نحن لا ننكر أن الفلسفة كانت في بعض العهود علما ممقوتا في الأندلس لا يسلم المشتغل بها من اضطهاد، ولا أن بعض الذين عنوا بها قتلوا في سبيلها، أو كانت حياتهم في خطر بسببها، ذلك حق لا شبهة فيه، وقد حفلت كتب التاريخ بالمثل والأدلة عليه، ولكن نرى أن من الحق أن نذهب إلى أن اضطهاد الفلاسفة بصفة عامة، وابن رشد بصفة خاصة، كان من أسبابه الهامة الخروج في شيء من آرائهم عن الدين؛ إما في الواقع، وإما لأن الجهل يخيل ذلك للعامة وللفقهاء، فيندفعون للتعصب ضدهم، ويجاريهم الولاة والخلفاء أحيانا كسبا لقلوبهم، واستدامة لسلطانهم.
وإلا يكن هذا صحيحا، فكيف لم ير المنصور نفسه بأسا في أن يشتغل ابن زهر بالفلسفة، التي حرم الاشتغال بها، لثقته بدينه وعقله! وكيف أن ابن زهر هذا أبى على بعض تلاميذه أن يشتغلوا بشيء منها قبل إتقان علوم الدين، واعتيادهم القيام بالشعائر الدينية كما سبق أن بيناه!
فإن صح ما ذكره الأنصاري من حادث الريح، يكن من الواجب أن يدخل في أسباب النقمة على ابن رشد ما كان منه في هذا الحادث؛ مما يعتبر تكذيبا لبعض ما جاء به القرآن، حين أنكر الريح التي هلك بها قوم عاد.
وقد يدل لهذا أيضا ، أن نفس هذا الخليفة الذي نكب فيلسوفنا، وهو يعقوب المنصور، كان قد ساءه كثيرا تشعب الآراء في الفقه، فعمل على محو مذهب مالك - رضوان الله عليه - وحمل الناس على القرآن والحديث أو السيف، كما يذكر المراكشي.
إذن فما كان من نكبة ابن رشد وتشريد أصحابه يرجع، فيما يرجع إليه من أسباب، إلى الرغبة في الحجر على العقل والتفكير في بعض الحالات، سواء أكان ذلك في الفقه أو الفلسفة؛ وذلك حتى لا يحدث في الدين من آراء الفقهاء ما ليس منه، وحتى لا يكون من ناحية الفلسفة ما قد يؤخذ منه المعارضة لبعض ما جاء به القرآن أو الدين بصفة عامة، فيثور الفقهاء وتتبعهم العامة، وذلك ما لا يرضاه ملك يحرص على جمع الكلمة والأعداء منه بمرصد، وبخاصة وقد كان المنصور، كما يذكر ابن خلكان والمقري، رجلا يحفظ القرآن والحديث، ومجددا للدين معليا لسلطانه، ومتمسكا عمليا به، ومشورا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من القول والعمل، كما كان محبوبا من الشعب حبا شديدا. •••
ومهما كانت الأسباب التي أدت إلى نكبة ابن رشد؛ فإنه كما يقول رينان بحق في كتابه «ابن رشد ومذهبه»، في تلك الفترة من الزمن، قد نجح الحزب الديني ضد الحزب الفلسفي؛ إذ نفي مع أبي الوليد أربعة آخرون ذكرهم صاحب «طبقات الأطباء».
أما هو فقد كان منفاه «أليسانه»، وهو بلد قريب من قرطبة، وكان لليهود خاصة، وفي هذا غمز له في نسبه كما يروي الأنصاري، وأنه ينتسب إلى بني إسرائيل، وأما رفقاؤه الأربعة في المحنة فقد أمروا أن يكونوا في مواضع أخر.
وقاسى ابن رشد في محنته هذه كثيرا من الشدائد، وكان آلمها طرده هو وابنه من المسجد يوما ما في قرطبة؛ مشرقه وموطن مجده، وقد هما بدخوله لأداء صلاة العصر، كما ذكرنا قبل. وهذا معناه أن نكبته ذاع أمرها، وعلم بها الناس حتى العامة، وأنها صادفت هوى في نفوسهم ، وهو الذي كان ينفق جاهه وماله في سبيل سعادتهم، كما أن تلاميذه تفرق شملهم وتباعدوا عنه.
على أن زمن المحنة لم يطل، كما أن شمسه آذنت بعد ذلك للمغيب، فقد تغيرت نفس المنصور بعد عودته إلى مراكش، ومال من جديد إلى تعلم الفلسفة، فألغى مراسيمه بتحريمها واضطهاد أهلها، وشهد لديه جماعة بحسن دين ابن رشد وعقيدته، وأنه على غير ما نسب إليه، فعفا عنه وعن صحبه سنة 595ه، واستدعاه إلى مراكش ليكون بحضرته.
إلا أنه لم يلبث طويلا، فمات في هذه السنة بمراكش قبل وفاة الخليفة المنصور بيسير، عن اثنين وسبعين عاما وبضعة أشهر، ثم حمل رفاته إلى قرطبة بعد ثلاثة أشهر؛ حيث دفن بمقبرة أسرته.
Page inconnue