التأسيس
الباب الأول: بدر الكبرى
طالوت ومحمد
مشورة الأنصار
أحداث في بدر الكبرى
المزايدات في قصة بدر
قراءة أخرى
الباب الثاني: أحد
السياسة بعد بدر الكبرى
الهزيمة
فرز أحد
نتائج غزوة أحد
التأسيس
الباب الأول: بدر الكبرى
طالوت ومحمد
مشورة الأنصار
أحداث في بدر الكبرى
المزايدات في قصة بدر
قراءة أخرى
الباب الثاني: أحد
السياسة بعد بدر الكبرى
الهزيمة
فرز أحد
نتائج غزوة أحد
حروب دولة الرسول (الجزء الأول)
حروب دولة الرسول (الجزء الأول)
تأليف
سيد القمني
التأسيس
(1) التقريش والإيلاف
فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم . (المؤمنون: 24)
التقريش
يقول القاموس المحيط، إن الملأ هم الأشراف والعلية، وهم القوم ذوو الشارة والمظهر الحسن والشرف،
1
وهم في المعجم «المنجد» أشراف القوم، الذين يملئون العيون أبهة، والصدور بهجة.
2
هكذا وصف رجال الحكومة القرشية، في المرحلة قبل الإسلامية، في معاجمنا اللغوية. تلك الحكومة الابتدائية، التي تشكلت من كبار تجار مكة؛ أثريائها وعليتها، حيث مثل كل فرد منهم قومه في تلك الحكومة، بقدر ما يملك من إمكانات المظهر الحسن والشرف والأبهة؛ أي بقدر ما يملك من إمكانات مادية. وهي الحكومة التي تم تكريسها في «دار الندوة»، وعرف التاريخ أعضاءها باسم «الملأ».
ويلخص لنا «حسين مروة» أمر ندوة الملأ بإيجاز بليغ يقول:
إن سيطرة أرستقراطية قريش المالية والتجارية، كان لا بد لها أن تنتج بدورها مؤسستها السياسية، المعروفة تاريخيا بدار الندوة؛ البذرة الأولى للدولة في مجتمع مكة، والتي كان من شأنها أن تنظم العلاقات السلطوية لهذه السيطرة، مع الفئات الاجتماعية الأخرى، الخاضعة لاستغلالها الاقتصادي، وأن تضفي على هذه العلاقة وجهها الحقوقي الملائم للوضع التاريخي آنذاك، كما تفرض شرعيتها على تلك الفئات نفسها، التي أصبح عليها أن تخضع سياسيا، كما هي خاضعة اقتصاديا، لأرستقراطية قريش الحاكمة؛ الملأ. وكانت الندوة مجلسا يمثل الأرستقراطية، وفيها كانت تقضي قريش أمورها.
3
وحكومة الملأ إذن - كما هو مبين - كانت مجلسا سلطويا قام في مكة، من أجل إحكام سيطرة الأرستقراطية المكية التجارية على مختلف الشئون، بغرض تناغمها جميعا مع مصالحهم، بحيث يؤدي كل شأن دوره في حماية تجارتهم، واستمرار سيولتها، وضمان أمنها، دون أي توقف يمكن أن يهددها.
ولعل أهم الخطوات التي تمت بسبيل تأمين تلك المصالح، هي قيام مجلس الملأ نفسه، الذي ترافق مع خطوات أخرى، بدأت بالتقريش، ليتلوه الإيلاف، فكان التقريش خطوة أولى لتوحيد قبائل مكة وجمعها؛ أي تقريشها، وذلك زمن «قصي بن كلاب»، عندما استطاع مع حلفائه إجلاء قبائل «خزاعة» عن مكة، ليتمركز فيها مع أولئك الحلفاء، نتيجة مجموعة متضافرة من الظروف التاريخية، بدأت آنذاك تفعل فعلها في جعل مكة زمن «قصي» مركزا كبيرا لاستراحة القوافل التجارية، على طريق الخط التجاري ما بين الشام واليمن. وعليه فإن نظام التقريش جاء كشكل اجتماعي، أكثر تطورا بدرجة أعلى قليلا، من الأنظمة القبلية المتشرذمة المتقاتلة بالجزيرة، وكلون من التنظيم الاجتماعي الذي يجمع القبائل الحليفة لقصي في أضمومة وحزمة مترابطة بالمصلحة، مع استقلال كل قبيلة بشكلها العشائري المألوف. وهو ما نفهمه من شرح «ابن كثير» لهذا الشكل المجتمعي التقريشي في قوله:
وأما اشتقاق قريش، فقيل: من التقرش، وهو التجمع بعد التفرق. وقيل سميت قريش قريشا من التقرش، وهو التكسب والتجارة، حكاه ابن هشام رحمه الله. وقال الجوهري: الكسب والجمع، وقد قرش يقرش (نظن المقصود هنا القرش أي الهرس بالأضراس، كما تعني أيضا جمع القروش أي المال). وقال البيهقي: إن معاوية قال لابن عباس: فلم سميت قريش قريشا؟ قال: لدابة تكون في البحر، تكون أعظم دوابه، يقال لها القرش، لا تمر بشيء من الغث والسمين إلا أكلته.
4
وهكذا يأتي هذا التفسير الجامع، معبرا صادقا عن حال قريش، وحال المرحلة التاريخية، متضمنا حال المرحلة المجتمعية؛ فالتقريش تجمع للقبائل التي حملت اسم قريش بعدما كانت شراذم قبلية متناثرة متصارعة، وما جمعها إلا المصلحة المادية المشتركة، وهي التكسب المادي. ذلك التكسب الواضح أنه ناتج التجارة على الخط التجاري، والذي تمثل في عشور جمركية تقبضها قريش نظير المرور والاستراحة في مدينتها، للموقع المتميز لمكة على الخط التجاري الدولي. ويحمل التعريف معنى هاما بربطه المتين والرائع لجمع الناس وجمع المال بالارتباط المصلحي، فالقرش هو مفرد القروش المجموعة، والقرش هو الكسب المالي، وهو في الوقت ذاته تجمع الناس في مجتمع مترابط (هو الكسب، وهو الجمع بعد التفرق)، ليبلغ التعريف كمال تبليغه البلاغي في تصوير حال هذا الجمع المتكسب، واستعداده للدفاع عن مصالحه. وتطور الأمر إلى حد النهم، فهو كالقرش السمك المتوحش لا يمر بشيء إلا أكله، مما يشير بالضرورة إلى وجود فئات أخرى، سقطت في حومة ذلك الحراك الاقتصادي الاجتماعي، وذلك في قرن الجمع والتجمع بالكسب والتقرش وجمع القروش، مع القرش بالأضراس الذي تمثله دابة البحر.
الإيلاف
أما التأليف بنظام الإيلاف، فكان - في رأينا واستنتاجنا - الخطوة الثانية والضرورية بعد التقريش، وهو ما طبقته أرستقراطية مكة القرشية بنجاح، للتأليف بين قبائل مكة التجارية، أو أثرياء مكة تحديدا، وبين القبائل الضاربة على الخط التجاري الواصل بين مكة، وبين حدود الإمبراطوريتين: الرومانية والفارسية، ثم تأليف ثان بين قريش وبين القبائل الضاربة في باطن الجزيرة في خطوط فرعية، ثم تأليف ثالث بين قريش وبين الإمبراطوريتين.
وبالإيلاف، وللإيلاف، كان يتم توزيع المكاسب بشكل تناسبي، بما يضمن حماية طريق الإيلاف من إغارة البدو، وتأمينه لمصلحة الجميع، وهو ما يقول فيه «المسعودي» موجزا: «وأخذت قريش الإيلاف من الملوك، وتفسير ذلك الأمن.»
5
وعلى الطريق التجاري وفروعه الهامة، ارتبطت قريش بالإيلاف والعهود مع شيوخ قبائل الجزيرة، شيوخ قيس، واليمامة، وتميم، وأقيال اليمن، وملوك غسان والحيرة، كما وكلوا عنهم وكلاء في جوش ونجران، وغيرها من المواضع الهامة في شبه الجزيرة.
6
وقد اتبعت قريش في تأليفها أساليب منوعة، فهناك من رضي من شيوخ البدو على الطرق التجارية بالهدايا والجعالات، بينما اتفق آخرون على حماية طريق الإيلاف الكبير نظير الاشتراك مع قريش في تجارتها، وهو ما يتضح من إشارة «الجاحظ» لدور «هاشم بن عبد مناف» في تأليف قبائل العرب بإشراكهم في التجارة،
7
وما رواه «ابن سعد» عن تأليف «هاشم» للقبائل الضاربة على الطريق الشامي بحمل بضائعهم دون أجر.
8
ثم ما ذكره «البلاذري» عن دور «هاشم» وولده «عبد المطلب» في عقد المعاهدات وأخذ الحبال من ملوك روما وحمير، ودور «عبد شمس» في تألف نجاشي الحبشة، ثم دور أخيه «نوفل» في تأليف أكاسرة فارس وأخذ عهود الأمن منهم.
9
وهكذا، كان نظام الإيلاف، تأمينا للطريق، وطمأنة معلنة للإمبراطوريتين المنتظرتين على نهاية خط طريق الإيلاف، للقوافل القادمة من مكة، بحيث ضمنت مكة بإيلافها أمان الرضى الإمبراطوري عن دورها، وعن اقتدار ملئها، في تأمين وصول المواد المطلوبة والسلع الهامة، في مواقيتها دون تأخير. ولعل ما يعبر عن وعي العرب بهذا المعنى في نظام الإيلاف، يتضح في أبيات لمطرود بن كعب وهو ينشد:
يا أيها الرجل المحول رحله
هلا نزلت بآل عبد مناف؟
هبلتك أمك لو نزلت عليهم
ضمنوك من جوع ومن إقراف
الآخذون العهد من آفاقها
والراحلون لرحلة الإيلاف
10
أما القرآن الكريم، فكان بصدق تبليغه، مفصحا، موجزا، مبلغا ببلاغته أمر الإيلاف وعلاقته بالأمن، وبالبيت الإلهي المكي، في قول الآيات - في سورة تحمل اسم قريش:
لإيلاف قريش *إيلافهم رحلة الشتاء والصيف *فليعبدوا رب هذا البيت *الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف .
وقد هيأ مكة للقيام بهذا الدور التاريخي، مجموعة متسارعة من الأحداث، وظروف تلاحقت لتتراكم على صفحة المنطقة وتتوزع على خريطتها؛ حيث كان مركز اليمن الزراعي والتجاري قد تهاوى قبل العصر الجاهلي الأخير بزمان، بينما تضعضعت أحوال الممالك العربية الشمالية (الغساسنة والمناذرة) في العصر الجاهلي الأخير، قبل الإسلام بفترة وجيزة، ووقعت تحت الاحتلال المباشر من الفرس والروم، وهو ما أحدث - ولا شك - فراغا سياسيا في المنطقة الممتدة من سواحل المحيط الهندي جنوبا، وحتى الخط الفاصل بين الإمبراطوريتين في بادية الشام شمالا.
وقد ساعد على رسم تلك الخريطة السياسية، انهيار مجموعة طرق أخرى لم يبق آمنا من بينها سوى الطريق المار بمكة، قادما من موانئ اليمن ليتجه شمالا، ثم يتفرع إلى فرعين نحو فارس شرقا وروما شمالا وغربا في داخل الحدود الفلسطينية والمصرية. وكان انهيار مجموعة الطرق التجارية الأخرى راجعا إلى تلك الحرب الطويلة الضروس، التي دارت بين الفرس والروم ، ومطاردة كل منهما الأخرى في كافة المواضع الممكن الوصول إليها لقطعها. ولم يبق في المنطقة آنذاك طريق مأمون، سوى الطريق البري المار بمكة، لمنعته الصحراوية على غير أهله، مما انتهى به إلى طريق أوحد مؤهل للقيام بأمر تجارة العالم؛ وهو ما أدى إلى تحول مكة عن وضعها زمن «قصي بن كلاب» كمحطة ترانزيت كبرى قابضة للعشور، إلى مركز للأرستقراطية المكية التجارية في العصر الجاهلي الأخير؛ حيث تمكنت تلك الأرستقراطية بتراكم رأس مال العشور والتجارات الصغيرة، من الانتقال عن قبض العشور إلى شراء البضائع القادمة من المحيط الهندي وموانئ اليمن، والاتجار بها لحساب تلك الأرستقراطية، لتمسك عندها بعنان تجارة عالم ذلك الزمان.
11
ولنا أن نفترض بدء ذلك التحول عن قبض العشور إلى القبض على تجارة العالم، كانت المرحلة التي عمدت فيها قريش إلى إنشاء نظام الإيلاف بعد التقريش. ففي مرحلة التقريش كانت قريش تقبض عشورها، وما كان يعنيها كثيرا أمان الطريق؛ فهي تتاجر تجارتها البسيطة مع القادمين والآيبين، وتأخذ العشور من السارق والمسروق، ومن ثم تطور الأمر عندما أصبحت التجارة ملكا كاملا لها. ذلك التطور الذي استدعى السعي الجدي لتأمين تلك التجارة بنظام الإيلاف. وهي ذات المرحلة التاريخية التي نعتقدها مرحلة الفوز للصراع التنافسي التجاري؛ ومن ثم السيادي، داخل مكة ذاتها، والذي انتهى كما هو واضح بالمصادر الإسلامية، إلى سيادة مالية شبه كاملة للفرع الأموي، مع خسران واضح لأبناء عمومتهم الفرع الهاشمي.
ولنا أن نتصور ذلك التراكم المالي وهو ينزع عن الترانزيت إلى المركزية التجارية، ينمو من خلال خبر «الواقدي» وتأكيده أنهم كانوا يربحون في تجارتهم عن الدينار دينارا،
12
حتى بلغ رأس مال بعض القوافل مائة ألف دينار للقافلة الواحدة. ويمكن أن نعلم المدى الذي وصل إليه تضخم رأس المال القرشي من خبر سلعة واحدة، ترفيهية كمالية، هي الطيوب، والتي كان يطلب منها الروم والفرس في العام ما تصل قيمته إلى مائة مليون درهم.
13
أما قافلة «أبي سفيان» التي كانت سببا بعد ذلك في غزوة بدر الكبرى فقد أسهم فيها البيت الأموي بأربعة أخماس رأس المال. وكان لأسرة «أبي أحيحة» وحدها ما يصل إلى ثلاثين ألف دينار، وهي أسرة أموية، وذلك من مجموع أموال القافلة البالغ خمسين ألف دينار.
تحريم المواسم
وإضافة إلى الإيلاف بعد التقريش، تمكنت مكة، على المستوى الداخلي للجزيرة، من استقطاب القبائل المتناثرة في الباطن والأطراف لسوقها المركزي، بتكتيك تدفعه المصلحة، يتجاوز المفاهيم الدينية القبلية المتعصبة، فقامت تستضيف في كعبتها أرباب قبائل الجزيرة على تعددها وتناقضها؛ تلك الأرباب التي كانت في نظر أصحابها أسلافا صالحين. وكان الرب هو جد القبيلة البعيد وسيدها ورمزها، ومعبودها، وضامن وحدتها وتماسكها. فكانت تلك الضيافة لسادة القبائل ورموزها، ضيافة حسنة لكل القبائل، وسبيلا إلى التقريب بين القبائل بتجاور الأرباب من الأسلاف، في فناء معبد واحد، بحيث حاز كل رب نفس القدر من الحرمة. ولم تجد قبائل الجزيرة في تلك الضيافة غضاضة، بل رحبت بدورها بتلك الخطوة وسارعت إليها، وقد بدت تسييدا أوسع، ونشرا لأمر رب كل قبيلة خارج حماه، وخارج دائرة نفوذه القبلي وحدوده الإقليمية، مع الأخذ في الحسبان الاعتبار الأكثر أهمية، وهو انهيار الطرق التجارية الأخرى المارة بمواطن تلك القبائل في بقاع الجزيرة، مما أدى لسقوط معابدها وكعباتها وتدني شأن آلهتها، بفقدها الأساس الاقتصادي مع تحول طرق التجارة عنها، إضافة إلى التنامي الذي حققته الظروف لمكة، وهو ما أضعف شأن الأسواق الأخرى إلى حد التضاؤل والتهميش.
14
وعليه؛ فقد كانت ضيافة الكعبة المكية للأرباب القبلية، تأليفا آخر لقبائل الجزيرة جميعا، وهو ما ساعد على مزيد من تمركز التجارة بمكة، مع اتصال مكة بفروع للطرق نحو الأسواق الداخلية الضاربة في بطن الجزيرة. وزاد في المركزة التجارية والدينية والقبلية بل واللغوية لمكة ولهجتها القرشية، بعد أن أصبحت لغة قريش ذات السيادة والانتشار، فأصبحت مكة مزارا لكل العرب، وحاز موسمها التجاري الأكبر (موسم الحج) مكانة لا تضارع، بعد أن أصبح موسما لكسبهم وعبادتهم وسمرهم ومرحهم، حتى كادت مكة - على المستوى العرفي - أن تكون عاصمة لجزيرة العرب كلها.
وبسبيل مزيد من الحفاظ على المكاسب ودوامها، تمكن الملأ القرشي من تنظيم أسواق بعينها، في هيئة مواسم منظمة بمواقيت ومواسم المحاصيل، سواء في الجزيرة أو شرق أفريقيا أو الهند، ووفق خطوط الرياح في المحيط الهندي، وموعد وصول شحنات البحر من الهند وشرق أفريقيا إلى موانئ الساحل اليمني، ووقت الطلب الشمالي لتلك البضائع والسلع بتقدير دقيق، يأخذ في اعتباره أصغر العوامل، حتى طبيعة المناخ وموجات الحرارة والبرودة، مع تحريم مواقيت تلك الأسواق إيمانيا ومصلحيا، لضمان الموسم الأكبر (موسم الحج)، الذي تجمع فيه مواد بضائع الساحل اليمني وأسواق الجزيرة الداخلية، لتشق رحلتها الصيفية إلى الشمال، بحيث أصبحت أشهر الحج والسفر الصيفي أشهرا حراما. ثم كان في الإمكان - للمصلحة التجارية، وحسب ظروف تطرأ أحيانا، وحسب الطلب، وتغير مواقيت السنة العربية القمرية مع السنة الشمسية الزراعية المحصولية، ولضبط الأشهر الحرام القمرية مع الرحلتين ومواسم الحصاد - تحريك تلك المواقيت، ونقل الأشهر من مواضعها بالإزاحة، فيما يعرف بنظام النسيء.
15
ولمزيد من الضمانات، نظم الملأ نواة أولى لقوات مسلحة من العبيد، ومن الأحابيش، كانت مهمتهم الأساسية حماية أصحاب رءوس الأموال والشخصيات الكبرى، وحراسة بيوت رجال الملأ، ثم المهمة الأساسية، وهي حراسة القوافل التجارية.
وعليه؛ فقد أخذت مكة - بتسارع - تتحول إلى حاضرة، تتناقض مع البداوة والقبلية في داخلها، كما تتناقض مع المحيط المتشرذم حولها في جزيرة العرب؛ ومن ثم كان ضروريا أن تمر مكة بتحولات بنيوية هائلة، في تركيبتها الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، التي انتهت بها من قبائل متشرذمة، إلى قبائل متقرشة، خاضعة لرجال الندوة من حكومة الملأ، لتنضج - باشتراك المصالح - تقريشها، إيلافا على محيطها القبلي في الجزيرة، وبخاصة القبائل التي ألفها طريق الإيلاف الأكبر.
المتغير الاجتماعي
يسوق «ابن سعد» في طبقاته خبرا، يوافقه عليه جميع رواة السير والأخبار، والخبر يقول: إنه حين تغلبت قريش على خزاعة، وتسلم «قصي بن كلاب» - بعد أن كثر ماله وعظم شرفه - زعامة قبائل مكة المتحالفة معه، التي تقرشت، قطع «قصي» مكة أرباعا بين قومه، فأنزل كل قوم من قريش منازلهم.
16
وقد ذهب الكاتب «برهان الدين دلو» مذهب الباحث «حسين مروة»، في تحديد المغزى التاريخي لهذا الحدث، بأنه «كان تصنيفا اجتماعيا لسكان، مكة بطون قريش وحلفائها، روعي فيه الوضع المالي دون العرف القبلي؛ إذ جعلهم صنفا ممتازا أدنى أسكن في الظواهر، وهم قريش الظواهر، وكانت قريش الظواهر متبدية أو شبه مستقرة.»
17
وقد ركن الكاتب هنا، في تقديره لسوء أحوال «قريش الظواهر» المادية، إلى تقرير الباحث المؤرخ «جواد علي» في مفصله عن تاريخ العرب قبل الإسلام.
18
ومن ثم استنتج من التصنيف المشار إليه:
إن الوضع المالي والتجاري لأبناء القبيلة، أصبح يحتل المركز الأول من الاعتبار، فكان أن أصبح بنو عبد مناف وبنو عبد الدار في مقدمة قريش البطاح؛ لأنهم صاروا أوفر مالا وأعظم تجارة، ثم احتلت أمية في قريش الجاهلية الأخيرة مكان الصدارة، مذ أصبح فيهم أعظم التجار ثراء، وبسطت سلطانها المالي والتجاري على كثير من قبائل المنطقة العربية خارج مكة. وبفضل مركز أمية المالي والتجاري، فإن أمراء القوافل كانوا منهم.
19
ونرى من واجبنا هنا التوضيح - حتى لا يختلط الأمر - حيث كان بنو عبد مناف وبنو عبد الدار أبناء لقصي سيد مكة - المتقرشة - الأول، والمطلق النفوذ، والأكثر مالا، وكان طبيعيا أن يكون ورثته في مقدمة قريش البطاح، وليس كما ذهب «دلو» لكون وفرة مالهم الأساسي كانت من التجارة، وإنما لورثتهم ألوية التشريف والسيادة عن سلفهم «قصي»، مما أعطاهم فرصة الحصول على النصيب الكامل من المكوس الجمركية لبضائع الترانزيت المارة بمكة. وهي الألوية التي يشرف كل منها على لون من الخدمات المأجورة، التي كانوا يؤدونها للتجار المارين بمكة بقوافلهم، والتي حملت أسماء ألوية التشريف التي نظمها «قصي»، للحصول على النصيب الأعظم من المكوس، وتمثلت في (السقاية، والرفادة، والحجابة، والسدانة، واللواء، والندوة ... إلخ).
والاعتراض من جانبنا يقوم على حجة أن تلك المرحلة كانت قبل انتقال قريش إلى مرحلة التجارة لحسابها. إلا أن إشارة الكاتب «دلو»، التي تؤكد أن الوضع المالي لأبناء القبيلة قد أصبح يحتل الموقع الأول من الاعتبار، فهو الأمر الذي لا يمكن النزاع حوله.
ومع ذلك الثراء الذي أصابت حظوظه أفرادا من عشائر مكية مختلفة، ومع تحول هؤلاء النفر عن قبض العشور إلى التجارة لحسابها، ومع حجم تلك التجارة الهائل؛ كان طبيعيا، بل كان محتما، أن تبدأ الانقسامات الطبقية الحادة في الظهور بوضوح داخل القبيلة الواحدة، وهو ما انعكس بدوره على الوضع القبلي للقبائل الأخرى بالجزيرة، المرتبطة بحركة مكة التجارية، وهو ما كان العامل الأول في تهشيم الأسس القديمة لروابط القبيلة، وسيولة لزوجتها الجامعة لأفرادها، نتيجة للتطور التجاري، وما صاحبه من تقسيم للعمل، وتضخم ملكيات رءوس الأموال، مقابل فارق طبقي كبير، نتيجة لتفاوت توزيع الثروة، مع اختلاف الأوضاع والأدوار في العملية التجارية التي تقودها مكة، أو بالتحديد نفر متبعثر في قبائلها. شكل الأساس الاقتصادي المتين بينهم رابطة قيادية للعملية التجارية، فتوزعت الأدوار ما بين ملاك للمال، إلى أدلاء للقوافل، وحراس مسلحين، وعمال تشهيلات للشحن والتفريغ، وآخرين يبتهلون الفرص على الطريق لتقديم الخدمات الضرورية للقوافل، في نقاط محددة ومحطات قاموا بإنشائها على الطريق للترغيب في الاستراحة، وبيع خدمات الراحة. هذا إضافة إلى المتاجرين الصغار، وشيوخ القبائل الذين يتقاضون الإتاوات، ثم الأهم وهو انتشار التعامل النقدي بعملات الفرس والروم، وهو ما أدى جميعه لفوارق وتفاوت، فكك بالتدريج روابط النظام القبلي القديم، نتيجة حتمية لوجود العبيد والمعدمين على الطرف الآخر غير المستفيد من العملية التجارية القائمة داخل ذات القبيلة، ومن ثم بدأت قيم القبيلة القديمة تتراجع.
والمعلوم أن القيم القبلية القديمة، كانت تقوم على المساواة المطلقة، والامتلاك الجماعي لوسائل الإنتاج والثروة، ومن ثم توافقت معها علاقات الإنتاج. فكان الولاء الجماعي للقبيلة، وتماسك الكل في القبيلة مع أي فرد فيها مهما صغر شأنه ضد الكون جميعا، فهي تأخذ بثأره حتى لو تآكلت جميعا، ثم هو معها كترس في آلة عسكرية متحركة دوما، لا رابط لها سوى تلك اللزوجة الاجتماعية، والسلف المشترك العزيز على جميع نفوس الأفراد. فكانت القبيلة، وكان السلف، هو الوطن، وكان ذلك اللون من العلاقات الاجتماعية هو الضمان الوحيد لسلامتها كوحدة محاربة متنقلة.
ولكن بعد التطور السريع، واستقرار أكثر القبائل، خاصة القوية، على الطريق التجاري الرئيسي ، أو الطرق الفرعية، وظهور الفوارق الطبقية الحادة داخل القبيلة، لم تعد القبيلة مسئولة كل المسئولية عن الفرد فيها، وبدأت تظهر حالات خلع الأفراد الذين يمكن بحمقهم جلب الضرر للقبيلة التي شرعت في الاستقرار، فظهرت طائفة الخلعاء المتشردين. ثم من جانب آخر ظهرت جماعات الصعاليك، أولئك الأفراد الذين بدءوا بدورهم يرفضون المنطق الجديد، ويهجرون قبائلهم. وأخذ تراكم رأس المال لدى أفراد بذاتهم يفعل فعله في تحول الولاء عن القبيلة إلى الطبقة، كما أخذت قيم الولاء الجمعي تنداح مخلفة وراءها شكلا جديدا من العلاقات الاجتماعية الأكثر تطورا، تمثلت في الفردية التي اتضحت في إمكان تحدد قيمة الفرد دون جماعة، مع تحول قيمة الشرف عن النسب القبلي وعدد النفر إلى قدر ما يملك من مال، وهو ما أفصح عن نفسه في تكوين جيش العبيد والأحلاف والأحابيش، الذي كان مؤشرا بالغ الدلالة على بدء منطق جديد، يمكن فيه الاستغناء عن النفورة وعزة النفر القبلي، بعد أن بات ممكنا شراء النفر المسلح والمدرب، أو الحليف بالمصلحة المادية، وهو ما بدأ يخرج بالفرد عن القبيلة إلى التحالف المصلحي مع أفراد من قبائل أخرى، وهو شاهد واضح البرهنة على بدء تفجر الأطر القبلية.
وهكذا أمسى ممكنا أن تجمع المصالح بين أصحاب الثروات على تفرقهم بين قبائل مختلفة، وعلى أن يجمع الشقاء بين المستضعفين على تفرقهم بين قبائل مختلفة، وهو ما يشهد عليه بدء ظهور تجمعات أكبر من القبيلة، تمثلت في أحلاف يأتينا خبرها في أسمائها عبر كتب السير والأخبار، مثل حلف ذي المجاز وتنوخ، وحلف قريش والأحابيش، وحلف الفضول، وحلف المطيبين، وحلف لعقة الدم، وحلف الأحلاف، وحلف الرباب، وحلف الحمس ... إلخ. لتشير الظاهرة إلى توجه اجتماعي جديد ينحو نحو التوحد على أساس من المصالح المشتركة.
وإعمالا لجدل الأحداث أخذ الفارق الطبقي بالاتساع السريع والهائل ليصبح سواد العرب من الفقراء والمستضعفين يعملون في رعي الأغنام والفلاحة وتجارات البيع البسيط، يسكنون الخيام والعشش والأكواخ الحقيرة، ويسمعون عن الخبز ولا يأكلونه؛ حيث كان الخبز من علامات الوجاهة والثراء، ولا يعرفون عن اللحم سوى الصليب، وهو ودك العظام؛ تجمع وتهشم وتغلى على النار طويلا؛ ليحصلوا منها على الصليب. وغالبا ما عاشوا على مطاردة ظباء الصحراء وأورالها ويرابيعها. ونقصد بهؤلاء الفقراء؛ عرب صرحاء من أبناء قبائل متميزة، دفعتهم إلى الأسفل آلة التغير الاقتصادي والمجتمعي.
ويلي تلك الطبقة في التدني، طبقة الموالي، وهم من أبناء قبائل أخرى تركوها ولجئوا لقبائل مخالفة، أو كانوا أسرى فك أسيادهم أسرهم، أو أعاجم أرقاء أعتقهم سادتهم بمقابل. وقد شكل هؤلاء طبقة بين أبناء القبيلة الخلص الصرحاء وبين العبيد.
ثم طبقة أخرى ظهرت بدورها نتيجة التفاوت الطبقي الحاد، وتكونت من أفراد تلبستهم روح التمرد على أوضاع المجتمع الجديد، فتصرفوا بتلك الروح فأضروا بمصالح السادة، فخلعتهم قبائلهم وتبرأت من فعالهم بإعلان مكتوب أو في الأسواق العامة، وهي الطبقة التي عرفت باسم «الخلعاء».
أما أبرز تلك الطوائف أو الطبقات التي أفرزها المتغير الاقتصادي المجتمعي، فهي «الصعاليك»، وهم فئة لا تملك شيئا من وسائل الإنتاج، تمردت على الأوضاع الطبقية، بل وشنت عليها الحرب؛ بخروجهم أفرادا عن قبائلهم باختيارهم، وتجمعهم على اختلاف أصولهم في عصابات مسلحة. وأبرز الأسماء التي وصلتنا منهم: عروة بن الورد، وتأبط شرا، والسليك ابن السلكة، والشنفرى، وقد أطلق عليهم العرب «الذؤبان»، و«العدائين» لسرعتهم.
