهادي، و«طبقات ابن رجب»، و«شذرات الذهب» لابن العماد،
12
ومكتفين منها بذكر ما يلي:
القول بقصر الصلاة في كل ما يسمى سفرا، طويلا كان أو قصيرا، كما هو مذهب الظاهرية وقول بعض الصحابة.
القول بأن البكر لا تستبرأ وإن كانت كبيرة، كما هو قول ابن عمر، واختاره البخاري أيضا.
القول بأن من أكل في شهر رمضان معتقدا أنه ليل فبان أنه نهار، لا قضاء عليه كما هو الصحيح عن عمر بن الخطاب، وإليه ذهب بعض التابعين وبعض الفقهاء بعدهم.
القول بأن المتمتع يكفيه سعي واحد بين الصفا والمروة، كما هو في القارن والمفرد، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما.
القول باستبراء المختلعة بحيضة، وكذلك الموطوءة بشبهة، والمطلقة آخر ثلاث تطليقات.
القول بإباحة وطء الوثنيات بملك اليمين؛ أي مثل إماء أهل الكتاب.
القول بجواز التيمم، مع وجود الماء، لمن خاف فوات العيد والجمعة أو وقت صلاة أخرى من الصلوات المكتوبة إذا استعمل الماء.
القول الذي مال إليه أخيرا بتوريث المسلم من الكافر الذمي، وله في ذلك بحث طويل.
القول بعدم وقوع الطلاق بالحلف به إذا حنث، وليس على الحالف حينئذ إلا كفارة اليمين، وقد جرى له بسبب هذا الرأي محن وقلاقل معروفة.
القول بأن الطلاق الثلاث بلفظ واحد لا يقع إلا واحدة، ومن الغريب أن هذا هو الحكم الذي كان عليه العمل أيام الرسول، وأبي بكر، وصدرا من خلافة عمر!
القول بأن المرأة إذا لم يمكنها الاغتسال في البيت، أو شق عليها النزول إلى الحمام وتكرره، لها أن تتيمم وتصلي.
القول بأنه لا حد لأقل الحيض ولا لأكثره، ولا لأقل الطهر بين الحيضتين، ولا بسن الإياس من الحيض؛ فإن ذلك يرجع إلى ما تعرفه كل امرأة من نفسها.
القول بأن تارك الصلاة عمدا لا قضاء عليه ولا يشرع له القضاء، بل عليه الإكثار من النوافل رجاء غفران الله له.
القول بأن سجود التلاوة لا يشترط له طهارة، كما هو مذهب ابن عمر واختيار البخاري.
القول بجواز بيع ما يتخذ من الفضة للتحلي وغيره كالخاتم ونحوه بالفضة متفاضلا، وجعل الزيادة في الثمن في مقابل الصنعة.
القول بأن المائع لا ينجس بوقوع النجاسة فيه إلا أن يتغير، قليلا كان أو كثيرا.
تلك طائفة من اجتهادات ابن تيمية رحمه الله تعالى، التي عدت من مفرداته؛ لأنه خالف بها فقهاء المذاهب الأربعة المعروفة، أو خالف على الأقل الأقوال المشهورة المعروفة لهم، وهي تدل على باع طويل في الاجتهاد، وعلى شجاعة في الجهر بما رآه حقا وإن خالف غيره من جلة الفقهاء، وإن حصل له بلاء بسبب ما يجهر به. (5) من دراساته المقارنة
نتناول بالعرض هنا مسألة واحدة من أهم المسائل التي يجب بحثها في زماننا هذا وفي كل زمان، وهي مدى حرية المتعاقدين فيما يعقدان من عقود ويشترطان من شروط، وقد أفاض في بحثها بحثا مقارنا الشيخ ابن تيمية رحمه الله وأجزل ثوابه، وذلك على ما جاء في رسالته عن العقود والشروط التي نشرت في مجموعة فتاويه الكبرى.
ولهذه المسألة أهميتها وخطرها الكبير حقا؛ وذلك لأننا - كما ذكرنا في كتاب ظهر لنا منذ بضع سنين
13 - نعلم أن لإرادة الإنسان التأثير الأول في عقوده التي يعقدها وشروطه التي يشترطها، ونعلم أن الناس يعرفون اليوم من العقود والشروط ما لم يكن يعرفه أسلافهم؛ نظرا للحاجة التي تتجدد بتجدد الزمن.
فهل يكون للإنسان، مع هذا وذاك، أن يعقد ما شاء من عقود، ويشترط ما شاء من الشروط، ويكون ما يعمله جائزا شرعا؟ بمعنى هل يعتبر كل ما يكون من ذلك صحيحا شرعا، ما دام قد أراده والتزمه من نفسه كما أراده والتزمه من يتعاقد معه؟
وللإجابة عن هذا السؤال، نذكر أولا أن الأمر في القانون الوضعي واضح، فإنه لم يراع إلا الإرادة الحرة لكل من المتعاقدين، فكل عقد أو شرط يكون صحيحا متى صدر عن إرادة حرة؛ لهذا نرى الأستاذ الدكتور السنهوري يقول حرفيا ما يلي: «قد لخص «ديموج
Demogue » نظرية سلطان الإرادة في ست؛ أولا: التعاقد وهو حر في حدود النظام العام. ثانيا: الالتزام وهو ما أراده المتعاقدان. ثالثا: العبرة بالإرادة الباطنة لا بالإرادة الظاهرة. رابعا: يفسر القاضي العقد طبقا لنية المتعاقدين الصريحة والضمنية. خامسا: لا يجوز تعديل العقد إلا بإرادة المتعاقدين الصريحة والضمنية. سادسا: لا ينقضي الالتزام إلا بإرادة المتعاقدين.
14
ومعنى هذا أن السلطان الأول والأخير، في إنشاء العقد وآثاره التي تترتب عليه، هو لإرادة المتعاقدين، دون النظر إلى ما قد يكون من عدم تعادل في الغنم والغرم بينهما؛ أي دون نظر إلى ما قد يصيب أحدهما من غبن فاحش.
هذا هو شأن القانون الوضعي، ولكن الفقه الإسلامي الذي يقوم على كتاب الله وسنة رسوله ينظر إلى الأمر نظرة أخرى؛ وذلك بأنه يرى أن إرادة المتعاقدين هي التي تنشئ العقد حقا، ولكن الشريعة تتدخل في ترتيب ما لكل عقد من أحكام وآثار؛ ولهذا يقول الفقهاء بحق بأن العقود أسباب «جعلية شرعية» لأحكامها ومقتضياتها وآثارها.
إنهم يريدون أن يقولوا بأن الرابطة بين العقد وأحكامه وآثاره، باعتبار أنه سبب وهذه الأحكام والآثار مسبب عنه، ليست رابطة طبيعية عقلية، بمعنى أنه متى وجد السبب ترتب عليه وجود المسبب حتما، بل هي رابطة جعلها الشارع بينهما، ولكننا اعتدنا وجودها دائما، فاعتقدنا أنها طبيعية يوجبها العقل وطبائع الأشياء.
ومسألة ترتب آثار العقود وأحكامها عليها، على اعتبار أن العقود أسباب جعلية من الشارع، مسألة يكاد يجمع عليها الفقهاء؛ ولهذا تكون إرادة الإنسان مقصورة على إنشاء العقد فقط، أما آثاره فهي من عمل الشارع؛ حتى لا يبغي بعض الناس على بعض بما يشترطون.
وفي ذلك نجد الإمام الغزالي (توفي سنة 505ه) يقرر أن الله هو الذي أضاف الأحكام إلى أسبابها؛ لأن الأسباب لا توجب الحكم لذاتها بل بإيجاب الله تعالى، فالسبب هو ما يحصل الحكم عنده، لا به.
15
وكذلك يذهب الإمام أبو إسحاق الشاطبي (توفي سنة 790ه) هذا المذهب؛ إذ يقول: «إن الذي للمكلف تعاطي الأسباب، وإنما المسببات من فعل الله تعالى وحكمه، لا كسب فيه للمكلف، وهذا يتبين في علم آخر، والقرآن والسنة دالان عليه.»
16
هذا، وإذا كان رجال الفقه الإسلامي على اتفاق في هذه الناحية، ومنهم ابن تيمية، فإنهم ليسوا على اتفاق فيما يختص بمدى حرية المتعاقدين في إبرام العقود التي يرونها، وفي اشتراط ما يشاءون من شروط.
فهناك المضيقون وهم الظاهرية الذين يرون أن الأصل في العقود والشروط هو الحظر، فلا يجوز منها إلى ما ورد به الشرع وأجازه، ومعنى هذا أنه يكاد لا يكون لإرادة المتعاقدين أي سلطان أو أثر.
وهناك الفقهاء أصحاب المذاهب الأخرى الذين يرون أن الأصل في العقود والشروط هو الحل والإباحة، فلا يحرم منها إلا ما جاء الشرع بتحريمه والمنع منه.
وهؤلاء في التوسعة على الناس في معاملاتهم على درجات مختلفة، فمنهم الأحناف ثم الشافعية الذين لا يكادون يفرقون عنهم من ناحية الأسس والأصول، وإن كانوا أقل توسعة منهم في ناحية التطبيقات.
ثم يجيء المالكية الذين وسعوا على الناس أكثر من الأحناف، وأخيرا الحنابلة - وبخاصة ابن تيمية وأتباعه منهم - الذين جروا في التوسع والتيسير إلى آخر الشوط، وكانوا فيما ذهبوا إليه متفقين مع ما عرف به الإسلام من رفع للحرج وتيسير. •••
والآن، بعد هذه المقدمة التي لم يكن منها بد في رأينا، نبدأ في بيان معالجة الإمام ابن تيمية للمسألة، وكيف كان محيطا بالمذاهب والآراء الفقهية فيما على اختلافها، وباستدلال كل فريق لما ذهب إليه، وأخيرا نعرض رأيه الحق الذي ذهب إليه واستدل له بما فيه مقنع وبلاغ لمن يطلب الحق ويعتنقه مع ما قام عليه الدليل.
إنه رحمه الله يذكر أن العقود في المعاملات المالية وغيرها لها قواعد جامعة عظيمة المنفعة، ثم أخذ يتكلم عن هذه القواعد واحدة بعد الأخرى، وجعل القاعدة الثالثة في العقود والشروط، ما يحل منها وما يحرم، وما يصح منها وما يفسد، ثم قال: «ومسائل هذا القاعدة كثيرة جدا، والذي يمكن ضبطه منها قولان؛ أحدهما: أن يقال إن الأصل في العقود والشروط الحظر إلا ما ورد الشرع بإجازته، وهذا قول أهل الظاهر، وكثير من أصول أبي حنيفة تبنى على هذا، وكثير من أصول الشافعي، وأصول طائفة من أصحاب مالك وأحمد.»
17
وبعد هذا الإجمال أو الإشارة إلى مذاهب الفقهاء، شرع في تفصيل هذا الإجمال بالنسبة لهم جميعا فقال: «فإن أحمد قد يعلل أحيانا بطلان العقد بكونه لم يرد به أثر ولا قياس، كما قال في إحدى الروايتين في وقف الإنسان على نفسه، وكذلك طائفة من أصحابه قد يعللون فساد الشروط بأنها تخالف مقتضى العقد، ويقولون ما خالف مقتضى العقد فهو باطل.
وأما أهل الظاهر فلم يصححوا لا عقدا ولا شرطا إلا ما ثبت جوازه بنص أو إجماع، وإذا لم يثبت جوازه أبطلوه واستصحبوا الحكم الذي قبله، وطردوا ذلك طردا جاريا، لكن خرجوا في كثير منه إلى أقوال ينكرها عليهم غيرهم.
وأما أبو حنيفة فأصوله تقتضي أنه لا يصح في العقود شرط يخالف مقتضاه المطلق، وإنما يصحح الشرط في المعقود عليه إذا كان العقد مما يمكن فسخه؛ ولهذا له أن يشترط في البيع خيارا، ولا يجوز عنده تأخير تسليم المبيع بحال؛ ولهذا منع بيع العين المؤجرة، وإذا ابتاع شجرا عليه ثمر للبائع فله مطالبته بإزالته ...
ولم يصحح في (عقد) النكاح شرطا أصلا؛ لأن النكاح عنده لا يقبل الفسخ؛ ولهذا لا ينفسخ عنده بعيب أو إعسار ونحوهما، ولا يبطل بالشروط الفاسدة مطلقا، وإنما صحح أبو حنيفة خيار الثلاث للأثر وهو عنده موضع استحسان.
والشافعي يوافقه على أن كل شرط خالف مقتضى العقد فهو باطل، لكنه يستثني مواضع الدليل الخاص، فلا يجوز شرط الخيار أكثر من ثلاث، ولا استثناء منفعة المبيع، ونحو ذلك مما فيه تأخير تسليم المبيع.
ولكنه يجوز استثناء المنفعة بالشرع، كبيع العين المؤجرة على الصحيح من مذهبه، وكبيع الشجر مع استبقاء الثمرة المستحقة للبقاء، ونحو ذلك، ويجوز في النكاح بعض الشروط دون بعض، فلا يجوز اشتراط دارها أو بلدها، أو لا يتزوج عليها ولا يتسرى، ويجوز اشتراط حريتها وإسلامها، وكذلك سائر الصفات المقصودة على الصحيح من مذهبه كالجمال ونحوه ...
