وقل رب زدني علما ، أي: زدني من كلامك ما تزيدني به علما بك.
والتجلي أشرف الطرق إلى تحصيل العلوم، وهي علوم الأذواق، ولكل شيء ظاهر وباطن، وكذلك نفس الإنسان لها ظاهر وباطن؛ فهي تدرك بالظاهر أمورا، وتدرك بالباطن أمورا.
والتجلي يأتي للنفس البشرية بحسب حالتها واستعدادها؛ فتقع الزيادة في علوم الأحكام إن كان من علماء الشريعة، وفي علوم موازين المعنى، إن كان منطقيا، وفي علوم ميزان الكلام إن كان نحويا، وكذلك صاحب كل علم.
أما الصوفي، فتقع له الزيادة في عالم الحقائق والمعاني، في العلوم الإلهية، وعلوم الأسرار، وعلوم الباطن، وما يتعلق بعلوم الآخرة، وتلك منحة المنح لهم.»
ثم يقول محيي الدين: «إن تلك الهبات الروحية الهابطة من مقام التجلي على كل بحسب علمه، تجعل الإنسان في زيادة علم أبدا، من ناحية ما تعطيه حواسه وتقلبات خواطره، ولكن أغلب الناس لا ينتفعون بهذه العلوم؛ لأن الظن والشك والوسوسة تفسدها، كما تذهب بها الظلمة، ولا يسلم دائما إلا أهل الله الذين برئوا من الظنة والشك، وليست للوسوسة عليهم سلطان، ولا للظلمات إلى حياتهم من سبيل؛ فهم في نطاق الرحمة والعناية، وفي زيادة دائمة متلاحقة من العلوم والمعارف.»
ثم يقول: «ولكل رجل من أهل الله، سلم يخصه، يرقى فيه في معارج التجليات، ولا يرقى معه غيره في ذلك السلم.
ولسلم المعارف درجات، أولها: الانقياد، وآخرها: الفناء، وما بين هاتين الدرجتين: أنوار، وأسرار، وفيوضات، وهبات لدنية.»
ويربط محيي الدين على أفواه من يريد أن يتطرق من هذا القول إلى الظنة، ورمي المتصوفة بالباطل من القول؛ فيمسك بالميزان القسط قائلا: «إن الأمر الإلهي التشريعي انتهى بانتهاء الأنبياء، وختم بخير الرسل، فما بقي للولي العابد العالم إلا المناجاة الإلهية، التي لا أمر فيها؛ وإنما سمرا وحديثا ومحبة ورضا، فكل من قال من أهل الكشف: إنه مأمور بأمر إلهي في حركاته وسكناته، مخالف لأمر شرعي محمدي تكليفي؛ فقد التبس عليه، أو زج بنفسه بيننا وليس منا.»
الطريق الأعظم
فإذا انتهى محيي الدين من تقسيم العلوم إلى أقسامها الثلاث، وأن أشرفها وأسماها علم الأسرار، وهو علم الكمل من المتصوفة، وإذا فرغ من مقام التجليات وأثره في العلوم عامة، وعلوم الله خاصة، أخذ يلقي النور على الغاية من الحياة، وعلى الطريق الأعظم الموصل إلى الله، وهو طريق أهل الخلاصة، أو أهل الصفوة المختارة من العباد، الذين هم عطر هذا الوجود، ومحل النظر والعناية من خالقه، فيقول: «اعلم أن الطريق إلى الله - تعالى - الذي سلكت عليه الخاصة من المؤمنين الطالبين نجاتهم، دون العامة الذين شغلوا أنفسهم بغير ما خلقت له، على أربع شعب:
Page inconnue