وقد روي عن هؤلاء أنهم كانوا ذوي سمات متميزة، من الشهامة والمروءة والنبالة، وأخلاق الفروسية، فكانوا لا يهاجمون إلا البخلاء من الأغنياء، ويوزعون ما ينهبون على الفقراء والمعدمين، بعد أن شكلوا لأنفسهم مجتمعا فوضويا؛ شريعته القوة، وأدواته الغزو والإغارة، وهدفه الأول السلب والنهب، وهدفه الأخير تعديل الموازين المجتمعية.
وتروي لنا كتب السير والأخبار وطبقات الشعراء أشعارا للصعاليك؛ ينعكس فيها الإحساس المرير بوقع الفقر عليهم وفي نفوسهم، ويضج بشكوى صارخة من الظلم الاجتماعي، وهوان منزلتهم. فهذا «قيس بن الحدادية» يخبرنا أنه لم يكن يساوي عند قومه عنزة جرباء جذماء. أما الأخبار عن الشنفرى فتروي كيف أسلمه قومه هو وأمه وأخاه رهنا لقتيل عن قبيلة أخرى، ولم يفدوهم، وكيف تصعلك الشنفرى ورفع سيف ثورته بعد أن لطمته فتاة سلامية؛ لأنه ناداها: يا أختي؛ مستنكرة أن يرتفع إلى مقامها.
ومن مثل تلك الأخبار نستطيع تكوين فكرة واضحة عن المدى الذي فعله المال داخل القبيلة، مما أدى بالصعاليك إلى فصم علاقتهم بقبائلهم، وتكوين جماعتهم المسلحة ضد الأغنياء؛ لينزعوا منهم مقومات الحياة الإنسانية التي أهدرها الواقع، وهو المبدأ الذي يتجلى واضحا في شعر «عروة بن الورد» وهو يقول:
إذا المرء لم يبعث سواما ولم يرح
عليه ولم تعطف عليه أقاربه
فالموت خير للفتى من حياته
فقيرا، ومن موت تدب عقاربه
وفي ضوء الحاجة لليد العاملة في خدمة آلة الاقتصاد الجديد، بدأت بلاد العرب تعرف النظام العبودي، وكان مصدره السبي والنخاسة وعبودية الدين، حتى جاء وقت أصبحت تجارة العبيد بمكة تجارة منتظمة، تأتي بهم من سواحل أفريقيا الشرقية، وهم الطائفة السوداء، ومنهم من كان يشترى من بلاد فارس والروم وهم الطائفة البيضاء، لاستخدامهم في حراسة القوافل وأعمال الري الصناعي والزراعة والحرب. وليس أدل على كثرة هؤلاء العبيد من أن «هندا بنت عتبة» أعتقت في يوم واحد أربعين عبدا من عبيدها، كما أعتق أبو أحيحة سعيد بن العاص مائة عبد؛ اشتراهم وأعتقهم.
ومع النظام العبودي انتشرت عادة التسري بالإماء، فكان للرجل أن يهب أو يبيع أو ينكح أمة أو يجعلها مادة للكسب بتشغيلها في البغاء، ثم يأخذ ناتجها المولود ليباع بدوره.
وعندما جاء الإسلام حرم البغاء، ولكنه أبقى على نظام ملك اليمين ضمن ما أبقى عليه من أنظمة الجاهلية وقواعدها المجتمعية، ولكنه رغب في العتق وحض عليه.
لكن؛ علينا هنا أن نكون حذرين، فالمرحلة كانت مرحلة بدء، وكل تلك التطورات لم تكن تعني تفجيرا كاملا ومبرما للقديم؛ لأنه بقليل من الجهد، يمكننا - ونحن ندرس مجتمع مكة تحديدا - أن نلحظ المحتوى الطبقي الجديد، وهو يتخفى برداء أو شكل قبلي عصبي عشائري قديم، بمعنى أن الجديد قد تزيا بالقديم. وسعت كل مجموعة من الأثرياء إلى ربط أفراد قبيلتها بهم وبمصالحهم، بالعطاء والمنح، وإشراك صغار تجار القبيلة في قوافلهم التجارية، مما أسفر في المجتمع المكي تحديدا عن محتوى طبقي يتخفى داخل نسق عشائري، تمثل في انقسام المجتمع القرشي إلى حزبين كبيرين قبليين، بين أبناء العمومة، أو إلى طبقتين ولكن بملامح وقسمات قبلية، يمثلهما البيت الأموي الثري، والبيت الهاشمي الذي غلب عليه الفقر، وبخاصة في بيت عبد المطلب. وإن كان من العلمية التوضيح أن ذلك الانقسام بدوره لم يكن تام التحديد بفواصل قاطعة مانعة، بل كان يتضمن بعض التداخل الطبقي بين العشيرتين، فضمت الطبقة الثرية أفرادا من هاشم، مثل العباس بن عبد المطلب، وأبو لهب «عبد العزى»، يشاركون أمية المصلحة الطبقية؛ ولذلك فإن المحتوى، وإن تغير، فقد ظل يتخفى بأردية عصبية النسق، وظل الشكل القديم محافظا مع تغير المحتوى. لقد كانت المرحلة مرحلة بدء؛ بدء تحول، بدء طور انتقالي.
ويمكن للمطالع في تلك المرحلة، أن يلحظ أمرا له مغزاه، فسيجد فقر هاشم وبني عبد المطلب طارئا جديدا، وهو ما يدفع إلى افتراضه متصلا بالمنافسة التجارية التي يقع فيها البعض بالضرورة خاسرا، كما يفترض اتصاله بالصراع بين البيتين الهاشمي والأموي، الذي يضرب بجذوره في الماضي إلى أيام الجد «قصي بن كلاب»، وهو الصراع الذي استعر حول حيازة ألوية التشريف السيادية، والتي بلا جدال كانت سلطوية في بعض مناحيها كما في لواء «الندوة» ولواء «اللواء»، وهي الألوية التي استحر صراع حرور حولها لأنها كانت عاملا حاسما في القسمة الطبقية. وبينما اعتمد الأمويون في تقوية سلطتهم ونفوذهم على مزيد من التراكم الثروي، وعقد الموادعات والتحالفات التي تضمنها المصالح المادية المشتركة مع قبائل أخرى، فإن الهاشميين لجئوا إلى كسب مزيد من التشريف وألويته بتكتيك آخر، زاد في فقدهم للأساس المادي باستمرار، لكنه كان منحى يهدف إلى كسب ولاء القبائل بالعطاء والبذل، لكسب الشرف الرئاسي بالجود والفضل. فهذا هاشم، يضع ثروته جميعها تقريبا في قافلة قوامها الزاد، لفقراء مكة والقبائل، في سنوات المجاعة المسنتة، وقام يهشم الثريد باللحم للجوعى بيديه، لذلك لقب هاشما، أما اسمه الحقيقي فكان «عمرا»، وفي ذلك يقول «ابن كثير»: ... هاشم واسمه عمرو، سمي هاشما لهشمه الثريد مع اللحم لقومه في سني المحل، كما قال مطرود بن كعب الخزاغي في قصيدته ...
عمرو الذي هشم الثريد لقومه
ورجال مكة مسنتون عجاف
سنت إليه الرحلتان كلاهما
سفر الشتاء ورحلة الأصياف
20
وإشارة «مطرود بن كعب» هنا، لعلاقة هاشم برحلتي الشتاء والصيف، إضافة لما سبق وأشرنا إليه في أخذه الإيلاف لقريش من الملوك وزعماء القبائل، تلقي ضوءا على علاقة البيت الهاشمي الوطيدة، القديمة، بالنظام التجاري الملكي، باعتباره أحد المؤسسين لنظام الإيلاف، ودوره في التجارة العالمية، التي - لا شك - جعلت بيت هاشم أياما، بيتا ثريا ينافس البيت الأموي. وإن أفقره ذلك الأمر غير الواضح بكتبنا التراثية، والذي أرجعناه افتراضا إلى السقوط في حلبة المنافسة، وإلى عنصر آخر غير تام الإقناع، وإن كان ذا دور هام، وهو الكرم والعطاء، لإقامة تحالفات مطلوبة في الصراع، وكسبا للرجال في حومة مقبلة. وإن كان ذلك العنصر في منطق الجزيرة وطبعها المجدب الشظف، وخاصة في تلك المرحلة الطبقية، ربما كان منطقا مقنعا للعرب أنفسهم بحق التشريف السيادي لهاشم، فكان للكرم لديهم مغزاه السياسي والاجتماعي، وكان مما يدعم الكريم بالتسييد وما يستتبعه التسييد من سلطة، وهو ما يدل عليه قول «حاتم الطائي» أكرم العرب وأشهرهم في هذا الضرب السيادي:
يقولون لي: أهلكت مالك فاقتصد
وما كنت - لولا ما يقولون - سيدا
21
ثم يخبرنا التاريخ أن «هاشما» قد دفع بالصراع دفعة كبرى، عندما دعم حلفه ضد «أمية» بزواج شرفي تعاقدي، مع أهل الحرب والدم والحلقة من بني النجار، خزرج يثرب، وأن أخاه «المطلب» سار على نفس المنحى التكتيكي، وأن «عبد المطلب بن هاشم» قام بدعم آخر لحلف «هاشم/يثرب-الخزرج» بزواج آخر، واستمر في البذل حتى لقبته العرب بالفياض لكثرة جوده،
22
في الوقت الذي حافظ فيه ولده العباس على ماله، فكان كثير المال، وهو ما يشير إلى ممكنات الثراء في البيت الهاشمي، لولا بذل هاشم وعبد المطلب وآله، وبخل شديد وحرص في العباس، حدثتنا عنه كتب السيرة في أكثر من مناسبة.
المستوى الفكري
ومع مزيد من التراكم على خط التطور ، كان لا بد أن يتزايد التناقض بين الشكل والمحتوى، حتى يبلغ مداه التفجيري للإطار أو الشكل، لصالح المحتوى الجديد، بعد تراكم الجديد داخل إطار ضاق به ولم يعد يسعه. وقد ساعد على زيادة ذلك التناقض بين الشكل والمحتوى، بقاء الشكل أو الإطار محكوما بعلاقات استهلكها التطور السريع، فتفسخت القيم القبلية، رغم الإصرار الظاهر على استدامتها. هذا بالطبع مع الإفراز الفكري للمرحلة التي اصطبغت بالشكل المادي النفعي، فاستبطن المحتوى الجديد، داخل فكر قديم، لكن فقط للمسامرات الفكرية، والندوات الديوانية، والممارسات الطقسية، والتبريرات النفعية، دون إيمان حقيقي. فعلى المستوى الواقعي، أمسى ظاهرا رفض العربي وخاصة المكي، لكثير من أشكال المعجزات الميتافيزيقية القديمة، خاصة إذا ما كان ذلك المكي من الطبقة الثرية الأرستقراطية، المترفة والمتحققة، حتى أصبحت تلك الميتافيزيقا القديمة في مأثوره الجديد - على لسان الصفوة التي أتاحت لها الثروة التزود بالثقافة الحضارية في مدارس الإمبراطوريات وجامعاتها - مجرد أساطير الأولين، وما كان يتم استدعاؤها عن قناعة، بل من باب التخديم على المصالح المادية. ولم يعد الفكر الديني ومفاهيمه، سوى أسلوب لتنسيق المكاسب، ومطية لمنافع مادية بحتة.
ومن ثم تخبرنا صدور كتب السير والأخبار، بتسامح مطاط في قبول أي دين وأي معتقد، مهما بدا شاذا وغير مألوف، شرط أن يكون دافعا لمزيد من الحضور التجاري، أو على الأقل شرط ألا يكون متضاربا مع المصلحة التجارية. وكان أمرا مفروغ الحدوث، أن يبلغ ذلك التناقض مداه على كافة المستويات.
فعلى المستوى الاقتصادي، كان تركز الثروة بيد أفراد دون آخرين داخل القبيلة، دافعا لمزيد من تناقض الشكل القبلي والمحتوى الطبقي. وكان مفترضا وصول التناقض لمرحلة التفجر لصالح المحتوى الطبقي، لولا أن الشكل القبلي كان يؤدي للقيادة المكية ولمصالح الملأ تحديدا، مكسبا أكبر من التحول النهائي نحو الشكل الطبقي؛ لأن بقاء القبيلة وإطالة أمدها، كان يعني مزيدا من التراكم الثروي لأرستقراطية مكة، وهو الأمر الذي يفسره المستوى الفكري.
وعلى المستوى الفكري: نحتاج بعض التأني هنا لنحاول وضع لوحة واضحة للمستوى الفكري والمحتوى المعرفي لهذه المرحلة.
معلوم أن عجز الإنسان وضعفه أمام ظواهر الطبيعة المتقلبة وقواها، مع قصور تجربته ومعرفته، كان هو الدافع لتصور قوى مفارقة «ميتافيزيقية»، هي التي تقف وراء متغيرات الطبيعة وثوراتها وغضبها وسكونها. ولأن تلك الظواهر لم تكن مفهومة، فقد جاءت تلك القوى أيضا غيبية؛ ولذلك ارتبطت عقائد الناس في أربابها بوسطها البيئي؛ حيث عبرت عن ذلك الوسط وأظهر مظاهره وأكثرها تكرارا وديمومة، ومن هنا قدس العربي أجرام السماء التي تظهر بكل وضوح في ليله الصحراوي المنبسط، دون حواجز حتى الأفق بدائرته الكاملة، كما قدس الأحجار بخاصة ذات السمات المتفردة منها، فبيئته رمال وصخور وأحجار وقد غلب انتشار الصخور البركانية في جزيرة العرب لانتشار البراكين فيها، وأطلقوا عليها اسم الحرات من الحرارة والانصهار.
لكن اتساع رقعة الجزيرة على خطوط عرض واسعة أدى إلى تباين ظروف البيئة والمناخ مما أدى إلى تعدد مماثل في الظواهر، وبالتالي تعددية في العبادات. هذا ناهيك عن وعورة المسالك في الجزيرة؛ والتي أدت إلى ما يشبه العزلة لمواطن دون مواطن، خاصة تلك التي في الباطن، مما أدى إلى احتفاظها بألوان من العقائد الموغلة في قدمها وبدائيتها، نتيجة عدم الاحتكاك بالثقافات الأخرى التي تساعد على تطور الراسب المعرفي، ومن ثم العقائدي.
وهكذا يمكنك أن تجد إضافة لعبادة أجرام السماء وعبادة الأحجار والصخور بقايا من ديانات بدائية كالفيتشية والطوطمية، وعبادة الأوثان وعبادة الأسلاف.
والفيتشية أكثر ديانات الجزيرة انتشارا بين أهلها، وهي تقدس الأشياء المادية كالأحجار؛ للاعتقاد بوجود قوى سحرية خفية بداخلها، أو لأنها قادمة من عالم الآلهة في السماء أو من باطن الأرض حيث عالم الموتى. وقد ظلت تلك العقائد قائمة حتى ظهور الإسلام.
أما الطوطمية، التي تعتقد بوجود صلة لأفراد القبيلة بحيوان ما مقدس، فتظهر في مسميات قبائل العرب (أسد، فهد، يربوع، ضبة، كلب، ظبيان ... إلخ)، لذلك كانوا يحرمون لمس الطوطم أو حتى التلفظ باسمه؛ لذلك كانوا يكنون عنه؛ فالملدوغ يقولون عنه السليم، والنعامة يكنى عنها الملجم، والأسد أبي الحارث، والثعلب ابن آوى، والضبع أم عامر، هكذا. هذا إضافة إلى تقديس الأشجار، مثل ذات أنواط التي كانوا يعظمونها، ويأتونها كل سنة فيذبحون عندها ويعلقون عليها أسلحتهم وأرديتهم.
كذلك عبد العرب كائنات أسموها «الجن» خوفا ورهبة، ودفعا لأذاها، وظنوها تقطن الأماكن الموحشة والمواضع المقفرة والمقابر. وكان العربي إذا دخل إلى موطن قفر حيا سكانه من الجن بقوله؛ عموا إظلاما، ويقف قائد الجماعة ينادي: إنا عائذون بسيد هذا الوادي. وتصوروا الجن كحال العرب، فهم قبائل وعشائر تربط بينهم صلات الرحم، يتقاتلون ويغزو بعضهم بعضا، ولهم سادة وشيوخ وعصبيات، ولهم من صفات العربان كثير، فهم يرعون حرمة الجوار ويحفظون الذمم ويعقدون الأحلاف، وقد يتقاتلون فيثيرون العواصف، ويصيبون البشر بالأوبئة والجنون. وقد نسبوا إلى الجن الهتف قبل الدعوة مباشرة، حيث كثرت الهواتف أي الأصوات التي تنادي بأمور وتنبئ بأخرى بصوت مسموع وجسم مرئي. وقد اعتمد الكهان على تلك الاعتقادات فزعموا أنهم يتلقون وحيهم عن الجن، وأن بإمكانهم الصعود إلى السماء والتصنت على مصائر البشر في حكايات الملأ الأعلى مع بعضهم عمن في الأرض، وإن الكاهن بإمكانه معرفة مصائر البشر عبر رفيقه من جواسيسه على السماء من الجان.
أما أشد العبادات انتشارا وأقربها إلى الظرف المكاني والمجتمعي، فهي عبادة الأسلاف الراحلين. ويبدو لنا أن تلك العبادة كانت غاية التطور في العبادة في العصر قبل الجاهلي الأخير، حيث كان ظرف القبيلة لا يسمح بأي تفكك نظرا لانتقالها الدائم وحركتها الواسعة وراء الكلأ، وهو التنقل الذي يلزمه لزوجة جامعة لأفرادها، تم تمثله في سلف القبيلة وسيدها الراحل الغابر، فأصبح هو الرب المعبود وهو الكافل لها الحماية والتماسك، بوصفها وحدة عسكرية مقاتلة متحركة دوما. فاستبدلت بمفهوم الوطن مفهوم الحمى، والذي يشرف عليه سيدهم وأبوهم القديم وربهم المعبود، حيث تماهى جميع أفراد القبيلة فيه. ومن هنا كان الرب هو سيد القبيلة الراحل القديم، الذي تمثلوه بطلا مقاتلا أو حكيما لا يضارع، ومن ثم تعددت الأرباب بتعدد القبائل، ونزعت القبائل مع ذلك نحو التوحيد. وهي المعادلة التي تبدو غير مفهومة للوهلة الأولى، لكن بساطة الأمر تكمن في أن البدوي في قبيلته كان لا يعبد في العادة ولا يبجل سوى ربه الذي هو رمز عزته ورابط قبيلته، ولا يعترف بأرباب القبائل الأخرى، وهو الأمر الذي نشهد له نموذجا واضحا في المدون الإسرائيلي المقدس، حيث عاش بنو إسرائيل ظروفا قبلية شبيهة، فيقول سفر الخروج: «من مثلك بين الآلهة يا رب.» أي أن القبلي كان يعرف أربابا أخرى لقبائل أخرى، لكن ربه هو الأعظم من بينها؛ لذلك كان البدوي في قبليته يأنف أن يحكمه أحد من خارج نسبه، لأن نسبه هو ربه هو سلفه، هو ذاته، هو كرامته وعزته؛ لذلك كانت عبادة الأسلاف أحد أهم العوامل في تفرق العرب القبلي، وعدم توحدهم في وحدة مركزية تجمعهم.
ولم يأت الاعتراف بآلهة أخرى لقبائل أخرى إلا فيما بعد، بعد دخول المصالح التجارية للمنطقة، واستعمال النقد، وظهور مصالح لأفراد في قبيلة ترتبط بمصالح لأفراد في قبيلة أخرى، مما أدى لاعتراف متبادل بالأرباب. وهو الأمر الذي بدأ يظهر خاصة في المدن الكبرى بالجزيرة على خط التجارة، في العصر الجاهلي الأخير، كما حدث في مكة والطائف ويثرب وغيرها.
وقد دأب بعض مفكرينا في شئون الدين - عافاهم الله - على الحط من شأن عرب الجزيرة قبل الإسلام، وتصويرهم في صورة منكرة وسار على دربهم أصحاب الفنون الحديثة في القصة والسيناريو والأعمال الفنية السينمائية، بحيث قدموا ذلك العربي عاريا من أية ثقافة أو حتى فهم أو حتى إنسانية، حتى باتت صورته في ذهن شبيبتنا، إن لم تكن في أذهان بعض المثقفين بل والكتاب أيضا، أقرب إلى الحيوانية منها إلى البشرية. وقد بدا لهؤلاء أن القدح في شأن عرب قبل الإسلام، وإبرازهم بتلك الصورة، هو فرش أرضية الصورة بالسواد، لإبراز نور الدعوة الإسلامية بعد ذلك، وكلما زادوا في تبشيع عرب الجاهلية، كلما كان الإسلام أكثر استضاءة وثقافة وعلما وخلقا وتطورا على كل المستويات. وإن الأمر بهذا الشكل يبعث أولا على الشعور بالفجاجة والسخف، ثم هو يجافي أبسط القواعد المنطقية للإيمان، فالإيمان يستمد قيمته من دعوته، ومن نصه القدسي، وسيرة نبيه. فقيمته في ذاته، قيمة داخلية ، وليست من مقارنته بآخر. أما الأنكى في الأمر، فهو أن تتم مقارنة الإلهي بالإنساني، لإبراز قيمة الإلهي إزاء نقص الإنساني، في تلك الحال ستكون ظالمة لكليهما: الإلهي والإنساني؛ فالإلهي لا يقارن بغيره، كما أن مقارنة الإنسان به فداحة في التجني على الإنساني بما لا يقارن مع الإلهي.
وقد فطن «الدكتور طه حسين» إلى ذلك الأمر وعمد إلى إيضاحه في كتابه «الأدب الجاهلي» مبينا مدى تهافت الفكرة الشائعة حول جاهلية العرب قبل الإسلام، وكيف أن تلك الفكرة أرادت تصوير العرب كالحيوانات المتوحشة. لإبراز دور الإسلام في نقله الإعجازي لهؤلاء الأقوام المتوحشين، فجأة دون مقدمات موضوعية، إلى مشارف الحضارة، فجمعهم في أمة واحدة، فتحوا الدنيا وكونوا إمبراطورية كبرى. هذا بينما القراءة النزيهة لتاريخ عرب الجزيرة في المرحلة قبل الإسلامية تشير بوضوح، إلى أن العرب لم يكونوا كذلك. أما الركون إلى عقائدهم لتسفيههم، فهو الأمر الأشد فجاجة في الرؤية، فيكفينا أن نلقي نظرة حولنا، على الإنسان وهو في مشارف قرنه الحادي والعشرين، لنجده لم يزل بعد يعتقد في أمور هي من أشد الأمور سخفا ومدعاة للضحك.
والمطالع لأخبار ذلك العصر المنعوت بالجاهلي، في كتب الأخبار الإسلامية ذاتها، سيجد في الأخلاق مستوى رفيعا هو النبالة ذاتها، وسيجد المستوى المعرفي هو المستوى المعرفي للأمم من حولهم. وأن معارفهم كانت تجمع إلى معارف تلك الأمم معارفهم الخاصة. فقط كان تشتتهم القبلي وعدم توحدهم في دولة مركزية، عائقا حقيقيا دون الوصول إلى المستوى الحضاري لما جاورهم من حضارات مركزية مستقرة. وهو الأمر الذي أخذ في التطور المتسارع في العصر الجاهلي الأخير نحو التوحد في أحلاف كبرى، تهيئة للأمر العظيم الآتي في توحد مركزي ودولة كبرى.
فعلى مستوى المعارف الكونية، كان لدى العرب تصورات واضحة، تضاهي التصورات في الحضارات حولهم؛ فالأرض كرة مدحاة، والسماء سقف محفوظ تزينه مصابيح هي تلك النجوم، وفيه كواكب سيارة، أطلقوا عليها «الخنس والجواري الكنس». فهذا «زيد بن عمرو بن نفيل» يحدثنا عن التصور الكوني المعروف في بلاد الحضارات في قوله:
دحاها فلما رآها استوت
على الماء أرسى عليها الجبالا
بينما نجد «أمية بن عبد الله الثقفي»، يصور لنا ما درج عليه العالم القديم من تصور للسماء سقفا بلا عمد، وأنها طبقات سبع، وأن الشهب فيها حماية ورصدا ومنعا للجن من استراق السمع على الملأ الأعلى.
أما على مستوى المعارف الدينية، وكانت سمة عصرها، وهي المنحولة عن عقائد الرافدين القديمة ومصر القديمة وبلاد الشام وفلسطين، وجاء تفصيلها مجملا في مدونات التوراة، فهو الأمر الذي كانت تعرفه جزيرة العرب، فهذا «الأفوه الأودي» يأبى إلا أن يسجل أسماء أبناء نوح في قوله:
ولما يعصمها سام وحام
ويافث حيثما حلت ولام
أما طول العمر النوحي فكان مضرب المثل، وهو يؤخذ في مديح الأعشى لإياس:
جزى الله إياسا خير نعمة
كما جزى المرء نوحا بعدما شابا
في فلكه إذا تبدلها ليصفها
وظل يجمع ألواحا وأبوابا
وهو ما جاء أيضا في ضرب الراجز، رافضا عمرا كعمر نوح:
فعلت لو عمرت سن الحل
أو عمر نحو زمن الفطحل
والصخر مبتل كطين الوحل
صرت رهينة هرم أو قتل
وكان انتشار قصص التوراة في معارف الأمم يجد صداه في معارف ذلك العصر، فها هو «أمية بن أبي الصلت» يقدم حوارا شعريا بين موسى وهارون وبين فرعون، يقول فيه:
وأنت الذي من فضل ورحمة
بعثت إلى موسى رسولا مناديا
فقلت له: اذهب وهارون فادعوا
إلى الله فرعون الذي كان طاغيا
وقولا له: أأنت سويت هذه بلا
وتد حتى اطمأنت كما هيا
وقولا له: أأنت رفعت هذه
بلا عمد، أرفق إذا بك بانيا
بل وعرف العرب قصة مريم وولدها، وسارت فيهم كقصة معلومة، وهو ما صاغه «أمية» شعرا بدوره، إضافة إلى ما جاءت به المسيحية عن يوم بعث ونشور، مضافا إليه ما سبق إليه المصريون من القول بحساب للموتى أمام موازين العدل في قاعة الحساب السماوية. فهذا شعر بقي عن «قس بن ساعدة» يقول:
يا ناعي الموت والأموات في جدث
عليهم من بقايا برعم خرق
دعهم فإن لهم يوما يصاح بهم
فهم إذا انتبهوا من نومهم فرقوا
حتى يعودوا لحال غير حالهم
خلقا جديدا كما من قبله خلقوا
فيهم عراة ومنهم في ثيابهم
منها الجديد ومنها المبهج الخلق
وهو الأمر الذي يوضحه شعر «زيد بن نفيل» وهو يصور أحوال الحساب ونتائجه في قوله:
ترى الأبرار دارهم جنان
وللكفار حامية السعير
وخزي في الحياة وإن يموتوا
يلاقوا ما تضيق به الصدور
وهو ذات الأمر الذي فصل أمره «أمية الثقفي» في قوله:
باتت همومي تسري طوارقها
أكف عيني والدمع سابقها
مما أتاني من اليقين ولم
أوت برأة يقصى ناطقها
أم من تلظى عليه واقدة النار
محيط بها سرادقها؟
أم من أسكن الجنة التي وعد
الأبرار مصفوفة نمارقها؟
لا يستوي المنزلان ولا
الأعمال تستوي طرائقها
وفرقة منها أدخلت
النار فساءت مرافقها
أما «علاف بن شهاب التميمي» فيؤكد:
وعلمت أن الله يجازي عبده
يوم الحساب بأحسن الأعمال
كذلك جاء تقرير «زهير بن أبي سلمى واضحا» في قوله:
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم
ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
يؤخر فيوضح في كتاب فيدخر
ليوم الحساب. أو يعجل فينقم
وقد عبرت عن المستوى الفكري والمعرفي عدة من المعالم أهمها المعلم الأدبي، فليس جديدا التأكيد على شعرية العربي، حتى قيل إن كل عربي شاعر، وحتى أصبح الشعر ديوان العرب، رواية حالهم وظروفهم وعقائدهم، وسجل لمعارفهم ومستواهم الثقافي الأخلاقي، وسجل لحياتهم العملية وطرق عيشهم بل ورؤاهم الفنية والفلسفية.
وإلى جانب الشعر كان معلم الخطابة بما حواه من ذات المحتويات الشعرية، بنثره المنظوم المسجوع، إضافة إلى سجع الكهان المرسل منه والمزدوج.
وكان للعرب أسواقهم، التي عادة ما كانت تفتتح افتتاحا ثقافيا، بإلقاء الخطب النثرية، والقصائد الشعرية، وإجراء المسابقات حول أفضل القصائد، وهو ما برز في «المعلقات السبع». مما يشير إلى ديدن أمة اهتمت بتنمية الثقافة وتشجيعها، رغم تشتتها شيعا في قبائل لا تجمعها وحدة مركزية.
وكان العربي حريصا على تقديم معارفه وثقافته شعرا، وإن نثرها حرص على الجرس الموسيقي فيها، مما يشير إلى رهافة في الحس وارتقاء في الذوق، ونماذج من ذلك النثر، ما جاء قسما بالمظاهر الكونية عند «الزبراء» وهي تقول: «واللوح الخافق، والليل الغاسق، والصباح الشارق، والنجم الطارق، والمزان الوادق، إن شجر الوادي ليأود ختلا، ويرق أنيابا عصلا، وإن صخر الطود لينذر ثقلا، لا تجدون عنه معلا.»
ومن ألوان هذا السجع سجع ديني، جاء في وصف «ربيعة بن ربيعة» ليوم البعث والنشور، بقوله: «يوم يجمع فيه الأولون والآخرون، يسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون.» وهو ذات الرجل الذي يقسم بصدق قوله قائلا: «والشفق والغسق، والفلق إذا اتسق، إن ما أنبأتك به لحق.» أما «شق بن صعب» فيصف ذات اليوم بقوله: «يوم تجزى فيه الولايات، يدعى فيه من السماء بدعوات، يسمع منها الأحياء والأموات، ويجمع فيه الناس للميقات، يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات.»
ويقسم «ابن صعب» لسائله بأنه يقول الحق: «ورب السماء والأرض، وما بينهما من رفع وخفض، أن ما أنبأتك به لحق، ما فيه أمض.» أما الكاهن الخزاعي الذي احتكم إليه هاشم وأمية في نزاعهما، فأصدر قراره سجعا يقول: «والقمر الباهر، والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجو من طائر، وما اهتدى بعلم مسافر، من منجد وغائر، قد سبق هاشم أمية إلى المفاخر.»
أما «قس بن ساعدة الأيادي» فيرسل سجعه مصورا معارف العصر الكونية في نثره قائلا: «ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وأرض مدحاة، وأنهار مجراة، إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا.»