وطائفة من أصحاب أحمد يوافقون الشافعي على معاني هذه الأصول لكنهم يستثنون أكثر مما يستثنيه الشافعي، كالخيار أكثر من ثلاث، وكاستثناء البائع منفعة المبيع، واشتراط المرأة ألا ينقلها وألا يزاحمها بغيرها، فيقولون كل شرط ينافي مقتضى العقد فهو باطل، إلا إذا كان فيه مصلحة للعاقد.
وذلك أن نصوص أحمد تقتضي أنه يجوز من الشروط في العقود أكثر مما جوزه الشافعي، فقد يوافقونه في الأصل ويستثنون للمعارض أكثر مما استثنى، كما قد يوافق هو أبا حنيفة ويستثني أكثر مما يستثني للمعارض.
وهؤلاء الفرق الثلاثة يخالفون أهل الظاهر، ويتوسعون في الشروط أكثر منهم؛ لقولهم بالقياس والمعاني وآثار الصحابة رضي الله عنهم، ولما قد يفهمونه من معاني النصوص التي ينفردون بها عن أهل الظاهر.»
هكذا يذكر ابن تيمية آراء الأئمة الفقهاء في دقة وتفصيل، ويقارن بعضها ببعض مبينا أصل كل منهم وما رأى استثناءه عن هذا الأصل وعلة هذا الاستثناء أو أساسه.
هذا، والذين ذهبوا إلى المنع من العقود والشروط إلا ما أذن به الشارع، بأن جاء به نص أو إجماع، وعلى رأسهم أهل الظاهر، يقولون بأن الشريعة الصالحة يجب أن تنظم شئون الأمة جميعا، وبخاصة العقود التي تقوم عليها المعاملات بين الناس، على أساس من العدل ينفي أن يضار بعض الناس ببعض، وهذا ما لا يكون إن تركت لهم الحرية في عقد ما يريدون من عقود واشتراط ما يرون من شروط.
وبخاصة أن الله قد أمرنا بالوفاء بالعقود والشروط، فإذا تعاقدنا أو شرطنا ما لم يرد في الشريعة وأصولها، ثم أوجبنا على أنفسنا الوفاء بما التزمنا من عقد أو شرط، نكون قد أحللنا أو حرمنا على غير ما شرع الله وأذن به، وهذا ما لا يجوز بحال.
كما يستدل الظاهرية لمذهبهم أيضا بما روي أن الرسول
صلى الله عليه وسلم
قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد»؛ أي مردود عليه وباطل.
ولذلك نرى ابن حزم، بعد أن روى هذا الحديث ورضيه يقول: «فصح بهذا النص بطلان كل عقد عقده الإنسان والتزمه، إلا ما صح أن يكون عقدا جاء النص أو الإجماع بإلزامه باسمه أو بإباحة التزامه بعينه.»
18
وهم يستدلون أيضا بحديث هو معتمدهم في هذا الباب كما يقول ابن تيمية، وهذا الحديث جاء في الصحيحين، ونصه هكذا كما رواه الإمام البخاري: «عن عائشة رضي الله عنها أن «بريرة» جاءت تستعينها في كتابتها،
19
ولم تكن قضت من كتابتها شيئا، فقالت لها عائشة: ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك ويكون ولاؤك لي فعلت.
فذكرت ذلك بريرة لأهلها فأبوا وقالوا: إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل، ويكون ولاؤك لنا.
قالت (أي السيدة عائشة): فذكرت ذلك لرسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فقال لها رسول الله
صلى الله عليه وسلم : ابتاعي فأعتقي، فإنما الولاء لمن أعتق.
ثم قام رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فقال: ما بال أناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟! من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له، وإن اشترط مائة شرط، شرط الله أحق وأوثق.»
وفي رواية أخرى أنه
صلى الله عليه وسلم
قال في حديثه: «ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق.»
وإذا كان مجرد شرط من الشروط في عقد من العقود يكون باطلا؛ لأنه لم يرد به نص أو لم يثبت جوازه بالإجماع، فبالأولى يكون العقد الذي هذه صفته باطلا ولا يجب الوفاء به.
وبعد أن ذكر الإمام ابن تيمية هذا الحديث الذي يعتمد عليه أولئك المضيقون في العقود والشروط، قال: «ولهم من هذا الحديث حجتان؛ إحداهما: قوله (أي الرسول) ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، فكل شرط ليس في القرآن ولا في الحديث ولا في الإجماع فليس في كتاب الله، بخلاف ما كان في السنة أو في الإجماع فإنه في كتاب الله بواسطة دلالته على اتباع السنة بالإجماع.
ومن قال بالقياس، وهم الجمهور (أي غير الظاهرية)، إذا دل على صحته (أي صحة الشرط) القياس المدلول عليه بالسنة أو بالإجماع المدلول عليه بكتاب الله، فهو في كتاب الله.
والحجة الثانية: أنهم يقيسون جميع الشروط التي تنافي مقتضى العقد على اشتراط الولاء؛ لأن العلة فيه كونه مخالفا لمقتضى العقد؛ وذلك لأن العقود توجب مقتضياتها بالشرع، فإذن إرادة تغييرها تغيير لما أوجبه الشرع»، إلى آخر ما قال.
20 •••
وهكذا نرى الشيخ رضي الله عنه أمينا كل الأمانة في حكاية آراء الذين ذهبوا إلى القول الأول في المسألة موضوع البحث، وفي بيان ما استدلوا به لمذهبهم.
وبعد ذلك بين أن القول الثاني هو أن الأصل في العقود والشروط هو الحل والصحة، فلا يحرم ويبطل منها إلا ما دل على تحريمه وإبطاله نص من الكتاب أو السنة، أو قياس صحيح عند من يقول بالقياس، ثم قال: «وأصول أحمد رضي الله عنه - المنصوص عنه أكثرها - تجري على هذا القول، ومالك قريب منه، لكن أحمد أكثر تصحيحا للشروط، فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحا للشروط منه.
وعامة ما يصححه أحمد من العقود والشروط فيها تنبيه بدليل خاص من أثر أو قياس، لكنه لا يجعل حجة الأولين مانعا من الصحة، ولا يعارض ذلك بكونه شرطا يخالف مقتضى العقد، أو لم يرد به نص.
وكان قد بلغه ما في العقود والشروط من الآثار ، عن النبي
صلى الله عليه وسلم
والصحابة، ما لم يجده عند غيره من الأئمة فقال بذلك وبما في معناه قياسا عليه، وما اعتمده غيره في إبطال الشروط من نص فقد يضعفه أو يضعف دلالته، وكذلك قد يضعف ما اعتمدوه من قياس، وقد يعتمد طائفة من أصحاب أحمد عمومات الكتاب - التي سنذكرها - في تصحيح الشروط.»
وبناء على هذا الأصل، يجوز الإمام أحمد للبائع - كما يذكر ابن تيمية - أن يستثني بعض منفعة المبيع، كخدمة العبد وسكنى الدار ونحو ذلك، إذا كانت تلك المنفعة مما يجوز استثناؤها في ملك الغير.
كما يجوز أيضا للمعتق أن يستثني خدمة العبد مدة حياته، أو مدة حياة السيد، أو مدة حياة غيرهما، وذلك اتباعا لحديث سفينة لما أعتقته أم سلمة وشرطت عليه خدمة النبي
صلى الله عليه وسلم
ما عاش.
وكذلك يجيز الإمام ابن حنبل أيضا في عقد الزواج عامة الشروط التي للمشترط فيها غرض صحيح، لما في الصحيحين عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «إن أحق الشروط أن توافوا به ما استحللتم به الفروج.»
فيجيز للزوجة مثلا أن تشترط ألا تسافر مع زوجها، ولا تنتقل من دارها، أو لا يتزوج عليها، أو أن يشترط كل من الزوجين في الآخر صفة يصح قصدها، كاليسار والجمال ونحو ذلك ويكون له الفسخ بفوات ما اشترطه في العقد. •••
وبعد أن انتهى الشيخ رحمه الله من بيان القول الثاني في المسألة، وهو القول الذي ذهب إليه الإمام ابن حنبل وقاربه الإمام مالك في الأخذ به، أبان صراحة عن رأيه حيث قال:
وجماع ذلك أن الملك يستفاد به تصرفات متنوعة، فكما جاز بالإجماع استثناء بعض المبيع وجوز أحمد وغيره استثناء بعض منافعه، جوز أيضا استثناء بعض التصرفات.
وعلى هذا فمن قال: هذا الشرط ينافي مقتضى العقد مطلقا، فإن أراد الأول فكل شرط كذلك، وإن أراد الثاني لم يسلم له وإنما المحذور أن ينافي مقصود العقد، كاشتراط الطلاق في (عقد) النكاح، أو اشتراط الفسخ في العقد.
فأما إذا شرط شرطا يقصد بالعقد (كان هذا الشرط) لم يناف مقصوده. وهذا القول هو الصحيح بدلالة الكتاب والسنة والإجماع، والاعتبار (يريد به القياس)، مع الاستصحاب والدليل النافي.
21
ثم أخذ بعد ذلك يفيض في الاستدلال لما ذهب إليه بهذه الأدلة الشرعية كلها، وهذا ما لا نرى ضرورة تتبعه فيه بالتفصيل، ونكتفي بهذه منها:
22 (أ)
أمر الله سبحانه وتعالى في آيات كثيرة من القرآن بالوفاء بالعقود بوجه عام، فيدخل في هذا ما التزمه الإنسان وعقده على نفسه من عقد بالمعنى المعروف، ومن شرط في عقد من العقود.
وكذلك أمرنا برعاية العهد بعامة، وفي بعض الآيات برعاية عهد الله، فيدخل في ذلك أيضا ما عقده المرء على نفسه، فإذا كانت رعاية العهد واجبة، فإن رعايته هي وجوب الوفاء به. (ب)
وورد عن الرسول
صلى الله عليه وسلم
أحاديث كثيرة تأمر بالوفاء بالوعد والعهد، وتنهى عن الغدر وتذم الغادرين ذما شديدا. وإذا كان من المسلم به أن كل من شرط شرطا ثم نقضه فقد غدر، يكون من الواضح أنه «قد جاء الكتاب والسنة بالأمر بالعهود والشروط والمواثيق والعقود، ولو كان الأصل فيها الحظر والفساد إلا ما أباحه الشارع، لم يجز أن يؤمر بها مطلقا ويذم من نقضها وغدر مطلقا.»
ومما جاء عن الرسول في ذلك قوله من حديث له: «والمسلمون على شروطهم، إلا شرط حرم حلالا أو أحل حراما»، وهو حديث حسن صحيح كما قال الترمذي، وكذلك قوله: «الناس على شروطهم ما وافقت الحق.» (ج)
وأما قوله
صلى الله عليه وسلم : «من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق»، فإن معناه أن الشرط يكون باطلا إذا خالف كتاب الله بأن يكون المشروط مما حرم الله، فإن كان المشروط ليس مما حرمه الله، فلا يكون مخالفا كتابه.
وبعبارة أخرى، يكون المعنى أن من اشترط أمرا ليس في حكم الله أو في كتابه بواسطة أو بغير واسطة فهو باطل؛ لأنه لا بد أن يكون المشروط مما يباح فعله بدون الشرط حتى يصح اشتراطه، وحينئذ يكون بالشرط واجبا ويلزم الوفاء به.
وأيضا، فإن الشرط الذي دل الإجماع أو القياس على صحته، وإن لم يرد نصا في الكتاب والسنة، يكون قد دل عليه بأحدهما بواسطة؛ لأن الإجماع والقياس لا بد أن يكون لهما سند من كتاب الله أو سنة رسوله. (د)
وبعد ذلك، فإن الأصل في العقود، وما يكون فيها من الشروط هو رضا كل من المتعاقدين بما يوجبه على نفسه بالتعاقد؛ لأن الله يقول في كتابه (سورة النساء الآية رقم 29):
يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم .
وإذا كان الله لم يشترط في صحة التجارة (ومعناها كل عقود المعاملات) إلا التراضي، فإن هذا يقتضي صحة ما يتراضى المتعاقدان من عقود وشروط بدلالة القرآن نفسه، إلا أن يكون في ذلك ما حرمه الله فإنه يكون باطلا كالتجارة في الخمر ونحو ذلك.
هذا، ونختم هذا البحث الفقهي الدقيق المقارن للشيخ رحمة الله في هذه المسألة الهامة، مسألة العقود والشروط، بكلمة موجزة محكمة له في وجوب رعاية مقاصد المتعاقدين ما دام ليس فيها ما يخالف الكتاب والسنة، وذلك إذ يقول: «ومقاصد العقلاء إذا دخلت في العقود، وكانت من الصلاح الذي هو المقصود، لم تذهب عفوا ولم تهدر رأسا، كالآجال في الأعواض، ونقود الأثمان المعينة ببعض البلدان، والصفات في المبيعات، والحرفة المشروطة في أحد الزوجين، وقد تفيد الشروط ما لا يفيده الإطلاق، بل ما يخالف الإطلاق.»
23
وفي رأينا أن الحنابلة ومن نحا نحوهم، وبخاصة الإمام ابن تيمية، كانوا موفقين فيما ذهبوا إليه في هذا الموضوع الذي تقوم عليه المعاملات بين الناس، فإن في الرأي الذي قصره ابن تيمية توسيعا كبيرا على الناس، وهو مع هذا يستند إلى أدلة صحيحة تجعله الأحق بالاتباع.
