57

ويتشكك الكثيرون منهم في نسبته إلى حام؛ لأنهم لا ينسبونه إلى فصائل الآدميين! •••

يعود نقاد الاجتماع المحدثون إلى عقيدة الخطيئة وزلة آدم في الفردوس، وهبوطه مغضوبا عليه إلى الأرض، فيحاولون تفسيرها بأحوال الطبقات واختلاف هذه الأحوال بين عصر النبلاء وعصر أبناء الطبقة الوسطى، ومن هؤلاء النقاد جون فلكسنر “Flexner”

الأمريكي، الذي يقول في فصل كتبه عن الملك الفنان: «إن عقيدة القرون الوسطى أن الإنسان سيئ بطبيعته من أثر الخطيئة المتأصلة فيه قد وافقت الميول الأرستقراطية؛ لأنها سوغت كبح الفرد والحد من حريته، بيد أن الطبقة الوسطى المناهضة باجتهادها لتستقبل الفرص السانحة لها أصرت على براءة الإنسان ، وأنه قد ولد ملكا وأفسدته النظم التي فرضها عليه الملوك.»

وليس في المقارنة بين العقائد والأحوال الاجتماعية ما يرجح هذا التفسير أقل ترجيح؛ لأن عقيدة سقوط آدم تشمل الإنسان الحاكم وتشمل الإنسان المحكوم، وقد اقترنت بها عقيدة ملازمة لها أشد قسوة على الحاكمين من كل عقيدة شاعت في العصور الحديثة، وتلك هي عقيدة السيادة الشيطانية على الأرض، وأن سادة هذا العالم شياطين أو حلفاء للشياطين.

ولم تقرر المسيحية دعوة كما قررت هذه الدعوة التي تفرق بها كل التفرقة بين مملكة العالم وملكوت السماء أو ملكوت الله. تكاد المسيحية كلها أن تكون مجموعة في هذه الدعوة قبل غيرها من دعواتها الأصيلة، فقد كان حتما لزاما أن تجتهد المسيحية اجتهادها كله في التفرقة الكاملة بين مملكة الأرض وملكوت الله الذي بشر به السيد المسيح، كان ذلك حتما لزاما؛ لأنها نقلت رسالة المسيح المخلص من إقامة العروش على الأرض - أو تجديد ملك داود - إلى إقامة الملكوت الإلهي في السماء.

وكان ذلك حتما لزاما؛ لأنها جاءت بالعزاء للمحرومين من سيادة الأرض والمبتلين بطغيان سادتها، فهم في حمى الله صاحب الملكوت الأعلى؛ إذ يكون أصحاب السيادة والطغيان في حمى الشيطان وفي هاوية الأرض وما وراء من هاوية الجحيم: «طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات، طوبى للحزانى لأنهم يتعزون، طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض، طوبى للجياع والعطاش إلى البر لأنهم يشبعون، طوبى للرحماء لأنهم يرحمون، طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله، طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون، طوبى للمطرودين من أجل البر لأن لهم ملكوت السماوات».

فرسالة المسيحية في جانب الإنسان المغلوب، وسيادة العالم هي ثمرة الخطيئة التي باء بها الغالبون، ولم يتسم الشيطان بوسم السيادة على العالم تعظيما له، بل تهوينا من شأن العالم، وتحقيرا لغنائمه ومطامعه وشهواته، ولم يكن أيسر على طالب الحرية الفردية في الحضارة الحديثة من أن يقول: إنه هدم سيادة الشيطان، وإنه غلب الخطيئة في معقلها وكفر عن جرائرها بالثورة على أصحاب السيادة الشيطانية.

وعلى هذا الفهم ينبغي أن تفهم رسالة المسيحية التي بشرت بملكوت الله، وجعلت هذه البشارة مقارنة للنعي على السيادة الشيطانية والإزراء بها، فكل تعظيم لسيادة الشيطان فهو في لبابه تهوين للعالم الذي يسوده، وتقديس للملكوت الإلهي الذي يرجوه المساكين والحزانى والودعاء والمطرودون من أجل البر وصانعو السلام.

أما رسالة المسيحية في تقرير طبيعة الشيطان نفسه، فهي تفرقة أخرى لا تقل في قوة مغزاها عن تلك التفرقة بين مملكة هذا العالم ومملكة السماء.

لقد كان الضرر والشر مترادفين في الديانة العبرية أو كالمترادفين، فالمسيحية هي التي فرقت بين الضرر الذي هو نقيض السلامة والأمان والمنفعة، وبين الشر الذي هو نقيض الخير والفضيلة والصلاح، فذلك ضرر مرتبط بالديانة، وهذا شر مرتبط بالمروءة والتقوى.

Page inconnue