كان الشيخ الرئيس يحب أن يتحدث إلى تلاميذه عن أيام تلمذته وتحصيله، فكان يقول لهم عن تحصيله لعلم الطب: «ثم رغبت في علم الطب وصرت أقرأ الكتب المصنفة فيه. وعلم الطب ليس من العلوم الصعبة، فلا جرم أني برزت فيه في أقل مدة حتى بدأ فضلاء الطب يقرأون علي علم الطب، وتعهدت المرضى فانفتح علي من أبواب المعالجات المقتبسة من التجربة ما لا يوصف، وأنا مع ذلك أختلف إلى الفقه وأناظر فيه، وأنا في هذا الوقت من أبناء ست عشرة سنة ...»
ويؤخذ من هذا أن الفلسفة والرياضيات كانت عند الشيخ الرئيس بالمنزلة الأولى التي تتقدم على الطب والعلوم الطبيعية، وهو ترتيب موافق لرأيه في تقديم الإلهيات والمعارف المجردة على المعارف النفعية أو الملتبسة بالأجسام. إلا أن المسألة على ما يظهر مسألة استعداد لا مسألة رأي في ترتيب العلوم، فهو يفضل الفلسفة والرياضيات لأنه يشعر في دراستها بكل قواه ويستغرق بها جهد ملكاته، فيلذ له مراسها ويستمتع منها برياضة ذهنية لا يستمتع بها من غيرها، ويشتغل بالطب فلا يستغرق جهده كله فيه؛ لأنه يفرغ له جانب الملاحظة وجانب الذاكرة من تفكيره، ويستسهله من أجل ذلك وليس هو بالسهل على سواه.
نعم لم يكن هذا العلم الواسع بالسهل على سواه في زمانه، وحري به ألا يكون سهلا في الزمن الذي كان الطبيب فيه طبيبا لجميع الأمراض مطالبا بالنظر والعمل في وقت واحد، ومع هذا بذل أناس غاية جهدهم وقصارى سعيهم في تحصيل ذلك العلم ولم يبلغوا فيه شأو ابن سينا ولا اقتربوا من شأوه؛ لأنه كان طبيب العصر غير مدافع في الشرق كله، ثم انتقلت تواليفه إلى الغرب فأصبح طبيب العالم بأسره زهاء أربعة قرون، ولم يشتهر أحد بهذه الصناعة مثل تلك الشهرة العالمية بغير استثناء أحد من أيام بقراط وجالينوس.
عالج أمير بخارى وهو في السابعة عشرة من عمره، ثم ترجم كتابه «القانون» في أواخر القرن الثاني عشر للميلاد إلى اللغة اللاتينية فأصبح مرجعا للدراسات الطبية في جامعات أوروبة من أقصاها إلى أقصاها. فكان يدرس في جامعتي مونبلييه ولوفان إلى منتصف القرن السابع عشر ، وكان هذا الكتاب وكتاب المنصوري للرازي عمدة الأساتذة في جامعة فينا وجامعة فرنكفورت طوال القرن السادس عشر، وترجم إلى العبرية فتداوله الإسرائيليون المشتغلون بالطب بين أرجاء العالم بأسره، وتكررت طبعاته حتى قاربت أربعين طبعة ما بين ظهور فن الطباعة وبداية القرن السادس عشر، وتعدد طبع الكراسات المقتبسة منه غير طبعاته الكاملة فلم تدخل في حساب، وكانت النسخة اللاتينية التي ترجمها جيرارد الكريموني في سنة 1187 رديئة الترجمة، فأعيد النظر فيها وتجشم العلماء كل مشقة لمراجعتها وتنقيحها؛ لأنهم يرون الكتاب جديرا بالصبر على المشقات الجسام في سبيله، وينظرون إليه كما ينظرون إلى وحي من السماء.
قال نوبرجر
Neuburger
في كتابه المطول عن تاريخ الطب: «إنهم كانوا ينظرون إلى كتاب القانون كأنه وحي معصوم، ويزيدهم إكبارا له تنسيقه المنطقي الذي لا يعاب ومقدماته التي كانت تبدو لأبناء تلك العصور كأنها القضايا المسلمة والمقررات البديهية.»
وإنما تبوأ كتاب ابن سينا هذه المكانة الرفيعة، بين المراجع العالمية، بحق لا نزاع فيه؛ لأنه كان أوفى مرجع من مراجع الطب القديم، وظل كذلك إلى عهد الموسوعات العصرية قبيل القرن التاسع عشر بقليل، واجتمعت له مزايا الإحاطة والتحري والاستقصاء والتنسيق، فاشتمل على تراث أمم الحضارة في أصول الطب وفروعه من شرح الأعراض إلى وصف العلاج إلى سرد أسماء العقاقير والأدوية، ومواطن الجراحات وأدوات الجراحة، مع قدرة على الترتيب الموسوعي قل نظيره في زمانه واقتدى بها المقتدون إلى مطالع عهد العلم الحديث.
وقد كان طب القرون الوسطى مشوبا بالكهانة من ناحية، وبالشعوذة والسحر من ناحية أخرى، وكانت الأبخرة والتعاويذ مقرونة بالأدوية والعقاقير في علاج جميع الأمراض. ولم يكن من العجيب أن يستدرج ابن سينا إلى هذه الأوهام، بحكم مذهبه في النفوس والأرواح واتصالها قبل الموت وبعد الموت بأجسام الأحياء، فلا عجب على هذا المذهب أن تكون عللا للأمراض، وأن يلتمس لها العلاج عند السحرة والأولياء، ولكنه استطاع بقدرة عقله أن يفصل بين فلسفته وطبه فصلا علميا دقيقا، في موضوع الطب والعلاج، سواء منه ما تعلق بالأجسام أو ما تعلق بالنفوس والعقول. فلم ينكر تأثير الأرواح العلوية أو السفلية في الجسم الحي. ولكنه قرر أن الطبيب لا يعرف الأمراض إلا من حيث هي عوارض جسدية، وحالة من أحوال المزاج، فلما شرح أعراض «المالنخوليا» قال: إن بعض الأطباء ينسبونها إلى الجن. ثم قال: «... ونحن لا نبالي من حيث نتعلم الطب أن ذلك يقع عن الجن أو لا يقع بعد أن نقول: إنه إن كان يقع من الجن فيقع بأن يحيل المزاج إلى السوداء، فيكون سببه القريب السوداء، ثم ليكن سبب تلك السوداء جنا أو غير جن ...»
بل هو يسلك «العشق» في عداد الأمراض بما له من الأعراض الجسدية، ثم يصف الحيلة في علاجه - وقد روى أنه جربها وأفاد بها - فيقول: «والحيلة في ذلك أن يذكر أسماء كثيرة تعاد مرارا، وتكون اليد على نبضه، فإذا اختلف بذلك اختلافا عظيما، وصار شبه المنقطع ثم عاود وجربت ذلك مرارا علمت أنه اسم المعشوق، ثم يذكر كذلك السكك، والمساكن، والحرف، والصناعات، والنسب، والبلدان. ويضيف كلا منها إلى اسم المعشوق ويحفظ النبض حتى إذا كان يتغير عند ذكر شيء واحد مرارا جمعت من ذلك خواص معشوقه من الاسم والحيلة والحرفة وعرفته، فإنا قد جربنا هذا واستخرجنا به ما كان في الوقوف عليه منفعة.»
Page inconnue