الباب الثاني
في التفسير
عرفنا من قبل، ونحن نتكلم عن منهج الشيخ رحمه الله في التفسير أنه لم ير ضرورة لأن يفسر كتاب الله كله؛ لأنه رأى أن منه ما هو بين بنفسه، ومنه ما بينه المفسرون في كتب كثيرة، ولكن فيه آيات أشكل تفسيرها على العلماء؛ ولذلك نراه يقول: «فقصدت تفسير تلك الآيات بالدليل لأنه أهم من غيره، وإذا تبين معنى آية تبين معاني نظرائها.»
ولم يصل إلينا كل ما كتبه في التفسير، ولكن لدينا منه تفسير سورة النور، ثم تفسير بعض قصار المفصل، وقد تكلم في تفسيرها بإفاضة، وجاء في أثنائها بآيات كثيرة من غيرها وفسرها، كما تعرض فيها أيضا لكثير من المسائل والعقائد الدينية بأوفى بيان كما هو شأنه دائما؛ ولذلك جعلنا مرجعنا في الكلام عن تفسيره تفسير تلك السور ففيها الكفاية.
الفصل الأول
سورة الأعلى
ونبدأ بالكلام على تفسيره لسورة «الأعلى»، فنراه يقول: «إن الأعلى على وزن أفعل التفضيل، مثل الأكرم والأكبر والأجل؛ ولهذا لما قال أبو سفيان: «اعل هبل! اعل هبل!» قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «ألا تجيبونه؟» قالوا: «وما نقول؟» قال: «قولوا: الله أعلى وأجل».»
ثم يأخذ في بيان ما بين العلو والكبرياء والعظمة من فروق، فيقول: «إن هذه الصفات وإن كانت متقاربة، بل متلازمة، فبينها فروق لطيفة؛ ولهذا قال النبي
صلى الله عليه وسلم ، فيما يروي عن ربه تعالى: «العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدا عذبته»، فجعل الكبرياء بمنزلة الرداء، وهو أعلى من الإزار.
ولهذا كان شعائر الصلاة، والأذان، والأعياد، والأماكن العالية، هو التكبير، وهو أحد الكلمات التي هي أفضل الكلام بعد القرآن، وهذه الكلمات هي: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي
صلى الله عليه وسلم ».
1
وبعد أن أشار إلي مذاهب الفقهاء في أن التسبيح في الركوع والسجود واجب أو مستحب، وإلى اختلافهم في صيغة التسبيح، ذكر أن المشهور عن الإمام أحمد وغيره وجوبه، وعن الإمامين أبي حنيفة والشافعي استحبابه، وأن الأقوى أنه يتعين التسبيح بلفظ «سبحان الله»، أو بلفظ «سبحانك»، ونحو ذلك.
وذلك - كما يقول - بأن القرآن سماها (أي الصلاة) تسبيحا، فدل على وجوب التسبيح فيها، وقد بينت السنة أن محل ذلك الركوع والسجود. كما سماها قياما، وقد بينت السنة أن محل ذلك القيام، وسماها القرآن سجودا وركوعا، وبينت السنة علة ذلك ومحله.
2
ثم بين بعد هذا أن ما نقل عن الإمام مالك من كراهة المداومة على التسبيح في الصلاة، ينبغي أن يصرف إلى المداومة على صيغة معينة منه مثل: «سبحان ربي العظيم»، حتى لا يظن أن الواجب هو صيغة معينة، ودون وجوب جنس التسبيح، فإن أدلة وجوبه في الكتاب والسنة كثيرة جدا، وقد علم أنه
صلى الله عليه وسلم
كان يداوم على التسبيح بألفاظ متنوعة ...
والله هو الأعلى بكل ما لهذه الكلمة الجامعة من معنى ومدلول، كما يذكر الشيخ رحمه الله أن الله علي على كل شيء، بمعنى أنه قادر عليه، قاهر له، متصرف فيه، ويدخل في معنى كونه «الأعلى» أيضا أنه متعال عن كل عيب ونقص، وعن اتخاذه شريكا وولدا له؛ ولهذا يقول جل شأنه للمشركين:
أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما * ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا * قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا * سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ،
3
وهكذا نرى الله قرن تعاليه عن ذلك كله بالتسبيح.
هذا، والأمر بتسبيح الله يستلزم تنزيهه عن كل عيب وسوء كما عرفنا، كما يستلزم أن تكون كل صفة من صفات الكمال له، فإن التسبيح - كما يقول الشيخ رحمه الله - يقتضي إثبات المحامد التي يحمد عليها؛ فيقتضي ذلك تنزيهه وتحميده وتكبيره وتوحيده.
سأل رجل ميمون بن مهران عن «سبحان الله»، فقال: اسم يعظم الله به ويحاشى به عن السوء، وتنزيه الله نفسه عن السوء، كما جاء في هذا الأثر وفي قول لابن عباس وفي حديث مرسل، يقتضي تنزيهه عن فعل السيئات، وعن كل صفة من الصفات المذمومة.
ومضى الشيخ يتم تفسيره للآية الأولى من السورة في فيض ودقة تعودناهما منه، ثم انتقل إلى تفسير الآية الثانية والثالثة مبينا أن الله خلق الخلق وسواه وهداه إلى ما قدر له لحكمة قصدها، وبدأ الكلام عن الآية الأولى بقوله: «قال الله تعالى:
الذي خلق فسوى
فأطلق الخلق والتسوية ولم يخص بذلك الإنسان، كما أطلق قوله بعد:
والذي قدر فهدى
لم يقيده، فكأن هذا المطلق لا يمنع شموله لشيء من المخلوقات، وقد بين موسى عليه السلام شموله في قوله (أي الذي حكاه الله عنه):
ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى .
وقد ذكر المقيد بالإنسان في قوله:
يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم * الذي خلقك فسواك فعدلك (سورة الانفطار 6، 7)، وذكر المطلق والمقيد في أول ما نزل من القرآن، وهو قوله:
اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم .
ونرى من هذه الآيات أن الله - كما يذكر ابن تيمية - خلق جميع ما خلق لغاية مقصودة، فلا بد أن تهدى جميع المخلوقات إلى تلك الغاية التي خلقت لها؛ إذ لا تتم مصلحتها وما أريدت له إلا بهدايتها إلى غاياتها. وهذا مما يبين أن الله خلق الأشياء لحكمة وغاية تصل إليها، كما قال بذلك السلف وجمهور المسلمين وجمهور العقلاء.»
4
ثم شرع بعد هذا في بيان ما ذهب إليه «الجهمية» من أن الله لم يخلق شيئا لشيء؛ أي لحكمة أرادها، وما ذهب إليه بعض الفلاسفة من إثبات عناية الله وحكمته مع إنكارهم إرادته.
وأتبع هذا بالإشارة الكافية إلى ما استدل به كل من الفريقين، ثم بالرد عليهما، وأطال في ذلك حتى تم له ما أراد من هدم هذه الآراء الضالة، وبيان الحق الذي قال به جمهور المسلمين والعقلاء من إثبات إرادة الله وحكمته في جميع ما خلق.
وأتبع ذلك بالكلام في تفسير الآية الثالثة، وهي قوله تعالى:
والذي قدر فهدى ، بين صورا ومثلا للتقدير والهداية، وتعرض لبعض ما ذكره المفسرون السابقون قبله، وقبل من أقوالهم ما رآه حقا، وبدأ ذلك كله بقوله: «فقوله سبحانه:
والذي قدر فهدى
يتضمن أنه قدر ما سيكون للمخلوقات وهداها إليه. علم ما يحتاج إليه الناس والدواب من الرزق، فخلق ذلك الرزق وسواه، وخلق الحيوان وسواه وهداه إلى ذلك الرزق، وهدى غيره من الأحياء ...
وخلق الأرض وقدر حاجتها من المطر، وقدر السحاب وما يحمله من المطر، وخلق ملائكة هداهم ليسوقوا ذلك السحاب إلى تلك الأرض فيمطر المطر الذي قدره وقدر ما نبت بها من الرزق، وقدر حاجة العباد إلى ذلك الرزق وهداهم إلى ذلك الرزق، وهدى من يسوق ذلك الرزق إليهم.»
5
وإلى هنا لا نجد ابن تيمية يتعرض للإنسان وهل هو خالق لأفعاله ومنها طاعة الله وعصيانه، أم الكل مخلوق لله قدره عليه أزلا؟ ذلك هو محل النزاع بين الفرق الكلامية، وبخاصة أهل السنة والمعتزلة أو القدرية، وهذا ما أخذ ابن تيمية يتكلم فيه حين تعرض لأقوال رجال علم التفسير السابقين.
إنه يقول بعد ما تقدم مباشرة، بأن المفسرين ذكروا أنواعا من تقدير الله وهدايته لخلقه، فهذا ابن جرير الطبري يروي عن قتادة في بيان معنى هذه الآية أن الله قدر الإنسان للشقاوة والسعادة، ومعنى هذا أن الله أراد أفعال الإنسان كلها وقدرها عليه وهداه إليها، وهو في ذلك يمثل آراء أهل السنة الذين يرجعون كل شيء لله.
ثم يذكر عن قتادة أنه قال: «لا والله، ما أكره الله عبدا على معصية قط، ولا على ضلالة، ولا رضيها له ولا أمره (أي بها)، ولكن رضي لكم الطاعة فأمركم بها، ونهاكم عن المعصية.»
ولا يرى الشيخ رحمه الله بأسا فيما نقل عن قتادة من أن الله لم يكره أحدا على معصيته، فهذا صحيح؛ وذلك بأن أهل السنة، الذين يثبتون تقدير الله لما كان ويكون، على اتفاق بأنه تعالى لا يكره أحدا على معصيته كما يكره الوالي والقاضي وغيرهما، بالعقوبة والوعيد الإنسان بأن يعمل خلاف ما يريد.
بل إنه سبحانه وتعالى هو الذي يخلق إرادة العبد للعمل، كما يخلق قدرته وعمله، وهو خالق كل شيء.
ومع هذا التأميل الطيب لرأي قتادة وكلمته، فإنه لم يسلم من أن يتهم بالميل إلى آراء المعتزلة؛ ولذلك نجد ابن تيمية نفسه يقول في هذا ما نصه: «وهذا الذي قاله قتادة قد يظن فيه أنه من قول القدرية (أي المعتزلة)، وأنه لسبب مثل هذا اتهم قتادة بالقدر، حتى قيل إن مالكا كره لمعمر أنه يروي عنه التفسير لكونه اتهم بالقدر.»
6
ثم يمضي الشيخ رحمه الله في سيره حتى ينتهي من الكلام على هذه الآية، وبعدها يتناول ما يتلوها حتى ينتهي من السورة كلها، وهو في سيره الطويل يتعرض إلى ما يتصل بسبب إلى الآية التي يفسرها من آيات في سور أخرى، وما أكثر هذه الآيات الأخرى التي تجيء عرضا فيشبع القول فيها أيضا!
ونحن، وإن كان ضيق المقام يحول بيننا وبين تتبعه في طريقه الشاق الطويل، هذا الطريق الذي عرج فيه على مباحث كلامية وفلسفية وإسلامية مختلفة ومتعددة، لا نرى بدا من التعرض بإيجاز إلى تفسيره الآيتين الأخيرتين من السورة، وهما قوله تعالى:
إن هذا لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم وموسى .
المشار إليه في قوله تعالى:
إن هذا لفي الصحف الأولى ، هو ما يقوم عليه الدين من الإيمان والعمل الصالح، وهذان الأصلان يتضمنهما قوله جل ذكره:
قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى ، كما يذكر ابن تيمية.
7
ثم أخذ بعد هذا يتكلم عن جمع القرآن بين إبراهيم وموسى عليهما السلام في مواضع منه، وعن حكمة قرن أحدهما بالآخر في هذه المواضع، ومنها هاتان الآيتان الأخيرتان من سورة «الأعلى»، ومنها ما جاء في سورة النجم في قوله تعالى:
أم لم ينبأ بما في صحف موسى * وإبراهيم الذي وفى .
وذلك لأن إبراهيم عليه السلام هو صاحب الملة وإمام الأمة، ولأن موسى عليه السلام هو كليم الله وصاحب الشريعة والكتاب الذي لم ينزل من السماء كتاب أهدى منه ومن القرآن، ثم أرسل الله محمدا
صلى الله عليه وسلم
بملة إبراهيم إلى ذريته وإلى أتباع موسى، فصار بذلك رسولا للعالمين جميعا.
وفي ذلك يقول الشيخ رحمه الله تعالى: «ولما بعث الله نبيه
صلى الله عليه وسلم ، بعثه إلى أهل الأرض، وهم في الأصل صنفان: أميون وكتابيون، والأميون كانوا ينتسبون إلى إبراهيم؛ فإنهم ذريته وخزان بيته (أي الكعبة) وعلى بقايا من شعائره، والكتابيون أصلهم كتاب موسى.
وكلا الطائفتين قد بدلت وغيرت، فأقام ملة إبراهيم بعد اعوجاجها، وجاء بالكتاب المهيمن المصدق لما بين يديه، المبين لما اختلف فيه، وما حرف وكتم من الكتاب الأول»؛
8
أي الذي أنزل على سيدنا موسى عليه السلام.