والشعر الجاهلي وثيقة هامة في يد الباحث العلمي، تأخذ سمت العلم التاريخي، رغم ما أثير حول الشعر الجاهلي من تشكيك في صحة انتسابه لعصره فعلا، وكان أبرز ما قيل بشأنه قضية النحل التي أثارها «الدكتور طه حسين» في كتابه الشعر الجاهلي، والمحاكمة المشهورة التي جرت آنذاك بشأن ذلك الكتاب وصاحبه.
لكن ما يدعو إلى الاطمئنان في الغالبية مما وصلنا من ذلك الشعر، مدونا بأقلام المسلمين، هو أن القافية والوزن كانا يضمنان منع حدوث تغيير كبير على ذلك الشعر، كما أن المحتوى البسيط لذلك الشعر، وما جاء من أخبار التخاصم على الإبل والمراعي يضمن عدم التصنع. وعلى رأي د. حسين مروة أننا لو حكمنا على شعر الأخطل وجرير ... بشكله، لتعذر علينا نسبته إلى ما بعد الإسلام.
وكان «ابن سلام» أول من بحث قضية الانتحال، وعزا أسبابها إلى العصبية القبلية، والرواة الوضاعين، مثل حماد الراوية، وخلف الأحمر. وسبق الجميع إلى مسألة الانتحال «المفضل الضبي» الذي نقد خلفا الأحمر، أما «طه حسين» فقد ردد ما سبقه إليه المستشرق «مرجليوث» بشكل مختلف بعض الشيء. وإن كان أهم حيثيات محاكمته هي إنكاره هبوط إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام جزيرة العرب.
وقد قامت جمهرة السلفيين تؤكد قبولها صحة نسب الشعر الجاهلي دون تحفظ أو تشكك. وقد ظهر ذلك واضحا في المؤلفات التي وضعت للرد على «طه حسين»، ونموذجا لذلك ما جاء في كتاب «نقض كتاب في الشعر الجاهلي» لمحمد أحمد الغمراوى، و«مصادر الشعر الجاهلي» لناصر الدين الأسد، وغيرهم. ونسبة الشعر الجاهلي لعصره، قد اتفق أمرها بين المسلمين السلفيين، وبين كثير من المستشرقين، وهو ما يمثله نموذجا قول المستشرق «ليال»: «والواقع أن هذا الشعر الجاهلي، قد أفاد المؤرخ الباحث في تاريخ الجاهلية، فائدة لا تقدر بثمن، وربما زادت فائدة هذا الشعر من الوجهة التاريخية، على فائدته من الوجهة الأدبية لأنه حوى أمورا مهمة عن أحداث العرب الجاهليين، لم يكن في وسعنا الحصول عليها لولا هذا الشعر.»
والخطابة كانت من أبرز الأنشطة الفكرية والثقافية للعرب، وكانوا يلجئون فيها إلى كل الوسائل الإبداعية والجمالية والبلاغية لإقناع المستمع بوجاهة محتوى الخطبة. وعند التعامل مع ملوك الدول كان العرب يختارون أكثرهم تفوها، وقد ذكر «ابن عبد ربه» في عقده الفريد، أن كسرى تنقص من أمر العرب في حضور «النعمان بن المنذر» لديه، مما استفز «النعمان» لعروبته فأرسل في طلب خطباء العرب وأوفدهم إلى كسرى ليعرف مآثر العرب وقدرهم الثقافي.
وكان الخطباء يخطبون في وفادتهم على الأمراء، فيقف رئيس الوفد بين يدي صاحب السلطان ليتحدث بلسان قومه، ومن هذه الخطب ما قيل بين يدي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عام الوفود وأوردته كتب السير والأخبار. ومن أشهر الخطباء، أولئك الذين وردت أسماؤهم في الرد على كسرى، وهم «أكثم بن صيفي»، و«حاجب بن زرارة التميمي»، و«الحارث بن عباد»، و«قيس بن مسعود»، و«عمرو بن الشريد السلمي»، و«عمرو بن معد يكرب الزبيدي». ومن خطباء مكة «عتبة بن ربيعة» و«سهيل بن عمرو»، ومن الخطباء أيضا «هرم بن قطبة»، و«عامر بن الظرب العدواني»، وهي نماذج تشير إلى خطباء كثر لقبائل العرب، أوردتها كتب الأخبار والسير تفصيلا وحصرا.
مع التطور الرتيب البطيء للقوى المنتجة، نتيجة للتعددية والتشظي القبلي، تواضع العقل العربي على إلقاء تفاسير ميتافيزية، لما يجابهه من ظواهر طبيعية، يحاول بها تبرير ما يحدث حوله، وهو ما اصطلح بعد ذلك على تسميته بالأساطير بين العرب أنفسهم. خاصة بين الطبقة المثقفة من أثرياء تجارهم، وهو ما يعلن عدم قناعة مستبطن بتلك التفاسير، التي أدرجت ضمن أخبار السالفين وأنبياء الأمم وقوادهم تحت عنوان واحد يجمعها هو «الأساطير».
ولما كان المطر أهم الظواهر وأخطرها لحياة البدوي، فقد وضعت بشأن انقطاعه أو تواتره سيولا، تفاسير أسطورية بدائية بسيطة بساطة حياة البداوة، فإذا أمطرت السماء نسبوا المطر إلى فعل النجم أو المجموعة النجمية التي توافقت في الظهور مع سقوط المطر، فيقولون: أمطرنا بنوء كذا. وكان لفيض المطر أحيانا ودوره المدمر تفاسير من لون آخر، فيبدو أن الذاكرة العربية احتفظت بأحوال عرب قدماء، دمرت بلادهم بسبب الأمطار العاصفة. فحكوا عنها روايات تفسيرية، تكمن الأسباب فيها بيد الآلهة الغاضبة البطوش على من خالفوا أوامرها أو نواهيها. وهو ما روته العرب مثيلة عن هلاك عاد وثمود، ويمكن الرجوع بشأنه تفصيلا للفصول الأولى من كتب الأخبار والسير الإسلامية، وعلى سبيل المثال «تاريخ الرسل والملوك» للطبري.
كذلك كان لندرة المطر أساطيرها الخاصة، والتي دفعتهم إلى ابتداع ألوان من الطقوس، قصدوا بها تحريض الطبيعة على العمل، ويبدو أن ملاحظة سكان السواحل للضباب الصاعد من الماء ليكون سحابا ممطرا، أثر في تصور اصطناع حالة شبيهة، فكانوا يوقدون نارا تخرج مادتها دخانا شبيها بالضباب الصاعد للفضاء، بقصد الاستمطار. ولأن البقر كان رمزا للخصب عند الشعوب القديمة، فقد عقدوا بين النار والبقر في طقس يجمعون فيه الأبقار ويصعدون بها المرتفعات، ويربطون في ذيولها مواد قابلة للاشتعال يوقدون فيها النار، فتهرع الأبقار مذعورة تثير الغبار وهي تهبط من الجبل، لتصطنع حالة شبيهة بالعواصف الممطرة، وأثناء ذلك يضجون بالدعاء والتضرع، ويرون ذلك سببا للسقيا، وذلك إعمالا لمبدأ السحر التشاكلي حيث الشبيه ينتج الشبيه.
وفي العصر الجاهلي الأخير، ومع النزوع نحو توحد قومي ديني تحت ظل إله واحد ارتفع العرب بذلك الإله عن المحسوسات، ونظروا إلى إلههم ساكنا السماء في قصر عظيم تحفه حاشية من الملائكة ويجلس على عرش محمول فوق أعناق فريق آخر من الملائكة، لذلك قدسوا السماء وأجرامها، والقسم بها، وبظواهرها، وحفوا بالقدسية كل ما تساقط من السماء بحسبانه قادما من ذلك المكان المقدس حيث العرش، فكان تقديس الأحجار النيزكية أحد نتائج ذلك الاعتقاد.
وقد نسبوا إلى الأفلاك أثرا عظيما في حياة البشر والأمراض والأوبئة، وكان تساقط الشهب يعني وقوع أحداث جلل، كالحروب، أو الكوارث الاقتصادية، أو الطبيعية، أو ولادة رجل عظيم، أو موت لآخر.
ويبدو أن تلك القدسية امتدت عند بعض القبائل إلى تأليه نجوم السماء، بينما اتجه البعض الآخر إلى اعتبارها هي ذات الملائكة، وقالوا إنهن بنات الله، أو لهن علاقة بالله على الجملة في أكثر من شأن. وتعبر عن ذلك الرواية المشهورة بشأن كوكب الزهرة والملكين هاروت وماروت وكيف أغوت الزهرة الغانية الملكين الورعين فارتكبا الخطيئة وعصيا الله خالق السماوات والأرض، وكيف تحولت تلك المرأة التي أغوت ملائكة السماء بدورها إلى كائن سماوي يتمثل في ذلك الكوكب الجميل المعروف بكوكب الزهرة.
كذلك لم يجد العرب في تميز بعض الأشخاص إلا سمات خارقة، نسبوها إليهم أحيانا انبهارا، وأحيانا تمجيدا. فهذا خالد بن سنان يطفئ النار التي خرجت بجزيرة العرب وكانت لها رءوس تسيح فتهلك البلدان، ويبدو أنها كانت ذكرى بركان مدمر، لكنهم جعلوا للنار البركان رءوسا آكلة حاربها ابن سنان حتى أطفأها وردها إلى مقر الأرض.
وهذا الصعلوك القوي النبيل، يشتد الإعجاب به وبقوته حتى يقولوا إنه قتل الغول وأتى يحمل رأسه تحت إبطه، فأسموه «تأبط شرا». وهذا عنترة بن شداد يشد على الأعادي فيكسر رماح الحديد وينزع النخيل من مواضعه ويحارب الغزاة، حتى يتحول مع النزوع القومي في الجاهلية الأخيرة إلى بطل عربي قومي يحارب أعداء العرب بقواه الجبارة.
وذلك «سيف بن ذي يزن» يدخل الحلم القومي العروبي بعد تحرير بلاده من الأحباش، فيتم التعتيم على استعانته بالفرس الذين يحتلون بلاده عوضا عن الأحباش، ليتم تصويره بطلا شعبيا عظيما يقاتل الجيوش ويهزمها بقوته ومهارته.
وهو ما يشير إلى نزوع جديد نحو أساطير البطولة للجاهلية في عصرها الأخير، لتصنع رمزها القومي العربي، وهي تنحو نحو التوحد الآتي. وكان الرب يمثل سيد القبيلة وسلفها ومعبودها ورمز عزتها وكبريائها، وكان تجمع تلك الأرباب في ضيافة الكعبة المكية، يعني مزيدا من الحضور التجاري لأتباع الأرباب، ومزيدا من المكاسب. فكان المحتوى الطبقي يسير نحو تفجير الشكل القبلي لصالح توحد القبائل جميعا، بتقارب مصالح الأثرياء من قبائل مختلفة، بحيث صار ممكنا رفض رب القبيلة وسيدها وسلفها المعبود لدى الفرد عند الشريحتين الاجتماعيتين، الأرستقراطية والمعدمة، فكانت الشريحة الأرستقراطية تنحو نحو التوحد المصلحي الذي احتاج أدلجة، أفرزت اعتقادا في إله واحد يرعى تلك المصالح، ولأنهم السادة والملأ والحكومة، فقد جاء إلههم الجديد في مرتبة تتفق ومكانتهم، ليصبح فوق آلهة الكعبة جميعا، وسيدا مطلقا للكون الذي أمسكوا عنان تجارته بأيديهم، وراعيا غائبا لمصالحهم.
كذلك كانت فئة المضطهدين والمعدمين والعبيد، في حالة رفض نفسي وعقلي لأرباب لا تعدل في تقسيم الأرزاق، ومن ثم كان رفض تلك الأرباب لدى المضطهدين؛ قناعة مهيأة للإعلان العملي السافر. وقد برز الاعتقاد المكي في إله واحد فوق أرباب القبائل وأسلافها المتعددين، الواقفين في فناء الكعبة، وأمسى معترفا به بشكل نهائي في العصر الجاهلي الأخير، وهو ما قررته بعد ذلك آيات القرآن الكريم في نصوص كثيرة متعددة، نقتصر منها على أمثلة تقول:
قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم *سيقولون لله قل أفلا تتقون (المؤمنون: 86-87).
ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون (العنكبوت: 61).
لذلك ظل التشرذم القبلي قائما، وجنين الوحدة المقبلة لعرب الجزيرة في حالة إرهاص ومخاض، دون ميلاد حقيقي، يجمع العرب جميعا في مصلحة واحدة، ووحدة قومية جامعة في ظل إله واحد، ولذلك انتشر الاعتقاد في مهمة باقية لهذه الأرباب القبلية المتفرقة، وهي التشفع لأتباعها لدى الإله الواحد، واتخاذهم إليه زلفى وتقربا، وهو ما كان - على المستوى النفسي - إخضاعا داخليا ذاتيا للقبائل، لملأ مكة وسيادة ذلك الملأ، عن طريق الاعتراف بسيادة إله الملأ على أرباب القبائل. وقد صورت آيات القرآن الكريم، المعنى الذي انتهى إليه أرباب القبائل بتصوير بليغ، يليق بصدق الوحي الكريم، وتطابقه مع واقع مكة والجزيرة، دون تفاوت
ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت (الملك: 3)، بقول يأتي على لسان المشركين:
ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى (الزمر: 3).
وعلى المستوى السياسي؛ تجاوزت حكومة الملأ - أصحاب الندوة - الشكل القبلي القديم، لكنها حرصت على استدامة النقيضين حرصا على المصلحة المادية؛ فكانت حكومة الملأ حكومة شبه جمهورية، تتجاوز الشكل المشيخي الرئاسي القبلي القديم، لكنها تستبطنه في تمثيل رجال الملأ للتعددية القبلية لبطون قريش، بينما صراع النقيضين يفعل فعله التراكمي لصالح توحد كامل لشكل الحكم، بغرض القضاء على التمثيل القبلي والقبلية، لصالح نظام حكم مركزي جامع، يقوم على سلطة واحدة موحدة، لا تضع بحسبانها مصالح الملأ الأنانية الضيقة، بل تتجاوزها بضرب التعدد السلطوي والربوبي، لصالح دولة كبرى ومصالح أعظم وأعم نفعا لجميع عرب الجزيرة، حكم يمكنه أن يوحد تلك الشراذم المتأججة بين الفردية والقبلية، الجديد والقديم، في مرحلتها الانتقالية، نحو أمة واحدة، وهو ما يخبرنا التاريخ بأنه قد حدث، وذلك مع المرحلة الأولى من المراحل التي مرت بها أطوار الدولة المقبلة.
وقد تمثلت المرحلة الأولى في تكوين تلك الدولة في ظهور سلطتها كسلطة نبوية، في مكة، بنداء النبي
صلى الله عليه وسلم
لعشيرته، بما بين يديه من سلطة نبوية «إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد»، تلك السلطة التي استندت إلى أساسين أولين هما: السلطة النبوية المستمدة من الأساس الثاني والأعظم، وهي سلطة الله الأوحد العليا، الراعي الأقدر للدولة القادمة.
وبالفعل تتجاوز الدعوة الطالعة لمؤسسة الدولة المقبلة، التعدد العشائري نحو توحد عربي جامع، وذلك بنزوع مبكر، نحو دولة غير اعتيادية، فسوف تكون إمبراطورية تسد الفراغ السياسي العالمي، وتقضي على ما تبقى من تفريخات منهارة للإمبراطوريات القديمة المتصارعة، لصالح التطور الأممي الجديد، وهو ما تأتينا نبوءته الصادقة يتردد صداها في جنبات جزيرة العرب، بلسان النبي الأمين:
اتبعوني أجعلكم أنسابا. والذي نفسي بيده، لتملكن كنوز كسرى وقيصر.
وهو المعنى الذي كان يحمل في طياته غرض كسب ولاء جماعة تضامنية، تشكل الأساس الثالث للدولة، جماعة تشكل نواة تأسيسية للأمة المقبلة.
ظهور الإسلام
كنا نقول حتى الآن: من الطبيعي، ومن الحتمي، ومن الضروري، فالأمر حسب قوانين التاريخ، لا بد أن تؤدي مقدماته إلى نتائجه، متى توافرت الشروط، لكن هنا قد يجوز القول لقائل: ومن الغريب أن ينهض بإتمام التطور إلى نهاية نضجه، لصالح الطبقة التجارية، فرد مكي قرشي، هو نبي الإسلام
صلى الله عليه وسلم ، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم. ووجه الغرابة أنه نشأ يتيما فقيرا كادحا، ينتمي إلى فرع هاشم، بل إلى الغصن الأفقر فيه، غصن عبد المطلب وأبي طالب، وأنه لضرورات وظروف نشأته، بدأ حياته العملية من أجل الرزق، وهو لم يتجاوز بعد صباه المبكر، فاشتغل وهو أقرب إلى الطفولة برعي غنم أهله، ورعي غنم أهل مكة، الذين يرفلون في ثراء النعمة، ثم - مع تجاوز الصبا إلى الرجولة - اشتغل بالتجارة لحساب الأثرياء، وهو ما يصلنا خبره في رحيله إلى الشام، بتجارة لإحدى شريفات قريش «خديجة بنت خويلد الأسدي».
ومثل ذلك الانتماء كان كفيلا بجعل أمر قيامه بدفع الأمر نحو غايته ونضوجه لصالح الطبقة التاجرة، أمرا غريبا لأول استطلاع، لكنه يعود طبيعيا تماما، إذا ما تذكرنا أن النبي
صلى الله عليه وسلم ، كان من مكة، ومن قريش تحديدا، دون سائر قبائل بلاد العرب، وإذا وضعنا بحسباننا الظرف الذي كان يدفع الحراك نحو غايته، تلك الغاية التي لم تعطلها دعوة النبي بل دفعتها حثيثا نحو نتائجها المنطقية، مع اعتبار الخبرة النبوية في الطفولة والصبا بالشظف والإملاق، في وسط طبقي هائل التفاوت، ثم خبرة أخرى بحياة الدعة والطمأنينة بعد الزواج من أم المؤمنين، السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وكانت إحدى نساء قريش الثريات المعدودات، وهو الزواج الذي كان عاملا ضمن عوامل، لانتقاله إلى انتماء جديد، لكنه انتماء خبر القديم، وأحس به حرمانا واستضعافا وهوانا لا ينسى. فكان الدفع نحو إلغاء تلك القسمة المجتمعة بداية، والتي بدأت تحنفا وتقشفا وتعبدا في حراء، رغم النعمة، على طريقة طائفة الحنفاء الذين انتشروا في الجزيرة العربية، وفى مكة خاصة، في العصر الجاهلي الأخير، يدعون إلى التوحد وإلى التوحيد وإلى المساواة وإلى العدل الاجتماعي.
23
ويعتقد «حسين مروة» أن النبي
صلى الله عليه وسلم ، لم يكن حنيفيا بالتأثير أو لمجرد التماس مع ذلك الفريق أو مع بعضهم، بل يذهب إلى احتسابه واحدا من جماعتهم، وقد اعتمد «مروة» في مذهبه هذا على تأكيد آيات القرآن الكريم لهذا المعنى، وضرب منها أمثلة من قبيل:
قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (الأنعام: 161).
ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا (النساء: 125).
24
أما المنهج الأمثل الذي كانت تطلبه الأحناف لتحقيق التوحد ووحدة الأعراب وقبائلها، فهو التوحيد الربوبي، والدعوة بدعوة الإله الواحد. والسبيل إلى تحقيق ذلك، فيما ذهبوا إليه، سبق وقرأناه بلسان الحنفاء وهم يطلبون وسيطا سماويا أرضيا، يطلبون نبيا (!).
25
ولا بد للوحدة السياسية من توحيد علوي يتمثل في سلطة إلهية واحدة موحدة عبر نبي عربي.
وهو الواقع الذي وعى قراءته مبكرا ابن خلدون، عندما عرض في مقدمته لمسألة الوحدة السياسية للعرب في مملكة موحدة، وأكد أن الملك لا يحصل لهم إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة ، وذلك في تقريره عن العرب:
أنهم أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض، للغلظة والأنفة وبعد الهمة، والمنافسة في الرئاسة، فقلما تجتمع أهواؤهم، فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم، وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم، فسهل انقيادهم واجتماعهم، وذلك بما يشملهم من الدين المذهب للغلظة والأنفة، الوازع عن التحاسد والتنافس.
26
أما الأكثر دلالة، ويضاف إلى مجموعة الإفادات السابقة، في رصيد الإجابة عن السؤال المطروح المستغرب، هو أنه رغم عدم إفادة المصادر الإسلامية بوضع رجال الدين في مكة، فإن تلك السدانة جاءت بدورها غير واضحة كما لو كان الغموض مقصودا بكتبنا الإخبارية. ولم يبن بتلك الكتب ما إذا كانت السدانة طبقة بالمعنى المفهوم عن رجال الدين، وإن كان ما يفسر ذلك الغموض هو ارتباط الدين بالتجارة، مما جعل قريشا تحوز جميعها قداسة رجال الدين بالنسبة لسائر أعراب شبه الجزيرة، وإن وجدنا وسط تلك الضبابية مجتهدا معاصرا، يعلمنا أن ذلك المنصب الديني كان متوارثا في البيت الهاشمي تحديدا، ثم من بعده في البيت المطلبي بالذات، وهو ما يصرح به «أحمد عباس صالح» في قوله: ... وتستمد من هذه السدانة سلطة على سائر أهل قريش، وإن كنا نعلم أن النبي
صلى الله عليه وسلم ، من سلالة هؤلاء السدنة من قريش.
27
وهو الخبر الذي يفسر لنا سر السيادة في الفرع المطلبي، وشرفه الرئاسي العظيم، رغم رقة حاله المادي، كما يفسر لنا كثيرا من توجهات هاشم من قبله، عندما ترك ولده عبد المطلب «شيبة بن هاشم» ينمو ويربو ويرضع الفروسية بين أخواله اليثاربة، وحيث كان التاريخ الديني يتواتر هناك في مقدسات اليهود، مما يلقي ضوءا على توجهات عبد المطلب في الشئون الدينية، وما دعا إليه إبان حياته بشأن الإله الأوحد وبشأن الملة الإبراهيمية الإسماعيلية، وحديثه المسجوع كسجع كهان عرب الجزيرة المشهور، ونبوءاته التي أثبتت الأيام صدقها.
28
وإعمالا لكل ذلك، وتأسيسا على انقسام الجزيرة إلى وحدات، يصر الملأ على استدامتها قبليا وربوبيا، ووقوف ذلك عائقا دون تحقيق التطور لغايته. جاء الحضور التوحيدي في الإسلام متحققا على المستويين: المستوى المادي بسعيه لوحدة مؤسسية جامعة، في دولة مركزية، وعلى مستوى الوعي بنهوضه على فكرة واعتقاد في مبدأ أيديولوجي يضع النظرية لمؤسسة الدولة المقبلة.
وهنا يجب ألا يفوتنا انتماء النبي العشائري إلى البيت الهاشمي، وهو ما دعاه إلى دعوة ذلك البيت من البدء إلى الوقوف مع الدعوة
وأنذر عشيرتك الأقربين (الشعراء: 214)، لكنه تجاوز الخلافات بين البيتين الهاشمي والأموي، بتوسيع دائرة الدعوة بين البيتين، لكن تفصيلات الموقف، وما لحقه بعد ذلك من أحداث، فرضت انعطافات كثيرة على طريق الدعوة؛ فقد نفر منه الأمويون، واعتبروا دعوة الإسلام العظمى، خطوة أخرى من خطوات التكتيك الهاشمي، مما استدعى تحركا آخر من قبل بني هاشم، بنزوع عشائري متماسك خلف ولدهم حماية له ووقاء، بفروض المنظومة القبلية وتحزبها، وربما مع وعي يقف في صف المنظومة الوحدوية التي يدعو إليها، لكن دون الارتقاء إلى البنية العليا، وهو ما اتضح في رفضهم للجانب الفكري الديني في منظومته، أما الأمويون الذين تصوروا الإسلام الجليل صراعا قبليا، فقد لجئوا إلى محاولة رشوة النبي بالمال، ثم إلى محاولة ساذجة، تهدف إلى كشف مقاصد النبي الكريم ودوافعه، التي تصورت لهم رغبة في الملك الهاشمي عليهم، فنصبوا له الفخاخ بدعوته إلى التملك عليهم، وهي الرشوة والخطة المكشوفة التي ما كان لها رد أبلغ من قول النبي
صلى الله عليه وسلم :
والله، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر أو أهلك دونه، ما تركته.
وهكذا بدا واضحا أن الملأ لم يعوا المقاصد الكبرى للدعوة، ودورهم الممكن فيها، إزاء رؤية قاصرة، تقف عند حدود المصالح الآنية الأنانية المرحلية، ولم يتجاوزوا المنافع الضيقة لنفر معدود، التي تحققها التعددية الربوبية القبلية، ولم تتسع رؤيتهم لتستطلع الاتجاه التاريخي، لمسار حركة التطور العام للحراك الاجتماعي العربي، ولم تع إطلاقا أن ذلك الحراك هو تطور على درجة أعلى لمستقبلها كطبقة تشكل نواة لشريحة كبرى، يمكنها أن تلعب دورا كبيرا في الفرز المرتقب للتشكيل التاريخي.
نعم لم يدرك الملأ أنهم الطبقة المؤهلة لقيادة الدولة، وأن قريشا هي الفريق المؤهل لرئاسة حركة كبرى - وهو ما سيحدث بالفعل بعد ذلك - ولم يدركوا أن مصلحة الطبقة جميعا على المستوى البعيد، مع التوحد في دولة مركزية، تكون نواتها وعاصمتها مكة، تحت راية إله واحد فرد، يشكل الوحدة الجامعة الأيديولوجية، وتحت زعامة نبي عربي واحد موحد، لكن ذلك لا ينفي إدراك بعض عقلاء القوم - بوعيهم النافذ وحنكتهم وحكمتهم ودربتهم - للأمر العظيم، وهو ما يمثله موقف أكثر رجال الملأ حكمة وجلالا «عتبة بن ربيعة»، ذلك العجوز الخبير الداهية، بعد أن التقى النبي
صلى الله عليه وسلم ، وأدرك الأهداف الكبرى للدعوة.
وضاع كلام عتبة، وسط ضجيج الحمية للمصالح الأنانية الضيقة. وتراكم خطأ حسابات الملأ، مما دفع إلى خطوات أخرى، ومتغيرات أخرى. وبالتدقيق، يمكن قراءة دوافع ذلك الخطأ الأساسي وكشفه، والذي يكمن برأينا، في مجاهرة النبي بضرب المصالح الآنية الأنانية لأطماع الملأ التي لا تتوقف، بدءا بضرب التعدد الربوبي القبلي، بهدف التوحيد الآتي، وإعلانه كفران قريش، وسلبها لقب «أهل الله»، ومخاطبته إياها بالقول:
قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون (الكافرون: 1، 2)، ثم تسفيهه لمعتقداتها وعقائد العربان، الذين هم أشد كفرا، باتباعهم أربابا وأسماء سموها ما أنزل الله بها من سلطان.
ثم ما كان أكثر نكاية للملأ، برفض الدعوة لقواعد التجارة السارية، بعد أن خبر النبي في تجاربه السابقة وتجارته، ما تؤدي إليه هذه القواعد من تعطيل وتجميد للحركة التجارية، عند حدود المكاسب الأكثر عائدية للأرستقراطية المكية وحدها، فقام يهاجم كنز الذهب والفضة وتعطيلهما عن أداء دورهما في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتنديده بلا هوادة بالربا والمرابين لدورهما في سحق صغار التجار، بغرض تركيز الثروة بيد فئة لا تؤدي للمجتمع خدمات منوطة بوضعها السيادي، ثم ما يؤدي إليه الربا في النهاية من استرقاق المدين، وهو ما يلقى بأيد مسحوقة لعمل غير مأجور، وكان لا بد أن يسفر الأمر عن جفوة فعداء جهير، أدى بالنبي
صلى الله عليه وسلم
إلى وجهة أخرى مرحلية، على خطوات الطريق الاستراتيجي الطويل، تحول بموجبها نحو المستضعفين والمعدمين والعبيد، يدعوهم إلى النسب، وامتلاك كنوز كسرى وقيصر، التي تتضاءل أمامها كنوز الملأ، وإلى الشرف والكرامة، لتشكيل نواة أولى لأمة جديدة واحدة من دون الناس وهم دوما مادة الحروب لمصالح الطبقات المسيطرة ومادة الانتقال الثوري لمصالح طبقة غيرهم.
وتبع تلك الخطوة متتابعات سريعة، فتم تكثيف الهجوم المباشر على الأثرياء، وتوعدهم بسوء المآل، حتى أسفر الهجوم أحيانا عن ذم الثروة في ذاتها، مع وعيد وإنذار بعذاب مقيم، لمن يمارسون قواعد تجارية يجب تجاوزها، من أجل سيولة ونضوج أفضل، يسمحان بإشراك المجتمع كله في الحركة الاقتصادية، فكان الهجوم على آكلي أموال اليتامى والمساكين، وعلى احتكار مواد المعيشة الأساسية، واستغلال الأرستقراطية لحاجة الناس من أجل ربح أقصى، فسفه أمر من جمع المال وعدده متصورا أن ماله أخلده، غير عالم أن خلوده سيكون بالنبذ في الحطمة، نار الله الموقدة، مع النذير للمطففين الذين ما أغنى عنهم مالهم وما كسبوا.
وعلى الجانب الآخر، كانت البشرى للمستضعفين، بأنهم بانضوائهم في الأمة الجديدة، سيحلون محل الملأ، وذلك باعتصامهم جميعا بحبل الله، وهو ما سيجعل هناك فرقا بينا بين تكوينهم المجتمعي، وتكوين الذين تفرقوا واختلفوا قبائل وعشائر شذرا مذرا بعد ما جاءتهم البينات، وهو ما سيترتب عليه حتما تنازع هؤلاء وفشلهم وذهاب ريحهم، ومن ثم كان إعلان الوحي بالنتيجة المحتمة، والخطط المعدة للدولة الواحدة، في قوله:
ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين (القصص: 5).
فالمستضعفون، هم من سيشكلون مادة الأمة الطالعة، وهم من سيكونون الأئمة والقادة، وهم من سيرثون سيادة الملأ وحكومته. والسبيل أمة جديدة، تقوم على مبدأ جديد، واحد لا يفرق، يجمع أصحاب المصلحة في التغيير في مصهر واحد، عبرت عنه الآيات الكريمة بقولها: ... أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه (الشورى: 13).
