كل فكرة عن الشر يمكن أن تخطر على الذهن البشري قد تمثلت في صورة من صور الشيطان، وهذا سبب من الأسباب الكثيرة التي تدعو المفكر الذي يحترم عقله أن يفهم الصور الدينية على حقيقتها، وحقيقتها أنها لغة حية تصور الوجود الحقيقي تصويرا صادقا على أسلوبها الذي يستحق الفهم والتعمق، والنظر إلى ما وراء الظواهر والألفاظ.
كان الشر أرواحا ضارة متفرقة في اعتقاد الإنسان على الفطرة الهمجية، فلما أصبح مسألة كونية عامة تمثلت صورته في حدودها الكونية على شكل معقول، وسبقت المذاهب الفلسفية بمراحل بعيدة في هذا المضمار.
كان الشر في تقدير الديانة المجوسية القديمة قوة فعالة معادلة لقوة الخير: كان في الوجود خير وشر كما فيه نهار وليل، وكان الليل حقيقة قائمة بذاتها، ولم يكن مجرد غياب النهار.
كان الليل ضد النهار كما كان النهار ضد الليل، فإذا غاب النهار فهناك ليل، وإذا غاب الليل فهناك نهار.
كان للنور دولة وللظلام دولة، وكان لهذه جنود ولتلك جنود، فهما قوتان متقابلتان متعادلتان أو كالمتعادلتين، ولكل منهما وجود قائم قابل لأن ينفرد بنفسه في معزل من القوة الأخرى؛ فلا يتوقف وجود الشر على وجود الخير، ولا يتوقف وجود الخير على وجود الشر، بل كلاهما موجود بحقه وبقدرته وبعمله كما يوجد الضدان الصالحان للحياة وللبقاء.
كان الظلام يصنع مخلوقاته كما كان للنور مخلوقاته التي يصنعها، وكل منها حسن في نظر نفسه، محمود بمقياسه لا يبالي مقياس غيره ولا يتمناه.
ثم تراجحت الكفتان فرجحت كفة النور على كفة الظلام، وظل المعسكران متقابلين، ولكن إلى حين ينتهي آخر الأمر بهزيمة الظلام وغلبة النور، ثم يبقى الظلام شيئا يلوذ به أنصاره فيختفون فيه ولا يظهرون للأبصار، وإنما هزيمتهم اختفاء، وليست بالفناء ولا بالزوال.
وعظم التفاوت بين القوتين شيئا فشيئا حتى أصبحت قوة الشر كقوة الأمير التابع مع السلطان المتبوع، فهو يستطيع شيئا إلى جانب سلطانه، ولكنه لا يستطيع جميع الأشياء، ولا طاقة له على طول المدى أن يجاريه في كل شيء.
ومن إلهين متعادلين تحول الخير والشر إلى إله كبير وإله صغير، وقد تظل الحرب بينهما سجالا؛ فينتصر الإله الصغير وينهزم الإله الكبير، وقد يئول الأمر بينهما إلى معركة حاسمة، أو يظل العراك بينهما سجالا إلى أن تزول الأرض والسماء.
ثم آمن الناس بإله واحد هو الخالق المبدع القائم بذاته، لا وجود معه للشر إلا بمشيئته وتقديره، فلا يقوم الشر في هذه الدنيا بذاته مستقلا عن الله.
Page inconnue