وبذلك يكون إبراهيم وموسى عليهما السلام قد قاما بأصل الدين، وهو الإقرار بالله وعبادته وحده لا شريك له، ثم جاء محمد عليه الصلاة والسلام فأقام الدين وأكمله، فكان بهذا خاتم الأنبياء والمرسلين.
ثم استطرد الشيخ بمناسبة ذكر إبراهيم عليه السلام إلى مناظرة النمرود بن كنعان ملك بابل، في إثبات الله خالق كل شيء، وقد جاء ذكر هذه المناظرة في سورة البقرة من القرآن، وإلى مناظرته للمشركين الذين يعبدون الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عنهم شيئا، وقد جاء ذكرها في سورتي: مريم والشعراء وغيرهما من القرآن.
كما استطرد بمناسبة ذكر موسى عليه السلام، إلى ما كان بينه وبين فرعون ملك مصر؛ إذ جحد ربوبية الله وإرسال موسى إليه وإلى وقومه، وإلى ما كان بينه وبين قومه حين اتخذوا العجل، وذلك كله على ما بينه الله تعالى في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ولما انتهى من هذا وذاك نراه يشير إلى أنه - على هذا النحو أيضا - كان أمر سيدنا محمد
صلى الله عليه وسلم
مع المشركين من العرب، هؤلاء الذين كانوا يعبدون الأصنام وغيرها ويجعلونها أندادا لله وشركاء له، مع أنها لا تخلق شيئا ولا تسمعهم إذ يدعونها، ولا تستطيع لهم ضرا ولا نفعا.
وفي هذا جاء على لسانه قوله تعالى في الشرك، عموما وخصوصا كما يقول الشيخ رحمه الله:
أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون * ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون * وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون * إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين * ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون .
9
وهكذا بين ابن تيمية بحق أن هؤلاء الثلاثة كبار الأنبياء والمرسلين، قاموا ببيان أصول الدين، وأقاموا الأدلة الحاسمة على إثبات وجود الله الخالق لكل شيء، وإثبات أنه واحد أحد لا شريك له، وأنه جل شأنه هو أهل الحمد والعبادة وحده.
واستمر الشيخ رحمه الله يستطرد من بحث إلى آخر حتى بحث مسألة الصفات بين أهل السنة والمعتزلة، وبحث معنى قوله
صلى الله عليه وسلم : «بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء»،
10
وهكذا حتى أتم تفسير السورة بما لا نراه لغيره من رجال التفسير الذين سبقوه.
الفصل الثاني
تفسير سورة الفلق
تشتمل هذه السورة و«الناس» التي تليها، وهما المعوذتان، على أصول الاستعاذة، وهي: الاستعاذة، والمستعاذ به، ثم المستعاذ منه. وقد تكلم الشيخ رحمه الله على كل هذه الأصول على حدة، وقدم لذلك ببعض الأحاديث التي وردت في هاتين السورتين، وهذا إذ يقول: روى مسلم في صحيحه أن الرسول
صلى الله عليه وسلم
قال، فيما روى عقبة بن عامر: «ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط: أعوذ برب الفلق، أعوذ برب الناس.»
وفي لفظ آخر أنه
صلى الله عليه وسلم
قال له: «ألا أخبرك بأفضل ما تعوذ به المتعوذون؟ قلت: بلى. قال: قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس.»
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بقل هو الله أحد والمعوذتين جميعا، ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسمه، فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به.»
وفي رواية أخرى - وهي التي يرضاها ابن تيمية - أن عائشة رضي الله عنها قالت: «إن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عليه بيده رجاء بركتها.»
وهنا يقول ابن تيمية: «وهذا هو الصواب، أن عائشة كانت تفعل ذلك والنبي
صلى الله عليه وسلم ، لم يأمرها ولم يمنعها، وأما أن يكون استرقى وطلب منها أن ترقيه، فلا.»
1
وبعد هذا، نرى الشيخ الأكبر يبين ما أراده بتفسير هاتين السورتين فيقول: «والمقصود الكلام على هاتين السورتين، وبيان عظيم منفعتهما وشدة الحاجة بل الضرورة إليهما، وأنه لا يستغني عنهما أحد قط، وأن لهما تأثيرا خاصا في دفع السحر والعين وسائر الشرور، وأن حاجة العبد إلى الاستعاذة بهاتين السورتين أعظم من حاجته إلى النفس والطعام والشراب واللباس.»
وهكذا أبان ابن تيمية سبب اهتمامه بتفسير هاتين السورتين في فيض من القول السديد وإطالة، ثم أخذ في الكلام على الاستعاذة لبيان معناها فقال: «حقيقة معناها الهروب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه؛ ولهذا يسمى المستعاذ به معاذا كما يسمى ملجأ ووزرا.
وقيل إن معناها لغة يرجع إلى الستر؛ لأن العرب تقول للبيت الذي في أصل الشجرة فاستتر بها «عوذ»، فكذلك العائذ قد استتر من عدوه بمن استعاذ به منه واستجن به منه.
وقيل إن معناها هو لزوم المجاورة، فإن العرب تقول للحم إذا لصق بالعظم فلم يتخلص به «عوذ»؛ لأنه اعتصم به واستمسك، فكذلك العائذ يستمسك بالمستعاذ به ويعتصم به ويلزمه.»
على أن معنى استعاذة المؤمن حين يستعيذ بالله حقا هو شيء فوق ذلك كله؛ ولهذا يقول ابن تيمية بعد أن أورد تلك المعاني: «وبعد، فمعنى الاستعاذة القائم بقلب المؤمن وراء هذه العبارات، وإنما هي تمثيل وإشارات وتفهيم، وإلا، فما يقوم بالقلب حينئذ من الالتجاء والاعتصام، والانطراح بين يدي الرب، والافتقار إليه والتذلل بين يديه، أمر لا تحيط به العبارة.»
وفي معنى الفلق يقول: «واعلم أن الخلق كله فلق، وذلك أن «فلق» فعل بمعنى مفعول كقبض وسلب وقنص بمعنى مقبوض ومسلوب ومقنوص، والله عز وجل فالق الإصباح وفالق الحب والنوى، وفالق الأرض عن النبات ، والجبال عن العيون، والسحاب عن المطر، والأرحام عن الأجنة، والظلام عن الإصباح»؛ وإذن يكون المستعاذ به هو الله الخالق لكل شيء.
وبعد أن فرغ من بيان معنى الاستعاذة ومعنى الفلق، انتقل إلى الكلام على المستعاذ به، وهو رب الفلق في هذه السورة، والملك والرب والإله في سورة الناس، فهل اختلاف صفات الله على هذا النحو في السورتين، هو لمعان تتناسب والمستعاذ منه في كل منهما؟
وللإجابة عن هذا السؤال يقول الشيخ: «ولا بد من أن يكون ما وصف (الله) به نفسه في هاتين السورتين يناسب الاستعاذة المطلوبة ويقضي دفع الشر المستعاذ منه أعظم مناسبة وأبينها.
وقد قررنا في مواضع متعددة أن الله سبحانه يدعى بأسمائه الحسنى، فيسأل لكل مطلوب باسم يناسبه ويقتضيه ... فلا بد أن يكون الاسم المستعاذ به مقتضيا للمطلوب، وهو دفع الشر المستعاذ منه أو رفعه.»
2
ومن البدهي أنه لبيان هذه المناسبات بين ما وصف، أو سمي الله المستعاذ به وبين الشر المستعاذ منه، يجب الكلام على أنواع الشرور المستعاذ منها في هاتين السورتين، وهي في سورة الفلق: شر المخلوقات التي لها شر عموما، شر الغاسق إذا وقب، شر النفاثات في العقد، وشر الحاسد إذا حسد، وفي سورة الناس نجد المستعاذ منه شيئا واحدا، وهو شر الوسواس الخناس.
وقبل الكلام على كل من الشرور الأربعة التي ذكرت بتلك السورة تكلم على بيان الشر: ما هو، وما حقيقته، وعلى الاستعاذة من الشر الموجود والشر المعدوم، وعلى الدعاء الجامع لمصادر الشر وموارده والاستعاذة منها، ثم أخذ في بيان تلك الشرور الأربعة المستعاذ منها في سورة الفلق: (أ)
شر المخلوقات: إن «ما» في قوله تعالى:
من شر ما خلق
موصولة ليس إلا، فالشر في هذه الآية مسند إلى الخلق لا الخالق، فإن الشر لا يدخل مطلقا في شيء من صفاته أو أفعاله، فإن أفعاله خير محض كلها، ولو كان من أفعاله ما هو شر لاشتق له منه اسم، فلا تكون أسماؤه كلها حسنى.
وما يكون منه تعالى من العدل بعباده الذي يقتضي عقوبة من يستحق العقوبة منهم، هو خير محض لأنه محض العدل والحكمة، ولا يكون شرا إلا بالنسبة إليهم؛ أي في تعلقه وقيامه بهم.
ثم الشر من الأمور الإضافية، فهو خير بالنسبة لله خالقه، وشر بالنسبة للعبد؛ وذلك - كما يذكر الشيخ - أن السارق إذا قطعت يده فقطعها شر بالنسبة إليه، وخير محض بالنسبة إلى الناس جميعا؛ وهذا لما فيه من حفظ أموالهم ودفع الضرر عنهم. وإذن، يكون الشر هو ما قام بالسارق من تلك العقوبة، وأما ما نسب إلى الله من إرادته لهذا فهو عين الخير والحكمة.
3
ومن ثم، كما يذكر الشيخ رحمه الله، نرى الرسول
صلى الله عليه وسلم
ينزه الله تنزيها تاما عن نسبة الشر إليه، فيقول في الحديث الصحيح: «لبيك وسعديك، والخير في يديك، والشر ليس إليك.»
إنه بهذا ينزه ربه سبحانه وتعالى عن نسبة الشر إليه في أسمائه وصفاته وأفعاله وإن دخل في أفعال مخلوقاته.
هذا وقد دخل في قوله تعالى:
من شر ما خلق ، الاستعاذة من كل شر أي مخلوق قام به الشر من الإنس أو الجن أو الدواب، أو الريح والصواعق، أو من أي نوع آخر من أنواع البلاء؛ ولذلك كان الرسول يستعيذ من هذا كله كما ورد في الحديث الصحيح. (ب)
شر الغاسق إذا وقب: جاء في كتب التفسير لهذا معاني عديدة، وأكثر المفسرين أن المراد به - والله أعلم - هو الليل إذا أظلم، قال ابن عباس: الليل إذا أقبل بظلمته من المشرق ودخل في كل شيء وأظلم، والغسق الظلمة.
ومن معانيها أيضا كما يقول البعض: الليل إذا برد، والغسق البرد، وربما يستدلون بقوله تعالى:
لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا * إلا حميما وغساقا ،
4
فيذكرون أن الغساق هو الزمهرير يحرقهم ببرده كما تحرقهم النار بحرها.
ولكن الشيخ يختار المعنى الأول، ويقول في هذا: «والظلمة في الآية أنسب لمكان الاستعاذة؛ فإن الشر الذي يناسب الظلمة أولى بالاستعاذة من البرد الذي في الليل؛ ولهذا، استعاذ برب الفلق الذي هو الصبح والنور، ومن شر الغاسق الذي هو الظلمة، فناسب الوصف المستعاذ به للمعنى المطلوب بالاستعاذة.»
5
وكان من الطبعي ألا يفوت الشيخ الأكبر بيان وجه الاستعاذة من شر الليل، وهو أن الليل - كما يقول - محل سلطان الأرواح الشريرة الخبيثة، وفيه تنتشر الشياطين ... والليل هو محل الظلام، وفيه تتسلط شياطين الإنس والجن ما لا تتسلط بالنهار؛ فإن النهار نور، والشياطين إنما سلطانهم في الظلمات والمواضع المظلمة، وعلى أهل الظلمة. (ج)
شر النفاثات في العقد: هذا الشر هو السحر، فإن النفاثات هن السواحر اللاتي يعقدن الخيوط وينفثن على كل عقدة حتى ينعقد ما يردن من السحر. والنفث هو النفخ مع ريق خفيف، وبهذا يتم السحر بإذن الله، وفي ذلك يقول الشيخ الأكبر: «فإذا تكيفت نفسه (أي نفث النافث) بالخبث والشر الذي يريده بالمسحور، ويستعين عليه بالأرواح الخبيثة، نفخ في تلك العقد نفخا معه ريق، فيخرج من نفسه الخبيثة نفس ممازج للشر والأذى، مقترن بالريق الممازج لذلك.
وقد يتساعد هو والروح الشيطانية على أذى المسحور فيقع فيه السحر بإذن الله الكوني القدري، لا الأمري الشرعي.»
6 (د)
شر الحاسد إذا حسد: هذا الشر الرابع الأخير من الشرور التي جاء الأمر في سورة الفلق بالاستعاذة منها، يقول ابن تيمية: «وقد دل القرآن والسنة على أن نفس حسد الحاسد يؤذي المحسود، فنفس حسده شر يتصل بالمحسود من نفسه وعينه، وإن لم يؤذه بيده ولا لسانه.»