ومع ذلك المنحى المرحلي - وإن كان أساسا جوهريا في أسس الدولة - تفتحت الآمال أمام المستضعفين، فبدءوا يتذارفون فرداى إليها، دون قبائلهم وعشائرهم، مما جعل دخول كل منهم في المنظومة الجديدة، وتركه ولائه القبلي، سهما يطلق على جسم النظام القبلي، وكان تحول العبد عن سيده إلى جماعة المسلمين، يعني شراءه من قبل المسلمين لصالح الجماعة وإعتاقه ومنحه حريته، وهي الصورة التي اجتذبت أفئدة العبيد إلى جماعة لا تفرق في تشكيلها بين سيد وعبد، ولا ابن قبيلة وأخرى، إلا بمدى طاعته لقواعد الجماعة، التي قررها الوحي، فكان الإضعاف الإسلامي في تلك المرحلة للقبيلة، بإحلاله الولاء لجماعة الإسلام محل أي ولاء آخر، وهو ما تم تدعيمه بالانتماء الفردي في علاقة المسلم بالنبي وبالله، وهو ما ساعد على مزيد من انهيار الولاء للقبيلة، ودعا إليه الوحي بقوله:
ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم (التوبة: 113).
وكان القرار بأن الدولة ستقوم على نظام اجتماعي جديد، يميزها كأمة أخرى تماما دون بقية الأعراب، هو ما أفصحت عنه أبلغ إفصاح، الصحيفة التي عقدت بعد ذلك بسنوات، بعد الهجرة إلى يثرب، والتي قررت أول مبدأ للأمة الموحدة، معبرة عن التجمع الحضري الكيفي، المتجاوز للتجمع القبلي الكمي، في نص مضيء في مبتدئها يقول:
هذا كتاب من محمد النبي، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس.
29
يثرب قبل الهجرة
خرجت قريش إذن - بعدائها للدعوة - عن قواعدها التي سنها الملأ، وقعدها الأسلاف منذ «قصي»، في حرية الاعتقاد، التي كانت تكفل سيولة الحركة التجارية، وتضمن اكتظاظ الأسواق بالرواد على مختلف الملل، ومن ثم أفصحوا عن رفض مبرم للدعوة الجديدة ولصاحبها، واحتسبوها - عن غفلة - حلقة في تكتيك البيت الهاشمي، لصالح إمساكه بعنان السلطة وإلغاء سلطة الملأ، مما أدى بصاحب الدعوة إلى يأس مطبق من إفهام تلك الرءوس المكية الصلبة. ولم يبق سوى البحث عن مكان آخر بعيدا عن مكة.
ولما كانت الأرض قد مهدت سلفا، ببرمجة هاشم في تحالفه مع أهل الحرب والدم والحلقة في «يثرب»، وزواجه من البيت الخزرجي، وما تبعه فيه عبد المطلب بن هاشم بزواج آخر يصادق على الحلف، فقد كانت الخئولة اليثربية، مدعاة للمراهنة على نواة أخرى للدولة المقبلة خارج مكة في «يثرب»، المدينة المنافسة الحقيقية لمكة.
ومعلوم أن علاقة مكة بيثرب كانت علاقة تنافسية، لكن مع اختلاف عميق بين كليهما في التشكيل الاقتصادي والاجتماعي؛ فبينما كانت التجارة هي عصب الاقتصاد المكي، فإن أعمدة الاقتصاد اليثربي قد أضافت إلى عماد التجارة، زراعة الكروم والحبوب. وكانت حبوب يثرب غذاء استراتيجيا لأهل مكة، هذا مع نشوء الشكل الحرفي حيث تعاظمت صناعة السلاح إلى حد كبير، وحققت اكتفاءها الذاتي، مع فائض جيد للتصدير، من سيوف ودروع وجحف ورماح وسهام، ولباس حرب من خوذ للرأس لا تظهر غير عيني المحارب، ودروع ذات سمات رومانية تغطي الجسد كله.
أما الشكل المجتمعي، فرغم أنه كان أميل إلى الاستقرار كنتيجة مباشرة لحرفة الزراعة، فإنه كان أقرب إلى القبلية المضطربة، نتيجة التكوين الهجين لعناصر ذلك المجتمع، لوجود عنصر غير أصيل العروبة والاعتقاد، مثلته ثلاث قبائل يهودية كبرى، هي قينقاع والنضير وقريظة، بينما مثل العنصر العربي، قبائل نازحة من اليمن، هي قبائل الأوس والخزرج، الذين حلوا على يهود يثرب، ولم يجد اليهود في وجودهم غضاضة، بل على العكس، وجدوا فيهم تنشيطا للاقتصاد اليثربي، وكأي تاجر سلاح، كان لا بد من دسائس، تؤدي إلى صراعات تورث الضغائن والثارات، بين الأوس والخزرج، لمزيد من التنشيط الاقتصادي.
وقد أدى ذلك الوضع بيثرب قبل الهجرة، إلى صراعات قبلية كادت تمزقها، مما جعلها فراغا من السلطة السياسية، مقارنة بالملأ المكي، وهو ما كان يزيد في ترجيح كفة اليهود الأثرياء. أما العداء بين يثرب ومكة، وخاصة بين عرب يثرب وعرب مكة، فقد تأصل بفعل غياب دور يثرب في مصالح مكة، فرغم وقوع يثرب على طريق الإيلاف الشامي، فإن حكومة الملأ القرشي لم تسع إلى عقد أي لون من التحالف المصلحي، الذي يمكن أن يعود على عرب يثرب بفائدة، اعتمادا على التمزق الداخلي ليثرب، الذي كان كفيلا بشغلها عن مكة وتجارتها، بل وساهمت حكومة الملأ القرشية في إضرام جذوة النار بين الأوس والخزرج، فوقفت إلى جوار الأوس يومي معبس ومضرس،
30
حتى أوشكت عرب يثرب على انهيار تام، بحيث أسقطتها قريش، وخاصة كبار تجارها الأمويين، من معادلتها التجارية. هذا ناهيك عن العداء على المستوى النفسي، والذي كان سببه حرفة الزراعة، التي كان المكي يعيبها ويحتقرها، ويعتبرها مطعنا في الرجولة، والرد النفسي الطبيعي على ذلك، من كراهية يثربية، لتلك النزعة المتعالية من عرب مكة، وهو الحال الذي تصوره بليغا، قولة «أبي الحكم عمرو بن هشام أبو جهل»، ولوعته وعظيم أسفه، عندما شارك اليثاربة في قتله، في وقعة بدر الكبرى: «لو غير أكار قتلني!»
31
والأكار هو الزارع.
ومن هنا كان التحالف بالمصاهرة بين الخزرج والهاشميين، ثم استقبال الخزرج لابن أختهم الهاشمي وصحبه، ردا لجرح تؤججه ذكرى معبس ومضرس، واستشفاء نفسيا، واستجلابا لوضع أهملته قريش وأسقطته من حسابات الإيلاف، واستشرافا لوعد نبوي، استقبله الوعي اليثربي النفاذ، بوحدة تلم الشمل، لتقف يثرب كمنافس له شأن أمام الملأ المكي، وربما كعاصمة لدولة كبرى مع مداولة الأيام.
ومن جانب آخر، أدت حرفة الزراعة إلى سمة ميزت يثرب، فقد كانت دوما في حالة حذر من القبائل الضاربة حولها، خوفا على المحصول من السلب؛ ومن هنا كان الإكثار من إقامة الحصون والآطام في كافة نواحيها، وما تبع ذلك بالضرورة من طبع أهل يثرب بالخبرة الحربية والجلد، وهو ما تمرس عليه أهلها لكثرة ما جرى بينهم من حروب داخلية، أو حروب مع جيرانهم، فكانوا بالمقارنة مع أهل مكة أفذاذ حرب وأهل عدة وسلاح، حتى عرفهم التاريخ بأهل الحرب والدم والحلقة، بينما كانت مكة قد استنامت إلى أمنها، واطمأنت بإيلافها، وترهلت بترفها، في وقت أصبحت فيه يثرب دار سلاح ومنعة، مما جعل اليثاربة رجال بأس يعتدون بأنفسهم إلى حد عدم المبالاة التام بعداوة من يعاديهم، وأمسوا مرهوبي الجانب. ويكفي كي نعرف مدى اهتمام يثرب بالسلاح، أن نقرأ قائمة الأسلحة التي غنمها المسلمون بعد زمان من بني قريظة، وهم بطن يثربية يهودية لم تكن أقوى البطون، فكانت مخلفاتهم ألفا وخمسمائة سيف من نوع سيوف داود المشهورة بقوتها وصرامتها، وألفي رمح من رماح يثرب التي رددت عنها أشعار العرب الكثير، وألفا وخمسمائة ترس وجحفة، وثلاثمائة درع ملبس، أما القسي والسهام فقل في عددها ما تشاء.
32
وإذا أضفنا إلى ذلك كله ما توفر ليثرب من ماء وغذاء إلى حد الاكتفاء الذاتي، أدركنا ما تملكه يثرب من ممكنات الصمود الحربي، وهي كلها اعتبارات لا شك كانت معلومة لصاحب الدعوة. أما قيمتها الكبرى فكانت تتمثل في وقوعها على عصب طريق الإيلاف الشامي.
المستوى الفكري
أما على المستوى الفكري، فكان واضحا أن يثرب في اختلاف كبير عن مكة، حيث أدت عوامل عدة إلى تكون الفكر اليثربي بألوان جد مخالفة للفكر المكي؛ فبينما كان الفكر المكي قد تجاوز مجموعة العقائد القديمة على مستوى جدية الاعتقاد وصدق الإيمان، وتحولت العقائد عنده إلى أداة يمكن تخديمها لصالح المكاسب التجارية، وتحولت قصص السالفين من أبطال وأنبياء، إلى أساطير الأولين، فإن وجود اليهود في يثرب، مع كتابهم المقدس، وحكاياتهم عن قدامى أنبيائهم، وسلوكهم وفق شرائع محددة وضعها أولئك الأنبياء، وضع التاريخ الديني، والنبوي منه تحديدا، موضع احترام بين عرب يثرب، ناهيك عن النبوءة التوراتية المتواترة، عن مجيء نبي آخر الزمان، ليقيم لليهود دولتهم الغابرة، التي سقطت وانتهى أمر يهودها بالشتات من فلسطين عام 70م على يد الرومان، وهو ما وجد فيه اليثاربة العرب عند ظهور الدعوة الإسلامية إنباء بالنبي
صلى الله عليه وسلم
كان مخبوءا في رحم التوراة القديم، لكن مع تحليل جديد، في ضوء المعنى الأممي الذي خرج بالنبوة عن دائرة بني إسرائيل الضيقة، وعن العنصرية اليهودية المتزمتة، إلى آفاق رحبة، تستوعب فكرة عدم عنصرة النبوة وتجنيسها، وخروجها عن اليهود إلى الأمم، فكان الرسول أميا، من الأمم، غير يهودي، عربي، زعيما للعرب، ومؤسسا لديانة عالمية، وليس حكرا على بني إسرائيل، ودولتها الغابرة، أو المقبلة في حلمها التوراتي.
ثم كان التوحيد التوراتي، مدعاة لاختلال عرب يثرب بالوثنية، مما هيأهم لقبول فكرة التوحيد، والإقبال عليها عندما جاءت عربية، يدعو إليها نبي عربي، يفاخرون به اليهود الذين طالما تفاخروا عليهم بتاريخهم النبوي، وكتابهم المقدس. هذا فضلا عن تواضع النضوج الاقتصادي والاجتماعي في يثرب، مقارنا بما حدث في مكة. فبينما أصبحت الأفكار الدينية في مكة وسيلة لمزيد من الارتزاق، فإن العكس كان عند عرب يثرب، حيث كانت الحرمات التي فرضها السلوك اليهودي، تمهيدا طيبا لقبول عقيدة إيمانية توحيدية؛ ليس فقط لتحقيق أهداف بعينها، بل بنفوس تأثرت بالتراث الديني التوراتي حولها، مما جعلها أكثر قبولا لتصديق الدعوة وتقديس الإيمان. هذا إضافة إلى الثراء الفكري، الذي صاحب ذلك المناخ، وسببته متاخمة يثرب للمناطق الحضارية العريقة في الشمال، على حدود الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية.
الهجرة
وإعمالا لكل تلك الظروف، يمكننا أن نقرأ ببعض الوعي، لقاء العقبة الأول والثاني بين رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وبين نقباء يثرب، لنرى فيه وثيقة ميلاد الدولة وهي تدون في التاريخ، باتفاق بين أخوال النبي اليثاربة، وبين النبي الأمين، والتي ظهرت في البدء كما لو كانت مجرد اتفاق دفاعي عن شخص النبي، حيث كان النبي في مكة ممتنعا ببيته الهاشمي ممن عاداه وخالفه، وكان معنى الاتفاق على الهجرة إلى الأخوال، هو الانتقال إلى حمى جديد، يرفع الضغط عن الأعمام، في شكل يظهر كلون من الحماية. وكان للأحداث دلالتها الصادقة، التي تنطق بمدلولاتها في ذهاب «العباس بن عبد المطلب» عم النبي، وهو بعد على دين قومه، مع ابن أخيه، للقاء اليثاربة سرا في العقبة الثانية، وهو لم يذهب - فيما يقول «الطبري» - «إلا لأنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويستوثق له.»
لكن الواضح بما لا يقبل جدلا، أن فكرة الحرب والنية عليها، كانت قائمة ومبيتة في ذلك التحالف، وقد وعاها الأنصار جيدا.
والواضح إذن أن اللقاء التأسيسي كان حلفا محاربا وليس حلفا دافعيا عن النبي، وأن الحرب كانت هي القائمة، وكانت هي البند الأساسي، من أجل الهدف الأعظم؛ قيام الدولة الكبرى.
وبالفعل تمت الهجرة إلى يثرب، ولم يجد العنصر اليهودي في يثرب أية مشكلة في استضافة الخزرج لابن أختهم وصحبه، واحتضانهم لدعوتهم، تأسيسا على موقف عملي تكسبي، أدى إليه نجاحهم السابق في احتواء الهجرة اليمنية (الأوس والخزرج)، وتوظيفها لصالح مزيد من المكاسب، وترويجا لصناعتهم الحربية، وضعف المهاجرين الظاهر الذي لا يشكل أي خطر، وهي عوامل دعت للاطمئنان، وإمكان احتواء هذا الوافد الجديد، وهو الموقف الذي دفعت إليه وأذكته الآيات الكريمة التي سبقت الهجرة في الوصول إلى يثرب، تتحدث عن مكانة بني إسرائيل في التاريخ السياسي للمنطقة (مملكة داود وسليمان)، ومكانتهم في التاريخ الديني (مجموعة الأنبياء من نوح إلى إبراهيم وإسحق ويوسف وموسى ... إلخ)، بصياغة تكريمية عظيمة، تقدم احتراما واضحا أيضا للتوراة اليهودية، كما في قولها:
إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور (المائدة: 44). ... إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة (الصف: 6).
هذا مع الاحترام حتى للتفاصيل التوراتية الصغيرة، وأخذها بالاعتبار، والإشارة إليها في الآيات، كتابوت الإله اليهودي «يهوه»، وكتابة الله لألواح موسى ... إلخ. ثم الموقف العملي للنبي عند وصوله يثرب، حيث استقبل قبلة اليهود في الصلاة، بل وصام الغفران، ثم عقد للنبي الصحيفة مع اليهود، للتعاون والأمن والدفاع المشترك، مع كفالة حرية الاعتقاد التامة، مع إعلان عن عدم التناقض الاعتقادي، وهو ما تنطق به آيات كثيرة، منها:
وهو الحق مصدقا لما معهم (البقرة: 91).
وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم (البقرة: 139).
وكان ذلك بالنسبة ليهود يثرب، لونا من ممكنات مستقبلية، تحول مركز الجزيرة وقلبها عن مكة إلى يثرب، وما سيعود نتيجة ذلك من منافع عظيمة، ومكاسب مادية جمة.
لكن الغني عن الذكر هنا، أن يهود يثرب وهم يهيئون أنفسهم للكسب، اكتشفوا - خاصة بعد بدر الكبرى - خطأ حساباتهم القاتل؛ حيث تحدد الموقف تماما بعدما كسبه المسلمون في بدر من قوة مادية ومعنوية، لم تجعلهم في حاجة إلى مثل ذلك التحالف النفعي، حيث أثبت التجار المهاجرون حذقا وحنكة بحكم الدربة والخبرة، مما جعلهم منافسين أقوياء ليهود يثرب، وقد دعم ذلك النجاح التجاري، ما لحق بأساليب المهاجرين التجارية من تهذيب قننه الإسلام، بحيث تناقضت مع طرائف اليهود الشبيهة بأساليب الملأ المكي، من احتكار للسلع، والمغالاة في الكسب، مع الكسب الربوي الذي بات محرما في قوانين الدولة الجديدة.
وهنا تأتي المرحلة الثالثة من مراحل تكون الدولة الإسلامية، بعد المرحلتين: الأولى بظهور السلطة النبوية في مكة، والثانية المتمثلة في بيعة العقبة الثانية. أما الثالثة فهي الواقعة بمجمل أحداثها ما بين الهجرة إلى المدينة وبين غزوة بدر الكبرى، كما ستبينها الأحداث التالية.
وفي بداية المرحلة الثالثة من مراحل تأسيس الدولة، وحتى يصبح ممكنا حل إشكاليات الفرقة القبلية بين الأوس والخزرج، قام النبي
صلى الله عليه وسلم
بتأمين الحد الأدنى من التآلف الداخلي، بمصالحة الأوس والخزرج ثم مؤاخاة المهاجرين والأنصار. أما على المستوى الإيماني فقد صارت الأخوة الإسلامية ضربا للفرقة التي سببتها العصبية القبلية، بحيث صار خارجا على جماعة المؤمنين من فضل أخاه في القبيلة والعشيرة، على أخيه في الإسلام، وهو ما نشهد له نماذج بالغة القوة، ربما كان أبلغها ما أضاء تحت غبار وقعة بدر الكبرى؛ فبينما كانت قريش تخشى إراقة دم أحد من أبناء العم أو الخال من المهاجرين، كان المسلمون يحاربون غير هيابين ولا مبالين في هذا السبيل بأحد من الأقارب، وهو ما عبرت عنه الآيات الكريمة بقولها:
لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم (الأنفال: 63).
ويحكي ابن هشام في سيرته «أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، حين أقبل بالأسارى من بدر، فرقهم بين أصحابه ... وكان أبو عزيز بن عمير أخو مصعب بن عمير في الأسارى، فقال أبو عزيز: مر بي أخي مصعب بن عمير، ورجل من الأنصار يأسرني. فقال: شد يدك به، فإن أمه ذات متاع ولعلها تفديه منك ... فقال له أبو عزيز: يا أخي هذه وصاتك بي؟! فقال مصعب: إنه أخي دونك.»
33
أما المدى الذي بلغه أمر تلك الأهمية والأخوة الدينية، فيظهر واضحا في رد «أبي حذيفة بن عتبة» على النبي
صلى الله عليه وسلم ، وهو يوصي قبل معركة بدر مباشرة: «من لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله ... ومن لقي العباس بن عبد المطلب فلا يقتله.» فكان رد «أبي حذيفة» الذي لا يستثني من الأممية أحدا «أنقتل أباءنا وإخواننا وعشائرنا ونترك العباس؟ والله لئن لقيته لألحمنه السيف.»
34
والأمثلة كثير، سردها إطالة لا حاجة لها، لكن الدرس المأخوذ هنا، هو أنه بينما كانت مكة تتفكك قبليا لصالح الشكل الطبقي، كانت يثرب تتوحد إيمانيا وطبقيا، وتذوب في مستوى مادي متقارب، كناتج للتوزيع العادل للغنائم، لتشكل نواة الدولة المقبلة.
مكة والحصار
تمكن إذن النبي العربي
صلى الله عليه وسلم ، من تسكين أوضاع يثرب الداخلية، خاصة بعد إعطائه مركز الزعامة لسعد بن معاذ زعيم الأوس، حتى لا تحتسب عليه مظنة موالاة أخواله من الخزرج، بعد أن تمكن من تحييد زعيم الخزرج «عبد الله بن أبي بن سلول»، مما ربط الأوس بالدعوة وصاحبها، إضافة للارتباط القرابي للخزرج به. وبعد تحييد اليهود بالصحيفة، ومؤاخاة المهاجرين مع الأنصار، بدأ العد التنازلي للإجراء المقبل، وهو ما جاء في قصة ترويها كتب السير والأخبار، عن هبوط كبير الأنصار «سعد بن معاذ» إلى مكة، في رحلة تقول كتب السير إنها كانت - فقط - لأداء العمرة، حيث نزل ضيفا على صديقه «أمية بن خلف»، أحد أشراف قريش وسادتها.
فنزل سعد على أمية بمكة، وقال سعد لأمية: انظر لي ساعة خلوة، لعلي أطوف بالبيت. فخرج به قريبا من نصف النهار، فلقيهما أبو جهل فقال: يا أبا صفوان، من هذا معك؟ قال: هذا سعد. قال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بمكة آمنا، وقد آويتم الصباة، وزعمتم أنكم تنصرونهم وتعينوهم؟ والله لولا أنك مع أبي صفوان، ما رجعت إلى أهلك سالما. فقال له سعد - ورفع صوته عليه: أما والله لئن منعتني هذا، لأمنعك ما هو أشد عليك منه؛ طريقك على المدينة.
35
وهكذا كان الاختبار، وهكذا كان الرسوب، ورسب أحد كبار رجالات الملأ بجدارة؛ لأن تحريم أمن البيت وزواره، كان تأمينا لكل الملل والنحل، من أجل أمن التجارة وسيولتها وتدفقها مع زوار مكة، وكان تهديد أبي الحكم لسعد كبير عرب يثرب الجديد، إنما يعني أن قريشا قد بدأت تفقد أعصابها، ومع فقد الأعصاب تضيع المصالح، فقامت تهدد - بموقف أبي الحكم وتهديده لسعد - مصالحها التجارية كبلد اقتصادي مفتوح، بيدها.
أما الأمر الذي لا يفوت على لبيب، فهو الإنذار المتضمن في رد سعد لملأ مكة بما هو آت من حصار اقتصادي يقطع عليها الطريق إلى الشام. ولعل تلك العمرة التي أداها «سعد بن معاذ» - على الطريقة الوثنية، وطقوس الشرك، والتي لم يكن الإسلام قد أقرها بعد، ولم يكن قد طهرها من أدران الجاهلية وأصنامها - لم تكن مجرد مصادفة، خاصة إذا ما تذكرنا أن قبلة المسلمين كانت آنذاك إلى بيت المقدس.
وهنا نستكشف الأساس الرابع من الأسس التي قامت عليها الدولة، بعد الأسس الثلاثة المتمثلة في السلطة النبوية والسلطة السيادية الإلهية، وتكوين جماعة تضامنية أولى كنواة تأسيسية للدولة. ويظهر الأساس الرابع للدولة في تحول الجماعة الإسلامية إلى جيش متكامل؛ أي تجييش مادة الدولة، وتحويلها من مستضعفين مهاجرين إلى وحدة أو دولة عسكرية مقاتلة. والآن، لا يجب أن نفاجأ عندما نجد يثرب ترسل سراياها لقطع طريق الإيلاف. هذا ما يجب تذكره من أمرين كانا بداية الضغط على الملأ المكي، الأول هو منع يثرب قمحها عن مكة، أما الثاني فهو موادعة قبائل الساحل القديمة حول ميناء «الجار» على البحر الأحمر ليثرب، والذي كان يعرف أنه ميناء يثرب على البحر، ومنه تم منع شحنات القمح الوارد من مصر إلى مكة، ولم يبق سوى طريق الإيلاف الشامي خالصا لمكة، ومن ثم دهمت دوريات المسلمين هذا الطريق دون كلل، تتصدى للقوافل القادمة إلى مكة أو الآيبة منها، وهي الدوريات التي بدأت - محددة أهدافها - مبكرا، وقبل مضي سبعة أشهر على الهجرة؛ حيث خرجت أولى تلك الدوريات النشطة في سرية بقيادة «حمزة بن عبد المطلب»، لاعتراض عير لقريش، في ثلاثين مهاجرا، لكن السرية فوجئت أن قريشا كانت يقظة، فأردفت بقافلتها ثلاثمائة محارب بقيادة أبي الحكم نفسه، فتدخل «مجدي بن عمرو الجهني» ليحجز بينهما وينهي الموقف، واكتفت حراسة القافلة بالانصراف إلى سبيلها، بعد أن أقنعت المهاجرين باقتدارها، وكثرة عددها وعدتها.
ولم يمض شهر على سرية «حمزة»، حتى خرجت سرية بقيادة «عبيدة بن الحارث بن المطلب » إلى «بطن رابغ» بمقاتلين من المهاجرين، فالتقوا بقافلة لقريش، يبدو أنها كانت بدورها في حراسة جيدة، وهو ما يستنتج من عدم الاشتباك، واكتفاء السرية اليثربية برميها بالنبال عن بعد.
وبعدها بأيام خرجت سرية «سعد بن أبي وقاص» إلى الخرار، ليلحق بقافلة لقريش، ولم يتمكن من اللحوق بها، وكانت بدورها لا تحوي في مقاتليها سوى رجال من المهاجرين.
ومن ثم خرج المصطفى
صلى الله عليه وسلم
بنفسه غازيا على طريق الإيلاف، بقصد تفكيك الإيلاف والولاء القبلي لقريش، وهناك تمكن من سلخ إيلاف بني مدلج عن قريش، وأخذ عليهم عهود الموادعة بعهد مكتوب، ثم لم يلبث سوى عشر ليال حتى أغار النبي
صلى الله عليه وسلم
يريد «كرز بن جابر الفهري»، لكنه لم يدركه، وهي الغزوة المعروفة بغزوة «بدر الأولى»، لوقوعها على طريق وادي سفوان قرب بدر. وفي صفر، مع نهاية العام الأول للهجرة، خرج
صلى الله عليه وسلم
في رجاله من المهاجرين إلى مواضع أخرى على طريق الإيلاف، ليفكك عقود بني ضمرة بن بكر من كنانة عن قريش، ويعقد معهم عقود الموادعة والتحالف بعهد مكتوب.
36
وفي ربيع أول أرسل «عبيدة بن الحارث» على رأس سرية من المهاجرين حتى بلغت «ماء إحياء» للاستيلاء على قافلة لقريش، لكن السرية عادت دون قتال، بعد ما وجدته من حراسة مشددة مع القافلة، ومع بداية العام الثاني للهجرة لأيام خلت منه، غزا النبي
صلى الله عليه وسلم
يريد عيرا لقريش فيها ألفان وخمسمائة بعير، ولم يحدث هذه المرة أيضا أي قتال، وحتى الآن كان واضحا أن الأنصار كانوا مجرد مضيفين، لا يخرجون إلى قتال أو قطع طريق.
37
ثم جاء أخطر إنذار تلقاه ملأ قريش، عندما قامت سرية من تلك السرايا، بضرب الإطار التحريمي للأشهر التجارية الحرام، وهي سرية «عبد الله بن جحش»، التي لقيت عيرا لقريش في «نخلة»، فقتلت «عمرو بن الحضرمي» أحد رجال القافلة، وأسرت رجلين، واستولت على القافلة، وهو ما دفع قريشا للجأر بالشكوى تصيح: إن محمدا وأصحابه قد استحلوا الأشهر الحرم وسفكوا فيها الدم وسلبوا الأموال وأسروا الرجال.
38
وهنا جاء رد الآيات الكريمة المفحم، يحمل أكثر من دلالة، حول مفهوم الأشهر الحرام، وقيمة ذلك التحريم أساسا، ومدى قناعة القوة اليثربية الطالعة بتلك القيمة، وأخذها على مأخذ الجد من عدمه، خاصة بعد أن أكثر الناس الكلام عن استحلال أصحاب محمد للشهر الحرام، ثم إن الرد حمل أيضا تحديدا واضحا لمن أصبح بيده الأمر، وبإمكانه التحليل والتحريم، ناهيك عن قيمة قريش ذاتها كراعية للأشهر الحرام، وصاحبة لقب «أهل الله»، وقيمة ذلك اللقب ومدى مصداقيته، لأن الرد كان:
يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير (البقرة: 217).
ولم يكن هناك رد على استصراخ قريش العربان لحرمة الأشهر الحرام، أبلغ من ذلك الرد، لتراجع موقفها، وتضع مصالحها وهيبتها ونظامها الاقتصادي والقانوني التحريمي في الميزان، وهو الموقف الذي بدأت قريش تراجع حساباتها بشأنه، ويأتينا خبره بلسان «صفوان ابن أمية» وهو يقول:
إن محمدا وأصحابه قد عوروا علينا متجرنا، فما ندري ماذا نصنع بأصحابه، وهم لا يبرحون الساحل، وأهل الساحل قد وادعوا محمدا ودخل عامتهم معه، فما ندرى أين نسكن؟ وإن أقمنا في دارنا هذه أكلنا رءوس أموالنا، فلم يكن لنا من بقاء، وإنما حياتنا بمكة على التجارة إلى الشام في الصيف، وإلى اليمن في الشتاء.
39
لكن الحال على أية حال - شهد تلاحقا في الأحداث، تجاوز تلك المراجعة، حيث طير الخبر إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
في يثرب، بخبر قافلة لقريش في طريقها إلى الشام بقيادة «أبى سفيان»، قوامها 2500 بعير، فيها بضائع يربو ثمنها على 50000 دينار، بدنانير ذلك الزمان، والقيمة الشرائية لنقد ذلك الزمان، ساهم فيها البيت الأموي الثري، المعادي لبيت النبي الهاشمي، بأربعة أخماس القافلة.
40
وكان ذلك الخبر مدعاة لتداعيات أخرى متسارعة، فجرت صراعا عسكريا، كان مبتدؤه وفيصله، غزوة بدر الكبرى.
