Engels
من أساطين هذا المذهب: «إن المادة تتحرك في دورات أبدية تستتم كل دورة منها مداها في دهر من الزمان تلوح السنة الأرضية إلى جانبه كأنها عدم: دورة تلوح فيها فترة التطور الأعلى ونعني بها فترة الحياة العضوية التي يتوجها الوعي الذاتي شيئا صغيرا بالقياس إلى تاريخ الحياة وتاريخ الوعي نفسه: دورة تكون فيها كل هيئة خاصة من هيئات المادة سواء كانت شمسا أو سديما أو كانت حيوانا أو نوعا من أنواع الحيوان، أو كانت تركيبا كيميا أو انحلالا كيميا - أبدا في تحول وانتقال: دورة لا يدوم فيها إلا المادة المتغيرة أبدا وإلا ناموس التغير الأبدي والحركة الأبدية ... ومهما تتكرر هذه الدورة ويبلغ من قسوة تكرارها في الزمان والمكان، أو مهما تطلع فيها من شموس وأرضين ثم تغرب بعد حين، أو مهما يطل الانتظار قبل أن تبرز هنا أو هناك منظومة شمسية أو كوكب تتهيأ عليه البيئة للحياة العضوية، ومهما ينشأ أو ينقرض من الخلائق قبل أن تنجم بينها أحياء تفكر بأدمغتها وتجد لها ملاذا يسمح لها بالحياة ولو إلى فترة وجيزة، فإننا مع هذا لعلى يقين أن المادة في كل تغيراتها تظل أبدا واحدة وأبدا كما هي، وأنها لن تفقد صفة من صفاتها، وأن تلك الضرورة الحديدية التي تقضي بزوال أرفع زهرات المادة - وهي القوة المفكرة - هي بعينها تقضي بميلادها كرة أخرى في زمان آخر ...» •••
ولسنا هنا في صدد الرد على المادية الثنائية أو المذاهب المادية على اختلافها، ولكننا نتكلم عن فيلسوف «إلهي» من غير الماديين، فعلينا أن نجمل موقف الفلسفة الإلهية من أمثال هذه الآراء.
فالإلهيون الأقدمون يقولون بأن الحركة الأزلية مستحيلة؛ لأن الحركة هي الانتقال من مكان إلى مكان أو من حالة إلى حالة، فقبل الحركة توجد الحالة أو يوجد المكان. وليس قبل الأزل سابق يسبقه في المكان أو الزمان. وإذا قيل إن المكان سابق للحركة الأولى فكأنما نقول إن المكان زمان قبل الزمان.
ويرد على المادية الثنائية في مسألة الأضداد بأنها قد جعلت المشكلة حلا وسكتت على ذلك، وهو خلف لا يعقل السكوت عليه. إذ ما هي المشكلة في رأي العقل وفي التعليلات الفلسفية؟ هي التناقض وقيام الأضداد! وأين هي المشكلة إذا كان التناقض هو الحل المقبول؟
ويرد عليهم بأن الثنائية مفهومة حين يتقابل العقل والمادة أو تتقابل الروح والمادة. أما أن تكون مادة ومضادة لمادة في طبيعتها، فهذا هو موضع العجب لا موضع التفسير. وعلى الماديين الثنائيين أن ينتظروا سؤالا لا بد له من جواب وهو: لماذا قدروا أن الحياة والقوة الفكرية تظهران في الوقت الذي ظهرتا فيه؟
إن المسألة ليست بمسألة مقدار من السنين أو الدورات. يقال مثلا إن عشرة آلاف سنة لا تكفي فتكفي عشرون ألف سنة، أو إن عشرين ألفا لا تكفي فلا بد من ضعفها أو ضعفيها، أو أن مائة ألف سنة لا تكفي فلا بد من مليون سنة أو مليونين أو أكثر من ذلك بما يقاس أو لا يقاس. فإن عدد السنين والدورات منذ الأزل إلى وقت ظهور الحياة لا يدخل في إحصاء ولا يقبل الإحصاء.
فالمسألة إذن ليست مسألة مقدار من السنين والدورات، ولكنها مسألة خاصة في طبيعة المادة متأصلة فيها منذ كانت من أزل الآزال. فكيف نسمي هذه الخاصة التي لا تسمح بظهور الحياة أو العقل مثلا إلا في سنة كذا ألف قبل الميلاد؟
ولماذا كل هذا الهروب من تقرير وجود العقل قبل المادة؛ إذا كان تقرير وجود المادة قبل العقل يصل بنا إلى هذه الإحالات ويلجئنا في أول خطوة إلى التسليم بالأضداد؟
وكيف تكون المادة قوة عمياء منذ الأزل ثم يطرد التقدم فيها من هذه الحركة العمياء إلى حركة النبات ثم حركة الحيوان ثم حركة العقل في الحيوان عند بلوغه مرتبة الإنسان؟ أيسمى هذا تقدما مطردا بغير هداية في عقل سابق؟ أم ننكر أنه تقدم مطرد لنهرب من القول بسبق العقل والحياة؟
Page inconnue