7
على أن من في طبعه الحسد قد يغفل عن المحسود فلا يصيبه منه شر، ولكن إذا خطر المحسود بباله انبعثت نار الحسد من قلبه إليه، فيكون من ذلك الأذى يقع به إن لم يتعوذ بالله ويتحصن به من شر الحاسد، فقوله تعالى:
إذا حسد
بيان أن شره يتحقق إذا حصل الحسد بالفعل إن لم يعذه الله منه.
ولهذا يقول الشيخ رحمه الله ما نذكره بنصه: «ومعلوم أن عينه لا تؤثر بمجردها؛ إذ لو نظر إليه نظر لاه ساه عنه، كما ينظر إلى الأرض والجبل وغيرهما، لم يؤثر فيه شيئا.
وإنما إذا نظر إليه نظر من قد تكيفت نفسه الخبيثة ، واتسمت واحتدت فصارت نفسا غضبية خبيثة حاسدة، أثرت في المحسود تأثيرا بحسب صفة ضعفه وقوة نفس الحاسد، فربما أعطبه وأهلكه ... وربما صرعه وأمرضه، والتجارب عند الخاصة والعامة أكثر من أن تذكر.»
هكذا بين ابن تيمية الحسد وحقيقته وكيف يكون، ثم تأثيره وما ينجم عنه من شر، فإنه لم يكتف بذلك، بل نراه يتكلم في فصول أخرى على مباحث أخرى، مثل الفروق بين الحسد والعين والسحر، واشتمال السحر على عبادة الشيطان، ومراتب الحسد الثلاث، وأن سورة الفلق جاءت بدوائه الناجع.
8
ثم ذكر بعد ذلك في فصل طويل، أن شر الحاسد يندفع عن المحسود بعشرة أسباب، وهي: الاستعاذة، والتقوى، والصبر، والتوكل على الله، والتخلي عما سواه، والإقبال عليه، والتوبة، والصدقة، والإحسان، والتوحيد.
9
وختم تفسير السورة ببيان الأقوال المختلفة في النفوس الناطقة والجن وتأثيرهما؛ وذلك لأن هذا البيان لا بد منه في رأيه بعد أن انكشف من أن نفوس الحاسدين وأعينهم لها تأثير، وأن الأرواح الشيطانية لها تأثير أيضا بواسطة السحر والحسد، وكان رحمه الله تعالى في بيانه موجزا ودقيقا.
الفصل الثالث
سورة الناس
في هذه السورة، كما في التي سبقتها، لا بد أيضا من بيان هذه الأمور التي تضمنتها، وهي: الاستعاذة، المستعاذ به، المستعاذ منه. وبيان الاستعاذة قد تقدم في سورة «الفلق».
والمستعاذ به وهو الله الذي ذكر في السورة التي نحن بصدد الكلام على تفسيرها بأنه: رب الناس، ملك الناس، إله الناس.
ولكن، ما تفسير هذه الإضافات الثلاث، وهل بينها وبين الاستعاذة من الشيطان ووسوسته مناسبة؟
وللإجابة عن هذا، يبدأ ابن تيمية بالكلام على معنى كل من هذه الإضافات، ثم على المناسبة التي بين الله موصوفا بها جميعها وبين المستعاذ منه.
1
فهو يذكر أن الإضافة الأولى إضافة ربوبية تتضمن خلق الناس وتدبيرهم وتربيتهم، ورعاية إصلاحهم ومصالحهم، ودفع الشر عنهم وحفظهم مما يفسدهم، كما تضمن أنه هو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف الكربات عنهم.
والثانية إضافة الملك، فهم مماليكه وعبيده يتصرف فيهم ويدبر أمورهم كما يشاء، وهو ملكهم الحق إليه مفزعهم عند الشدائد، وهو مستغاثهم ومعاذهم وملجؤهم إذا نزل العدو بساحتهم.
والثالثة هي إضافة الألوهية، فهو إلههم الحق الذي لا إله لهم سواه، ومعبودهم الذي لا معبود لهم غيره، فكما أنه وحده ربهم ومليكهم لا يشركه في ربوبيته ولا في ملكه أحد، فكذلك هو وحده إلههم ومعبودهم.
وإذا كان الأمر حقا كذلك، فالناس جميعا جديرون ألا يستعيذوا بغيره، ولا يستنصروا بسواه، فهو كافيهم وحسبهم وناصرهم، هو متولي أمورهم بربوبيتهم وملكه وإلهيته لهم.
وبذلك «ظهرت مناسبة هذه الإضافات الثلاث للاستعاذة من أعدى الأعداء، وأعظمهم عداوة، وأشدهم ضررا، وأبلغهم كيدا!» وكيف لا يلجأ العبد إلى ربه ومالكه وإلهه عند النوازل والشدائد؟!
وهنا أشار شيخ الإسلام بوضوح إلى الحكمة في تقديم صفة الربوبية، وتأخير صفة الإلهية، وتوسط صفة الملك؛ وذلك - كما يقول: «لأن ربوبيته تستلزم ملكه وتقتضيه، وملكه يستلزم إلهيته ويقتضيها، فهو الرب الحق، الملك الحق، الإله الحق، خلقهم بربوبيته، وقهرهم بملكه، واستعبدهم بإلهيته.»
وبعد ذلك، نراه يفرق فرقا لطيفا واضحا بين الشر المستعاذ منه في كل من «المعوذتين»، فسورة الفلق فيها الأمر بالاستعاذة من الشرور التي تأتي الإنسان من خارج، مثل السحر والحسد، على حين أن في سورة الناس الأمر بالاستعاذة من الشر الذي يجيء الإنسان من الداخل، وهو وسوسة الشيطان التي هي سبب الذنوب والمعاصي كلها.
ثم قال: «فالشر الأول (أي جنسه الشامل لأنواعه) لا يدخل تحت التكليف، ولا يطلب منه الكف عنه؛ لأنه ليس من كسبه، والشر الثاني في سورة الناس يدخل تحت التكليف، ويتعلق به النهي.»
2
ثم يجيء الكلام على «الوسواس» والوسوسة، ويبدأ ببيان أن هذه هي الحركة أو الصوت الخفي الذي لا يحس فيحترز منه، والوسواس هو الإلقاء الخفي في النفس، إما بصوت خفي لا يسمعه إلا من ألقي إليه، وإما بغير صوت كما يوسوس الشيطان إلى الإنسان.
وإذا تم بيان المستعاذ به، بقي المستعاذ منه، وهو
شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس .
فهل «الوسواس» مصدر لفعل «وسوس» أو صفة للشيطان المحذوف من الآية لوجود ما يدل عليه دلالة لا تدع لبسا؟
وابن تيمية يذكر هذين الرأيين اللذين وردا عن المفسرين؛ إذ قال البعض منهم إن «الوسواس» في الآية مصدر لا وصف، وهو «مصدر وصف به على وجه المبالغة، أو يكون على حذف مضاف تقديره: «ذو الوسواس»، والدليل عليه قول الشاعر:
تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت
كما استعان بريح عشرق زجل
3
فهذا مصدر بمعنى الوسوسة سواء.»
ولم يرض المصنف رحمه الله هذا الرأي ورد عليه، واختار أنه وصف للمستعاذ من شره وهو الشيطان، واحتج لهذا الرأي طويلا من وجوه عديدة،
4
وقال في أحد هذه الوجوه: ويدل عليه وجه آخر، وهو أنه (أي الله تعالى)، وصفه بما يستحيل أن يكون مصدرا، بل هو متعين في الوصفية، وهو «الخناس»، ف «الوسواس» و«الخناس» وصفان لموصوف محذوف وهو الشيطان.
وحسن حذف الموصوف ها هنا غلبة الوصف حتى صار كالعلم عليه، والموصوف إنما يقبح حذفه إذا كان الوصف مشتركا فيقع اللبس، كالطويل، والقبيح، والحسن، ونحوه، فيتعين ذكر الموصوف ليعلم أن الصفة له لا لغيره.
فأما إذا غلب الوصف واختص ولم يعرض فيه اشتراك، فإنه يجري مجرى الاسم ويحسن حذف الموصوف، ك «المسلم (أي الرجل المسلم)، والكافر، والبر، والفاجر، والقاصي، والداني، والشاهد، والوالي، ونحو ذلك، فحذف الموصوف هنا أحسن من ذكره.»
وإذا كان «الوسواس» صفة للشيطان، فإن له في هذه السورة صفتين أخريين؛ وهما «الخناس»، و«الذي يوسوس في صدور الناس»، كما يقول ابن تيمية رحمه الله.
وهذه الصفة مأخوذة من فعل خنس يخنس إذا توارى واختفى، وبابه «دخل»، وفي هذا يقول أبو هريرة رضي الله عنه: «لقيني النبي
صلى الله عليه وسلم
في بعض طرق المدينة وأنا جنب، فانخنست منه.»
5
وحقيقة اللفظ - كما يقول شيخ الإسلام - اختفاء بعد ظهور، فليست لمجرد الاختفاء؛ ولهذا وصفت الكواكب في القرآن ب «الخنس»، قال قتادة: هي النجوم تبدو بالليل وتخنس بالنهار فلا ترى.
ثم يقول: «والخناس مأخوذ من هذين المعنيين، فهو من الاختفاء والرجوع والتأخر، فإن العبد إذا غفل عن ذكر الله جثم على قلبه الشيطان وانبسط عليه، وبذر فيه أنواع الوساوس ... فإذا ذكر العبد ربه واستعاذ به انخنس وانقبض»، إلى آخر ما قال.
6
وبعد هاتين الصفتين، يشير الله تعالى إلى الصفة الثالثة بقوله:
الذي يوسوس في صدور الناس ، ومعنى هذا هو أن وسوسة الشيطان محلها صدور الناس، ثم تتسلل منها إلى القلوب.
هكذا يذكر شيخ الإسلام، ولكن الظاهر فيما نرى أن هذه ليست صفة ثالثة للشيطان، بل هي بيان لمحل الوسوسة، وقد عبر الشيخ عن حكمة كون وسوسة الشيطان تكون في الصدر ثم تلج منها إلى القلوب بقوله: وتأمل السر في قوله تعالى:
الذي يوسوس في صدور الناس ، ولم يقل: «في قلوبهم»، إن الصدر هو ساحة القلب وبيته، فمنه تدخل الواردات إليه ... ثم تلج في القلب، فهو بمنزلة الدهليز له.
ومن القلب تخرج الأوامر والإرادات إلى الصدر، ثم تتفرق على الجنود، ومن فهم هذا فهم قوله تعالى: (سورة آل عمران، الآية رقم 154):
وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم .
فالشيطان يدخل إلى ساحة القلب وبيته، فيلقي ما يريد إلقاءه إلى القلب، فهو موسوس في الصدر، ووسوسته واصلة إلى القلب؛ ولهذا قال تعالى (سورة طه، الآية رقم 120):
فوسوس إليه الشيطان ، ولم يقل «فيه»؛ لأن المعنى أنه ألقى إليه ذلك وأوصله إليه، فدخل في قلبه.
7
والوسوسة تكون من شياطين الجن، كما تكون من شياطين الإنس؛ ولذلك ختم الله تعالى السورة بقوله:
من الجنة والناس .
وإذا كان هذا هو رأي ابن تيمية، فقد ذكر أن في تفسير الآية رأيا آخر ذهب إليه بعض من عنوا بمعاني القرآن وتفسيره، وهو أن قوله تعالى:
من الجنة والناس
بيان للموسوس في صدورهم وهم قسمان: إنس وجن، فالشيطان يوسوس للجني كما يوسوس للإنسي.
وبعد أن أبان الشيخ رحمه الله هذا الرأي، بين ضعفه الشديد بوجوه عديدة، وجره هذا إلى الكلام على اشتقاق كلمة «الناس»، وأن «الجنة» لا يطلق عليهم اسم «الناس» لا أصلا ولا اشتقاقا، وبعد ذلك كله أخذ في الكلام على الرأي الصحيح الذي اختاره وأقام الأدلة القاطعة عليه.
8
وهو في هذا يقول: «فالصواب القول الثاني، وهو أن قوله:
من الجنة والناس
بيان للذي يوسوس، وأنهم نوعان: إنس وجن، فالجني يوسوس في صدور الإنس، والإنسي أيضا يوسوس إلى الإنسي ...
فإن الوسوسة هي الإلقاء الخفي في القلب، وهذا مشترك بين الجن والإنس، وإن كان إلقاء الإنسي ووسوسته إنما هي بواسطة الأذن، والجني لا يحتاج إلى تلك الواسطة؛ لأنه يدخل في ابن آدم ويجري منه مجرى الدم ...
ونظير اشتراكهما في هذه الوسوسة اشتراكهما في الوحي الشيطاني، قال تعالى:
وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا .
9
فالشيطان يوحي إلى الإنسي باطله، ويوحيه الإنسي إلى أنسي مثله. فشياطين الإنس والجن يشتركان في الوحي الشيطاني، ويشتركان في الوسوسة.
وعلى هذا، تزول تلك الإشكالات والتعسفات التي ارتكبها أصحاب القول الأول، وتدل الآية على الاستعاذة من شر نوعي الشياطين: شياطين الإنس وشياطين الجن، وعلى القول الأول إنما تكون الاستعاذة من شر شياطين الجن فقط، فتأمله، فإنه بديع جدا.