الباب الأول
بدر الكبرى
قراءة أخرى
طالوت ومحمد
وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء . (البقرة: 247)
والمثل المضروب في الآيات هنا، عن أول ملك لبني إسرائيل، رفاق الحلف الدفاعي في جماعة يثرب التضامنية، وهو الملك المعروف في العهد القديم من الكتاب المقدس باسم «شاءول»، والوارد في آيات القرآن الكريم باسم «طالوت»، وقد اختاره لهم في الآيات «نبيهم» غفلا من أي تعريف، وهي المعرفة التي يمكن الحصول عليها بالرجوع إلى الكتاب المقدس، حيث يلتقي ذلك النبي تماما ويتطابق مع شخصية القاضي الكاهن «صموئيل». وفي سفرين باسم «صموئيل» بالكتاب المقدس، يمكنك العثور على كثير من التفاصيل بهذا الشأن، حيث تعرض الإسرائيليون - تحت حكم نظام القضاة الكهنة، وهو نظام قبلي يجمع الحكم الدنيوي مع الديني - لعدد من الهزائم، أمام سكان الساحل الفلسطيني، وكان مرجع تلك الهزائم كما هو واضح بتلك الأسفار، نتيجة استمرار النظام القبلي، الذي شتت الولاء بين اثنتي عشرة قبيلة «الأسباط»، وأوقف تطور المجتمع القبلي الإسرائيلي نحو حكومة مركزية واحدة قوية، وجعل جيشها مجموعات غير منظمة ولا موحدة، تعود بولائها إلى متفرقات القبائل، التي ربما تعود - أو لا تعود - إلى صلات قرابية بعيدة فيما بينها.
هذا بينما كان الفلسطينيون، سكان الساحل، شعبا مستقرا، ورغم انقسامه بدوره إلى مجموعة دول مدن، فإن الولاء في الدولة المدينة كان للدولة المركزية، ومركزية الملك المنظم. ومن هنا انتهى بنو إسرائيل إلى نتيجة مفادها: أن هزيمتهم تعود بشكل مباشر إلى نظامهم الاجتماعي والسياسي، وبات مطلوبا صهر تلك القبائل تحت حكم ملك واحد، ومن ثم كانت مطالبتهم العاجلة والعنيفة، لكاهنهم وقاضيهم وحاكمهم القبلي «صموئيل»، باختيار ملك لهم جميعا يوحدهم في دولة واحدة.
وخضع «صموئيل» لضرورات الظروف، واختار لهم «شاءول» ملكا، ليصهر القبائل جميعا في وحدة واحدة، وشعب واحد، بقيادة حكومة واحدة، لها جيش واحد، وبالفعل - حسبما تخبرنا رواية التوراة - تمكن «شاءول» ومن تبعه من ملوك مباشرين «داود وولده سليمان»، من صهر تلك القبائل المتفرقة في كونفودرالية واحدة، وتمت مركزة الحكم، التي انتهت بتفوقهم على أصحاب الأرض، وإقامة الدولة المركزية.
1
والمثل المضروب في الآيات القرآنية، يطلب من المسلمين استدعاء الدلالات، لقراءة واقع مماثل لقبائل متفرقة تحت حكم بدائي، ممثل في حكومة الملأ المكية، التي لم تتمكن من مركزة الولاء، كنتيجة حتمية لتفرق التمثيل القبلي بين أعضاء الملأ، الذين كانوا أثرياء البطون القرشية، والذين لم يمثلوا الفئات الموزعة بين القبائل تمثيلا صادقا، والذين - وهنا المهم - رفضوا الدعوة التوحيدية الطالعة.
لكن الآيات وهي تستدعي واقع مكة، لتلحقه بالتاريخ الإسرائيلي في المثال المضروب، ترحل بالتساؤل المكي القرشي من رجال الملأ، ليصبح تساؤلا من بني إسرائيل لصموئيل: «أنى يكون له الملك علينا؟» وهو التساؤل الاستنكاري الذي يحمل معاني جديدة، ومواصفات جديدة، يجب أن يتصف بها السيد الزعيم، وهي المعاني والصفات التي حملتها رياح التغير الاقتصادي إلى مكة، مع الثراء الفاحش الذي أصاب البعض دون الآخر، وبدأ يفعل فعله في تفجير الأطر القبلية القديمة، ولم تعد مواصفات الزعيم كما كانت في الماضي العشائري، من حكمة تؤهله كي يكون رأسا للقبيلة، أو حنكة، أو شجاعة أحيانا أخرى حسب ظروف القبيلة إن سلما أو حربا، بل تحول الأمر بعد تشكل الطبقة الأرستقراطية المتميزة، وتغير المعيار، وتبدل أساليب القياس، وهو ما عبر عنه استطراد الآيات «أنى يكون له الملك علينا، ونحن أحق بالملك منه؟» وهي الأحقية التي يأتي معيارها القياسي واضحا في الإلحاق التوضيحي «ولم يؤت سعة من المال؟»
نعم، ربما كان النبي
صلى الله عليه وسلم
قد حاز قدرا من المال، توفر له بعد زواجه من أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، لكن ذلك القدر من المال ما كان ليسمح له - في نظر الملأ ومعاييرهم - بما يدعو إليه، ولا يفي له بما يؤهله لدخول حكومة الملأ الأرستقراطية، فما بالنا وهم يتصورونه يسعى للإمساك بأعنة السلطة جميعا بيديه؟ حيث المعيار لم يعد مجرد حصول فرد على بعض المال، حتى يذهب به الطموح - كما تصوروا - إلى الجموح، فالمؤهل المطلوب قد أصبح «سعة من المال».
ومن ثم؛ كانت قراءة الواقع تشير إلى سير التطور إلى نتائجه المحتمة والضرورية، والتي ستشكل في المستقبل المنظور منظومة سياسية مركزية موحدة، تحت قيادة زعيم أوحد. ولم يكن ثمة توضيح يمكن تقديمه لمفاهيم الأرستقراطية القرشية، ولا للمسلمين الأوائل وهم مادة الدولة الطالعة، سوى إلقاء الحالي في مرآة الماضي. لكن الآيات هنا - وهي تطابق واقع جزيرة العرب - تختلف عن رواية التوراة، وهي تطابق واقع فلسطين القديم؛ فبينما التوراة تحكي عن مطالبة الشعب الإسرائيلي نفسه للكاهن «صموئيل» بملك يوحدهم ويقود جيوشهم، فإن الآيات الكريمة تؤكد أن ذلك الملك جاء باصطفاء إلهي، وهو ما يستدعي على الفور اصطفاء المصطفى
صلى الله عليه وسلم ، لكن لتفرض ذلك الملك على بني إسرائيل - في الآيات القرآنية - فرضا بقرار إلهي، وهو الأمر الذي يطابق واقع الحال المكي مع الدعوة الإسلامية، ويخالف ما جاء في التوراة عن حال التاريخ الإسرائيلي القديم؛ ومن هنا يتم تعشيق الماضي مع الحاضر في المثال المضروب بقرار علوي:
إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء . (1) ضرب طريق الإيلاف
وبينما كان قمح يثرب يقطع عن مكة،
2
وبينما سرايا المسلمين تجوب طريق الإيلاف التجاري لقطعه على مكة، وبينما الخبر عن قافلة أبي سفيان المسافرة إلى الشام، يطير إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
في يثرب، كان الوحي يسترسل شارحا لوضع الحاضر مقارنا بما حدث في الماضي، ليحفز همم المسلمين، فيحكي لهم عن «شاءول-طالوت»، بعد أن استقر له أمر الملك، وبدأ حملاته على مدن الساحل الفلسطيني،
فلما فصل طالوت بالجنود ... قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ...
جالوت هنا هو «جوليات» الزعيم الفلسطيني في رواية التوراة، لكن رواية التوراة تختلف مرة أخرى عن رواية القرآن الكريم حيث كان ائتلاف القبائل الإسرائيلية في مملكة واحدة، تشكيلا هائلا، وتجييشا لعدد ضخم من المقاتلين، ومن ثم يكون تطابق الآيات ليس مع التاريخ التوراتي كما ترويه التوراة، لكن مع واقع المسلمين والمشركين؛ حيث المشركون هم الأكثرية، والمؤمنون هم الأقلية، لكن الحضور الإلهي إلى جانب الحق كان كفيلا بحسم الموقف، فالآيات تستطرد:
قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين (البقرة: 249).
وإعمالا لذلك وحتى تتطابق الروايتان، ويتطابق الواقعان، ونبوة الحاضر المنتصر بإذن الله، بملك الماضي، يحكي «أبو أيوب الأنصاري» عندما خرجوا إلى بدر «فإذا نحن ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، فأخبرنا النبي
صلى الله عليه وسلم
بعدتنا، فسر بذلك وحمد الله، وقال: «عدة أصحاب طالوت».»
3
وتحكي كتب السيرة أن النبي - عليه الصلاة والسلام - خرج يريد عير قريش المسافرة إلى الشام، ولما بلغ الموقع الذي تمت حسابات الوصول إليه من يثرب، تقاطعا مع الحسابات المتوقعة لزمن وصول قافلة أبي سفيان إليه من مكة، وهو «العشيرة»، اكتشف المسلمون خطأ الحسابات؛ فالحسابات كانت إنسانية صرفا، تقبل خطأ الإنسان وصوابه، ووجدوا أبا سفيان قد سبقهم بعدة أيام، وعليه تحول الموقف إلى محاولة تعويض ما فات، بالعودة إلى يثرب، وتربص موعد عودة القافلة قافلة من الشام.
4
ولم يطل انتظار المترقبين، فيخبرنا «ابن هشام» أن أمر القافلة قد بلغ مسامع النبي
صلى الله عليه وسلم ، «ولما سمع النبي بأبي سفيان مقبلا من الشام، ندب المسلمين إليه، وقال: هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها. فانتدب الناس، فخف بعضهم، وثقل بعضهم.»
5
وكان الرد على تثاقل بعض المسلمين عن الخروج إلى أموال قريش، عودة أخرى للقديم، تذكيرا، وتنبيها، وتحفيزا، بذات المثل الإسرائيلي:
ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى؟
إذ قالوا لنبي لهم:
ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله. (البقرة: 246).
وهنا جماعة إسرائيل لا تعترض على اختيار الملك لعدم سعته من المال، بل هي تطلبه، فتتطابق هنا الروايتان القرآنية والتوراتية، لكن الحكمة تنزع الماضي من سياقه لرسم صورة الحاضر وإتمام صياغة الرسالة، المطلوب من المسلمين إدراكها، وفهم دلالاتها:
قال: هل عسيتم إن كتب عليكم القتال
ألا تقاتلوا؟
قالوا: وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله (البقرة: 246).
نعم، القتال في سبيل الله، وهو قتال - في التاريخ التوراتي القديم - لهزيمة سكان الساحل الفلسطيني، وهي الآيات التي تستدعي القديم لحاضر يثرب، تأجيجا لنوازع نفسية في المهاجرين تحديدا، فتقول:
قالوا: وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله
وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا؟! (البقرة: 246).
إن التوراة لا تقول بخروج بني إسرائيل من ديارهم وأبنائهم حينذاك، بل كانوا - حسب روايتها - مهاجمين لا مدافعين، محتلين وغاصبين، وهذه روايتها، وإثمها مردود عليها في المخالفة، لكن ما نعلمه يقينا، أن الذين أخرجوا من ديارهم مهاجرين، وتركوا أبناءهم واللوعة من أهل مكة تعتمل في نفوسهم، هم المسلمون المهاجرون إلى يثرب، وبالطبع كان لا بد أن تفعل تلك الآيات في نفوسهم فعلها وأثرها. (2) هيبة الملأ
يروي «الطبري» خبر قافلة «أبي سفيان» فيقول:
وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتحسس الأخبار ... حتى أصاب خبرا عن بعض الركبان، أن محمدا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك ... فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتي قريشا يستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه، فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة.
6
وهكذا حقب الأمر، وبدأت بدايات أفول الأمن القرشي على طريق الإيلاف الشامي، فالقافلة الآمنة، المطمئنة بالإيلاف، تضطر - في سابقة خطيرة - إلى استنفار أهل مكة، من أصحاب المال. وبينما كانت الأحوال في مكة على وتيرتها الرتيبة وهدوئها، وقبل وصول ضمضم الغفاري، ألقت «عاتكة بنت عبد المطلب» عمة النبي، وسليلة البيت الهاشمي، بما حرك ذلك السكون الراكد المطمئن، برواية عن رؤيا رأتها، حملها أخوها «العباس بن عبد المطلب» إلى مجلس الملأ، تقول فيها:
والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفظعتني؛ رأيت راكبا أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح، ثم صرخ بأعلى صوته: ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث، فأرى الناس اجتمعوا إليه، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه. فبينما هم حوله، مثل به بعيره على ظهر الكعبة، ثم صرخ بمثلها: ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث، ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ بمثلها، ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي، حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت، فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار، إلا دخلتها منها فلقة.
وبلغت الرواية أبا الحكم بن هشام، وربما ذهب إلى تصور ترتيب بعينه بين عاتكة وابن أخيها في يثرب، وذلك في ضوء إيمان عرب زمانه بالرؤيا وذهابهم في تفسيرها التنبؤي مذاهب وقراءات وعيافة وفألا. ثم لا جدال أنه عندما تتحدث هاشمية عن قوم بأنهم «آل غدر»، فإنها تقصد لا شك البيت الأموي المعادي، فكان أن قام يخاطب «العباس» بشأن رؤيا شقيقته، قائلا:
يا بني عبد المطلب، متى حدثت فيكم تلك النبية؟ ... أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم، حتى تتنبأ نساؤكم؟ - أو أما رضيتم يا بني هاشم بكذب الرجال، حتى جئتمونا بكذب النساء - قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال: انفروا في ثلاث، فسنتربص بكم هذه الثلاث، فإن يك حقا ما تقول فسيكون، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء، نكتب عليكم كتابا، أنكم أكذب أهل بيت في العرب.
7
وبينما لم تكن تموجات رواية عاتكة قد سكنت بعد، على سطح الاستكانة القرشية المترفة الآمنة، وصل «ضمضم الغفاري» بعد الأيام الثلاثة وهو يصرخ ببطن الوادي، واقفا على بعير له، وقد حول رحله، وشق قميصه، وهو يقول:
يا معشر قريش، اللطيمة، اللطيمة، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها؟ الغوث، الغوث.
8
وحدث بعدها ما جاء في رواية البيهقي: «فتجهز الناس سراعا، وقالوا: «أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي؟ كلا والله ليعلمن غير ذلك».»
9
ثم يفيدنا أن «أبا سفيان» تمكن من النجاة بالقافلة، بسلوك درب آخر بقوله: «وخفض أبو سفيان فلصق بساحل البحر، وخاف الرصد، وكتب إلى قريش حين خالف مسير رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ورأى أنه أحرز ما معه، وأمرهم أن يرجعوا.»
10
أو بتفصيل «الطبري»: «إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجاها الله، فارجعوا.»
11
لكن «أبا الحكم» (أبا جهل) الذي أدرك - كواحد من رجال الملأ المقدمين - أن تهديد طريق الإيلاف، إنما يعني تهاوي الهيبة القرشية، مما قد يدفع القبائل الأخرى إلى ذات المحاولة ، وتهون قريش بين العربان، وتضيع المصالح والمكاسب، ثم ما يستتبع ذلك من فقد قريش لثقة الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية، في القيام على شأن المواد المطلوبة في مواقيتها، في زمن حرب حرج، يكون فيه أي تأخير عاملا مؤثرا وفاعلا في الانتصارات والهزائم. وهو ما قد يدفع إحدى الإمبراطوريتين إلى ركوب مغامرة تأمين الطريق باحتلاله، وربما احتلال مكة ذاتها، وهو ما يمكن أن ينقل الصراع الإمبراطوري إلى باطن الجزيرة. فما كان من أبي الحكم إلا أن نادى بعدم عودة الرجال إلى مكة، ودعاهم إلى استعراض هيبتهم أمام القبائل، باحتفال كبير، اختار له أحد أسواق العرب الكبرى، في موقع وادي بدر، حيث الماء والخضرة، لإبلاغ العرب بدلالات الاحتفال، وأن قريشا لم تزل قادرة على تأمين طريقها، وأنه لم يحدث شيء يعكر صفو الأمان السائد. ومن هنا قام ينادي:
والله لا نرجع حتى نرد بدرا ... فنقيم عليه ثلاثا، وننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقي الخمور، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب، فلا يزالوا يهابوننا بعدها أبدا.
12
أو برواية أخرى:
والله لا نرجع حتى نقدم بدرا، فنقيم بها، ونطعم من حضرنا من العرب، فإن لن يرانا أحد من العرب فيقاتلنا.
13
وهكذا عاد الركب موجها نحو بدر ليقيم سمره الاحتفالي لليال ثلاث، و«كانوا خمسين وتسعمائة، وقيل كانوا ألفا، وقادوا مائة فرس ... معهم القيان ... يضربن بالدفوف ويغنين».
14 (3) ضعف الهيبة
وهناك أحداث صغيرة لا تخطئها العين المدققة، لعبت - بعد ذلك - دورا في حسم الأحداث، ربما كان أولاها بالملاحظة، هو قرار بني زهرة الرجوع جميعا إلى مكة، بعد أن تأكد لديهم سلامة القافلة ومرافقيها، فلم يخرج إلى بدر زهري واحد.
15
ومعلوم أن بني زهرة هم أهل «آمنة بنت وهب» أخوال النبي - عليه الصلاة والسلام.
والأمر الثاني؛ هو أن بني هاشم عشيرة النبي، تثاقلوا عن الخروج، وجرت بينهم وبين الأمويين مجادلة، أرادوا معها الرجوع إلى مكة، «فاشتد عليهم أبو جهل بن هشام وقال: والله لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع.»
16
ومن ثم كان طبيعيا أن تلتفت إليهم الرءوس الأموية لتقول محذرة :
يا بني هاشم، وإن خرجتم معنا، فإن هواكم مع محمد!
17
ويضاف إلى ذلك أن بعض كبار الملأ، مثل «أمية بن خلف»، قرر القعود وعدم الخروج، وهو من تصفه كتب التراث الإسلامية بأنه «كان شيخا جليلا جسيما وثقيلا.»
18
الذي أراد تجنب المشقة وهو في هذه السن وذاك الجسم الثقيل، لولا أن أتاه «عقبة بن أبي معيط» وهو جالس في المسجد بين ظهراني قومه، بمجمرة فيها نار ومجمر، حتى وضعها بين يديه ثم قال:
يا أبا علي استجمر، فإنما أنت من النساء. فقال: قبحك الله وقبح ما جئت به. ثم تجهز فخرج مع الناس.
19
ثم أمر آخر يضاف لتلك الأحداث التي تبدو صغيرة هينة، تظهر ضعف تلك الهيبة القرشية المزعومة، ومدى تردد قريش في الخروج - لمجرد الاحتفال - خشية أن يغشاهم بعض بني كنانة وهم لاهون، لما كان بينهم وبين بني بكر «بيت كناني» من ثأر. ولم يحسم ذلك التردد سوى مجيء «سراقة بن مالك» أحد أشراف كنانة للركب المكي قائلا: «أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه.» لكن الرؤية الراوية لتراثنا الإسلامي، تنزع ذلك عن شخص «سراقة» وتقول: إنه إبليس قد تلبس هيئة سراقة.
20
ولمزيد من الاطمئنان، خرج معهم «سراقة» ضيفا على حفلهم، مع وعد بمجيء كنانة جميعا إلى الحفل ضيوفا وحلفاء، لكن ما حدث عند وقوع الوقعة، هو هرب «سراقة» من بين قريش عائدا إلى دياره، وهو ما لم يجد له أبو الحكم تفسيرا مقنعا، سوى أنها كانت الحيلة والخديعة من بني بكر، لاستدراج قريش إلى بدر، في ضوء الخلاف الثأري مع ذلك البيت الكناني، وهو ما عبر عنه لسانه وهو يقول:
يا معشر الناس؛ لا يهولنكم خذلان سراقة بن مالك؛ فإنه كان على ميعاد مع محمد.
21
ومثل تلك الأحداث التي أوردتها كتب التراث على سرعة وعجالة، تفصح عن عدد قريش بعد انخزال بني زهرة عنها بثلث الناس، وعن ذلك الاحتفال المهيب، الذي كان يحمل داخل مهابته ضعفا وخوفا، ثم عدم تجانس الفريق المكي، والذي سببه إصرار أبي الحكم على اصطحاب الهاشميين، ليتشفى فيهم لفشل ولدهم في الاستيلاء على قافلة أبي سفيان، وربما لو علم بما غيبته له الأيام المقبلة، لتركهم بمكة غير آسف. هذا إضافة للتثاقل الواضح الذي ألم بالركب بأكمله، والذي كان لا يجد في ذلك الخروج إلا عبئا في برد يناير وقارس شتائه، وهو ما يشير إليه عزم كبار الملأ على القعود، ثم الخوف القرشي من بيت كناني واحد، لولا إجارة سراقة، أو إبليس، مما يرسم صورة واضحة للحال المتشرذم المتردد، غير المتجانس أو المؤتلف، للركب المكي.
ويبدو أن ثمة أخبارا غير قاطعة، قد وصلت الركب المكي، عن تحرك المسلمين نحو بدر، مما حول أملهم في سمر طروب، إلى فزع بدد فرحهم، وكانت العودة مستحيلة، بل وكارثة لتلك الهيبة المزعومة. وعندما مر الركب على مضارب «غفار» أرسل لهم زعيم غفار ولده بجزائر أهداها لهم طعاما، مع رسالة تقول: «إن أحببتم أن نمدكم بسلاح ورجال فعلنا.» فأرسلوا إليه مع ابنه:
إن وصلتك رحم، قد قضيت الذي عليك، فلعمري لئن كنا نقاتل الناس، فما بنا من ضعف عنهم، ولئن كنا نقاتل الله كما يزعم محمد، فما لأحد بالله من طاقة.
22
هذا بينما كان «جهيم بن الصلت» سليل عبد المطلب الهاشمي، يروي لهم وهم ينيخون بالجحفة رؤيا جديدة، فيقول: «إني رأيت فيما يرى النائم ... إذ نظرت إلى رجل أقبل على فرس، حتى وقف مع بعير له، ثم قال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، وفلان، وفلان.» فما كان من «أبي الحكم» إلا أن قام يخفف عن الناس الأثر النفسي للرواية، في وسط عربي ثقافي عادة ما كان يصدق الرؤيا، بقوله الساخر المتحدي:
وهذا نبي آخر من بني عبد المطلب سيعلم غدا من المقتول إن نحن التقينا.
23
وما كان تعبير أبي الحكم «إن نحن التقينا» إلا شكا في الأخبار التي وصلت عن النبي وأصحابه، وعدم يقين بوقوع الوقعة المرتقبة.
مشورة الأنصار
اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم، لا تعبد بعد في الأرض أبدا.
النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
بقيادة النبي
صلى الله عليه وسلم ، خرج المسلمون لضرب الأرستقراطية المكية اقتصاديا، بقطع طريق الإيلاف الشامي، على كبرى القوافل القافلة من الشام إلى مكة بقيادة أبي سفيان، والتي أسهم فيها البيت الأموي بما ينيف على الأربعة أخماس.
وحتى وصول المسلمين إلى «الصفراء»، لم يكن النبي قد علم بعد أيا من أخبار القافلة، سوى إجراء حسابات تنبؤية لموعد عودتها من الشام، قياسا على موعد مغادرتها مكة، لهذا؛ وبالتصرف البشري والممكنات الإنسانية، أرسل رسول الله
صلى الله عليه وسلم «بسبس بن عمرو الجهني» ومعه «عدي بن أبي الزغباء الجهني»، يتحسسان له الأخبار ويتسقطان الأنباء عن قافلة أبي سفيان، فأتاه الخبر أن أبا سفيان قد علم بدوره بخروج النبي وأصحابه إليه، وأنه أرسل إلى قريش يستنفرها أموالها.
1
وكان الموقف الجديد دقيقا، يحتاج إلى حكمة في المعالجة، فقد تحول الأمر، عن مواجهة ثلاثين فردا يحرسون القافلة، إلى مواجهة عدد غفير من أهل مكة، خرجوا ليمنعوا أموالهم من النهب، وربما كان موقف المهاجرين محسوما، بما يتأجج في صدورهم من ذكرى الهوان في مكة، وخروجهم من ديارهم وأبنائهم إلى يثرب، إلا أن وضع الأنصار كان يقتصر حتى الآن على حسن الضيافة، وصدق الإيمان، بينما الموقف الجديد يحتاج - ليس فقط - إلى عدد كبير من الرجال، بل وإلى قدر كبير من الفدائية، بينما الأنصار - فيما يروي بن هشام - «عندما بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله، إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا، نمنعك مما نمنع منه آباءنا ونساءنا. فكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصره، إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو يبعد من بلادهم.»
2
وهنا قال النبي عليه الصلاة والسلام:
أشيروا علي أيها الناس ...
فلما قال ذلك قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل. قال: لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق؛ لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ... فسر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بقول سعد، ونشطه ذلك، ثم قال:
سيروا وأبشروا، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين - إما العير وإما قريش - والله، لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم.
3
وهكذا، تحول اتفاق الأنصار مع النبي في العقبة الثانية إلى غايته المضمرة، وأدرك الأنصار أنه قد آن أوان الإفصاح عن كامل بنود ذلك الحلف، التي وعوها مبكرا في قولهم للنبي آنداك: «إن شئت لنميلن غدا على أهل منى بأسيافنا.» فأجل النبي الإمالة بالسيف إلى فيما بعد، وقد جاء أوان المابعد. الذي طور البنود المعلنة، من ميثاق دفاعي لتسفر عن البند المرجأ الذي يجعل الميثاق حلفا هجوميا محاربا، فتحولت عناصر الجماعة الإسلامية كلها، مهاجرين وأنصارا، إلى دولة محاربة هجومية، دولة عسكر ومغانم متكاملة، مقاتلة كالقبيلة تماما، وبذات منطقها، لكن بعد أن تحول الولاء عن القبيلة وسلفها المعبود إلى الدولة ممثلة في الله ورسوله، وإلى المصالح المادية المباشرة الجامعة لأعضاء الدولة ممثلة في المغانم. وجاء دور رجال الحرب والدم والحلقة، الذين تحولوا عن الإجارة إلى الإغارة.
وهنا نقطة التحول المادية الخطيرة، التي لعبت دورا عظيما في جذب الأتباع من مستضعفي القبائل ومحاربيهم، بعد أن ظل النبي في مكة ثلاثة عشر عاما يدعو دون إجابة العدد الكافي من المستضعفين إلى دعوته، حيث كانت الدعوة تؤجل الوعد بالنعمة والرفاه إلى الآجل في رغد جنة الخلد، وهو ما ظهر كما لو كان تأجيلا ميتافيزيقيا لحل قضيتهم، وإرجاء رفع الشقاء المادي عن حياتهم الآنية، في مجتمع تجاري مادي بحت؛ ولهذا عندما تم الإعلان عن مغانم أحلها الله لرسوله والمؤمنين من أموال المشركين، أصبح الحل حقيقة مادية دنيوية ملموسة، ومكاسب عينية ماثلة أمام المستضعفين، تدعوهم إلى دخول جيش الدولة الجديدة، وهو الهدف الذي سيفصح عن نفسه عمليا في المكاسب التي ستحققها الغزوة البدرية لجماعة المسلمين ، لتحول حالهم الشظف إلى حال آخر، وفي تحالف القبائل المحيطة بالمدينة مع القوة الإسلامية. (1) خطة المعركة
مع التجوال المتأني بين دفتي كتابات السير والأخبار الإسلامية، يجد القارئ نفسه مع النبي
صلى الله عليه وسلم ، إزاء قائد عسكري، يبدأ بضمان ولاء رجاله، ثم يخطط للمعركة، فيرسل العيون لتأخذ له بالأخبار عن عدوه، فيعلم بتمكن القافلة من الهرب، وبخروج قريش إلى بدر لتحتفل بنجاة تجارتها، ونشر مهابتها بين العرب، وأن العير وإن ذهبت فقد جاءت قريش، وهي إحدى الطائفتين الموعودتين، فيخرج القائد برجاله من موضع إلى آخر مسرعا، يختصر طرقا ويضرب في أخرى،
4
عامدا إلى التخفي وستر أمر مسيره وعدم إفشاء خطوه، فيأمر بقطع الأجراس من أعناق الإبل،
5
والسير الصامت.
ثم يقسم النبي
صلى الله عليه وسلم
رجاله إلى ألوية، لكل لواء رايته التي يعرفه بها أصحابه، فيحمل لواء المهاجرين «علي بن أبي طالب»، ويحمل لواء الخزرج «الحباب بن المنذر»، بينما يحمل لواء الأوس «سعد بن معاذ».
6
ويجعل لرجاله شعارات شفرية يعرفون بها بعضهم بعضا، وهم تحت الدروع والخوذ، فكان شعار الخزرج يا بني عبد الله، وشعار الأوس يا بني عبيد الله، وشعار المهاجرين يا بني عبد الرحمن، أما شعار الجميع فهو: يا منصور أمت، أما الخيل جميعا فكانت خيل الله.
7
وعند التعبئة تقرر أن يحارب المسلمون بنظام الصفوف المتحركة، من «النبالة» حملة النبال، و«السيافة» حملة السيوف ... إلخ. وفي ذلك يقول ابن كثير، «وقد صف رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أصحابه، وعبأهم أحسن تعبئة. وعن أبي أيوب يقول: صفنا رسول الله يوم بدر، فبدرت مني بادرة أمام الصف، فنظر إليهم وقال: معي معي ... وكان في يده قدح يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية وهو مستنتل «متقدم» من الصف، فطعن في بطنه بالقدح وقال: استو يا سواد.»
8
ولم يترك القائد شيئا للصدفة، فأي خطأ - مع الفارق العددي - يمكن أن يؤدي إلى كارثة، ومن ثم، وقبل أن يصل بدرا، أمر رجاله فتوقفوا صامتين، ثم ركب ومعه أبو بكر ليتسقط بنفسه أخبار عدوه.
حتى وقف على شيخ من العرب فسأله عن قريش، وعن محمد وأصحابه، ما بلغه عنهم، فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما؟ فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : إذا أخبرتنا أخبرناك. قال: أذاك بذاك؟ قال: نعم. قال الشيخ: فإنه بلغني أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإذا كان الذي أخبرني صدقني، فهم اليوم بمكان كذا وكذا. المكان الذي به رجال رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وبلغني أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الذي أخبرني صدقني، فهم اليوم بمكان كذا وكذا. للمكان الذي فيه قريش. فلما فرغ من خبره قال: ممن أنتما؟
فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : نحن من ماء.
وفي «الإمتاع» أنه قال: «نحن من ماء وأشار بيده إلى العراق.» ثم يتفق رواة السيرة على رد الشيخ المندهش على نفسه - وهو يغمغم: «ما من ماء؟ أمن ماء العراق؟!»
