وتعود الأقاويل إلى «الشاكتي» فتجعل لها طبيعتين: طبيعة بيضاء منها الرفق والرحمة، وطبيعة سوداء منها العسف والقسوة، وقد تتسمى الطبيعة الواحدة باسمين؛ فتصبح «الشاكتي» الواحدة ذات أربعة أسماء غير اسمها الأصيل، وعلى هذا المثال تسمى قرينة سيفا إله الشر باسمها الأصيل «ماهسواري»، ثم تسمى باسم «أوما» واسم «جورى» حين ترجى منها الرحمة والمودة، وتسمى باسم «جوري» واسم «كالي» حين تخشى منها النقمة وسوء النية. واسم كالي الأخير هو الاسم الذي يعرفها به عبادها الذين اشتهروا باسم الخناقين، واتخذوا شعارهم في القرابين البشرية قتل الضحايا بغير إراقة الدماء.
وقد عاشت جماعة الخناقين زهاء ستة قرون تتعبد للإلهة «كالي» بخنق ضحاياها، والتقرب بأسلابهم على محاريبها. وتتخيل هذه الإلهة على مثال امرأة عابسة تحيط خصرها بنطاق من الجماجم والسكاكين، وتحمي كل من يطيعها ويتقرب إليها بتلك القرابين. وعقيدتهم في ذلك أن الإله «فشنو» يحافظ على الأحياء فيتكاثر عددهم، ويعجز الإله «شيفا» عن ملاحقته في مهمة الإبادة والإفناء، فيستعين «بالشاكتي كالي» على هذه المهمة، ويتزلف إليها عبادها بالمعونة على القتل مع اجتناب سفك الدماء؛ لأن الدم الذي يراق على الأرض تتولد منه الحياة.
وجماعة الخناقين هذه طائفة قليلة بين الملايين من الهنود الذين ينكرون عبادتها، ويسفهون أحلامها، ويحرمون قتل الحيوان، بل قتل الهوام والحشرات، فضلا عن الإنسان، ولكنهم لا ينكرون ربوبية «كالي»، ولا يتركون عبادتها على النحو الذي يرتضونه ويحسبون أنه أقرب إلى رضاها، ومن ذاك أنهم يترهبون أو يكفون عن النسل فيرضونها بغير حاجة إلى قتل الأبرياء.
وتلك الأسباب في جملتها هي التي تحير علماء الأديان كلما أرادوا أن يحصروا الشر في «شخصية شيطانية» تنعزل بقوتها عن القوى الإلهية في أقانيمها المتعددة.
ولكنهم يثوبون في النهاية إلى عقيدة واحدة مشتركة بين النحل والمذاهب، ولا حيرة فيها عند تصوير الشر في صورته الكونية الشاملة ، وهذه العقيدة هي الإيمان بأن العالم المحسوس شر وباطل، وأن كل ما يربط الإنسان به شر وباطل مثله، وتشتمل روابط الإنسان بالعالم المحسوس على كل مطمع، وكل شهوة، وكل أمل يفتنه بلذة من لذاته، أو قنية من مقتنياته، وتتجمع هذه الفتن قاطبة في «المرأة»؛ لأنها سبيل الروابط الدنيوية التي تقيد الحي بالدورات الأبدية في دولاب الولادة والموت، وأن لعنة الموت لتلاحق كل من يولد ويلد حتى ينقطع عن النسل، ويثوب إلى «النرفانا» بغير علاقة ترده إلى هذا العالم المحسوس؛ ومن ثم يفضي به المطاف في الآباد المتطاولة إلى غاية كل مطاف من الفناء والسلام.
ويلاحظ أنهم يحيلون الأمر على «الأنوثة» كلما عرضوا لعمل من أعمال الأرباب ينزهون عنه الآلهة، ويلحقونه بالشواغل الدنيوية الأرضية.
ويلاحظ كذلك أنهم يقولون عن العالم المحسوس كله: إنه «مايا» أو وهم وضلالة، وأنهم يصورون هذا «المايا» في صورة أنثى شديدة الفتنة والغواية، ويمثلون جمال العالم المحسوس بجمال الأنثى التي تستعين بالغريزة الجنسية على خداع المفتونين عن الحقيقة، فيحسبون اللذة نعمة تبتغى وهي شقاء أبدي لا يؤدي إلى غير شقاء.
وليس في الديانة الهندية وفروعها المتشعبة شخصية واحدة تشبه شخصية الشيطان غير الرب الذي يسمونه «المارا» من الموت، ويقولون: إنه يسيطر على السماء السادسة وما دونها من العوالم الأرضية، وكأنهم جمعوا فيه فتنة الحياة الدنيا مشخصة معروفة باسم واحد بدلا من تعميم القول على الفتن التي تساور النفس ولا تتمثل لها ذات في الحس أو الخيال.
وهذا «المارا» هو الذي قيل في قصة «بوذا»: إنه وسوس له وألح في وسواسه ليشغله عن النسك، ويصرفه عن مسلكه من الحكمة، وهو مسلك الزهد والاعتدال.
فالشر الكوني هو الشر النفسي الذي يخامر الضمير، ويزين له ترك الحكمة والإقبال على الأوهام والأباطيل.
Page inconnue