فهذا ما من الله به من الكلام على بعض أسرار هاتين السورتين، ولله الحمد والمنة، وعسى الله أن يساعد بتفسير على هذا النمط، فما ذلك على الله بعزيز، والحمد لله رب العالمين.»
10 •••
وبعد ختام تفسير السورتين المعوذتين على هذا النحو الرائع، الذي يظهرنا على مبلغ علم شيخ الإسلام بمعاني القرآن، ومبلغ ما آتاه الله من العقل النافذ والبيان السديد، وأتبعه بقاعدة نافعة فيما يعتصم به العبد من الشيطان، ويستدفع به شره؛ وذلك عشرة أسباب كل منها يعتبر حرزا للإنسان من الشيطان أصل كل بلاء.
وهذه الأسباب مستقاة من القرآن العظيم، وفيها مباحث جدلية وعظات بالغات، فنحيل القارئ إليها، ونحن على ثقة بأنه واجد فيها خيرا كثيرا بإذن الله سبحانه وتعالى.
الباب الثالث
في الاجتماع والسياسة
ظل ابن تيمية طول حياته المباركة مكافحا في سبيل نصرة الدين والحق، حريصا الحرص كله على أن يكون أبناء دينه مخلصين العبادة لله وحده، وعلى أن يكون المجتمع بريئا من الظلم والظالمين، وأن يكون ولاة الدولة وعمالها نصراء للحق، مؤدين الأمانات إلى أهلها، وأساس هذا أن يكونوا أهلا لأن يسند إليهم شرف خدمة الأمة والقيام بشئونها.
ولذلك كله، كانت له آراؤه في الدعامات التي يقوم عليها المجتمع، ليكون مجتمعا سليما صالحا، وآراؤه في السياسة التي ينبغي أن تقوم عليها الأمة في اختيار ولائها، وفيما يمكن من أداء الأمانات والحقوق إلى أصحابها، وفيما يحمل كلا من أبناء الأمة على القيام بواجباته نحو دينه وأمته ووطنه الذي يعيش فيه.
وسنعرض الآن هذه الآراء في هاتين الناحيتين؛ نعني الناحية الاجتماعية أولا، ثم الناحية السياسية، وسيكون هذا وذاك بإيجاز لأن المقام لا يسع الإطالة.
الفصل الأول
في الاجتماع
يقول الله تعالى:
وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ،
1
ويقول:
إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل .
2
ولهذا يرى الإمام ابن تيمية - بحق - أن المجتمع المؤمن السليم يجب أن يقوم على هذين الأساسين: إخلاص الدين لله وحده، والعدل في المعاملة:
إخلاص الدين لله
أجمع كل أصحاب الملل السماوية على أنه لا بد من وسائط بين الله وعباده، وهم الرسل الذين يتلقون عنه وحيه ويبلغونه لمن أرسلوا إليهم، وبدون هذا كان الناس عاجزين عن معرفة ما يحبه الله ويأمر به، وما يكرهه وينهى عنه، إلى غير ذلك مما جاء به القرآن من أصول الدين وفروعه.
وأما أن يقال إن المراد بذلك هو - كما يقول الشيخ رحمه الله: «أنه لا بد من واسطة في جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يكون واسطة في رزق العباد ونصرهم وهداهم يسألونه ذلك ويرجون إليه فيه، فهذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين؛ حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء»، إلى آخر ما قال.
3
ويذكر بعد هذا أنه يكون كافرا مشركا بالله من أثبت وسائط بين الله وعباده من أئمة الدين أو غيرهم كما يكون الحجاب بين الملك ورعيته، فيجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وهؤلاء مشبهون لله، شبهوا الخالق بالمخلوق، وجعلوا لله أندادا.
وذلك بأن الوسائط بين الملوك وبين الناس يكونون على أحد وجوه ثلاثة: إما لإخبارهم إياهم بما لا يعرفونه من أحوال الناس، ومن قال إن الله لا يعلم أحوال عباده حتى يخبره بها بعض ملائكته أو أنبيائه أو غيرهم فهو كافر بالله العليم السميع البصير.
وإما لأن الملك عاجز عن تدبير رعيته ودفع أعدائه إلا بأعوان وأنصار، والله سبحانه ليس له ظهير ولا ولي من الذل.
وإما لأن الملك لا يرحم رعيته ويحسن إليهم إلا بمحرك يحركه ممن حوله، والله سبحانه هو رب كل شيء ومليكه، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وكل شيء فبمشيئته، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
وهكذا ينتهي الإمام ابن تيمية إلى نفي الوسائط على النحو الذي ذكرنا، فيجب أن يكون الدين خالصا لله الواحد الأحد الصمد الذي لا يرجى غيره، ولا يجوز أن يقصد سواه.
وقد تناول هذا الموضوع في كثير من فتاويه ورسائله، ومن ذلك رسالته في «زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور»
4
التي افتتحها بكلام جيد جدا منه قوله: الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، هو عبادة الله وحده لا شريك له، واستعانته والتوكل عليه، ودعاؤه لجلب المنافع ودفع المضار، كما قال تعالى:
تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم * إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين * ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون .
وقال تعالى:
وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ، وقال تعالى:
قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا .
وبعد أن أتى بآيات أخرى منها قوله تعالى:
ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ، قال: فإذا جعل (أي الله) من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا كافرا، فكيف من اتخذ من دونهم من المشايخ وغيرهم أربابا!
5
وهكذا أشار الشيخ رضي الله عنه إلى حكمه على من يستنجد بأحد أصحاب القبور.
ثم أخذ بعد هذا في تفصيل على الكلام عمن يستنجد بميت ولو كان نبيا، فذكر أن من أتى إلى قبر نبي أو صالح يسأله حاجته ويستنجد به، فهذا «شرك صحيح يجب أن يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل، وإن قال أنا أسأله لكونه أقرب إلى الله مني ليشفع لي في هذه الأمور؛ لأني أتوسل إلى الله به كما يتوسل إلى السلطان بخواصه وأعوانه، فهذا من أفعال المشركين والنصارى» ...
وإن قلت: هذا إذا دعا الله أجاب دعاءه أعظم مما يجيبه إذا دعوته، فهذا هو القسم الثاني، وهو ألا تطلب منه الفعل ولا تدعوه، ولكن تطلب منه أن يدعو لك كما تقول للحي: ادع لي، وكما كان الصحابة رضوان الله عليهم يطلبون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدعاء.
فهذا مشروع في الحي، وأما الميت من الأنبياء والصالحين وغيرهم فلم يشرع لنا أن نقول: ادع لنا، ولا اسأل لنا ربك، ولم يفعل هذا أحد من الصحابة والتابعين، ولا أمر به أحد من الأئمة، ولا ورد فيه حديث.
6
بل الذي ثبت في الصحيح أنهم لما أجدبوا في زمن عمر رضي الله عنه، استسقى بالعباس وقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون.
ولم يجيئوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائلين: يا رسول الله، ادع الله لنا، واستسق لنا، ونحن نشتكي إليك مما أصابنا، ونحو ذلك، لم يفعل ذلك أحد من الصحابة قط، بل هو بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، إلى آخر ما قال.
7
العدل في المعاملة
كل مؤمن بالله ورسوله، محب لدينه ووطنه وأمته، يعمل بلا ريب على أن يقوم المجتمع الذي ينسب إليه على العدل، كما يعمل جهده لكفاح الظلم والظالمين. وكان ابن تيمية من رجال الدين القلائل - حاشا عصر الرسول والصحابة والتابعين - الذين عملوا كل ما يستطيعون ليكون المجتمع مجتمعا عادلا نقيا من الظلم وأعوانه، وقد قدمنا له من ذلك شيئا كثيرا في هذه الناحية.
8
وذكرنا من قبل أيضا بعض فتاويه الفقهية التي تحمل على البعد عن ظلم المرء لنفسه بعدم طاعة الله، وأخرى تحول بينه وبين ظلم غيره، أو المجتمع الذي يعيش فيه، مثل عدم جواز إعطاء الزكاة لمن لا يستعين بها على طاعة الله، وتحريم قبول هدية من أحد ليشفع له في أمر لا يستحقه، وعدم إجازة بيع عصير العنب لمن يقصد إلى جعله خمرا.
9
ولكراهة الشيخ الإمام للظلم، وإحساسه عاقبته البشعة بصفة عامة، سواء كان ظلما لفرد أو ظلما لجماعة، نراه يقول في أول رسالة الحسبة: «إن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة؛ ولهذا يروى أن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة» إلى آخر ما قال.
ثم تناول بعد ذلك الكلام على واجبات المحتسب، ومنها أخذ الناس بأداء الأمانات، وترك الخيانة والغش والتدليس فيما يتعاملون فيه، وتسعير عروض التجارة إذا لزم الأمر، وكذلك إلزام أهل الحرف والصناعات بالعمل فيما يحتاجه الناس.
10
وذكر بعد هذا أن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان يعنى بمحاسبة العمال على المستخرج والمصرف (ومن المعروف أن للإمام أن يكل ذلك لغيره ممن يثق بهم)، ويروي في هذا حديثا جاء في الصحيحين، وهو أن النبي
صلى الله عليه وسلم
استعمل رجلا من الأزد يقال له «اللتبية» على الصدقات، فلما رجع حاسبه فقال: هذا لكم، وهذا أهدي إلي، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم : «ما بال الرجل نستعمله على العمل مما ولانا الله فيقول هذا لكم وهذا أهدي إلي، أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا!
والذي نفسي بيده لا نستعمل رجلا على العمل مما ولانا الله فيغل منه شيئا إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرا له رغاء، وإن كانت بقرة لها خوار، وإن كانت شاة تيعر! ثم رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت.»
11
وأخيرا، بعد أن ذكر الشيخ رحمه الله واجبات أخرى على الإمام القيام بها بنفسه أو بمن يوليهم أمرها؛ وذلك ضمانا للعدل وإبعادا للظلم عن المجتمع، تكلم عن وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن هذا قد لا يتم على ما ينبغي إلا بالعقوبات الشرعية والمالية التي يعاقب بها الذين يخالفون عن أمر الله ورسوله؛ وبذلك يسير المجتمع على الجادة ويخلص من الظلم والظالمين.
12
الفصل الثاني
في السياسة
(1) في الولايات
وجوب اتخاذ الإمارة
لا بد للناس من الاجتماع والتعاون والتناصر، لجلب المنافع ودفع المضار؛ ولهذا يقال بحق: إن الإنسان مدني بالطبع، فإذا اجتمعوا فلا بد لهم من أمور يفعلونها لما فيها من المصلحة، وأخرى ينأون عنها لما فيها من المفسدة، ولا بد لهم من ناه عن هذه، وآمر بتلك، وهذا الآمر الناهي هو من يكون أميرا عليهم، أو رئيسا أعلى إليه حكمهم وأمرهم.
وفي ذلك يقول الإمام رحمه الله: «ويجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس، حتى قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم ...»
فأوجب النبي
صلى الله عليه وسلم
تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر؛ تنبيها بذلك على سائر أنواع الاجتماع؛ ولأن الله أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعدل، وإقامة الحج، والجمع والأعياد، ونصر المظلوم، وإقامة الحدود، (وكل هذا وما إليه)، لا يتم إلا بالقوة والإمارة»، إلى آخر ما قال.
1
وهكذا، يكون إقامة الحاكم الأعلى للأمة أمرا ضروريا لخير المسلمين في الدنيا والأخرى، ويكون العمل على توليته قربة يتقرب بها إلى الله تعالى، ويجب حينئذ حياطته بالنصح إذا لزم الأمر، فإن الرسول
صلى الله عليه وسلم
قال: «الدين النصيحة، الدين النصيحة.» قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم.»
اختيار الولاة
ومن البدهي أن رئيس الدولة لا يستطيع أن يباشر كل أمر بنفسه، فلا بد له ممن يعاونونه في إدارة شئون الأمة من الولاة والعمال الذين يقومون بما يكل إليهم من الأعمال، وحينئذ عليه أن يحسن اختيار هؤلاء، وبمقدار حسن اختيارهم تكون الإدارة صالحة، وتسير الأمور على ما ينبغي؛ لأنه يكون قد وضع كل أمر في يد من يحسنه، وقام بالأمانة التي لديه خير قيام، وفي هذا يقول ابن تيمية:
2
فيجب على ولي الأمر أن يولي على كل عمل من أعمال المسلمين أصلح من يجده لذلك العمل، قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «من ولي من أمر المسلمين شيئا، فولى رجلا وهو يجد من هو أصلح منه، فقد خان الله ورسوله.»
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «من ولي من أمر المسلمين شيئا، فولى رجلا لمودة أو قرابة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمسلمين.»
وليس له أن يقدم رجلا لأنه طلب الولاية، أو لأنه سبق غيره في طلبها، بل إن طلبه أحرى أن يكون سببا لمنعه ما طلب، فقد جاء في الصحيحين أن قوما دخلوا على الرسول
صلى الله عليه وسلم
فسألوه ولاية، فقال: «إنا لا نولي أمرنا هذا من طلبه.» وقال لعبد الرحمن بن سمرة: «يا عبد الرحمن، لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها.»
