ويجعل لكم نورا تمشون به . والنور هو العلم، والفرقان أعلى فيوضات الإلهام.»
آيات بينات محكمات، في حقيقة الفيض الرباني، الذي يفجر الحكمة والعلم في قلب المؤمن العابد الذاكر، الذي يعيش جالسا على باب ربه خاشعا، مجردا خاليا من كل شيء، متوجها إلى الواهب القادر الذي يجعل لمن قصده نورا يعيش به، وفرقانا يمشي على هداه.
ثم يقول محيي الدين: «فحينئذ يحصل لصاحب الهمة في الخلوة مع ربه - جلت هيبته وعظمت منته - من العلوم ما يغيب عندها كل متكلم على البسيطة؛ لأنها من وراء أحكام العقل، وليست في متناوله ولا طاقته؛ لأنها منة الوهاب العليم.»
قيل للجنيد: بم نلت ما نلت؟ فقال: بجلوسي تحت تلك الدوحة ثلاثين سنة، دوحة المراقبة والطاعة، والعبودية الكاملة.
وكان أبو يزيد البسطامي يقول في محاججته لعلماء الرسوم: أخذتم علمكم ميتا عن ميت، وأخذنا علمنا من الحي الذي لا يموت.
ومحيي الدين يصرح في كل ما يكتب بهذه المعاني، فهو يقول: «إن جميع ما أكتبه في تأليفي ليس عن روية وفكر؛ وإنما هو عن نفث في روعي على يد ملك الإلهام.» ويقول في الباب الثالث والسبعين وثلاثمائة من الفتوحات: «وجميع ما كتبته وأكتبه في هذا الباب؛ إنما هو من إملاء إلهي وإلقاء رباني، أو نفث روحاني في روح كياني؛ كل ذلك بحكم الإرث للأنبياء، والتبعية لهم، لا بحكم الاستقلال.» ثم يقول: «وتصانيفي إنما هي من حضرة القرآن وخزائنه؛ فإني أعطيت مفاتيح الفهم فيه والإمداد منه.»
ويقصد محيي الدين من قوله: بحكم الإرث للأنبياء والتبعية لهم قول الرسول - صلوات الله عليه: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل.» أي: في الكشف والعلم، والنفث في الروع، والإمداد، والفيض الإلهي.
والكشف الباطني، أثير حوله الجدل والحوار، في سائر أنحاء الكوكب الأرضي، قديما وحديثا.
فالماديون لا يرون للمعرفة والعلم بابا إلا الحواس الخمس المتصلة بعالمنا، ويقررون أن لا مصدر فوق هذا تصدر منه المعرفة غير الخيال والتصور. وما كان الخيال والتصور يوما من الأيام حكما ترضى حكومته في المعارف اليقينية، والعلوم الصحيحة الثابتة، وهم شديدو التهكم برجال الدين، والكشف الباطني، ومن سلك مسلكهم من أصحاب الرياضة العقلية، والصفاء الروحي.
أما الصوفية والروحانيون على اختلاف أديانهم وألوانهم ومذاهبهم، فيقررون أن للعلم وسائل باطنية يقرها العقل المنصف، ويعترف بها الواقع الملموس المشاهد، أساسها الصلة بين النفس الإنسانية والعالم الروحاني، كما يقول الروحانيون، أو بين النفس الإنسانية وخالقها، كما يقول المتصوفة. أو كما يعبر محيي الدين: «إن الله هو المعلم الحقيقي، والمؤدب الحقيقي للوجود كله، خلق الإنسان علمه البيان، ويؤتي الحكمة من يشاء، وعلم الخضر، ومن يسلك نهجه ويقرب قربه، من لدنه علما، وأدب من اصطفى واختار فأحسن تأديبه.»
Page inconnue