9
وينزعج «الحلبي» راوي السيرة من رد النبي
صلى الله عليه وسلم ، ولا يدرك الحذر المفترض في قائد عسكري مقبل على معركة، ولا يرى في ذلك القائد سوى الجانب النبوي المتعالي، وأن للنبوة صفات تتناقض مع رد الرسول على الأعرابي، فيقول في تساؤل استنكاري، أو في استنكار متسائل:
وقد تقدم في أوائل الهجرة، أنه لا ينبغي لنبي أن يكذب، ولو صورة، ومنه التورية.
ومن ثم يبحث الحلبي عما يطمئن قلبه، فيكتشف أنه لا بأس من كذب النبي، ليس لضرورات يقتضيها الظرف الموضوعي، ولكن لأنه وجد في كلام القاضي البيضاوي حديثا عن النبي
صلى الله عليه وسلم ، أن النبي إبراهيم سبق وكذب ثلاث كذبات،
10
ويقصد الحلبي هنا الحديث: «كذب إبراهيم ثلاث كذبات كلها في الله؛ قوله: إني سقيم، وقوله: فعله كبيرهم هذا، وقوله للرجل الذي عرض لسارة: إنها أختي.» وهنا يطمئن الحلبي ويكتفي بذلك تبريرا لنفسه وتطمينا لها، إزاء رد قول النبي للشيخ الأعرابي، ولم ير إطلاقا في ذلك الرد، غرضا عسكريا حذرا مباحا، يصرف البدوي عن معرفة قائد المسلمين، ويشككه في معلوماته عن موقع الجيش الإسلامي، ويصرفه عن تقصي أمرهم، احتياطا لسرية وأمان مسيره.
ولمزيد من التقصي، وتدقيق المعلومات عن العدو، وأحواله، وعدد رجاله، وعدته، يعود القائد لإرسال علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، مع نفر آخر من المسلمين «يلتمسون له الخبر» بتعبير ابن كثير،
11
فيصيبون غلامين من عبيد قريش كانا قد تطرفا عن ركبها، ويبدأ الحوار بين النبي
صلى الله عليه وسلم
وبين الغلامين:
قال: أخبراني عن قريش.
قالا: وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى.
قال: كم القوم؟ وما عدتهم؟
قالا: لا ندري.
قال: كم ينحرون كل يوم؟
قالا: يوما تسعا، ويوما عشرا.
قال: القوم ما بين التسعمائة إلى الألف، فمن فيهما من أشراف قريش؟
قالا: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن خزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدي، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو، وعمرو بن عبدود.
فأقبل الرسول
صلى الله عليه وسلم
على الناس فقال:
هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها.
12
وهو التعبير الأمثل عن القوم الواردة أسماؤهم، فهم من قريش القلب والرءوس والأشراف والسادة، هم الملأ والأرستقراطية.
ويرتحل المسلمون إلى «عرق الظبية»، وهناك «لقوا رجلا من الأعراب فسألوه عن الناس، فلم يجدوا عنده خبرا، فقال له الناس: سلم على رسول الله. قال: أوفيكم رسول الله؟!
قالوا: نعم.
قال: لئن كنت رسول الله، فأخبرني عما في بطن ناقتي تلك؟
فقال له سلمة بن سلامة: لا تسأل رسول الله، وأقبل علي فأنا أخبرك عن ذلك، نزوت عليها ففي بطنها منك سخلة.
فقال رسول الله: مه، أفحشت على الرجل.»
13
هكذا كان القائد الإنسان، يخطط كما يخطط البشر، ويتقصى الأخبار كما يتقصى البشر، ويرسل الجواسيس والعيون ليأخذ الأخبار عن عدوه، ثم وهو بسبيل ذلك يتعرض لسخرية بدوي أحمق يؤذيه بقارص الكلم، فلا يرد عليه الإيذاء بإيذاء، إنما يلوم صاحبه على فحش قوله للرجل، تحوطا لخبر قد يحمله البدوي المرتحل لأعدائه. أما السماء، فكانت أمرا أكثر منها خبرا، حيث كان الوحي يتحول بالأمر من الصبر الجميل، والدفاع الهادئ، إلى الهجوم والقتال بعد أن أتى الله بأمره:
يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون (الأنفال: 65) ... عن عبد الله بن عباس قال: لما نزلت هذه الآية اشتد على المسلمين، وأعظموا أن يقاتل عشرون مائتين، ومائة ألفا، فخفف الله عليهم، فنسخها بالآية الأخرى:
الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين (الأنفال: 66).
14
ولو أخذنا الأمر بظاهره، لكان المعنى أن الله جل وعلا لم يكن يعلم بضعف المسلمين، ثم علمه متأخرا «الآن ... علم أن فيكم ضعفا»، وحاشا لله أن يقصر علمه عما يليق بكماله، ومن ثم لا يكون هناك معنى لنسخ الآية الأولى بالثانية، سوى تفاعل الوحي الكريم مع ظرف الواقع، حيث تتناسب الآية الأولى مع خبر أول بعدد أفراد قريش، وهو ما كان يعادل عشرة إلى واحد بالنسبة إلى عدد المسلمين، بينما تتناسب الآية الثانية مع الخبر التالي الذي جاء يحمل نسبة أخرى هي اثنين إلى واحد، وهو ما يطابق العدد المقبول لقريش بالنسبة لعدد المسلمين، بعد انخزال بني زهرة عنها بثلث الناس، وكذب سراقة بن مالك أو إبليس بشأن مجيء كنانة مع قريش، فكان النسخ، وجاء صدق الوحي مطابقا للواقع، وإعلاما للمسلمين المحاربين بعدد عدوهم النهائي.
وإعمالا لكل ما تم الحصول عليه من معلومات استخبارية، تقرر أن يسبق المسلمون قريشا إلى بدر، فيروي ابن كثير:
فخرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يبادرهم إلى الماء، حتى جاء أدنى ماء من بدر فنزل به، فذكروا أن الحباب بن المنذر بن الجموح - محارب أنصاري - قال: يا رسول الله؛ أرأيت هذا المنزل؛ أمنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. قال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فامض حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضا ونملؤه ماء ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : لقد أشرت بالرأي.
15
وهنا يأتي خبر السماء مصدقا على الخطة البشرية ومشورة الأنصار، ورجلهم المقاتل «الحباب» المشهود له بالدربة والحنكة والخبرة القتالية، فيأتي جبريل إلى أخيه المصطفى عليهما السلام ليقول:
يا محمد، ربك يقرأ عليك السلام، ويقول لك: إن الرأي ما أشار به الحباب.
16
والرواية هنا بحاجة إلى بعض التدبر، فإذا كان المسلمون سيبنون حوضا، حتى يتوفر لهم ماء الشرب، ويغورون بقية الآبار حتى لا تشرب قريش، فلا جدال هنا أن الآبار التي غورت، هي تلك - المفترض أن تكون واقعة - على مسافة متناثرة بين المسلمين وبين الجهة التي ستصل إليها قريش، ويكون تعبير «أدنى ماء» هنا بحاجة إلى إعادة فهم، فالإشارة الأولى عن نزول النبي
صلى الله عليه وسلم
ستعني بذلك أدنى أي أقرب بئر إلى مدخل الوادي حيث ستصل قريش، وبقية الآبار تكون خلف المسلمين، أما «أدنى ماء من القوم» في مشورة الحباب، فهي آخر بئر إلى الخلف، بعيدا عن موقع قريش المفترض، مع تغوير بقية الآبار التي ستقع بين المسلمين وبين قريش، ولا شك أن التباس «أدنى ماء» في المرتين اللتين وردتا بالرواية، هو ما دعا «الحلبي» كثير التساؤل ليقف محاولا الفهم متسائلا:
إن ذلك القليب إذا كان وراء ظهورهم، وسائر القلب خلفه (وهو ما يفهم من: أدنى ماء) فما المعنى في تغويرها؟ إنها إذا لم تغور يشربون ويشرب القوم - قريش.
17
وهو التساؤل المشروع عقلا، والذي يجب أن يكون كما انتهينا إليه، إلى فهم مؤداه أنهم بنصيحة «الحباب» نزلوا أبعد بئر عن القوم، وغوروا ما هو في الطريق بين الجيشين، وبذلك يتم المقصود، فتصل قريش عطشى ولا تجد ماء، إلا ما هو وراء المسلمين وفي حراستهم، أو في حوضهم الذي منه يشربون وحدهم. (2) موقع الفريقين
وحتى نتمكن من وضع تصور لخريطة المواقع في بدر، وموقع كل من الطرفين فيها، نقف مع القائد وموقعه بين أتباعه المسلمين، وهو ما أوضحه قول سعد بن معاذ له:
يا نبي الله؛ ألا نبني لك عريشا تكون فيه، ونعد عنك ركائبك، ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا، كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى، جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فأثنى عليه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
خيرا، ودعا له بخير، ثم بنى للرسول عريشا كان فيه.
18
وتتفق كل كتب السير على موقع ذلك العريش، بأنه كان «فوق تل مشرف على المعركة.»
19
وبعد بناء العريش، دخل إليه النبي ومعه أبو بكر، واتفق على أن تحيطه حراسة من الأنصار بقيادة سعد بن معاذ.
خوفا عليه من أن يدهمه العدو من المشركين، والجنائب النجائب مهيأة لرسول الله
صلى الله عليه وسلم ، إن احتاج ركبها ورجع إلى المدينة.
20
ومرة أخرى وليست أخيرة، نجد الإعداد الجيد، والتخطيط البشري، والحرص على حماية صاحب الدعوة والحفاظ على حياته، بإيقاف الحراس عليه في تل بعيد عن متناول المشركين، تحت حراسة مسلحة من رجال الحرب اليثاربة، وركائبه معدة للعودة السريعة إلى يثرب إن حدثت الهزيمة، هذا رغم حراسة السماء لحبيبها ورغم الوعد الإلهي بالمدد العلوي من مقاتلي الملائكة المقدمين.
وقد جاء الوعد بالملائكة، دافعا لمزيد من الطمأنينة لصحابة الرسول الأمين، ومدعاة لهدوئهم النفسي والعصبي، وإخلادهم للنوم في ظل تلك الحراسة السماوية، لأخذ قسط مناسب من الراحة، انتظارا لوصول قريش في الغد عطشى مجهدة متعبة، وهو ما وعته كتب الأخبار والسير، وساقته على عجالة تقول:
وبشرهم النبي
صلى الله عليه وسلم
بنزول الملائكة، فحصل لهم الطمأنينة والسكون، وقد حصل لهم النعاس الذي هو دليل الطمأنينة.
21
وفي ذلك المناخ الشتوي، زخت السماء المنطقة بمطرها، وهو ما جاء في قولة الإمام علي رضي الله عنه: «أصابنا في الليل طس من مطر، فانطلقنا تحت الشجر والحجف، نستظل تحتها من المطر.»
22
في اللحظة التي كانت قريش فيها بالعدوة القصوى من الوادي، بينما كان المسلمون «في العدوة الدنيا من بطن التل»
23
وهو ما يحدد لنا المواقع بدقة، فالمسلمون يعسكرون فوق التل، انتظارا لمقدم قريش من مدخل الوادي في الأسافل، وهو ما يدعمه قول «البيهقي» عن ذلك المطر الليلي:
وأرسل الله السماء، وكان الوادي دهسا فأصاب رسول الله وأصحابه، ما لبد لهم الأرض ولم يمنعهم من السير، وأصاب قريشا منها ما لم يقدروا أن يرتحلوا معه.
24
وهكذا كان نزول المطر مساعدا على حركة المسلمين فوق التل، وعسر المسير ومشقته في الوادي الموحل، وهو ما يتفق مع حال نزول المطر في منطقة بها مرتفع يليه واد، حيث لا يثبت الماء على المرتفع، إنما ينزلق إلى المنحدرات، فيترك التلال رطبة يابسة متماسكة، ويحول الوادي إلى مستنقعات موحلة؛ لذلك أكد «مجاهد» أن في أعلى التل «أنزل عليهم المطر، فأطفأ به الغبار، وتلبدت الأرض، وطابت به أنفسهم، وثبتت به أقدامهم.»
25
أما الفيصل في هذا الأمر، فهو تقرير الوحي الصادق لخريطة المعركة زمانا ومكانا، في قول الآيات:
إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد (الأنفال: 42).
ومن ثم فلا مجال هنا لمجادل، يكابر في أن موقع المسلمين في الأعالي، وهبوطهم مع بدء المعركة على من هم في الأسافل، كان عاملا هاما من عوامل حسم المعركة، وتحديد نتائجها.
وعند الصباح، عدل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
صفوف رجاله، وألويتهم، ثم دخل عريشه يناجي ربه:
اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم، لا تعبد بعد في الأرض أبدا.
26
ثم عاد فخرج إلى رجاله يحرضهم على القتال مناديا:
والذي نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل، فيقتل صابرا محتسبا إلا دخل الجنة.
فقال عوف بن الحارث: يا رسول الله، ما يضحك الرب من عبده. قال: غمسة يده في العدو حاسرا.
27
أما الجزاء الدنيوي لمن سيبقى حيا، فهو ما جاء في نداء آخر، يمنح المقاتلين ما يحصلون عليه من غنائم ، ومن فداء أسراهم:
من قتل قتيلا فله سلبه، ومن أسر أسيرا فهو له.
28
وفي تلك الهنيهات الفاصلة في تاريخ الحجاز، بل وفي تاريخ الدنيا، كانت طلائع قريش تهل منحدرة من كثيب العقنقل نحو الوادي، ومن موقعه فوق التل وقف النبي يطالع ذرافاتهم وطبولهم تهبط الوادي من بعيد، وهو يقول:
اللهم هذه قريش، قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني ...
29
وهكذا، جاء الملأ إلى موعدهم، وأفلاذ كبد مكة إلى قدرهم.
أحداث في بدر الكبرى
بئس ما أبدأ به إسلامي، أن أخون أمانتي.
أبو العاص بن الربيع
بينما كان المسلمون على تل مطل على وادي بدر يترقبون، أقبلت قريش من كثيب العقنقل نحو الوادي، لتحتفل بنجاة أموالها، وتنشر مهابتها، حفاظا على أمن طريق الإيلاف، وإرهابا لمن يحاول قطعه من عربان. ويحكي الحلبي في سيرته عن الأمين المأمون إنسان العيون
صلى الله عليه وسلم ، لحظة وصول قريش إلى الوادي يفترشونه، وأمامهم القيان تغني وتضرب الدفوف: «ولما اطمأن القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحي فقالوا: احزر لنا أصحاب محمد ... فذهب في الوادي حتى أبعد فلم ير شيئا، ثم رجع إليهم وقال: ما رأيت شيئا.»
واطمأن القوم، وركنوا إلى تكذيب ما وصلهم من خبر عن أصحاب محمد، واستعدوا لسمرهم الاحتفالي، بينما كان المسلمون خلف سواتر التل. ولمزيد من الاطمئنان عاد الجمحي واستجال بفرسه مرة أخرى، فلمح الرجال تحت الخوذ خلف السواتر فرجع يصرخ:
رأيت يا معشر قريش، البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، ألا ترونهم خرسا لا يتكلمون؟ يتلمظون تلمظ الأفاعي، لا يريدون أن ينقلبوا إلى أهلهم. زرق العيون كأنهم الحصا تحت الجحف، والله ما أرى أن نقتل رجلا منهم حتى يقتل رجلا منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم، فما خير العيش بعد ذلك؟
1
إنه إذن الكمين، وصدق الخبر، وإنها لوقعة، وإنها لمصرعة، لقد كان محمد
صلى الله عليه وسلم
يريد عيرهم وتجارتهم، لحصار مكة اقتصاديا، وضرب إيلافها، فإذا به يريدهم هم أصحاب المال ورءوس الأشراف والسادة، بعد أن وصلوا بدرا عطشى متعبين، دون قيادة موحدة، ومن غير تجانس، فجاءوا معهم بالهاشميين إلى جانب الأمويين، ليجدوا الآبار قد غورت، مما كان مدعاة أخرى لطلب حكمة غير حكمة أبي الحكم، التي طوحت بهم إلى ذلك الشرك، بينما نداء الجمحي يشير إلى قوم يتربصون الثأر من السادة، بعد اضطهاد وهجرة، يتلمظون تحت الخوذ كالأفاعي، لا تظهر منهم غير العيون والألسنة اللاهثة، المتلهفة على الانقضاض. (1) الحكمة والتهور
ومن ثم، كان إعمال العقل والتروي، والبحث عن رأي سديد، للخروج من الفخ بأقل قدر من الخسارة، فكانت حكمة «حكيم بن حزام» الذي جاء «عتبة بن ربيعة» أحد كبار أشراف مكة وسادة الملأ المقدمين، وكان عتبة رجلا جليلا عجوزا ثقيلا، ليقول له:
يا أبا الوليد؛ إنك كبير قريش وسيدها، والمطاع فيها، هل لك إلى أن لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر؟ ... هل لك أن تذهب بشرف هذا اليوم ما بقيت؟ قال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس.
2
وهكذا سجلت عبارة حكيم لقريش مرة أخرى حبها للسلم، وسعيها للأمن؛ ذلك الحب والسعي الذي فرضه عليها تكوينها النفسي، وفرضه على نفسها تكوينها الاقتصادي والاجتماعي، وحرصها على مصالحها؛ ومن ثم كان من يسعى إلى الحفاظ على تلك المكاسب، بتحقيق السلم، يظل مذكورا في شرعها بالحكمة والسداد والشرف إلى آخر الدهر. ومن هنا قام «عتبة بن ربيعة» عاملا بحكمة «حكيم بن حزام»، يخطب في أصحابه:
يا معشر قريش؛ إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا. والله لئن أصبتموهم لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته، فارجعوا، وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما يريد.
3
هكذا كان حال قريش، وتلك كانت دعوتها وحكمة حكمائها، بينما على الجانب الآخر وراء السواتر وفوق التل، كان صوت المصطفى
صلى الله عليه وسلم
يجلجل في أصحابه، حتى لا يتركوا فرصة قد لا يجود بها الزمان مرة أخرى للقضاء على رءوس الشرك:
والذي نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا، إلا أدخله الله الجنة.
وهذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها.
وأن ما يضحك الرب من عبده غمسة يده في العدو حاسرا.
ومن قتل قتيلا فله سلبه.
ومن أسر أسيرا فهو له.
ويا منصور أمت.
وفي الوادي، ذهب «حكيم» بنداء «عتبة» إلى «أبي الحكم»، فكان رده غير الحكيم:
انتفخ والله سحره حين رأي محمدا وأصحابه، كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وما بعتبة ما قال، لكنه رأى أن محمدا وأصحابه أكلة جزور، وفيهم ابنه، فتخوفكم عليه.
4
وكان أبو الحكم يقصد «أبا حذيفة بن عتبة»، وهو مهاجر مع أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم ، بعد أن فرقت الأممية الجديدة بين الأب وابنه، والأخ وأخيه، في ولاء جديد، وإيمان جديد. ويكفي مثالا لذلك أن نعلم أن «أم أبان بنت عتبة بن ربيعة»، كان لها أربعة أخوة وعمان، كل منهم حضر بدرا، اثنان من إخوتها مسلمان، واثنان مشركان، وواحد من عميها مسلم، والآخر كافر.
5
وفي شروح السيرة، نعلم أن عبارة «أبي الحكم» بشأن «عتبة»: «انتفخ والله سحره» تقال للجبان،
6
وكان الرد الطبيعي من الشيخ الجليل على من اتهمه بالجبن: «سيعلم مصفر استه من انتفخ سحره، أنا أم هو.»
7
ومصفر استه هو من يصبغ مؤخرته بالحناء، طلبا للرجال، وقد «قصد المبالغة في الذم»،
8
ومن ثم «رماه بالأبنة، بأنه كان يزعفر استه».
9
وقبل الرجل الحكيم أن يرمى بالجبن حقنا للدماء، وحرصا على المصالح القرشية، واستمر ينادي:
يا قوم؛ إني أرى أقواما مستميتين، لا تصلون إليهم وفيكم خير، يا قوم اعصبوها برأسي وقولوا: جبن عتبة، وقد تعلمون أني لست بأجبنكم.
10
فكان أن قام أبو الحكم يقول: «والله لو غيرك قال هذا لأعضضته.»
11
وهو تعبير مخفف، تحاشى فيه «أبو الحكم» الفحش في القول، لرجل في سن «عتبة»، وهو ما تفسره كتبنا الإخبارية بأن معناه الصريح «اعضض على بظر أمك.»
12
أو هو عض في موضع آخر «اعضض بأير أبيك.»
13
والحوار أعلاه يكشف بصورة واضحة حال الملأ القرشي من سادة الأشراف، وخلافاتهم الخطيرة حول مصير نظامهم، بل مصيرهم هم، واتهام بعضهم لبعض بالجبن، وتبخيس بعضهم بعضا بفاحش القول، وتفرق كلمتهم بين بطون وولاءات متعددة لسادة متنافرين. هذا بينما تابع «أبو الحكم» الإفصاح عما بصدره، وعن رأيه في الدعوة التي فرقت الأرحام والعشيرة، في قوله: «اللهم أقطعنا الرحم، وأتانا بما لا نعرف، فاحنه الغداة.»
14
هذا مع تصوره غير الحكيم، وغير الصادق مع الظروف والمتغيرات الجديدة، محتسبا أنه وقومه على الحق وعلى الإيمان الصحيح بالله، وهو ما يبدو ظاهرا في ندائه السماء:
اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم.
15
اللهم انصر أفضل الدينين عندك، وأرضاهما لك.
اللهم انصر أعلى الجندين، وأهدى الفئتين، وأكرم الحزبين، وأفضل الدينين.
16
وهو الدعاء الذي يعبر عنده، عن كون قريش هم أهل الله، كما نعتهم العرب، لأنهم حماة بيته، ورعاة حرماته، وهو الاعتقاد الذي دفع قريشا وهي في طريقها إلى بدر أن تأتي في رحلها بأكثر الرايات قدسية؛ أستار الكعبة! (2) الوقعة
ولما أخذ العطش بالحلوق، خرج «الأسود بن عبد الأسد المخزومي» يركض مصعدا نحو حوض المسلمين لا يلوي على شيء، مقسما «أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه، أو لأموت دونه.» فخرج له حمزة بن عبد المطلب، فلما التقيا ضربه حمزة فأطن قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض، ووقع على ظهره تشخب رجله دما ... ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه، واتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض.
17
وذاهلة وقفت قريش، التي تحول حفلها من دفوف وقيان وخمر وسمر، إلى حرب ودم، فأراد «عتبة» بذات الحكمة، أن يسلك سلوك العرب، فيدعو إلى مبارزة تنهي الأمر عند حد، وتوقف نهر الدم الموشك على التدفق، بهزيمة أحد الطرفين في مبارزة عادلة، تنتهي بانسحاب المهزوم واعترافه بالهزيمة. فيروي ابن هشام «خرج عتبة بن ربيعة، بين أخيه شيبة بن ربيعة، وابنه الوليد بن شيبة، حتى إذا فصل من الصف دعا إلى المبارزة، فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة، وهم عوف ومعوذ ابنا الحارث، وعبد الله بن رواحة. فقالوا: من أنتم؟ فقالوا: رهط من الأنصار. قالوا: ما لنا بكم من حاجة. ثم نادى مناديهم: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا.»
وبهذا النداء كانت قريش لا تزال تحسب العواقب وتتحاشى مخاطرها؛ لأن مبارزة بعض أهلهم، أمر يمكن بعد ذلك علاجه بين الأهل وبعضهم، أما مبارزة الأنصار فهي ثأر باق بين مدينتين، لا يعلم إلا الله منتهاه، وهو ما قد يقضي تماما على طريق الإيلاف المار قرب يثرب؛ واستجاب النبي الكريم لرغبة قريش فقال: «قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي.» فلما قاموا دنوا منهم، قالوا: «من أنتم؟» قال عبيدة: «عبيدة.» وقال حمزة: «حمزة.» وقال علي: «علي.» قالوا: «نعم أكفاء كرام.» فبارز عبيدة وكان أسن القوم عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة، وبارز علي الوليد بن عتبة، فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله.
18
وعقب ابن إسحق وابن كثير على التساؤل القرشي «من أنتم؟» بأنه «دليل على أنهم كانوا ملبسين لا يعرفون من السلاح.»
19
بالخوذ الحديدية، التي تخفي بداخلها الرءوس والدروع التي تغطي الأجساد.
أما الشيخ ثقيل الجسم كبير السن «عتبة بن ربيعة» فقد صمد لعبيدة، وأصاب كل منهما الآخر بضربة أثبتته، فما كان من «حمزة» و«علي» إلا أن كسرا قواعد المبارزة وشروطها، ونزلا على الشيخ العجوز بالأسياف فأجهزا عليه، ثم احتملا زميلهما «عبيدة» بسرعة، إلى صفوف أصحابهم.
وهكذا قتل المسلمون صناديد قريش. أما كسر قواعد المبارزة فقد حكى عنه بعد ذلك «علي بن أبي طالب» كرم الله وجهه، لرفع صفة المعابة عنه، حيث تغيرت القواعد بتغير المعيار، وبقيت قاعدة واحدة هي معيار كل المعايير، وهي الفيصل والفصل، معلقة برأي النبي الخاتم
صلى الله عليه وسلم ، فقال «علي»: «أعنت أنا وحمزة عبيدة بن الحارث على أبي الوليد، فلم يعب النبي علينا ذلك.»
20
وقبل أن تفيق قريش من ذهولها أمام قتل صناديدها، ومن حميتها إزاء كسر قواعد المبارزة، ومقتل شيخها عتبة بسيوف ثلاثة تكاثرت عليه، أخذ النبي حفنة من الحصباء استقبل بها قريشا، ونفحها بها قائلا: شاهت الوجوه، ثم هتف بأصحابه: شدوا.
21
بينما ثنى نحو صفوف النبالة التي ثبتت وراء نواتئ التلول، لتحمي المسلمين السيافة المنقضين على قريش، يقول: «إن دنا القوم منكم فانضحوهم بالنبل واستبقوا نبلكم ... ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم.»
22
وهكذا بدأت وقعة بدر الكبرى، وهكذا كان التخطيط الجيد والإعداد الدقيق، الذي تفاعلت فيه خطة القائد وعزمه، مع خبرة أركان حربه من رجال الدم والحرب والحلقة، صفوف صفوف، منها من يشد على الأعادي ومنها من يحمي بسهامه المتقدمين، فلم يترك شيئا للصدفة، ولا أمرا للهوى، وهو ما كانت نتيجته المحتمة، ما سجلته كتب السير والأخبار:
فكانت الهزيمة، فقتل الله من قتل من صناديد قريش، وأسر منهم من أسر.
23
هذا بينما استكان القائد إلى عريشه مع أبي بكر، وعلى رأس التل وقف سعد بن معاذ يتأمل ما يحدث تحته في الوادي، ورأى النبي في وجهه شيئا فقال له: «لكأنك يا سعد تكره ما يصنع الناس!»
24
وكان حصاد المعركة ما جاء في تقرير «الطبري» «فقتل منهم سبعون رجلا، وأسر منهم سبعون رجلا.»
25
بينما كان شهداء المسلمين في تقرير «البيهقي» «من قريش - المهاجرين - ستة نفر، ومن الأنصار ثمانية نفر.»
26
وبفرار أهل مكة فرارا بلا كرامة، وسقوط بعضهم قتلى أو أسرى، هبط النبي ليأمر بإلقاء الجثث في القليب، ليعتمل في النفس ما كان يجيش بها، وينطق اللسان النبوي مناديا:
يا أهل القليب؛ بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم؛ كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس. هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا.
27
وبينما المسلمون يسحبون قتلى المشركين إلى القليب، وقف «أبو حذيفة بن عتبة» يتطلع إلى أبيه وهم يجرجرونه، وهو من سبق واحتج قبل الوقعة على أمر النبي بعدم قتل بني هاشم، حيث قال:
أنقتل آباءنا وإخواننا وعشيرتنا ونترك العباس؟ والله لئن لقيته لألحمنه السيف. فبلغت مقالته رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال لعمر بن الخطاب: يا أبا حفص، أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف؟ فقال عمر: يا رسول الله، ائذن لي فأضرب عنقه، فوالله لقد نافق. فكان أبو حذيفة يقول: والله ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت.
28
ويروي بن هشام مستكملا المشهد:
وأخذ عتبة بن ربيعة فسحب إلى القليب، فنظر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في وجه أبي حذيفة بن عتبة، فإذا هو كئيب قد تغير، فقال: يا أبا حذيفة، لعلك قد دخلك في شأن أبيك شيء؟ فقال: لا والله يا رسول الله، ما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكنني كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا، فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام.
29
وهكذا جاءت قريش إلى بدر لتنشر هيبتها، فنثرتها، وجاء الملأ ليعلنوا للعرب أنهم حماة بيت الله، وأنهم قادرون على حماية تجارتهم وأمنها، برعاية رب البيت، لأنهم كما أسماهم العرب «أهل الله»، فما عاد الملأ إلى مكة، وذهبوا تحت رمال القليب. وبدلا من رسالة أرادوها مبلغة للإمبراطوريتين، بلغت رسالة أخرى تبرق بخبر آخر، عبرت عنه أشعار تنسبها كتبنا التراثية إلى الجن، وهي تقول:
أزار الحنيفيون بدرا وقيعة
سينقض منها ركن كسرى وقيصرا
أبادت رجالا من لؤي وأبرزت
خرائد يضربن الترائب حسرا
فيا ويح من أمسى عدو محمد
لقد قار عن قصد الهوى وتحيرا
30
وانتهى أمر الملأ، وهي النهاية التي جاء أمرها جليا في طريق عودة الركب المنتصر، حيث جاء الناس يهنئون النبي
صلى الله عليه وسلم
بالنصر، فما كان من «سلمة بن سلامة» ذرب اللسان المفصح العجول، إلا أن برز برأسه من بين الناس ليقول:
ما الذي تهنئوننا به؟ فوالله ما لقينا إلا عجائز صلعا كالبدن المعقلة، فنحرناها. فتبسم رسول الله ثم قال: لكن يا ابن أخي، أولئك هم الملأ.
31
وهو ذات الإفصاح الذي أفصح عنه لسان «المغيرة بن الحارث» على الجانب القرشي، عندما عاد المهزومون فرارا إلى مكة، فالتقاهم «أبو لهب» ينادي «المغيرة»: «هلم إلي فعندك لعمري الخبر اليقين.» فأجابه «المغيرة» بخبره اليقين، موجزا قصة المفاجأة في بدر بقوله:
والله ما هو إلا أن لقينا القوم، فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا.