وقد يعدل ولي الأمر فيتبع هدي الله ورسوله، ويولي كل ولاية الأحق بها والأصلح لها، وقد يجور فيعدل عن الأحق الأصلح لضغن عليه في قلبه، ويولي غير الأصلح؛ لأنه من ذوي قرابته أو لصلة صداقة مثلا بينهما، أو لرشوة أخذها منه، أو لأي سبب آخر.
ولي الأمر هذا، يكون مضيعا للأمانة التي بين يديه، وخائنا لله ولرسوله وللمؤمنين، وداخلا فيما نهى الله عنه بقوله:
يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون .
3
والحكم أمانة في يد ولي الأمر، وكذلك كل الولايات التي تتبعه، وفي هذا يقول الشيخ الأكبر: «وقد دلت سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
على أن الولاية أمانة يجب أداؤها، في مواضع مثل ما تقدم، ومثل قوله لأبي ذر رضي الله عنه في الإمارة: «إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها» رواه مسلم.
وروى البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: «إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة.» قيل: يا رسول الله، وما إضاعتها؟ قال: «إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة».»
4
مقياس الصلاحية
ولكن كيف يعرف ولي الأمر أن هذا هو الأصلح من غيره للولاية؟ تلك حقا مشكلة يجب حلها بوضع مقياس للصلاحية، وهنا نجد ابن تيمية يجري على منهجه العام من الرجوع إلى الكتاب وسنة الرسول
صلى الله عليه وسلم ، وليس على ولي الأمر إلا أن يعمل جهده في الاختيار، فالله يقول:
فاتقوا الله ما استطعتم ، كما يقول الرسول: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم.»
وبعد ذلك يلاحظ أن الولاة وكلاء عن الأمة وأجراء لها، ثم يقول: إن الولاية لها ركنان: القوة، والأمانة كما قال تعالى:
إن خير من استأجرت القوي الأمين ، وقال صاحب مصر ليوسف عليه السلام:
إنك اليوم لدينا مكين أمين ، وقال تعالى في صفة جبريل:
إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين .
5
وهكذا يخلص لابن تيمية المقياس الذي يجب اتخاذه هاديا ومرشدا. على أننا نتساءل: هل القوة في كل عمل بمعنى واحد، أو أنها تختلف في معناها باختلاف أنواع الأعمال؟ ويجيب عن ذلك بقوله بعد ما تقدم: «القوة في كل ولاية بحسبها، فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب، وإلى الخبرة بالحروب والمخادعة فيها فإن الحرب خدعة، وإلى القدرة على أنواع القتال ... ونحو ذلك، كما قال تعالى:
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل . وقال النبي
صلى الله عليه وسلم : «ارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا، ومن تعلم الرمي ثم نسيه فليس منا.»
والقوة في الحكم بين الناس، ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام .»
وبعد أن بين الشيخ رحمه الله تعالى معنى القوة الذي يختلف باختلاف الولايات، نراه يذكر أن اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل، وهذا حق بلا ريب؛ ولهذا كان سيدنا عمر بن الخطاب يقول: اللهم إني أشكو إليك جلد الفاجر (أي قوته وعظم احتماله)، وعجز الثقة!
وإذن، ما العمل إذا كان ركنا الولاية هما كما عرفنا القوة والأمانة؟ هنا نرى صاحب «السياسة الشرعية» يقول ما يحسن نقله بنصه: «فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها، فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة، والآخر أعظم قوة، قدم أنفعهما لتلك الولاية.
فيقدم في ولاية الحروب القوي الشجاع، وإن كان فيه فجور فيها، على الضعيف العاجز وإن كان أمينا. كما سئل الإمام أحمد عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو، أحدهما قوي فاجر والآخر صالح ضعيف، مع أيهما يغزى؟ فقال: أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، فيغزى مع القوي الفاجر، وقد قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر».»
6
وضرب بعد هذا مثلا لتولية القوي في الحرب، بتولية الرسول
صلى الله عليه وسلم
سيدنا خالد بن الوليد عليها، وقوله فيه: «إن خالدا سيف سله الله على المشركين»، مع أنه أحيانا كان يعمل ما ينكره عليه، حتى إنه مرة رفع يديه إلى السماء، وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد!» وذلك حين أرسله إلى جذيمة فقتلهم وأخذ أموالهم بنوع شبهة، فوداهم النبي عليه الصلاة السلام، ومع هذا فما زال يقدمه في إمارة الحرب؛ لأنه كان أصلح في هذا الباب من غيره، وقد كان منه ما كان بنوع تأويل.
وإذا كان في الولاية للحروب تكون الحاجة فيها إلى الجلد والقوة أشد وأظهر وألزم، فإنه في ولايات أخرى تكون الأمانة ألزم فيقدم صاحبها وإن كان فيه ضعف. والأمانة ترجع - كما يذكر الإمام - إلى خصال ثلاث: خشية الله، وألا يشتري بآياته ثمنا قليلا، ترك خشية الناس.
وهذه الخصال، التي هي عند الله مناط الحكم على الناس وما يعملون، جمعتها هذه الآية:
فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون .
7
ومن الأعمال التي يقدم فيها الأمين؛ لأن الحاجة فيها إلى الأمانة أشد، ولاية حفظ الأموال ونحوها، وإن كان استخراج الأموال ممن هي عليهم، ثم حفظها كاملة لتنفق في مصالح الأمة، لا بد فيه من قوة وأمانة، وحينئذ، يولى عليها عامل قوي يستخرجها بقوته، وكاتب أمين يحفظها بخبرته وأمانته. «وهكذا في سائر الولايات إذا لم تتم المصلحة برجل واحد، جمع بين عدد، فلا بد من ترجيح الأصلح، أو تعدد المولى إذا لم تقع الكفاية بواحد.»
8
وإذا تركنا ولاية الحرب ثم ولاية أمور المال، إلى ولاية القضاء، نجد أن منصب القضاء يحتاج إلى العلم بالأحكام الشرعية، والورع أو التقوى، ثم إلى الكفاية للقيام به. ولكن ذلك كله لا يتوافر دائما فيمن يصح أن يكون منهم القضاة على حد سواء، فما العمل إذن؟
يقول الشيخ في هذا: «ويقدم في ولاية القضاء الأعلم الأورع الأكفأ، فإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع، قدم فيما يظهر حكمه ويخاف فيه الهوى الأورع، وفيما يدق حكمه ويخاف فيه الاشتباه الأعلم ...
ويقدم الأكفأ إن كان القضاء يحتاج إلى قوة وإعانة للقاضي أكثر من حاجته إلى مزيد العلم والورع؛ فإن القاضي المطلق يحتاج إلى أن يكون عالما عادلا قادرا، بل وكذلك كل وال للمسلمين، فأي صفة من هذه الصفات نقصت، ظهر الخلل بسببه، والكفاءة إما بقهر ورهبة، وإما بإحسان ورغبة، وفي الحقيقة لا بد منهما.»
9
المقصود من الولايات
ومما ييسر لولي الأمر معرفة الأصلح لولاية من الولايات، معرفة المقصود منها ليسندها إلى الأقدر على تحقيق هذا المقصود بالطرق المشروعة الحازمة التي تؤدي إليه، فعلى الإمام تعرف تلك المقاصد، وتعرف الوسائل إلى تحقيقها، وأن يختار بعد ذلك لكل ولاية من الكفاة من يرى أنه القادر على تحقيقها ...
ومن الطبعي أن تختلف مقاصد ولاية عن ولاية أخرى، ولكن هناك أمر يعتبر مقصودا عاما من كل الولايات مهما اختلفت أنواعها، وهو إقامة دين الله الذي به صلاح أمورنا في الدنيا والأخرى؛ ولهذا يقول الإمام ابن تيمية: «المقصود الواجب بالولايات إصلاح دين الخلق الذي إذا فاتهم خسروا خسرانا مبينا، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم، وهو نوعان: قسم المال بين مستحقيه، وعقوبات المعتدين، فمن لم يعتد، أصلح له دينه ودنياه.
ولهذا كان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يقول: إنما بعثت عمالي إليكم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم، ويقيموا بينكم دينكم، ويقسموا بينكم فيئكم»، إلى آخر ما قال.
10 (2) في الأموال
وجوب أدائها
إذا كانت الولايات هي النوع الأول من الأمانات التي أمر الله بأدائها بقوله تعالى:
إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ، فإن الأموال هي النوع الثاني منها، فأداء الأمانات المالية أمر واجب بالكتاب والسنة على الولاة والرعية معا.
فعلى كل منهما - كما يذكر الشيخ الإمام - أن يؤدي إلى آخر ما يجب أداؤه إليه، فعلى ذي السلطان ونوابه في العطاء أن يؤتوا كل ذي حق حقه، وعلى جباة الأموال أن يؤدوا إلى ذي السلطان ما يجب إيتاؤه إليه، وكذلك على الرعية أداء ما يجب عليهم من الحقوق المالية.
وليس للرعية أن يطلبوا من ولاة الأموال ما لا يستحقونه، وإلا كانوا من جنس من قال الله فيهم:
ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون .
11
ولكن هل للرعية أن يدفعوا للسلطان ما يجب عليهم من الأموال وإن كان ظالما؟ يجيب الشيخ عن هذا بأنه ليس لهم أن يمتنعوا من ذلك، فإن الرسول
صلى الله عليه وسلم
أمر بذلك حين ذكر جور الولاة، فقال: «أدوا إليهم الذي لهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم.»
ومع هذا، فليس لولاة الأموال - كما يذكر الشيخ بعد ذلك - أن يقسموها حسب أهوائهم كما يقسم المالك ملكه، فإنما هم أمناء ونواب ووكلاء، وليسوا ملاكا، وفي ذلك يقول الرسول
صلى الله عليه وسلم : «إني والله لا أعطي أحدا ولا أمنع أحدا، وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت.»
وقد سار الخلفاء الراشدين على هذا النهج النبوي، فهذا رجل يقول لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين، لو وسعت على نفسك في النفقة من مال الله تعالى؟ فيجيبه الفاروق بقوله: أتدري مثلي ومثل هؤلاء؟ إنه كمثل قوم كانوا في سفر فجمعوا مالا وسلموه إلى واحد ينفقه عليهم، فهل يحل لذلك الرجل أن يستأثر عنهم بشيء من أموالهم؟!
وحمل إليه، رضي الله عنه، مرة مال عظيم من الخمس فقال: إن قوما أدوا الأمانة في هذا لأمناء، فقال له بعض الحاضرين: إنك أديت الأمانة إلى الله تعالى فأدوا إليك الأمانة، ولو رتعت رتعوا!
الظلم من الولاة والرعية
وبعد أن تناول أصناف الأموال السلطانية، من الغنائم والصدقات والفيء، أخذ في الكلام على الظلم الذي كثيرا ما يقع من الولاة والرعية، أولئك يأخذون ما لا يحل، وهؤلاء يمنعون ما يجب.
كما قد يتظالم الجند والفلاحون، ويكنز الولاة من مال الله ما لا يحل كنزه، وكذلك العقوبات على أداء الأموال، فإنه قد يترك منها ما يباح أو يجب، وقد يفعل ما لا يحل.
والأصل العام الذي يرجع إليه حكم الله في ذلك كله، هو أن من عليه مال يجب أن يؤديه لأنه حق واجب عليه متى كان قادرا على أدائه بالحبس أو الضرب إذا لزم الأمر.
ويستدل ابن تيمية لهذا بما جاء في الصحيحين من قوله
صلى الله عليه وسلم : «مطل الغني ظلم»، وبما رواه أهل السنن من قوله: «لي الواجد يحل عرضه وعقوبته.»
ولهذا كان من المتفق عليه أن كل من فعل محرما أو ترك واجبا استحق العقوبة، فإن لم تكن مقدرة بالشرع، كان تعزيرا يجتهد فيه ولي الأمر. وقد نص على ذلك الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، وغيرهم من الفقهاء، ولا أعلم فيه خلافا.
12
هذا، وقد عني ابن تيمية بخاصة بما يأخذ القائمون على الأموال بغير حق من مال المسلمين، وهو في ذلك يقول بأن لولي الأمر (لعله يريد: فعلى ولي الأمر) استخراجه منهم، ومن هذا الضرب الهدايا التي يأخذها الولاة والعمال بسبب العمل. قال أبو سعيد الخدري: هدايا العمال غلول، وقال الرسول
صلى الله عليه وسلم : «هدايا الأمراء غلول.»
13
وقد تقدم حديث «ابن اللتبية» الذي كان عاملا للصدقة للرسول، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي إلي، فقال الرسول
صلى الله عليه وسلم : «ما بال الرجل نستعمله على العمل مما ولانا الله فيقول هذا لكم وهذا أهدي إلي، فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه فينظر أيهدى إليه أم لا؟!» إلى آخر الحديث.
ومن هذا الضرب أيضا محاباة الولاة في المعاملة من المبايعة والمؤاجرة والمضاربة والمساقاة والمزارعة، كل ذلك ونحوه مما يعتبر من الهدايا التي لا يجوز أخذها، وعلى ولي الأمر منعها والعقاب عليها، كما يذكر ابن تيمية بحق. «ولهذا، شاطر عمر بن الخاطب رضي الله عنه من عماله من كان له فضل دين ولا يتهم بخيانة، وإنما شاطرهم لما كانوا خصوا به لأجل الولاية من محاباة وغيرها، وكان الأمر يقتضي ذلك؛ لأنه كان إمام عدل يقسم بالسوية.»
