وقد ختم الأستاذ بورجارد كتابه الذي أشرنا إليه آنفا عن الأرباب المصرية قائلا: إن النحلة المصرية نقلها العبريون من مصر إلى الشام واليمن، ونقلها الإغريق إلى اليونان، ونقلها الفينيقي قدموس إلى اليونان وإلى بلاده، وإن أعظم العقول اليونانية كانت تهاجر إلى مصر لتدرس المعرفة المصرية في طيبة ومنف وعين شمس وسايس، وعدد منهم ليكرج “Lycurgos”
وصولون، وطاليس، وفيثاغورس، وأفلاطون، وإيدوكس، وعدد بعدهم أمما من تلميذات الثقافة المصرية بين أهل الكتاب وغير أهل الكتاب. ولا شك في شيوع عقيدة الثواب والعقاب وعالم الأبرار وعالم الأشرار في الديانة المصرية القديمة، فليس من الغريب أن تتخلف منها بعض المصطلحات والمسميات، وليس من الأناة على الأقل أن ينتهي تاريخ «ست» حيث انتهى في هذا الموضوع، وقد قيل: إن العزى هي إيزيس، وإن مناة هي منوت أو موت، وإن النصوص متقاربة بين بعض المزامير وبعض أناشيد أتون، وإن أيوب عليه السلام كان يسكن إلى جانب مصر، ويتحدث عن أهرامها التي تبنى لتخليد الموتى، ويكافح الشيطان الذي يوسوس له ويغريه بالكفران والعصيان. وأقل من هذه الملابسات حقيق بالتريث عنده، وترك الباب مفتوحا بعده لما تأتي به الكشوف وتسفر عنه المقارنات.
الشيطان في الحضارة الهندية
ترجح فئة من علماء المصريات أن الديانة الهندية القديمة دخلتها مقتبسات كثيرة من ديانة المصريين الأوائل، ويرى برستيد وإليوت سميث أن معظم هذه المقتبسات من كتاب الموتى، ومن شعائر تقديس الملوك التي يستطاع التحقق من سبق الحضارة المصرية إليها.
ويرد ذكر مصر في كتب البورنا التي جمع فيها الهنود الأقدمون قصص الآلهة وبعض الملاحم الكونية المتوارثة عن آبائهم الأولين.
ولكن طبيعة الديانة الهندية تقرر الحدود التي بلغتها تلك المقتبسات، ولا يمكن أن تذهب بعيدا إلى ما وراءها، فهي لا تكون بطبيعة تلك الديانة إلا من قبيل الشعائر والمراسم، ولا يتأتى أن تتخطاها إلى أصول الديانة في جوهرها، إذ كانت الديانتان الهندية والمصرية على اختلاف كاختلاف النقيضين أو الطرفين المتقابلين، ولو أراد أحد أن يضع ديانتين يتوخى فيهما التقابل في العقائد الأساسية التي تدور عليها كل ملة، لما استطاع أن يبلغ في هذا التقابل ما بلغه أهل مصر وأهل الهند في العهود المتتابعة على غير قصد بطبيعة الحال.
والعقائد الأساسية التي تدور عليها كل ملة تتناول وجود الإنسان ونظام المجتمع، ووجود العالم كله أو الوجود على إطلاقه، وفي هذه المسائل الثلاث تقف الديانتان العريقتان موقف التقابل من طرف إلى طرف، كأنهما عامدتان إلى تصوير سعة الآفاق التي تحيط بالعقائد في ضمائر بني الإنسان.
فالديانة المصرية تصون جسد الإنسان وتستبقيه إلى الحياة الأبدية، والديانة الهندية تنكر الجسد، وتعلم أتباعها أن الروح تنسخ جسدها مرة بعد مرة، ولا تنال الخلاص إلا إذا فني الجسد كل الفناء.
والديانة المصرية تعتبر دوام الأسرة آية من آيات النعمة الإلهية، ولا تعرف دعاء إلى خالق الكون أحب إلى الداعين من بقاء تراث الآباء والأجداد، واتصال العقب إلى آخر الزمان، وعلى نقيض ذلك ديانة الهند التي تعلق النجاة بالإفلات من دولاب الحياة والموت، والرجوع إلى «النرفانا» من طريق «الموكشا»، أي اجتناب العلاقة الجنسية ولو في حالة الزواج.
وتؤمن الديانة المصرية القديمة بأن العالم المحسوس حق وخير، فتجعله مثالا لعالم الخلود، وعلى نقيض ذلك ديانة أهل الهند التي تحسبه شرا محضا، وباطلا موهوما، ومنبعا لجميع الشرور التي تعترض عالم الحقيقة، وتشغل الروح بالأعراض والقشور.
Page inconnue