32
وهكذا سقطت الرءوس الأرستقراطية الصلبة، وتحقق الوعد الإلهي بإحدى الطائفتين، العير أو قريش، فكانت الثانية: قريشا. (3) فداء الأسرى
وكان الأسرى خير عوض عن عير «أبي سفيان»، بما دفعه أهل مكة فيهم لفك أسرهم، حتى «العباس» عم النبي، ورغم حب النبي له ولآل البيت الهاشمي، فقد دفع «العباس» فديته، وكان حب النبي
صلى الله عليه وسلم
لبيته الهاشمي مرحمة ملكت عليه فؤاده الرءوف، فهو لم ينس أنهم كانوا حماته ودرع دعوته الواقي بمكة، ثم عيونا له على المكيين بعد هجرته إلى يثرب، رغم عدم اتباعهم لدعوته، فكانت منعتهم له عصبية قبلية ووفاء عشائريا، مع دافع آخر هام يتمثل في صراعهم مع الأمويين بني عبد شمس، وهو موقف وإن تعارض مع الدعوة الأممية الطالعة، التي تنزع الولاء عن القبيلة وتضعه بيد العقيدة ودولتها الواحدة، فإن تلك النزعة العشائرية كانت ذات أثر ودور عظيم، في حماية صاحب الدعوة، ومن ثم دعوته، حتى وصل إلى حمى أخواله اليثاربة، الذين زادوا على الأزرة القرابية، الإيمان بدعوته. ومن ثم كان الوفاء النبوي واضحا في كتب السيرة، وهي تروي بلسان ابن عباس:
لما أمسى رسول الله يوم بدر، والأسارى محبوسون بالوثاق، بات الرسول ساهرا أول الليل، فقال له أصحابه: يا رسول الله مالك لا تنام؟ - وقد أسر العباس رجل من الأنصار - فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : سمعت أنين عمي العباس في وثاقه، فأطلقوه، فسكت، فنام رسول الله.
لكن مثل ذلك الوفاء والحنين، كان ممكنا أن يثير تساؤلات مشروعة في نفوس أتباع هجروا العشائرية، ومنحوا الولاء كله لدعوة ترفض الأطر القبلية بل تحطمها، ومن ثم كان يمكن لذلك الوفاء النبوي أن يثير اعتراضات، سبق أن رأينا لها مثيلا في موقف «أبي حذيفة بن عتبة»، ومن هنا كان التوازن، الذي يظهر في رواية ابن إسحق «وكان أكثر الأسارى يوم بدر فداء العباس بن عبد المطلب، وذلك لأنه كان رجلا موسرا، فافتدى نفسه بمائة أوقية ذهب.»
33
ويقول «ابن كثير» إن ذلك الفداء الضخم «كان عن نفسه، وعن ابني أخويه عقيل ونوفل، وعن حليفه عتبة بن عمرو.»
34
ويروي «البيهقي» أن رجالا ممن أسروا ببدر قالوا للنبي: «إنا كنا مسلمين، وإنما أخرجنا كرها، فعلام يؤخذ منا الفداء؟!» فأنزل الله عز وجل:
يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم (الأنفال: 70).
35
ويذهب «ابن كثير» إلى أن تلك الرواية كانت خاصة بالعباس بن عبد المطلب ونفر معه:
حين ادعى أنه كان قد أسلم.
36
فأصر النبي على دفعه الفدية، فتقدم آسروه من الأنصار يجاملون النبي برغبتهم في تركه دون فداء، فكان رد النبي
صلى الله عليه وسلم :
لا والله لا تذرون منه درهما واحدا.
ورغم إعلان العباس إسلامه، فقد ظل إصرار النبي على دفعه الفداء، وهو أمر يمكن فهمه في ضوء ما يحقق من أغراض؛ فهو التوازن الذي يحفظ المحتوى للدعوة، أو ما يحفظ المحتوى العشائري داخل النسق الأممي عند صاحب الدعوة، أمام أشخاص مثل «أبي حذيفة»، في مرحلة لم تزل فيها القلاقل قائمة أمام استقرار أمر الدولة الطالعة واستقامتها، ونزولا بمستوى العباس الطبقي إلى مستوى يقترب فيه مع بقية المسلمين، في ضوء زعمه الإسلام، وهم من تقاربت أوضاعهم الاقتصادية وذابت بينهم الفوارق في تلك المرحلة، بتوزيع الأنفال البدرية بينهم بالتساوي.
ولكن عندما تغيرت الأحوال بعد ذلك، بعد قيام الدولة وصلابة عودها ومنعتها، تم تعويض العباس خيرا مما أخذ منه في فداء أسره من بدر، وصدق الله وعده في الآيات، وهو ما جاء في رواية أنس:
إن النبي
صلى الله عليه وسلم
أتي بمال من البحرين، فقال: انثروه في المسجد. فكان أكثر مال أتي به رسول الله، إذ جاءه العباس فقال: يا رسول الله أعطني، فإني فاديت نفسي وفاديت عقيلا. فقال: خذ. فحثا ثوبه ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال: مر بعضهم برفعه إلي. قال: لا. قال: فارفعه أنت علي. قال: لا. فنثر منه، ثم احتمله على كاهله فانطلق.
37
ويتضح لنا ذلك الصراع بين الأممية والقبلية، في لحظة العودة من بدر، ومعهم الأسرى وفيهم العباس وبعض بني هاشم، فاستشار النبي أصحابه بشأنهم، والرواية هنا تبرز بوضوح موقف من بدل ولاءه تماما نحو الأممية الجديدة، وهو الموقف المتناقض مع موقف آخر لا زال يستبطن القبلية وحميتها، ثم موقف ثالث هو موقف النبي عليه الصلاة والسلام، واصطراع الأمرين داخل نفسه البشرية، فهذا «عمر بن الخطاب» يتجاوز كل ألوان الولاء القبلي بأممية صارمة صادقة، إعمالا لمبادئ الدعوة وتصديقا لها، فيقول:
يا رسول الله؛ كذبوك، وأخرجوك، وقاتلوك، أرى أن تمكنني من فلان فأضرب عنقه (وهو قريب له)، وتمكن عليا من أخيه عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من العباس أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم أنه ليست في قلوبنا مودة للمشركين.
أما ابن رواحة فكان رأيه أشد صرامة، وأكثر رغبة في التشفي، فقال:
انظروا واديا كثير الحطب، فأضرمه عليهم نارا، فقال العباس - وهو يسمع - ثكلتك رحمك.
38
هذا بينما كان أبو بكر في أقصى اليمين يقول بالأخرى:
يا رسول الله؛ نرى أن تعفو عنهم، وأن تقبل منهم الفداء، فذهب عن وجه رسول الله ما كان فيه من الغم.
39
أو برواية أخرى:
يا رسول الله؛ أهلك وقومك، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، قد أعطاك الله الظفر، ونصرك عليهم، أرى أن تستبقيهم وتأخذ منهم الفداء، فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار.
40 (4) القبلية والأممية
وكان أبلغ المواقف على استبطان النبي
صلى الله عليه وسلم
للرحم، والعلاقة العشائرية والأسرية، رغم المتغير المطلوب، ورغم أممية الدعوة واستبدالها العلاقات القديمة بعلاقات جديدة، وبالولاء القديم ولاء جديدا، بعلاقات إيمانية تحطم القبلية، كان أبلغ هذه المواقف ما جاء في قصة فداء «أبي العاص بن الربيع»، زوج «زينب» بنت النبي الكريم
صلى الله عليه وسلم .
يروي الطبري:
كان الإسلام قد فرق بين زينب بنت رسول الله حين أسلمت، وبين أبي العاص بن الربيع، إلا أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كان لا يقدر على أن يفرق بينهما، فأقامت معه على إسلامها، وهو على شركه ... فأصيب في الأسارى يوم بدر.
41
ويكمل ابن كثير:
عن عائشة قالت: لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم، بعثت زينب بنت رسول الله في فداء أبى العاص بمال، وبعثت فيه بقلادة لها، كانت خديجة قد أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى عليها. فلما رآها رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، رق لها رقة شديدة وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها الذي لها.
42
ويتابع ابن هشام فيقول: إن النبي
صلى الله عليه وسلم
أخذ على أبي العاص أن يخلي سبيل زينب، ويرسلها إلى حيث سينتظرها أتباع من يثرب على حدود مكة. وعن عبد الله بن أبي بكر قال: «حدثت عن زينب أنها قالت: بينا أنا أتجهز بمكة للحوق بأبي، لقيت هندا بنت عتبة، فقالت: يا بنت محمد، ألم يبلغني أنك تريدين اللحوق بأبيك؟ فقالت: ما أردت ذلك ... فلما فرغت بنت رسول الله من جهازها، قدم لها حموها كنانة بن الربيع أخو زوجها بعيرا فركبته، وأخذ قوسه وكنانته وخرج بها يقودها نهارا وهي في هودج لها، وتحدث بذلك رجال من قريش فخرجوا في طلبها، حتى أدركوها بذي طوى ... وبرك حموها كنانة ونثر كنانته ثم قال: والله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهما، فتكركر الناس عنه، وأتى أبو سفيان في جلة من قريش فقال: أيها الرجل كف عنا نبلك حتى نكلمك، فكف، فأقبل أبو سفيان حتى وقف عليه، فقال: إنك لم تصب إذ خرجت بابنته علانية على رءوس الناس من بين أظهرنا، إن ذلك عن ذل أصابنا عن مصيبتنا التي كانت، وإن ذلك منا ضعف ووهن، ولعمري ما لنا بها عن أبيها من حاجة، وما لنا في ذلك من ثورة، ولكن ارجع بالمرأة حتى إذا هدأت الأصوات، وتحدثت الناس أننا قد رددناها، فسلها سرا وألحقها بأبيها، ففعل.»
وفي الروايات، أن الذين طاردوا زينبا ، كانا هبار بن الأسود، ونافع بن عبد القيس، فروعوها، فأفرغت بطنها وكانت حاملا، ولما رجع الرجلان إلى مكة، قابلتهما هند تذمهما وتقول:
أفي السلم أعيار جفاء وغلظة
وفي الحرب أشباه النساء العوارك
43 (والنساء العوارك هن الغوانج). أما النبي فكان له موقف آخر من الرجلين، إذ أمر ببعث سرية، أمر رجالها أن يظفروا بهبار ونافع، وأن يحرقوهما بالنار جزاء ما قدمت يداهما في حق ابنته، لكنه عاد فأرسل لهم قبل خروجهم:
إني كنت أمرتكم بتحريق هذين الرجلين، إن أخذتموهما، ثم رأيت أنه لا ينبغي لأحد أن يعذب بالنار إلا الله، فإن ظفرتم بهما فاقتلوهما.
ويتابع ابن إسحق راوي السيرة فيقول: «وأقام أبو العاص بمكة، وأقامت زينب عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بالمدينة، حين فرق الإسلام بينهما، حتى إذا كان قبيل الفتح، خرج أبو العاص تاجرا إلى الشام - وكان رجلا مأمونا - بماله وأموال رجال لقريش أبضعوها معه، فلما فرغ من تجارته وأقبل قافلا، لقيته سرية لرسول الله، فأصابوا ما معه، وأعجزهم هاربا، فلما قدمت السرية بما أصابوا من مال، أقبل أبو العاص تحت الليل، حتى دخل على زينب بنت رسول الله، فلما خرج رسول الله إلى الصبح ... كبر وكبر الناس معه، صرخت زينب من صفة النساء: أيها الناس إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع، فلما سلم رسول الله من الصلاة أقبل على الناس فقال: أيها الناس هل سمعتم ما سمعت؟ قالوا: نعم. قال أما والذي نفس محمد بيده ما علمت بشيء من ذلك حتى سمعتم ما سمعتم. إنه يجير على المسلمين أدناهم.
ثم انصرف فدخل على ابنته فقال: أي بنية أكرمي مثواه، ولا يخلصن إليك فإنك لا تحلين له، ثم بعث إلى السرية الذين أصابوا مال أبي العاص فقال لهم: إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم، وقد أصبتم له مالا، فإن تحسنوا تردوا عليه الذي له، فإنا نحب ذلك، وإن أبيتم فهو فيء الله الذي أفاء عليكم، فأنتم أحق به. فقالوا: يا رسول الله بل نرده عليه ، فردوه عليه ... ثم احتمله إلى مكة فأدى إلى كل ذي مال ماله من قريش.» وعاد بعد ذلك إلى يثرب مسلما، ويروي ابن عباس أن النبي قد رد عليه زينب على النكاح الأول. وفي رواية لأبي عبيدة: أن أبا العاص لما قدم من الشام ومعه أموال المشركين.
قيل له: هل لك أن تسلم وتأخذ هذه الأموال، فإنها أموال المشركين.
فقال: بئس ما أبدأ به إسلامي، أن أخون أمانتي.
44
وموقف «أبي العاص» هنا يتفق تماما ويتطابق مع الإفراز الحتمي للظرف التاريخي والاقتصادي، فأمانة الرجل التي فرضت عليه عدم الاستيلاء على أموال قريش، هي ناتج طبيعي لظرف مكة التجاري، الذي أفرز ثقة متبادلة بين أصحاب المال، وبين القائم على الرحلة المسافرة، باعتباره أيضا عضوا ضمن الطبقة، ومن ثم فرض ظرف مكة الجغرافي، وعدم إمكان خروج كل المسهمين مع القافلة، ثقة وأمانة على درجة عالية، للحفاظ على سيولة التجارة واستمرارها؛ لأن أي خلاف أو اختلاس أو فقد للثقة، كان كفيلا بدمار مصلحة الجميع. وهي الأمانة التي لم تكن في منطقهم تتعارض أبدا مع سلوكيات أخرى، كالربا والاحتكار، فهي ألوان من الكسب المشروع، ولون من التجارة والربح المباح. وقد أشار النبي عليه الصلاة والسلام إلى الأمانة القرشية، مع ضيق أفق الرءوس المكية وقصورها، عن إدراك دور الرأسمالية القرشية في مشروع الوحدة الكبرى، بقوله لأبي قتادة الأنصاري بعد غزوة أحد، عندما أراد أبو قتادة التمثيل بجثث القرشيين كما مثلوا بحمزة بن عبد المطلب:
يا أبا قتادة، إن قريشا أهل أمانة، من بغاهم أكبه الله تعالى إلى فيه، وعسى إن طالت بك مدة أن تحقر عملك مع أعمالهم، وفعالك مع فعالهم، ولولا أن تبطر قريش لأخبرتها بما لها عند الله.
45
والقول الشريف هنا يفصح عن خبيئة نفس المصطفى
صلى الله عليه وسلم
لأهله وبلده، وعن التناقض الآتي الذي سيفصح عن نفسه في أواخر الحياة النبوية المشرفة، في فتح مكة وتوزيع المكاسب في هبات وإقطاعات وأعطيات لأهل قريش من الطلقاء والمؤلفة قلوبهم، ثم ما أفصح عنه اجتماع سقيفة بني ساعدة، وانتهى بصب الأمر في النهاية بيد قريش. أما الآن وفي ظرف بدر الراهن، فإن قطع المسلمين للطريق التجاري، والاستيلاء على قوافل مكة، وقتل رجال حكومة الملأ الصناديد والرءوس والأشراف، كان حلقة - فرضها الظرف، وعدم وعي المكيين - في حلقات التطور الحتمي الآتي، ودفعا للموقف عبر مسيرته الضرورية، وإبلاغا للروم والعجم، أن الأمر قد صار إلى مدينة أخرى، وإلى يد أخرى، ونظام آخر.
المزايدات في قصة بدر
أما لكم في اللبن من حاجة؟!
نداء قرشي في وقعة بدر
عن «علي بن أبي طالب» كرم الله وجهه - في وقعة بدر - قال: «حملني الرسول على فرسة فجمزت بي، فوقعت على عقبي، فدعوت الله، فأمسكت، فلما استويت عليها، طعنت بيدي هذه في القوم حتى اختضب هذا، وأشار إلى إبطه.»
1
محققا لنفسه بذلك ضحك الله من عبد يغمس يده في العدو.
وهو الأمر الذي يدعو إلى التساؤل حول رواية كتب السير والأخبار، عن كراهة «سعد بن معاذ» لرؤية ما يصنع المسلمون بالمشركين، وعن كون تلك الكراهة ناتجة عن أخذ المكيين أسرى، بدلا من قتلهم، والتساؤل مع اختضاب إبط «علي» بالدم: هل كان المتفشي في بدر هو القتل أم الأسر؟ وأيهما كان غرض المعركة الأساسي؟
إن تعادل عدد القتلى والأسرى ربما يغني عن طرح السؤال، لكن في واقع ما حدث تحت غبار وقعة بدر، ما يشير إلى رغبة متأججة في الثأر من صناديد الملأ القرشي، الذين سبق أن أخرجوا المسلمين من ديارهم وأبنائهم، فهناك وقائع لها نفس دلالات قول الإمام علي كرم الله وجهه، أعطاها مشروعيتها دعوة الآيات:
فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان (الأنفال: 12).
والأمر على الترتيب في الوحي هو:
فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء (محمد: 4).
فأولا: ضرب الأعناق، وفصل الرقاب، وكل بنان، ثم بعد ذلك: شد الوثاق طلبا للفداء، دعما ماديا للمسلمين، أو المن على البعض الآخر، رغم شركهم وعدم إيمانهم، كما سنرى له أمثلة الآن.
وقد أفاضت كتب السيرة بشأن مقتلة عدد من الرءوس القرشية، منهم «أبي البختري بن هشام»، وكان مفترضا عدم قتله بأمر من الرسول عليه الصلاة والسلام، رغم عدم إيمانه بدعوته الدينية، فلم يعقد أمره حول الإيمان من عدمه، إنما لأسباب أخرى تقول:
نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، عن قتل أبي البختري؛ لأنه كان أكف القوم عن رسول الله وهو بمكة، وكان لا يؤذيه، ولا يبلغه عنه شيئا يكرهه، وكان ممن قام في نقض الصحيفة، التي كتبت قريش على بني هاشم وبني عبد المطلب.
2
كذلك كان النبي بوفاء رحمي، قد نهى أيضا عن قتل عمه «العباس بن عبد المطلب»، ومن تواجد من بني هاشم في بدر، رغم عدم إيمانهم بدعوته الدينية.
وقرب انتهاء وقعة بدر، بينما الناس يهربون أو يتخفون، لقي «المجذر بن زياد البلوي» أبا البختري، ومع «أبي البختري» صديق له خرج معه من مكة، هو «جنادة بن مليحة»، فقال له «المجذر»، ورد عليه «أبو البختري»، في حوار له أهمية:
المجذر :
إن رسول الله قد نهانا عن قتلك.
أبو البختري :
وزميلي؟
المجذر :
لا والله، ما نحن بتاركي زميلك، ما أمرنا رسول الله إلا بك وحدك.
أبو البختري :
لا والله إذن، لأموتن أنا وهو جميعا، ولا تتحدث عني نساء مكة، أني تركت زميلي.
فقتله المجذر، ثم أتى رسول الله فقال: «والذي بعثك بالحق، لقد جهدت عليه أن يستأسر فآتيك به، فأبى إلا أن يقاتلني، فقتلته.»
3
والشاهد هنا، أن الرجل المسلم طلب من «أبي البختري» الاستسلام للأسر، فأبى «أبو البختري»، إن كان في ذلك إنقاذ حياته، وترك زميله يقتل، بإباء عربي يثير الإعجاب وفيه إجابة أولى عن السؤال المطروح.
أما الشاهد الثاني ففي رواية «عبد الرحمن بن عوف» عن مقتل «أمية بن خلف»، حيث قال «عبد الرحمن»: «كان أمية صديقا لي بمكة، وكان اسمي عبد عمرو فتسميت حين أسلمت عبد الرحمن ونحن بمكة، فكان يلقاني إذ نحن بمكة فيقول: يا عبد عمرو، أرغبت عن اسم سماكه أبواك؟ فأقول: نعم. فيقول: فإني لا أعرف الرحمن، فاجعل بيني وبينك شيئا أدعوك به، أما أنت فلا تجيبني باسمك الأول، وأما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف. قال: فكان إذا دعاني يا عبد عمرو، لم أجبه. قال: فقلت له: يا أبا علي اجعل ما شئت. قال: فأنت عبد الإله. فقلت: نعم. فكنت إذا مررت به قال: يا عبد الإله. فأجيبه وأتحدث معه، حتى إذا كان يوم بدر مررت به، وهو واقف مع ابنه علي بن أمية، أخذ بيده، ومعي أدراع قد استلبتها فأنا أحملها. فلما رآني قال لي: يا عبد عمرو. فلم أجبه، فقال: يا عبد الإله. قلت: نعم. قال: هل لك في فأنا خير لك من هذه الأدراع التي معك. قلت: نعم، ها لله ذا. فطرحت الأدراع من يدي، وأخذت بيده ويد ابنه وهو يقول:
ما رأيت كاليوم قط، أما لكم في اللبن من حاجة؟
ثم خرجت أمشي بهما. قال ابن هشام: يريد باللبن،
أنه من أسرني افتديت منه بإبل كثيرة اللبن.
فوالله إني لا أقودهما، إذ رآه بلال معي، وكان هو الذي يعذب بلالا بمكة ليترك الإسلام، فلما رآه قال:
رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا.
ثم صرخ بأعلى صوته:
يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا.
فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل المسكة، وأنا أذب عنه.»
4
فهنا رجل تأبى عليه عزته الهرب مع من هرب، فيقف في الميدان مستمدا الشجاعة والدفء من الإمساك بيد ولده علي، حتى إذا لقي صديقه المسلم ناداه طالبا منه أسره مع ولده، ليضمن معاملة أفضل وهو في الأسر، كما يضمن لصديقه أقصى انتفاع متى حان وقت الفداء، ثم هو يبدي دهشته لكثرة القتل، بينما بالعقلية التجارية يكون الأسر أكثر نفعا لعائديته بإبل ولبن ومال وذهب. واختتم ابن كثير مقتلة أمية وولده علي، برواية عبد الرحمن بن عوف: «فلما خشيت أن يلحقونا، خلفت لهم ابنه لأشغلهم، فقتلوه، ثم أتوا حتى تبعونا، وكان رجلا ثقيلا، فلما أدركونا قلت له: ابرك، فبرك فألقيت نفسي عليه لأمنعه، فتخللوه بالسيوف من تحتي.»
5
أو بتعبير ابن هشام:
هبروه بأسيافهم، من الهبرة، وهي القطعة العظيمة من اللحم، أي قطعوه.
6
وعن مقتلة «أبي جهل»، تروي كتب السير: «وكان أول من لقي أبا جهل «معاذ بن عمرو بن الجموح»، قال: سمعت القوم وأبو جهل في مثل الحرجة (الشجر الملتف) وهم يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه ... فصمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه، وضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرحت يدي، فتعلقت بجلدة من جنبي، وأجهضني القتال عنه، فلقد قاتلت عامة يومي، وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني وضعت عليها قدمي ثم تمطيت حتى طرحتها.»
7
وهكذا كانت الإصابة الأولى لأبي الحكم بن هشام، فقطع «معاذ بن عمرو بن الجموح» ساقه، وتركه عقيرا بين الأحراش بعد أن قام ابنه «عكرمة» يذب عنه، وظل على حاله بينما انشغل «عكرمة» في القتال، ثم في الهرب، حتى مر به «معوذ بن عفراء» فناوشه وهو يدافع عن نفسه، حتى ناله «معوذ» بضربة أخرى أثبتته عن الحركة،
8
حتى مر عليه «عبد الله بن مسعود»، الذي يروي فيقول: وجدته بآخر رمق، فعرفته، فوضعت رجلي على عنقه، فقال لي أبو جهل:
لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعبا.
9
أما «ابن مسعود» فيسوق لنا تدقيقه في الرواية، حتى ما مر بذاكرته من ذكرى طافت به وهو يقف على رأس عدوه، إذ يقول:
وقد كان ضبث بي مرة بمكة، فآذاني ولكزني.
10
ثم يسوق ذكرى أخرى في روايته بدلائل البيهقي:
وانتهيت إلى أبي جهل وهو صريع، ومعه سيف جيد ومعي سيف رث، فجعلت أنقف رأسه بسيفي، وأذكر نقفا كان ينقف رأسي بمكة، حتى ضعفت يدي.
11
ويستمر «ابن مسعود» لينقل عنه «الحلبي» في سيرته، قوله:
فبصق في وجهي وقال: خذ سيفي واحتز به رأسي من عرشه، ليكون أنهى للرقبة، ففعلت ذلك ثم جئت به إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فقلت هذا رأس عدو الله أبي جهل، فقال رسول الله: ألله الذي لا إله غيره، ورددها ثلاثا.
وروى الطبراني: ألله قتلت أبا جهل؟ قلت: نعم، والله الذي لا إله غيره، ثم ألقيت رأسه بين يدي رسول الله، فحمد الله تعالى. ويقال إنه سجد خمس سجدات شكرا.
12
أما «نوفل بن خويلد» الذي كان يصيح في بداية الوقعة «يا معشر قريش؛ إن هذا اليوم يوم العلا والرفعة.» فقد انتهى إلى نداء آخر مرتعش ينادي المسلمين:
ما حاجتكم إلى دمائنا؟ أما ترون ما تقتلون؟
أما لكم في اللبن من حاجة؟ «فأسره جبار بن صخر، فهو يسوقه أمامه، فجعل نوفل يقول لجبار - وقد رأى عليا مقبلا نحوه: يا أخا الأنصار؛ من هذا؟ واللات والعزى إني لأرى الرجل يريدني؟ قال: هذا علي بن أبي طالب. قال: ما رأيت كاليوم رجلا أسرع في قومه منه، فيصمد له علي، فيضربه، فنشب سيفه في جحفته ساعة، ثم نزعه، فضرب ساقيه ودرعه مشمرة، فقطعها، ثم أجهز عليه فقتله.»
13
ومهما بحث عن سر وراء قتل ذلك الأسير - غير عدم إيمانه بالدعوة - فلن تجد سوى أنه كان أحد رءوس قريش. (1) الأسرى
وكان في الأسرى «النضر بن الحارث» ربيب مدرسة جند يسابور، الذي تعلم هناك علوم الحضارات، بما فيها أخبار الأقدمين، في بعث أثرياء مكة أبناءهم لمدارس الحضارات. وكان يقعد مع زميله «عقبة بن أبي معيط» للنبي بمكة مقعد رصد، ليتوجهوا له باستفسارات كثيرة بقصد الإحراج والإيذاء، وعادة ما كانوا يعقبون بقولهم للناس: تعالوا؛ نقول لكم أفضل مما قال. وللصدفة العجيبة أن يقع مع «النضر» في الأسر، رفيقه المثقف «عقبة بن أبي معيط»، ليسيرا في ركاب الركب المنتصر مقيدين.
وقد وقع «النضر» أسيرا بيد «المقداد»، وتم ربطه مع بقية الأسرى الذين أخذوا يمرون أمام رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ومن ثم «نظر إلى النضر وهو أسير، فقال النضر للأسير الذي بجانبه: محمد والله قاتلي، فإنه نظر إلي بعينين فيهما الموت. فقال له: والله ما هذا منك إلا رعب. وقال النضر لمصعب بن عمير: يا مصعب أنت أقرب من هذا إلي رحما، فكلم صاحبك أن يجعلني كرجل من أصحابي - يعني المأسورين - هو والله قاتلي . فقال مصعب: إنك كنت تقول في كتاب الله كذا وكذا، وتقول في نبيه كذا وكذا ...»
14
وفي أسباب النزول للسيوطي كان المقداد آسر النضر، وما إن أناخ الركب المنتصر بالصفراء، حتى أمر النبي بقتل النضر، فقال المقداد: يا رسول الله أسيري. فقال له رسول الله: إنه كان يقول في كتاب الله ما يقول.
15
وبعد ذلك بزمن، يوم فتح المسلمين لمكة، أنشدت شقيقته النبي شعرا يقول:
أمحمد لأنت ضنء نجيبة
في قومها، والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت وربما
من الفتى وهو المغيظ المحنق
وهنا عقب النبي بحنوه: «لو بلغني هذا الشعر قبل قتله لمننت عليه.»
16
أي لأطلقه، رغم ما قال في كتاب الله وما فعل برسول الله، ومع عدم الإيمان بدعوة الإسلام (؟!).
وبعد مرحلة من الطريق، أناخ الركب بعرق الظبية، وأمر النبي «عاصم بن ثابت» بقتل رفيق «النضر» وزميل تلمذته «عقبة بن أبي معيط». ولما أقبل إليه «عاصم بن ثابت»، دارت بينهما المحاورة التالية:
عقبة :
يا معشر قريش، علام أقتل من بين من هنا؟
عاصم :
على عداوتك لله ورسوله.
عقبة :
أتقتلني يا محمد من بين قريش؟
النبي :
نعم، أتدرون ما صنع بي هذا؟ جاء وأنا ساجد خلف المقام، فوضع رجله على عنقي وغمزها، فما رفعها حتى ظننت أن عيني ستنداران، وجاء مرة أخرى بسلا شاة فألقاها على رأسي وأنا ساجد، فجاءت فاطمة فغسلته عن رأسي.
17
وهكذا أدرك «عقبة» مصيره جزاء ما قدمت يداه، حتى لو كان أسيرا، بعد أن كان بمكة سيدا مترفا، فكان أن تهاوت الكرامة والعزة، وتنازل عن كبريائه وصرخ مسترحما في استغاثة أخيرة، يذكر النبي بما لديه من أطفال مناديا:
فمن للصبية يا محمد؟
فجاءه رد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وهو في دمائه يتخبط: النار.
18
ووصل المسلمون ببقية الأسرى إلى يثرب، بينما كانت «سودة بنت زمعة» زوج النبي عند آل عفراء، تشاركهم مصابهم في مناحتهم على ولديهم «عوذ» و«معوذ» اللذين استشهدا ببدر، حيث روت «سودة» رضي الله عنها: «والله إني لعندهم إذ أتينا ، فقيل هؤلاء الأسارى قد أتي بهم، فرجعت إلى بيتي ورسول الله فيه، وإذا أبو زيد بن سهيل بن عمرو في ناحية الحجرة، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلا والله ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد كذلك، أن قلت:
أي أبا يزيد؛ أعطيتم بأيديكم، ألا متم كراما؟
فوالله ما نبهني إلا قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من البيت:
يا سودة؛ أعلى الله ورسوله تحرضين؟
قلت: يا رسول الله؛ والذي بعثك بالحق، ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنقه، إلا أن قلت ما قلت.»
