تعقيب
يخرج القارئ من الصفحات المتقدمة بنتيجتين لا اختلاف عليهما، وهما:
إن المقررات العلمية التي اقترنت بالفلسفة القديمة قد تغيرت في العصور المتأخرة، ولا سيما مقرراتهم في علم الفلك والعلوم الطبيعية، وأن مشكلات الفلسفة لا تزال كما كانت أكبر من جهود الفلاسفة وأضخم من الحلول التي انتهت إليها تلك الجهود.
والذي نحب أن نضيفه إلى هاتين النتيجتين في هذا التعقيب أن أخطاء العلم القديم لا تغض من شأن الفلسفة القديمة ولا الفلاسفة الأقدمين؛ لأن موضوع الفلسفة هو «الوجود» ومسائله الأبدية، وهذه شيء ومعارف الناس عن الموجودات المتعددة شيء آخر. فمسائل الوجود الأبدية، باقية بعد مسائل العلم القديم ومسائل العلم الحديث على السواء، ولا يزال فلاسفة اليوم حيث كان فلاسفة الأمس في هذا الموضوع الخالد المتجدد، وهم يرجعون إلى كثير من حلول الفلسفة القديمة للاستنارة بها والقياس عليها.
ومن الواجب ألا نبالغ في تسخيف الآراء الفلسفية التي اقترنت بما فهمه الفلاسفة الأقدمون في الفلسفة والطبيعة؛ فإنهم استنبطوا القول بالعقول لتفسير سريان الفكر إلى المادة الجسدية، ونحن قد استنبطنا القول بالأثير لنفسر به سريان النور من الأفلاك إلى الفضاء. وزعموا أن الأجسام كلها من الماء، ونحن إلى عهد قريب كنا نقول إن الأجسام كلها من الهدروجين. وقد سخر منا الكثيرون بالمثل الأفلاطونية وبالصور الأرسطية، ولكننا نقول بحق إن الوظيفة تخلق العضو فهي كالمثل السابقة للأعضاء.
وكل هذا لا يقدم ولا يؤخر في أحكام المنطق ولا في موضوع الفلسفة الأصيل وهو (الوجود) الذي لا يغيره تغير الآراء في الموجودات. •••
أما المشكلات الفلسفية فنعتقد أن الأقدمين بالغوا كثيرا في مسألة منها فاستنفدت منهم أعظم الجهود: وهي مسألة الاتصال بين العقل والمادة.
فإنهم جزموا بأن هذا الاتصال مستحيل بغير واسطة. ونحن لا ندري من أين جاءت هذه الاستحالة إذا كنا لا نعرف ماهية العقل على التحقيق ولا ماهية المادة على التحقق؟ وعندنا أن القول بأن العقل يؤثر في المادة أيسر جدا من القول بأن الكائنات في وجود واحد تتألف من أصلين متناقضين أو منعزلين، وأن التأثير بينهما معدوم.
ويغلب على ظننا أن مصدر هذه الفكرة كلها إنما هو العقيدة الثنائية التي أخذها اليونان وغيرهم عن المجوس الأقدمين ، وهي عقيدة الإلهين: إله النور وإله الظلام، وإله الخيروإله الشر، أو إله الإيجاد وإله الإفساد.
وهي عقيدة يتوهم بعضهم أنها حلت المشكلة على وجهة معقولة وليست هي من العقل الصحيح في شيء؛ لأن وجود إلهين سرمديين كلاهما واجب الوجود غير محدود البداية ولا النهاية مستحيل. فأحدهما يحد الآخر، وكل محدود لا يكون سرمدي الوجود.
Page inconnue