جلس المعتمد إلى ابن عمار وقد اقتعدا السندس يرنوان إلى ذلك النهر تمسه نسمات من الهواء فتجري مياهه في تموج رجراج كأنه شعر غانية ترسله، وإن الشاعرين لينعمان بتلك النسمات تنفح وجهيهما بهواء لين كأنما هو القبلات الرقيقة تغمر بها الحبيبة وجه من تحب، وإذا الشاعران يصمتان تائهين تيه المخلوق أمام روعة الخالق، ولكن المعتمد كان أسبق من ابن عمار في التخلص من إنسانيته ليرف إلى شاعريته، فهو يتكلم دون أن يلتفت إلى ابن عمار، وإنما هو ناظر إلى النهر لا يريم، يقول المعتمد: أجز يا ابن عمار.
ترقرق الماء بهفهاف النسيم واطرد
يا لوحة أبدعها بفنه الفرد الصمد
ولكن ابن عمار يغرق في صمته وتخشعه ويهم بأن يسأل المعتمد أن يعفيه من إكمال الأبيات، ويهم بأن يعتذر بروعة المنظر المسكتة عن عجز فهو يعرف أن أي كلام مهما يكن شعره هو أو شعر المعتمد لن يحيط بهذه الفتنة التي تحيط بهما، يهم ابن عمار أن يفعل، ولكن صوتا رقيقا عذبا ينساب من قريب يخاله الشاعر نسيما من النسيم، أو خفقة من النهر، أو صوتا للكون الطروب حولهما قد انبعث يكمل البيتين ببيتين، ويلتفتان إلى الصوت فيجدان حورية قد جلست منهما غير بعيد رانية إلى النهر غير ملتفتة إلى الصاحبين، وإنما هي تنشد شعرها وكأنما تنشده لنفسها، وينظران إلى جانب وجهها فيريان جمالا لم يرياه من قبل وهما المعتمد وابن عمار، ثم يسمعان شعرا لم يسمعاه من امرأة قبل وهما المعتمد وابن عمار، قالت الفتاة:
أجمل بها يوم الوغى
لو أن ذا الماء جمد
تخالها منسوجة
من حلق ومن زرد
ويقفز الشاعران من مكانيهما ويهفوان إلى تلك الحورية التي انبعثت لا يدريان من أين، ويسرع المعتمد إليها فيضع يده على جسمها؛ فقد خشي أن يكون الخيال قد خلق ما يريان ولكن الحورية تلتفت إليه وفي فمها ضحكة، وفي وجهها بشر، وفي عينيها وميض، ثم هي تقول: بل هي حقيقة أيها الأمير، بل هي حقيقة.
ويضطرب المعتمد من ذلك الجمال الذي شع في عينيه فهو يقول: وتعرفينني؟ - ومن لا يعرف الأمير الشاعر وصاحبه الوزير؟ - فمن أنت إذن؟ - أنا روميكا. - أشاعرة أنت؟ - بل جارية. - بل أميرة، دونك والقصر.
Page inconnue