والتاريخ حافل الصفحات بألوان من الخصومات والافتراءات على الرجال والأئمة، بل وعلى الرسل والأنبياء.
يقول جلال الدين السيوطي: «ما كان كبير في عصر قط إلا كان له عدو من السفلة؛ إذ الأشراف لم تزل تبتلى بالأطراف.» ثم يضرب الأمثال من الأنبياء والرسل - صلوات الله عليهم - الذين ابتلوا بالخصومات والافتراءات، ثم بكبار الصحابة، كسعد بن أبي وقاص الذي نسب إليه أهل الكوفة أنه لا يحسن الوضوء ولا الصلاة، وهو من هو في كماله وإيمانه! وأحمد بن حنبل الذي ضرب حتى مزق جسده، وهكذا، ثم يقول: «ولقد اختص المتصوفة بالنصيب الأكبر من هذا الابتلاء.»
والسيوطي هنا يقرر حقيقة من حقائق التاريخ التي لا يرقى إليها الشك، فما من صوفي إلا وأحاطت به عصبة السوء والإفك، تجريحا وتشهيرا، ودسا وافتراء، لقد نفوا البسطامي سبع مرات من بلده بتهمة الكفر والزندقة، وأحلوا دم ذي النون المصري، وشهدوا على الجنيد بالكفر والإلحاد، ودسوا على الغزالي في الإحياء عدة مسائل، تنبه لها القاضي عياض؛ فأرشد إليها وأمر بإحراقها.
ولم يكتف خصوم محيي الدين بالدس عليه في كتبه والتشهير بألسنتهم به، بل أضافوا إلى جريمتهم جريمة أخرى أشد وأنكى، فقد أخذوا يؤلفون على ألسنة شيوخ الإسلام الكلمات القاسية الجارحة الموجهة إلى محيي الدين؛ ليزيدوا في تدعيم مؤامرتهم، وليزيدوا النار اشتعالا.
ووقع كثير من رجال التاريخ فريسة سهلة لهذا اللون الجديد؛ فأخذوا يرددون أمثال هذه الافتراءات، وينسبونها إلى هؤلاء الأعلام، ولا عجب في هذا، فكتب التفسير مثلا تموج موجا بالإسرائيليات التي تنسب ظلما إلى ابن عباس - رضي الله عنه - وهو منها البريء المطهر، ولقد نسبوا فيما نسبوا إلى شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام أنه قال عن محيي الدين: إنه زنديق! ورواها عنه أكثر من مؤرخ، ثم نرى كتب التاريخ الصحاح تقص علينا حادثة أبعد ما تكون عن الرواية الأولى، على لسان مريد من تلامذة شيخ الإسلام يقول: كنا في مجلس الدرس بين يدي الشيخ عبد السلام، فجاء في باب الردة لفظة زنديق. فقال بعضهم: هل هي عربية أم أعجمية؟ فقال بعض الفضلاء: إنما هي فارسية معربة أصلها «زن. دين» أي: على دين المرأة، وهو الذي يضمر الكفر ويظهر الإيمان. فقال بعضهم: مثل من؟ فقال آخر إلى جانب الشيخ: مثل ابن عربي بدمشق؛ فلم ينطق الشيخ ولم يرد عليه، ووجم لها من في المجلس.
قال المريد: وكنت صائما ذلك اليوم، فاتفق أن الشيخ دعاني للإفطار معه، فحضرت ووجدت منه إقبالا ولطفا. فقلت له: يا سيدي، هل تعرف القطب الغوث الفرد في زماننا؟ فقال: ما لك ولهذا؟ فعرفت أنه يعرفه؛ فرجوته وألححت في الرجاء، فقال لي: هو ابن عربي؛ فعجبت وقلت: يا سيدي، لقد حدث اليوم أن رماه بعضهم في مجلسك بالزندقة ولم ترد عليه! فتبسم الشيخ وقال: اللجاجة مع المتعنت لا تنتج إلا ضررا، وقائل تلك الكلمة: لجوج حقود، يريد بابا للجدل؛ حتى يفرغ ما في جوفه.
النبي والولي
وخصوم ابن عربي على لونين: لون صناعته الدس وسوء القصد، وقد توصلوا إلى أغراضهم بتزييف الآراء على ألسنة الأئمة والعلماء، وتزييف القول وبثه في كتب محيي الدين، كما حدث في الفتوحات والفصوص والمشاهد، وقد تنبه رجال التصوف كالشعراني، والمؤرخين الثقات كالفيروز آبادي، وصاحب نفح الطيب إلى ذلك.
والفريق الآخر: خصومته أساسها سوء الظن، أو سوء الفهم لكلمات محيي الدين. يقول الشعراني: سمعت سيدي عليا الخواص يقول: «لو أن كمال الدعاة إلى الله - تعالى - كان موقوفا على إطباق الخلق على تصديقهم؛ لكان رسل الله - صلوات الله عليهم - أولى بذلك، وقد خاصمهم الناس فريقا يقتلون، وفريقا يأسرون ويكذبون.»
ولقد صدق الخواص، فحتى الرسل لم تسلم دعوتهم الربانية من المؤولين والمكذبين.
Page inconnue