ولقد مر بنا أن محيي الدين كان في مجالسه مع الملوك الناصح الموجه، الذي يقرع بكلمة الحق القوية أسماعهم؛ فيسارعون إلى الإجابة والإنابة.
ورأينا ملك قونية يلقبه بالوالد، وملك حلب يخاطبه بالمولى، والملك العادل الأيوبي يلتمس منه إجازة بخطه تبيح له قراءة كتبه وروايتها.
ثم يحدثنا التاريخ أن ملك الروم سعى يوما إليه ليزوره وينتفع بعلمه، فلما خرج من عنده خرج مصفر الوجه مرتعد الجوارح، فسأله بعض رجاله عن حاله، فقال: هذا رجل تذعر منه الأسود.
وسئل محيي الدين عن سر ذلك الرعب الذي يأخذ بالملوك والأمراء والسادة في مجالسه، فقال: «لقد خدمت بمكة رجلا صالحا، فدعا الله أن يذل لي أعز خلقه.»
محيي الدين الذي سعى إليه الملوك، وذل له الأمراء والسادة، صاحب السلطنة والشخصية الآخذة الزاحفة، كان آية الآيات في الزهد والقناعة والتواضع؛ لأنه مؤمن، والمؤمن يعرف أول ما يعرف قدر نفسه، وحقيقة واجباته، ولون رسالته.
هو العزيز القوي لدى الملوك والأمراء والسادة؛ لأنه يحب أن يقرع أسماعهم بكلمة الحق، يحب أن ينتزع من مخالبهم حقوق الضعفاء ولا سبيل إلى ذلك إلا بالقوة والعزة.
كان محيي الدين آية التواضع للضعفاء، بل الخادم الساعي في ركاب الصالحين والأولياء، خدم في إشبيلية امرأة عجوزا عابدة، وخدم في مكة رجلا صالحا فقيرا، وكان يسعى دائما إلى أمثاله خادما ومعينا، وهذا فرق ما بين عظماء المتصوفة وعظماء الدنيا.
ولعل من أسرار قوته الروحية العظمى، التي هي أساس بناء الشخصية الكاملة: عزمه القوي الذي تميز به، عزمه الذي سلطه على نفسه؛ فأخضعها وسيرها وتولاها حتى في منامها.
يقول ابن شودكين عنه: «كان محيي الدين يقول: ينبغي للعبد أن يستعمل همته في الحضور في مناماته؛ بحيث يكون حاكما على خياله يصرفه بعقله نوما، كما كان يحكم على يقظته، فإذا حصل للعبد هذا وصار خلقا له وجد ثمرة ذلك، وانتفع به في كل شيء.»
ولقد كان من ثمرات هذا العزم الجبار: المساهمة في بناء هذه الشخصية الجبارة المهابة، التي تحكمت في خيالها في يقظتها ومنامها.
Page inconnue