أصبح ابن عمار إذن من شعراء القصر، لقد آن للشريد في أقطار الأرض أن يراح إلى ملجأ وأن يهدأ إلى مستقر. يتلقى ابن عمار ذلك الخير ويهم بأن يذهب إلى الحجرة التي خصصت به، لكن خادما يأتي إليه ويخبره أن مولاه المعتمد يطلبه فيجف قلبه! وكيف لا؟ المعتمد شاعر رقيق غزل لم يقل الشعر في يوم تكلفا ولم يقله محتاجا وإنما أحسه فقاله وابن عمار لم يقل الشعر إلا صناعة! وكيف لا؟ وهو قد تلقى هذا الخير جميعه ولا بد لشر أن يلحق بالخير، ولا بد للمعتمد أن ينتقد، ونقد الأمير شتيمة قد تصل إلى ما هو أدهى.
يذهب ابن عمار إلى حيت يدله الخادم فإذا هو يجد ثلة من القوم ليس بينهم من هو أفضل من الآخر وقد افترشوا جميعا وسائد على الأرض، ويبحث بينهم عن المعتمد الذي رآه في مجلس أبيه فلا يجده فيلتفت إلى الخادم يسأله عن المعتمد ولكن الخادم كان قد انصرف، فيعيد وجهه إلى القوم فإذا هم مشرئبون إليه وإذا واحد منهم كان قد رآه حين أنشد قصيدته يقوم إليه ويقدمه إلى الجالسين ويفهمهم أنه أصبح منهم، فيعلم ابن عمار أن هؤلاء هم شعراء القصر فلا يحتشم منهم شيئا؛ فقد كان يعلم أنه خير منهم صناعة وأنه أكبر منهم نفسا، يجلس إليهم فيقولون ويقول، ويسمرون فيسمر، فإذا هو أكثرهم دعابة وإذا دعاباته تنطلق على طبيعة مواتية لا أثر فيها للكلفة فقد رأى كثيرا وتعلم، ولقد اختلط بأقوام كثيرين وعلم أن المرح هو خير عون له بعد الشعر وعرف أيضا أن هذا المرح إن شابه تكلف أو صناعة أصبح ثقلا لا يحتمله أحد، كان من حسن طالعه أن روحه كانت صافية بطبيعته؛ فهو ينطلق على سجيته، فيجد الجالسين يميلون إليه بحديثهم، ويؤثرونه بالتفاتهم، وإذا هو روح المجلس المنطلقة الجميلة.
وبينا ابن عمار منطلق في دعاباته، إذا بالمجلس قد غشيه الوقار فجأة، وإذا بالمنطرحين إلى الأرض قد نفروا جميعا وقوفا، فيعجب ابن عمار عجبا يقطعه صوت جديد عليه يلقي السلام إلى من بالحجرة، ويلتفت ابن عمار فيجد المعتمد داخلا إليهم من باب لم يكن ظاهرا فيرى ابن عمار تلك الأبواب السرية التي كان يسمع عنها وإن كان لم ير داعيا لهذا التخفي الذي اتخذه المعتمد وهو يدخل إليهم. يدخل المعتمد وعينه على ابن عمار ثم هو يطلب من الشعراء أن يتخذوا مجالسهم، فيتخذوها متوقرين ويلتئم الجمع حول المعتمد، فيلتفت إلى ابن عمار ويقول له: هيه يا ابن عمار! لو أن الشعراء فعلوا ما فعلت اليوم ما ربح أحد منهم شيئا، أتمشي أيها الرجل قبل أن تنال جائزتك؟
فيقص ابن عمار على المعتمد كل ما لاقاه في يومه هذا من آمال خابت وحمار سرق ثم يكمل القصة بهذا الخير الذي سكب عليه، وكان ابن عمار يقص في انطلاقة لم يعهدها المعتمد فيمن يحادثه وفي مرح طرب له المجلس وعلى رأسه المعتمد، وابن عمار جذلان بما يلاقي كلامه من استحسان يشجعه على المضي في حديثه؛ علمه أن الأمير يشتهي دائما أن يسمع الحديث عبيطا لا أثر فيه لتنميق لكثرة ما يسمع من التنميق، ويشجعه من قبل ذلك الضحك الذي يستقبل به. وهكذا عرف ابن عمار كيف ينفذ إلى المعتمد فيصل إلى نفسه من الطريق القريب وهو طريق الطبيعة العارية التي لا تحب التعمل ولا التكلف، وهو الطريق الذي عمي عنه كل من صاحب المعتمد من قبل؛ فإن أقرب الطرق دائما هي أبعدها عن الذهن المحدود.
سر المعتمد بالشاعر الجديد وقربه إلى مجلسه ثم حادثه عن قصيدته التي ألقاها في أول الليل فإذا هو معجب بها فيجيب ابن عمار: وأين هذا يا مولاي من قصيدتك التي تقول فيها:
سكن فؤادك لا تذهب بك الفكر
ماذا يعيد عليك البث والحذر؟
وازجر جفونك لا ترض البكاء لها
واصبر فقد كنت عند الخطب تصطبر
وإن يكن قدر قد عاق عن وطر
Page inconnue