14
وإذا استرد ولي الأمر ما أخذ الولاة والعمال بغير حق من الرعية، كان عليه ردها إلى أصحابها إن أمكن، وإلا كان عليه صرفها في المصالح العامة، كسداد الثغور، ونفقة المقاتلة، ونحو هذا وذاك، كما يقول جمهور العلماء، وكما هو منقول عن غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم.
وجوه صرف الأموال
ويجيء بعد ما تقدم الكلام على مصارف الأموال العامة التي تحصلها خزانة الدولة، وفي هذا يذكر الشيخ الإمام أن الواجب البدء في القسمة بالأهم فالأهم من مصالح المسلمين، فالمقاتلة الذين هم أهل النصرة والجهاد هم أحق الناس بالفيء، فإنه لا يحصل إلا بهم، وأما سائر الأموال العامة (أو السلطانية كما يقول) فلجميع المصالح وفاقا إلا ما خص به نوع كالصدقات.
ومن المستحقين في هذه الأموال العامة أصحاب الولايات، كالولاة، والقضاة، والسعاة على المال جمعا وحفظا وقسمة ، ومنهم أيضا ذوو الحاجات الذين ليس لهم ما يكفيهم، فعلى ولي الأمر أن يكفيهم شر العوذ والسؤال.
ومن الطريف أن نذكر أن الشيخ الإمام تناول كلمة مأثورة لسيدنا عمر بن الخطاب، وجعلها شبه دستور في مصارف تلك الأموال، وهذه الكلمة هي: «ليس أحد أحق بهذا المال (أي الذي جاء من الفتوح، ومال الفيء، ونحو ذلك) من أحد، إنما هو الرجل وسابقته (أي في الإسلام)، والرجل وغناؤه، والرجل وبلاؤه، والرجل وحاجته.»
15
ثم يقول بعد أن ذكر هذه الكلمة: «فجعلهم عمر أربعة أقسام:
الأول:
ذوو السوابق الذين بسابقتهم حصل المال.
الثاني:
من يغني عن المسلمين في جلب المنافع لهم، كولاة الأمور والعلماء الذين يجلبون لهم منافع الدين والدنيا.
الثالث:
من يبلي بلاء حسنا في دفع الضرر عنهم، كالمجاهدين في سبيل الله من الأجناد، والعيون ... والناصحين ونحوهم.
الرابع:
ذوو الحاجات.
فإذا عرفت أن العطاء يكون بحسب منفعة الرجل، وبحسب حاجته في مال المصالح وفي الصدقات أيضا، فما زاد على ذلك لا يستحقه الرجل إلا كما يستحقه نظراؤه مثل أن يكون شريكا في غنيمة أو ميراث.»
16
ثم تكلم بعد ذلك على بعض المصارف الأخرى، مثل «المؤلفة قلوبهم» على الإسلام، وتناول مسائل أخرى تتعلق بالأمور المالية، ولا نرى ضرورة لتتبعه في هذه النواحي، فلننتقل إلى القسم الأخير من آرائه السياسية إن شاء الله تعالى. (3) في الحدود والحقوق
أقسامها
بعد أن انتهى الإمام ابن تيمية من الأمانات التي أمر الله تعالى بأدائها بقوله:
إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ، شرع في بيان الحدود والحقوق، التي أمر الله بالحكم بالعدل فيها بقوله في الآية نفسها: ... وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ... ، هذه الآية تسمى آية الأمراء كما يذكر ابن تيمية نفسه وغيره من المفسرين.
وهو يبدأ هذا القسم الأخير من رسالته في «السياسة الشرعية»، بقوله: «الحكم بين الناس يكون في الحدود والحقوق، وهما قسمان: فالقسم الأول الحدود والحقوق التي ليست لقوم معينين، بل منفعتها لمطلق المسلمين أو نوع منهم، ولكنهم محتاج إليها، وتسمى حدود الله وحقوق الله.»
17
وأما القسم الثاني، فسيجيء الكلام عليه، وهو كما يقول فيما بعد: الحدود والحقوق التي لآدمي معين.
القسم الأول وأحكامه
ومن أمثلة هذا القسم حد قطاع الطريق والسراق والزناة ونحوهم، والحكم في الأموال العامة أو السلطانية كما يقول، والوقوف والوصايا التي ليست لمعين، فهذه من أهم أمور الولايات؛ ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
لا بد للناس من إمارة برة كانت أو فاجرة، فقيل: يا أمير المؤمنين، هذه البرة قد عرفناها فما بال الفاجرة؟ فقال: يقام بها الحدود، وتأمن بها السبل، ويجاهد بها العدو، ويقسم بها الفيء.
ومن أحكام هذا النوع من الحدود والحقوق، أنه - كما يذكر الشيخ رحمه الله - يجب على الولاة البحث عنه، وإقامته من غير دعوى أحد به، وكذلك تقام الشهادة فيه من غير دعوى أحد به، وإن كان الفقهاء قد اختلفوا في قطع يد السارق هل يفتقر إلى مطالبة المسروق بماله على قولين ... وقد اشترط بعضهم المطالبة بالمال لئلا يكون للسارق فيه شبهة.
18
وكذلك يجب إقامة هذا النوع من الحدود على الناس كافة، بلا فرق بين شريف ووضيع، أو قوي وضعيف، ولا تحل الشفاعة فيه، ولا يجوز تعطيله بشفاعة أو غيرها، فإن خطره كبير على المجتمع كله.
ومن عطل إقامته لذلك ونحوه، وهو قادر على إقامته، كان حريا بلعنة الله وملائكته والناس جميعا، وكان ممن اشترى بآيات الله ثمنا قليلا، ولا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا، كما يذكر ابن تيمية.
جاء في الصحيحين عن السيدة عائشة رضي الله عنها، أن قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، فلما ذهب إليه قال له الرسول
صلى الله عليه وسلم : «يا أسامة، أتشفع في حد من حدود الله؟ إنما هلك بنو إسرائيل أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها.»
على أنه لا بأس في الشفاعة قبل أن يصل الأمر إلى السلطان أو من له القضاء، وإلا كانت حراما وإثما كبيرا، وفي هذا روى الإمام مالك في كتابه «الموطأ» أن جماعة أمسكوا لصا ليرفعوه إلى عثمان رضي الله عنه، فتلقاهم الزبير فشفع فيه فقالوا: إذا رفع إلى عثمان فاشفع فيه عنده، فقال: إذا بلغت الحدود السلطان، فلعن الله الشافع والمشفع؛ يعني الذي يقبل الشفاعة.
19
ومن أحكام هذا القسم أيضا، أنه لا يقبل تنازل المجني عليه إذا وصل إلى ولي الأمر أو القاضي، فيجب إقامة الحد رغم تنازله؛ ولهذا يذكر ابن تيمية بعد ذلك أن صفوان بن أمية كان نائما على رداء له في مسجد الرسول
صلى الله عليه وسلم ، فجاء لص فسرقه، فأخذه به النبي فأمر بقطع يده، فقال صفوان: «أعلى ردائي تقطع يده؟ أنا أهبه له»، فقال الرسول: «فهلا قبل أن تأتيني به!» ثم قطع يده.
يعني
صلى الله عليه وسلم - كما يذكر ابن تيمية - أنك لو عفوت عنه قبل أن تأتيني به لكان، فأما بعد أن رفع إلي فلا يجوز تعطيل الحد لا بعفو ولا بشفاعة ولا بهبة ولا بغير ذلك.
وهذا حق بلا ريب، وبه يصان المجتمع عن كثير من الشرور والآفات، فإن كثيرا من أمور الناس والمجتمعات يرجع إلى تعطيل إقامة حدود الله وحقوقه بسبب الجاه أو ما يبذل من مال، أو الشفاعة التي لا تحل يتقدم بها بعض الناس.
القسم الثاني وأحكامه
وبعد أن ذكر ابن تيمية عقوبة المحاربين وقطاع الطريق، وحد السرقة والزنا وشرب الخمر والقذف، وغير ذلك من المعاصي التي ليس فيها حد مقدر،
20
شرع في الكلام على هذا القسم الثاني من الحدود والحقوق وهي التي تكون لإنسان معين.
وقد تناول في هذا القسم أحكام الاعتداء على النفوس بالقتل، وعلى الأعضاء والجسم بالجراح، وعلى الأعراض وغير هذا كله مما فيه تعد على شخص بعينه.
21
ونحن لا نرى ضرورة للتعرض لذلك كله، فإن الأمر هنا أكثر شبها بالفقه العام منه بأحكام السياسة الشرعية بصفة خاصة، ولكن نرى من الخير أن نشير إلى أنه تناول حد القذف في كلا القسمين من الحدود والحقوق ؛ وذلك لأنه حق الله وحق الآدمي معا.
وهو يقول بصدده: «وهذا الحد يستحقه المقذوف فلا يستوفى إلا بطلبه باتفاق الفقهاء، فإن عفا عنه سقط عند الجمهور لأن المغلب فيه حق الآدمي كالقصاص والأموال، وقيل لا يسقط تغليبا لحق الله؛ لعدم المماثلة (أي بينه وبين القصاص والأموال)، كسائر الحدود»، إلى آخر ما قال.
22 •••
هذا، وإذا كان من الواجب إقامة دولة واتخاذ أمير أعلى لها كما عرفنا فيما تقدم، فإن للحقوق التي من هذا القسم الثاني والأخير حق المشاورة، فإن ولي الأمر لا يستغني عنها، وأمر الله نبيه بها بقوله تعالى:
وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله .
وروى أبو هريرة رضي الله عنه - كما يذكر ابن تيمية رحمه الله - أنه «لم يكن أحد أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله
صلى الله عليه وسلم .»
وإذا استشار ولي الأمر أهل الرأي في أمر من الأمور، فإن بين له بعضهم ما يجب اتباعه، من كتاب الله أو سنة رسوله أو إجماع المسلمين فعليه اتباع ذلك، ولا طاعة لأحد في خلاف ذلك، وإن كان عظيما في الدين والدنيا، قال الله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم .
وأولو الأمر صنفان: الأمراء والعلماء، وهم الذين إذا صلحوا صلح الناس، فعلى كل منهما أن يتحرى ما يقوله ويفعله طاعة لله ورسوله، واتباع كتاب الله،
23
ففي ذلك خير الدنيا والآخرة معا للأفراد والجماعات والأمة كلها.
خاتمة البحث
والآن، بعد هذا المطاف الشاق الطويل، والذي كانت نتيجته هذا البحث الذي يسعدنا اليوم التقدم به لطالبي الحق كل الحق لذاته، ومريدي القدوة الطيبة من إمام تجرد للحق والعلم والجهاد في سبيل الله، نشير في هذه الخاتمة إلى هذه الأمور: (أ)
إن رأي الشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى في علوم المنطق والكلام والفلسفة معروف واضح، فهو لا يرضاها ولا يرضى عنها؛ ولذلك لم نر ضرورة أن نطيل البحث بالكلام عنها في باب أو فصل خاص.
وبخاصة وقد تعرضنا لها في مواضع كثيرة في أثناء البحث، ولا سيما عند بحثنا الحياة العقلية والعلمية في عصره،
1
وكذلك عند الكلام على خصومه ومحنته ووفاته.
2 (ب)
ثبت لنا أن ابن تيمية هو إمام من أئمة المسلمين بلا ريب، فقد كان صاحب اللواء في كل علم من العلوم الإسلامية التي برع فيها ونبغ، وكان إليه المرجع في المشكلات التي رفعت إليه وأفتى فيها حتى بلغت فتاويه المجلدات العديدة الضخمة، والتي لا يزال الفقهاء في شديد الحاجة إليها والإفادة منها. (ج)
ومع ذلك كله، فقد كان له خصوم كثر رموه بما أعاذه الله من الضلال،
كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ! ولكنه داء الحسد والحقد بين العلماء المتنافسين المتعاصرين.
على أن الشيخ الإمام وإن ناله كثير من الأذى في ذات الله والحق، فقد كان راضيا كل الرضا بما حصل له من هؤلاء الخصوم والأعداء، ولعله كان يتمثل في هذه الناحية بقول الشاعر العربي المؤمن الذي عاش في حياة الرسول، وهو خبيب بن عدي الذي قال يوم الربيع:
ولست أبالي حين أقتل مسلما
على أي جنب كان في الله مصرعي (د)
وإلى جانب أولئك الخصوم كان أنصاره لا يحصون كثرة، هؤلاء الأنصار والتلاميذ المخلصون، وعلى رأسهم الإمام ابن قيم الجوزية، هم الذين حملوا علمه وبثوه في كل مكان، حتى صار ذخرا صالحا لجميع المتفقهين والعلماء الباحثين.
ولكننا مع هذا كله، نرى من الواجب على القادرين من المسلمين أن يعنوا عناية جادة بتحقيق كتب الإمام مجدد الإسلام في عصره تحقيقا علميا بكل معنى الكلمة، ثم نشرها بين الناس ليعم النفع بها إلى يوم الدين. •••
رحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية، ورضي عنه وأرضاه، وجعله في جنة الخلد مع الذين أنعم الله عليهم، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، ونسأله العون والتوفيق والسداد في كل حال.
Page inconnue