ولا بد لنا من التنبيه هنا إلى حقيقة يعرفها كل من راجع فلسفة أفلوطين في مواضعها المتفرقة، وهي أن مذهبه أعصى المذاهب الفلسفية على التلخيص؛ لكثرة العناصر التي دخلت فيه وحاول التوفيق بينها وهي عصية على التوفيق، ولأنه لم يترك بعده كتبا مفصلة تشرح للناس نقائضه ومواطن الغموض من آرائه، إذ كان تعويله الأكبر على أثره الشخصي البالغ على ما يظهر من سيرته وسير مريديه. فقد بلغ من قوة هذا الأثر أن أناسا من السراة الذين كانوا يستمعون إليه باعوا قصورهم وجواهرهم وحطامهم ليلحقوا به وينتصروا على غواية المال والشهوات، وخطر له أن يجرب هذا السلطان الشخصي الساحر في إصلاح الحكم وإقامة جمهورية فاضلة على قواعد الجمهورية الأفلاطونية، لولا أن فساد الحكم في عصره قد تخطى كل رجاء في الإصلاح.
وهذا الأثر الشخصي هو الذي أبقى للناس مذهبه وتفصيلات آرائه؛ لأن مريديه وأتباعه كانوا ينسون أنفسهم ويذكرونه، ومنهم من كان يتورع عن تسميته مكتفيا بالإشارة إليه كما يشار إلى المعبود المنزه عن الأسماء، ولولا اثنان منهم على الخصوص لما عرف الخلف شيئا كثيرا عنه ولا سيما قراء العربية، ونعني بهما فرفريوس والإسكندر الأفروديسي.
أما فرفريوس فهو لقب «ملك الصوري» الذي كان عبدا فتحرر، وسمي ملكا رمزا للحرية بعد الاستعباد ... وكان معلمه الأول يداعبه باسم بورفيري أو الأرجوان لأنه لباس الملوك، وهو الذي لخص مذهب أفلوطين في الكتاب المسمى بالتاسوعات وألف «ايساغوجي» في المنطق وهو المرجع الذي اعتمد عليه المشارقة في دراسة منطق أرسطو بعد التوفيق بينه وبين أقوال أفلوطين. وأما إسكندر الأفروديسي فالذي يعنينا من آثاره في هذا المقام كتاب «الثاؤلوجيا» كما عرف بين فلاسفة المسلمين، وهو موجز التاسوعات الثلاث الأخيرة، وكان المعتقد بين فلاسفة المسلمين أنه من كتب أرسطو في الإلهيات. وقد كان إسكندر أول من تكلم عن العقل الهيولاني في الإنسان، وقال بأنه يتوقف في خروجه من القوة إلى الفعل على مدد من العقل الفعال، وهو العقل المشرف على ما تحت القمر وعلى عالم الإنسان فيه، وسمي بالهيولاني تشبيها له بالهيولى التي تقبل الصور من غيرها. وكان من رأي الإسكندر أن انتظام العالم قديم لأن النظام لا يلزم منه حتما أن يسبقه «عدم نظام». وإنما يسبقه الله بالذات لا بالزمان. (3-4) الفارابي
والفارابي هو أول الفلاسفة المسلمين الذين تتلمذ لهم ابن سينا نوعا من التلمذة كما تقدم، فقرأ له وانتفع بما قرأ في فهم مضامين الفلسفة اليونانية. وكان «المعلم الثاني» معلما كاملا له في معضلات الفلسفة الإلهية بجملتها؛ لأنه أضاف مسائل الحكمة الدينية إلى مسائل الحكمة المنطقية، وأدخل مسألة التوفيق بين العقل والوحي في حسابه، وقد كانت من المسائل الحديثة في الإسلام، فلم يبل فيها أحد بلاء الفارابي ولا جاوز أحد فيها مداه الذي انتهى إليه وإن اتبعه في هذا المجال كثيرون ... ومن توفيقاته أنه سمى العقل الفعال بالروح الأمين، وسمى العقول بالملائكة، وسمى الأفلاك التي فيها العقول بالملأ الأعلى، وقال إن صفات الله الأزلية هي المثل الأولى.
والذي اتفق عليه جلة الثقات أن فلسفة الفارابي فلسفة إسلامية لا غبار عليها، فلم ير فيها جمهرة المسلمين المعنيين بالبحث الفكري حرجا ولا موضع ريبة، ولا نخالها تغضب متدينا بالإسلام أو بغيره من الأديان.
العالم
فالمعلم الثاني يبرئ المعلم الأول - وهو أرسطو - من إنكار خلق العالم، ويفسر آراءه التي لخصناها من قبل على وجه يرضاه المؤمنون بالله والنبوات.
فالله عنده هو «السبب الأول» والسبب الأول واجب الوجود لأن العقل يستلزم وجوده ولا يستطيع أن ينفيه بحال.
فكل شيء له سبب، وكل سبب له سبب متقدم عليه، وهكذا إلى السبب الأول الذي لا يتقدمه سبب من الأسباب. وإلا وقعنا في الدور والتسلسل وهما باطلان.
وهذا السبب الأول «واحد» لا يتكرر، بسيط لا يتغير؛ لأنه لو تكرر أو تغير لاختلف ووجب البحث عن سبب لاختلافه، وقد انتهت إليه جميع الأسباب.
Page inconnue