Ibn Hazm : Sa vie, son époque, ses vues et sa jurisprudence
ابن حزم حياته و عصره آراؤه وفقهه
Maison d'édition
دار الفكر العربي
Lieu d'édition
القاهرة
الشعر ينطق لسانه، واتجه إلى أفاضل الشيوخ يغترف من مناهلهم العذبة، ويقتدى بأخلاقهم الفاضلة.
ومن الحق أن نقول إن ذلك العيش الرافع الهنى، وتلك السعادة الهادئة الناعمة، لم يستمرا لهذا الغلام الناشىء، ولا لأسرته، فقد كان أبوه وزيراً، وقديماً قال الحكماء ((من أكل من مال السلطان فقد سعى بقدمه على دمه)) وكانت وزارة أبيه في آخر عهد الأمويين الأول بالأندلس، أي وقت انحلال الأمر من أيديهم وخروجه من سلطانهم إلى سلطان أبي منصور العامري وأسرته. وإذا كان الأمر كذلك لا يكون قرار واطمئنان للوزراء ومن على شاكلهم فالنکبة تلحق بهم لا محالة عند تغير من كانوا له وزراء، أو عاملين. وكذلك كان. وابن حزم يقص علينا في حياته الناعمة هذه كيف كان تبدل النعيم بؤساً، وكيف كان يذوق منه كأسه المرة في وسط ذلك العيش الحلو، فهو يقول مشيراً إلى ما نزل بهم وهو في الخامسة عشرة من عمره: ((شغلنا بعد قيام أمير المؤمنين هشام المؤيد بالنكبات، وباعتداء أرباب دولته، وامتحنا بالاعتقال والتغريب والإغرام الفادح والأستتار، وأرزمت الفتنة وألقت باعها وعمت الناس وخصتنا، إلى أن توفى أبي الوزير رحمه الله، ونحن في هذه الأحوال بعد العصر يوم السبت لليلتين بقيتا من ذي القعدة عام اثنين وأربعمائة))(١).
كانت هذه المحنة الأولى التي رآها، وذاق مرارتها في وسط تلك العيشة الحلوة، ولم تكن محنة قصد هو وأسرته فيها بالقصد فقط بل كانت الفتن والاضطرابات التي اعترت الدولة الأندلسية في آخر حكم بني عامر الذين استبدوا بالأمر دون الخليفة الأموي الضعيف هشام المؤيد. فقد اضطربت قرطبة وصارت مستراداً للجيوش ينهبون فيها ويشردون أهلها من وقت الفتن التي ابتدأت سنة ٣٩٨ إلى ما شاء الله وأراد، وقد اختص الجانب الغربي منها بالنهب، حتى اضطرت أسرة ابن حزم إلى أن تهجر قصورها من شرق الأندلس إلى غربها. وفي ذلك يقول ابن حزم :
(١) طوق الحمامة ص ١١٠ طبع القاهرة.
28