هذه هي نظرية الاتصال، الأساس لعلم النفس كله، وتاج نظرية المعرفة لدى فلاسفة الإسلام، والتي كانت الشاغل لهم جميعا، وبالرجوع إلى أقوال ابن رشد وآرائه التي ذكرناها أو أشرنا إليها، وإلى مؤلفات من كتبوا عنه وعن غيره من فلاسفة الإسلام، نعلم مبلغ مقاومته للتصوف الذي كان قد انتشر واشتد أمره بعد الغزالي، الذي يراه أقوم الطرق إلى الله وآكدها، كما نعلم كيف عمل على الانتصاف للعقل والفلسفة بجعل التفكير الفلسفي وحده هو سبب المعرفة والسعادة الكاملة بالاتصال بالعقل الفعال، أو بالله العليم الحكيم.
ابن رشد والغزالي
1
يقول البارون «كارا دي فو
Carra de Vaux » في كتابه عن الغزالي:
عادة المتكلمين في قتال الفلاسفة ترجع إلى بدء عهد المدرسة الفلسفية بالوجود. هذا الكفاح بدا في رأيهم ضروريا ضد الفلاسفة، كما هو ضروري أيضا ضد المعتزلة. إنه مهما يكن إخلاص الفلاسفة شخصيا كمؤمنين؛ فإن مذاهبهم في نظر حماة الدين والعقيدة كانت تعتبر خطرة؛ لأنهم حكموا - وإن لم يصرحوا - بأن مذهب الفلاسفة يعتد بالعقل أكثر مما ينبغي، ويجعل الفلسفة القديمة تسير في معرفة الحقيقة بجانب الوحي أعلى منه قليلا.
وهذا حق كله؛ فإن سوء تقبل رجال الدين للفلسفة معروف، لا فرق بين المتقدم منهم والمتأخر في الزمن، وقد أشرنا فيما تقدم إلى بعض أسباب هذا ومظاهره.
إلا أن حجة الإسلام هو الذي كان فارس الميدان في الرد على الفلاسفة بكتابه الذي خلد على الزمن، وهو «تهافت الفلاسفة»؛ فقد قدم له بكتاب سماه «مقاصد الفلاسفة» عرض فيه مذاهب الفلاسفة التي أراد أن يبين تهافتها؛ إذ «رد المذهب قبل فهمه والاطلاع على كنهه رد في عماية.» كما يقول، وكذلك يكون الأمر إن كان الرد على المذهب قبل عرضه للناس عرضا واضحا شافيا.
ثم دفعه لصرف الهمة لتعلم الفلسفة، والرد على ما رآه مجانبا للحق في رأيه منها، ما يذكره في «المنقذ من الضلال» أيضا، من أنه «لم ير أحدا من علماء الإسلام صرف عنايته وهمته إلى ذلك».
ولا نناقش هنا دعوى الغزالي هذه التي قد توهم أنه كان الأول الذي عني بالرد على الفلاسفة، ولكنا نذكر أنه عرف ابن جزم الأندلسي صاحب كتاب «الفصل»، الذي يتضمن مجهودا طيبا له في الرد على الفرق المخالفة للإسلام وعلى الفلاسفة أيضا، كما نذكر أستاذ الغزالي نفسه وشيخه إمام الحرمين؛ عبد الله بن محمد الجويني، الذي له مثل هذا المجهود في مؤلفاته الكلامية، مثل: «البرهان في أصول الدين» و«الإرشاد في قواعد الاعتقاد».
Page inconnue