19
وتروي السير «وجاء مطعم بن مطعم وهو كافر إلى المدينة، يسأل النبي في أسارى بدر، فقال له النبي
صلى الله عليه وسلم : لو كان شيخك - أو لو كان الشيخ أبوك - حيا، فأتانا فيهم لشفعناه. وفي رواية: لو كان مطعم حيا وكلمني في هؤلاء النفر. وفي رواية: في هؤلاء النتنى، لتركتهم له.»
أما تبرير ممكنات إطلاق مشركين لم يؤمنوا، بشفاعة المطعم، والاستجابة لإجارته، فلأن «المطعم كان قد أجار النبي لما قدم الطائف، وكان من سعى في نقض الصحيفة.»
20
وفي السيرة أن «أبا عزة بن عبد الله» كان في الأسر، فقام يتزلف النبي بمديحه شعرا، ثم طلب منه أن يمن عليه ويطلقه، لأنه صاحب حاجة وذو بنات، فأفرج عنه، فلما ذهب إلى مكة قال: سحرت محمدا وعاد يهجوه، حتى وقع بعد ذلك أسيرا يوم أحد، وكان الأسير الوحيد في تلك الوقعة، فعاد للمديح وطلب العفو والمن، فأجابه النبي «لا أدعك تمسح عارضيك وتقول: خدعت محمدا مرتين، ثم أمر به فضربت عنقه. ويقال إن فيه قال رسول الله: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين.»
21 (2) مزايدات
وعليه، يمكن بالقراءة الموضوعية، أن يستكشف المتابع ظروفا أدت إلى وقعة بدر، وصاغت دقائق أحداثها، وحتمت نتائجها، وأن يقرأ دور الجهد البشري في توجيه مجموعة العناصر المكونة للمقدمات والنتائج، ودورها الجدلي مع قواعد التطور الاقتصادي ومن ثم المجتمعي، كما يمكنه ببساطة وإنصاف، أن يقرأ دور التنظيم والتخطيط الواعي من قبل البشر لدفع ذلك التطور نحو غايته، والوقعة البدرية نحو نتائجها. وأثناء ذلك سيلمح لونا من المزايدة التي ترقى بالحدث الموضوعي من مستوى الواقع إلى فضاء الأسطورة، أو هي على الأصح تهبط بالأسطورة لتغطية أرض الواقع، أو هي على التدقيق تفلت بحدث الواقع خارج دائرة الفعل الطبيعي والقدرات البشرية. وهي المزايدات التي ربما كانت إسهاما أسهم به الرواة زمن الحدث، كل حسب ممكناته، وربما كانت إسهامات إضافية أضيفت زمن تدوين كتب السير والأخبار، وربما كانت مزايدات من أقوام كالمؤلفة قلوبهم والطلقاء لإثبات خلوص الإيمان. وقد كان الوعد بنزول الملائكة من وراء الكون المنظور إلى بقعة بدر لنصرة المسلمين، أحد أهم العوامل التي ساعدت على إعطاء الخيال الإنساني مساحة واسعة للمزايدة، فإن هبطت الملائكة، فلا بأس إذن من حدوث أي خارق آخر.
لقد بدأت الروايات ملتصقة بالمقبول، وبواقع الحدث كما حدث. وهو ما يمكنك تلمسه في تلك الروايات مع بداية قصها للواقعة البدرية. فهذا - مثلا - أول شهيد مسلم مهاجر في بدر «عبيدة بن الحارث»، الذي بارز «عتبة بن ربيعة»، فحمله رفيقاه «حمزة» و«علي» إلى رسول الله «واحتملا صاحبهما عبيدة، فجاءا به إلى أصحابه، وقد قطعت رجله فمخها يسيل. فلما أتوا بعبيدة إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: ألست شهيدا. قال: بلى. فقال عبيدة: لو كان أبو طالب حيا لعلم أني أحق منه حيث يقول:
ونسلم حتى نصرع حوله
ونذهل عن أبنائنا والحلائل
22
وأسلم الرجل روحه شهيدا، ورأسه على فخذ رسول الله
صلى الله عليه وسلم . والقصة كما هو واضح، تسير سيرا طبيعيا، يذكر فيها «عبيدة» النبي بأهله الهاشميين - الذين منعوه من الأمويين - على رأسهم «أبو طالب» عم النبي، عندما حقب الأمر مع الأمويين وكاد يفضي إلى حرب بين أبناء العمومة، فأرسل «أبو طالب» شعره يؤكد لهم أنهم لن ينالوا من ولده «محمد»، حتى يفنى ويصرع حوله بنو هاشم وهم يدافعون عنه، بعصبية القبيلة ورحم العشيرة. ويتميز هنا «عبيدة» في قوله: إنه أحق من أبي طالب بذلك الشعر ، أنه مات بالفعل دفاعا عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ودفاعا عن دعوته، بل ومؤمنا بهذه الدعوة، وأن أعضاء الجماعة الإسلامية، الذين هجروا القبيلة إلى الأممية، هم الأحق بالشهادة، وأحق بالقول من «أبي طالب».
ثم نرحل إلى القصة التالية، وهي عن «معاذ بن عمرو بن الجموح»، الذي ضرب ساق «أبي الحكم»، فنال منه «عكرمة بن أبي الحكم» بضربة أطاحت ذراعه «وضربني ابنه عكرمة بن أبي الحكم على عاتقي، فطرح يدي، فتعلقت بجلدة من جنبي ... وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني وضعت عليها قدمي ثم تمطيت حتى طرحتها.»
23
ومن ثم بدت الرواية قادرة على الإبهار، لمدى الصلابة والجلد عند ذلك البطل اليثربي، ولكن الأمر يبدأ هنا بالانتقال إلى فضاء الأسطورة، بمزايدات لحظنا أنها تبدأ عادة غير محددة المصدر، بالقول: «وفي رواية»، وهي بذلك رواية مجهولة السند، وهو ما بدأت به المزايدة في قصة البطل «معاذ»، في القول: «وفي رواية: أنه جاء بها إلى الرسول
صلى الله عليه وسلم ، فبصق عليها، ولصقها، فلصقت!»
24
وهو ما نجد له شبيها في روايات صيغت حول «أبي جهل-أبي الحكم»، الذي كان له شأن أجل من أن يمر بمقتله في بدر ببساطة وينتهي الأمر، رغم ميتته البائسة التي سقاه إياها ثلاثة من المسلمين على التوالي، لأنه كان عدو رسول الله الألد، ومن ثم كانت مقتلة غير شافية للنفوس، فيصل الأمر إلى حد قول «الشعبي»، دون سند واضح لروايته عن قائل بعينه محدد الاسم، فيقول:
إن رجلا قال للنبي
صلى الله عليه وسلم : إني مررت ببدر فرأيت رجلا يخرج من الأرض، فيضربه رجل بمقمعة معه حتى يغيب في باطن الأرض، ثم يخرج، فيفعل به مثل ذلك، قال ذلك مرارا، فقال رسول الله: ذاك أبو جهل بن هشام، يضرب إلى يوم القيامة.
25
أما النبي الذي أجمعت الروايات الصادقة على أنه كان بعريشه فوق التل طول المعركة، يدعو ربه ويصلي طالبا الأزر والنصرة، فإن روايات أخرى تضعه في مقدمة الصفوف محاربا، فيما نسب إلى «حارثة بن مضرب» وهو يقول :
لما كان يوم بدر، اتقينا المشركين برسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وكان أشد الناس بأسا.
وهو ما أخرجه «الإمام أحمد» في مسنده (1: 216): «وحدثنا إسرائيل بنحوه، وزاد: ما كان أحد أقرب إلى المشركين منه.»
26
وعن «قتادة بن النعمان» يروى «أنه أصيبت عينه يوم بدر، فسالت حدقته على وجنته، فأرادوا أن يقطعوها، فسألوا رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فقال: لا. فدعاه، فغمز حدقته براحته، فكان لا يدري أي عينيه أصيب، وفي رواية: فكانت أحسن عينيه. وعن رافع بن مالك: رميت يوم بدر بسهم، ففقئت عيني، فبصق فيها رسول الله ودعا لي، فما آذاني منها شيء.»
27
ويروى أن «خبيب بن عدي» ضرب يوم بدر «فمال شقه، فتفل عليه رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ولأمه، ورده، فانطبق.» ثم يتقدم صاحب «دلائل النبوة» بمجموعة من الروايات يراها من تلك الدلائل، ومنها «عكاشة بن محصن قاتل بسيفه يوم بدر حتى انقطع في يده، فأتى رسول الله فأعطاه جذلا من حطب وقال: قاتل بها يا عكاشة، فلما أخذه من يد رسول الله هزه فعاد سيفا، طويل القامة، شديد المتن، أبيض الحديدة، فقاتل به حتى فتح الله تعالى على رسول الله، ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد ... وكان ذلك السيف يسمى القوي ... وانكسر سيف سلمة بن أسلم بن حريش يوم بدر، فبقي أعزل لا سلاح معه، فأعطاه رسول الله قضيبا كان في يده، من عراجين بن طاب، فقال: اضرب به، فإذا هو سيف جيد، فلم يزل عنده حتى قتل يوم جسر أبي عبيدة.»
28
وهكذا احتشدت كتب السير والأخبار بالمزايدات، والروايات التي تنزع نحو الأسطورة، بمجرد أن فتح لها الباب، وبات بالإمكان سلخ أي حدث عن واقعه، ونقله إلى مستوى آخر، يكسر الواقع ويدعم الأسطورة بالشهادات. وهو ما تمثل في قصة حدثت عند بدء وقعة بدر، عندما أمسك النبي عليه الصلاة والسلام بحفنة من الحصباء، ورمى بها قريشا ثم قال: شدوا.
ولأن إلقاء الحصباء على العدو لا يحمل أية دلالة عسكرية بعينها، ولأن ذلك التصرف النبوي لا بد له معنى محدد يؤدي دوره في المعركة، فقد انتقلت المزايدة بإلقاء الحصباء إلى المستوى السحري، لتؤدي دورا عسكريا كاملا. وكثيرا ما وردت تلك المزايدات على لسان مشركين أسلموا متأخرين، ومنهم الطلقاء الذين أرادوا التحبب للإسلام والمسلمين ونبي الإسلام، ببعض المجاملات والملاطفات، ومنهم المؤلفة قلوبهم بالطبع الذين أرادوا أن يردوا التحية بأحسن منها، ومن تلك المزايدات رواية تقول: «سمعت نوفل بن معاوية الديلي يقول: انهزمنا يوم بدر، ونحن نسمع صوتا كوقع الحصى في الطاس في أفئدتنا، ومن خلفنا، فكان ذلك من أشد الرعب علينا.»
29
ومثله قول «حكيم بن حزام»: «التقينا فاقتتلنا، فسمعت صوتا وقع من السماء إلى الأرض، مثل وقع الحصى في الطست، وقبض النبي القبضة فرمى بها، فانهزمنا، وسمعنا صوتا من السماء وقع إلى الأرض كأنه صوت حصاة في طست، فرمى رسول الله تلك الحصاة يوم بدر، فما بقي منا أحد.»
30
الحصوات هنا لم تعد قبضة من حصى تل بدر، إنما حصوات سماوية تقوم بفعل عسكري، لكنه إعجازي، ما إن رمى بها النبي المشركين حتى قتلهم جميعا، أما دور تلك الحصى كإحدى أدوات الجيش الإسلامي، بل وأكثر الأدوات فاعلية، فهو ما توضحه رواية لا تخرج عن الاعتقاد في الأثر السحري للفعل النبوي، فتقول: «لم يبق من المشركين رجل إلا ملأت عينيه.»
31
وإذا كان يوم بدر، هو يوم هبوط الملأ الأعلى من الملائكة على خيولها، تحمل سيوفها، فلا بأس على مؤمن إن زاد فقال: «ويقال: إنه كان مع المسلمين يوم بدر من مؤمني الجن سبعون.» وحتى يحبك الراوي روايته التي تفرد بها يستدرك قائلا: «لكن لم يثبت أنهم قاتلوا، فكانوا مجرد مدد.»
32 (3) ملائكة بدر
في أول مشهد تقدمه كتب السير لمقدم الملأ السماوي إلى بدر، يروي ابن إسحق:
وقد خفق رسول الله خفقة وهو في العريش، ثم انتبه فقال: أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده، على ثناياه النقع.
33
وفي رواية أخرى، قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم :
أبشر يا أبا بكر ، هذا جبريل معتجر بعمامة صفراء، آخذ بعنان فرسه بين السماء والأرض، فلما نزل إلى الأرض تغيب عني ساعة، ثم طلع على ثناياه النقع يقول: أتاك نصر الله إذ دعوته.
34
ثم تتوالى الروايات، عن بعض رجال من بني مازن لا نعرف من هم تحديدا. عن أبي داود المازني، أنه قال:
إني لأتبع رجلا من المشركين يوم بدر لأضربه، إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أنه قد قتله غيري.
35
فهذا رجل يقتل في المعمعة، وسط سيوف عديدة متشابكة ورماح تطير ونبال تئز وغبار وسنابك خيول، ورءوس تغطيها الخوذ، وأجساد مدرعة بالدروع، ويقول المازني أن غيره قد قتل القتيل، لكن هذا الغير «القاتل» بمجهوليته في المعمعة يتم التقاطه ليصبح أحد الملائكة، ليؤكده قول أبي إمامة لولده:
يا بني، لقد رأيتنا يوم بدر، وإن أحدنا يشير بسيفه إلى المشرك، فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف.
36
وتتتالى الروايات التي عادة ما يشار إلى روايتها بالقول: قال رجل كذا وكذا، أو عن رجل من بني كذا، ومثلها قول ابن عباس:
بينما رجل من المسلمين يومئذ، يشتد في إثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم (وحيزوم هو فرس الملاك جبريل)، إذ نظر المشرك أمامه فخر مستلقيا، فنظرنا إليه فإذا هو خطم من أنفه، وشق وجهه كضربة السوط، فاخضر ذلك جميعا، فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فقال: صدقت، ذلك مدد من السماء الثالثة.
37
ويروي بعض بني ساعدة، عن «أسيد مالك بن ربيعة»، بعد أن ذهب بصره، «لو كنت اليوم معي ببدر، ومعي بصري، لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة، لا أشك فيه ولا أتمارى.»
38
وهكذا، فالرجل الوحيد الذي رأى الملائكة رؤى العين، ورأى الشعب الذي انسلت منه صفوفهم إلى جبال بدر وواديه، قد ذهب بصره، حتى لا يتمكن من تحديد المكان، ويظل القص هلاميا، وقفا على رواية عن بعض بني ساعدة.
ومثل تلك الروايات، روايات أخرى، منها رواية «أبي بردة بن نيار» حيث قال: «جئت يوم بدر بثلاثة رءوس، فوضعتها بين يدي النبي
صلى الله عليه وسلم ، فقلت: يا رسول الله، أما رأسان فقتلتهما، أما الثالث فإني رأيت رجلا أبيض طويلا ضربه، فأخذت رأسه. فقال رسول الله: ذاك فلان من الملائكة.»
39
أما عن أبي جهل الذي بات معلوما عدد من اشتركوا في قتله بالاسم، فإن هناك من روى عن النبي قوله: «قتله ابنا عفراء والملائكة، وابن مسعود قد شرك في قتله.»
40
هذا ناهيك عن روايات أخرى مجهولة المصدر، مثل رواية ابن عباس إذ قال:
حدثني رجل من بني غفار قال: أقبلت أنا وابن عم لي حتى أصعدنا في جبل يشرف على بدر، ونحن مشركان، ننتظر الوقعة على من تكون الدبرة، فننهب مع من ينتهب، قال: فبينا نحن في الجبل إذ دنت منا سحابة، فسمعنا فيها حمحمة الخيل، فسمعت قائلا يقول: أقدم حيزوم. قال: فأما ابن عمي فانقشع قناع قلبه فمات مكانه، وأما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت.
41
أما المشركون (والرواة أسلموا بعد ذلك عند الفتح)، فوجد بعضهم - فيما يبدو - في هبوط الملائكة، تبريرا لهزيمتهم المخجلة أمام المسلمين، فحاك بعضهم على ذات النول. فهذا «المغيرة بن الحارث» يذكر أنه كان قال زمن بدر لأبي لهب «وأيم الله ما لمت الناس، لقينا رجالا بيضا على خيل بلق، بين السماء والأرض، والله ما تليق شيئا، ولا يقوم لها شيء.»
42
وهكذا تقدم الطلقاء بدلائهم إلى مائدة المزايدات، ومنها رواية «ابن حجر» في الإصابة (2: 9)، عن «السائب بن أبي حبيش» الذي أسلم يوم الفتح الإسلامي لمكة، ونال من الرسول نصيبه من الأعطيات، ثلاثين وسقا في خيبر، فكان يحدث الناس زمن «عمر بن الخطاب» عندما قرر عمر قطع أنصبة المؤلفة قلوبهم عنهم، بقوله:
والله ما أسرني أحد من الناس، فيقال: فمن؟ فيقول: لما انهزمت قريش انهزمت معها، فأدركني رجل طويل على فرس أبيض بين السماء والأرض، فأوثقني رباطا، وجاء عبد الرحمن بن عوف فوجدني مربوطا، وكان عبد الرحمن ينادي في العسكر: من أسر هذا؟ فليس أحد يزعم أنه أسرني، حتى انتهى بي إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فقال رسول الله: يا ابن أبي حبيش، من أسرك؟ فقلت: لا أعرفه. وكرهت أن أخبره بالذي رأيت؛ فقال رسول الله: أسرك ملك من الملائكة. اذهب يا ابن عوف بأسيرك. فذهب بي عبد الرحمن بن عوف، فقال السائب: ما زلت تلك الكلمات أحفظها، وتأخر إسلامي، حتى كان من أمري ما كان.
أما البيهقي، فيعقب على رواية السائب بقوله الكاشف:
ولا أعلمه روى عن النبي
صلى الله عليه وسلم
شيئا.
43
ثم يجد المطالع لسيرة ابن هشام، كشفا رصده راوي السيرة عبر عدد من الصفحات على استطالتها، بأسماء قتلى قريش في بدر، وأسماء الذين قتلوهم من المسلمين، كل قتيل، وكل قاتل، دون إسقاط لاسم مقتول أو لاسم قاتل من الطرفين.
44
وربما كانت مثل تلك المزايدات التي أوردناها، مدعاة لتهكم رجل ملحد مثل ابن الراوندي وهو يتساءل:
من هؤلاء الملائكة الذين أنزلهم الله يوم بدر لنصرة نبيه؟ إنهم كانوا مغلولي الشوكة قليلي البطش، فإنهم على كثرتهم واجتماع أيديهم وأيدي المسلمين معهم، لم يقتلوا أكثر من سبعين رجلا؟! وأين كانت الملائكة يوم أحد حين توارى النبي بين القتلى ولم ينصره أحد؟
45
وإذا كنا نورد كلام ذلك الملحد، فلكي نرى إلى أي حد يمكن أن تبلبل تلك الروايات الفؤاد، ولا شك أن موقفه كملحد مرفوض بالقطع من جانبنا، لكنا ربما تساءلنا تساؤلا مشروعا من مسلم يريد الاطمئنان لطوية فؤاده، حرصا على صيانة إيمانه ونقائه، مع تساؤل من سأل «أبي الحسن السبكي»، وهو يقول:
سئلت عن الحكمة في قتال الملائكة مع النبي ببدر، مع أن جبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه، فأجبت: وقع ذلك لإرادة أن يكون الفعل للنبي وأصحابه، وكان يكفي ملك واحد، فقد أهلكت مدائن قوم لوط بريشة من جناح جبريل، وبلاد ثمود وقوم صالح بصيحة.
46
أما الأهم برأينا في خبر الملائكة، فهو أن إعلام النبي للمسلمين قبل القتال بالمدد السماوي، كان كفيلا بتقوية روحهم المعنوية، وإنزال السكينة على قلوبهم، وهو ما أدى بالفعل إلى نومهم ليلة القتال نوما أخذوا به راحتهم، استعدادا لاستقبال قريش في الصباح، كما كان وجود الملائكة - في حالة أخرى - حلا مثاليا لمشكلة توزيع الأنفال، عندما اختلف المسلمون حول أنصبتهم في أنفال بدر، فنزعت من أيديهم ووضعت بيد رسول الله عليه الصلاة والسلام، ليقرر ما يراه لشأنها، باعتبار الله وملائكته هم أصحاب ذلك النصر، وهو ما قالت بشأنه الآيات:
يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم (الأنفال: 1).
وهي الآيات التي كان سببها ما يرويه أبو أمامة الباهلي:
سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال: فينا أصحاب بدر نزلت، حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا فجعله إلى رسوله، فقسمه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بين المسلمين عن بواء، أي على السواء.
47
والعجيب بشأن ما روي عن الملائكة البدريين، قصص أخرى، كان واضحا أن أصحابها لم يجدوا أية دلائل ظاهرة يمكن تأويلها ونسبتها إلى الملائكة، فالتقطت نمل الوادي الذي ربما سال من جحوره بفعل المعركة، وما سكب من ماء القلب المغورة، لترى في ذلك النمل ملائكة السماء. وهو ما جاء في قول جبير بن مطعم: «رأيت قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون، مثل البجاد الأسود أقبل من السماء مثل النمل الأسود، فلم أشك أنها الملائكة، فلم يكن إلا هزيمة القوم. وعن حكيم بن حزام قال: لقد رأيتنا يوم بدر وقد وقع بوادي خلص بجاد من السماء قد سد الأفق، وإذا الوادي يسيل نملا، فوقع في نفسي أن هذا شيء من السماء أيد به محمد
صلى الله عليه وسلم ، فما كانت إلا الهزيمة، وهي الملائكة.»
48
لكن الملاحظ هنا أن الرواية خرجت بنمل الوادي إلى فضاء الأسطورة، لتضع جملة تقول: إنه نمل سماوي، سقط من السماء على الأرض.
والحاسم في أمر تلك الروايات جميعا، والذي يضع أمر الملائكة في موضعه الصحيح، ولا يسمح بسلب الرواة للعقلانية المعهودة عن دين الإسلام، فهو ما جاء بين الروايات هادئا رصينا يقول :
لولا أن الله تعالى حال بيننا وبين الملائكة التي نزلت يوم بدر، لمات أهل الأرض خوفا من شدة صعقاتهم وارتفاع أصواتهم.
49
أما القاطع في المسألة فهو:
أن الملائكة كانت تأتي الرجل في صورة الرجل يعرفه ... وكان الملك يتصور في صورة من يعرفون.
50
قراءة أخرى
قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء . (آل عمران: 26) «واللات والعزى لا نرجع، حتى نقرن محمدا وأصحابه في الحبال، فلا تقتلوهم وخذوهم أخذا.»
1
كان هذا نداء أبي جهل «أبو الحكم بن هشام» أحد رجالات الملأ القرشي، لما أقبلت قريش إلى بدر تحتفل بنجاة تجارتها، ثم تيقنت أن النبي وأصحابه قد سبقوهم إلى هناك.
والنداء يعكس مدى ثقة «أبي الحكم» في قوة قريش، كما يعكس الرغبة في تأديب الخارجين على الملأ، بأسرهم ثم أخذهم إلى مكة لمحاسبتهم، ليكونوا عبرة لمن تساوره أطماعه من الأعراب، بتهديد الطريق التجاري المكي، طريق الإيلاف، وهو - لا شك - النداء الذي حاول المشركون تنفيذه، بتحاشي القتل طمعا في الأسر، بينما كان المسلمون يقتلون غير هيابين، بأوامر نبيهم وتوجيهات السماء، وهو عامل آخر يضاف إلى رصيد أسباب النصر البدري، فكان نصر الله لجنده، مما عكس توقعات «أبي الحكم»، الذي أثبتت وقعة بدر أن حكمته قد تخلت عنه في قرارات عدة، ساعدت على الهزيمة، فاستحق لقب «أبي جهل» عن جدارة واستحقاق.
وإعمالا للمادة التي رصدتها كتب السير والأخبار الإسلامية عن وقعة بدر الكبرى، يمكن إعادة قراءة واقع الأحداث قراءة موضوعية، تضع كل حدث في موضعه الصحيح، لمعرفة دور كل عنصر في إفراز النتائج التي انتهت إليها الوقعة البدرية، التي شاءت لها الظروف أن تكون ذات دور بارز في تحديد مسار التاريخ الإنساني بعدها. (1) وضع المكيين
بداية يمكننا الوقوف مع ما نبه إليه «أحمد إبراهيم الشريف»، عن وضع المكيين في مكة قبل الخروج إلى بدر، وكيف كان الهاشميون، آل بيت العشيرة النبوية، عيونا له على أهل مكة، يرسلون له بأدق التفاصيل، ويحيطونه علما بأخبار الملأ ، وبالأحوال الاقتصادية والاجتماعية كلما جد جديد، وأية تحركات مهما صغر شأنها، مع ما كانوا يذيعونه بين أهل مكة فيما نعرفه بالحرب النفسية، لإضعاف الروح المعنوية لرجال البيت الأموي وأشراف الملأ،
2
وهو ما رأيناه من جهتنا، في أمثلة سبق ورصدناها في موقعها من السياق، كرؤيا «عاتكة بنت عبد المطلب»، ورؤيا «جهيم بن الصلت بن عبد المطلب»، مع التهديد الواضح والمباشر الذي حمله «سعد بن معاذ» من يثرب إلى مكة، في عمرة أعلن أثناءها إمكان يثرب قطع طريق الإيلاف الشامي، وذلك قبل وقعة بدر بقليل.
ثم كان ما كان من تفرق القرار المكي، وفقده الإجماع واتفاق الكلمة، حول الخروج أو القعود، ثم ما كان من شأن بني هاشم، ويقين الأمويين أن هوى بني هاشم مع محمد، وما كان من خروجهم مع الخارجين مكرهين، بإصرار غير حكيم من «أبي الحكم»، مما جعل الجبهة المكية من البداية، متفرقة وغير متماسكة، تستبطن في داخلها صفا معاديا لها.
أما الشعور بالتأثم لدى المكيين، فكان واضحا في كثير من المواقف، نتيجة خروج أصحابهم وإخوانهم وبنيهم وبني عمومتهم في هجرة لاجئة إلى يثرب، وهذا الشعور بالذنب والإثم، كان عاملا آخر يضاف إلى عوامل ضعف الجبهة المكية في وقعة بدر، وذلك فيما يؤكده «الدكتور الشريف».
3
ونستعيد مشهد خروج أهل مكة من البداية، فهم يخرجون استجابة لاستغاثة «أبي سفيان»، لنجدة تجارتهم القادمة من الشام والتي عرض لها المسلمون، ليتغير الأمر فجأة، بعد أن خرج المكيون في طريقهم لإنقاذ القافلة، فتأتيهم رسالة ثانية من «أبي سفيان» «إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجاها الله فارجعوا.»
4
فيزمعون العودة إلى مكة بعد أن هدأ ما بالنفس من حرور واستنفار، بنجاة أموالهم ورجالهم من حراس القافلة السفيانية. لكن ليهتف «أبو الحكم بن هشام»: «والله لا نرجع حتى نقدم بدرا فنقيم بها، ونطعم من حضرنا من العرب، فإن لن يرانا أحد من العرب فيقاتلنا.»
5
فيعود الركب مرة أخرى موجها وجهه نحو بدر، ليستعيد تثبيت الهيبة القرشية، بحفل يسمع به جميع العرب، فيهابون قريشا بعدها أبدا ، وتتأرجح أحوال القرشيين النفسية مع كل موقف جديد، ليجد جديد آخر، وقد وجهوا وجهتهم نحو بدر، فتنخزل عنهم بنو زهرة، أخوال النبي عليه الصلاة والسلام المباشرون، وأهل «آمنة بنت وهب»، التي تركته طفلا يتيما، وهم من يمثلون ثلث عدد الخارجين، ويعودون إلى مكة مكتفين من المغنم بنجاة تجارتهم ورجالهم، راغبين عن الحفل السامر الذي دعا إليه «أبو الحكم»، والذي تحول مع الأخبار القادمة مع المتجسسين والعيون، إلى أرق وترقب لما ينتظرهم ببدر، وهنا تأتيهم ضربة أخرى بانخزال آخر، كان سببه ثقتهم السريعة في الشيطان «سراقة بن مالك» الزعيم الكناني، الذي طمأنهم من ناحية بني بكر بن كنانة، وأن كنانة البكريين لن يأتوهم بشيء يكرهونه رغم ما كان بينهم وبين قريش من ثأر، بل ويخرج معهم «سراقة» إلى حفلهم البدري، تأكيدا لمقدم كنانة جميعا خلفه لدعم قريش، ثم يفلت مع الوصول إلى بدر عائدا، ليردد لسان «أبي الحكم» الذي حاز لقب «أبي جهل»، محاولا تخفيف الأثر النفسي لانخزال سراقة عنهم بقوله: «يا معشر الناس، لا يهولنكم خذلان سراقة بن مالك، فإنه كان على ميعاد مع محمد.»
6
وهنا لا يغيب على فطن، أن بني بكر بن كنانة، كان لهم قبل بدر موادعة مع النبي عليه الصلاة والسلام، بعد أن جرد عليهم غزوته في صفر، من آخر أيام العام الهجري الأول.
وما بدأت المعركة فعليا، إلا وكانت قريش محطمة معنويا بالتمام، بعدما رأت ثلاثة من أشرافها وشيوخها ورجال الملأ المقدمين، يتضرجون في دمائهم في مبارزة سريعة، فقتل الشيخ الجليل - بتعبير كتب السير الإسلامية - «عتبة بن ربيعة»، وأخوه «شيبة بن ربيعة»، وابنه «الوليد بن عتبة»، في لحظات، لتبدأ المعركة الساخنة، مع نداء النبي لرجاله: شدوا.
ويبدو أن الكثرة العددية للقرشيين، مقارنة بعدد المسلمين، كانت مدعاة في نظر البعض لعدم البحث عن أي ظرف آخر لهزيمة قريش، فهي المعجزة. ولا جدال عندنا أنها معجزة انتهت بانتصار الفئة القليلة على الفئة الكثيرة بإذن الله، لكن مع الأخذ في الحسبان أن تلك الكثرة القرشية، كانت تحتوي على تناقض صارخ في الأعمار مع القلة الإسلامية، حيث كان الجمع القرشي يحوي الأشراف والأجلة من شيوخ قريش، مقابل جيش إسلامي يضم في معظمه شبابا كله فتوة، مع رجال يثرب المتمرسين بالحرب المتترسين بالحلقة.
وهذا بالطبع ما يمكن إضافته جميعا إلى عدم ثقة قريش في عدالة موقفها، من حيث قياسه على محك العرب في العدل، وإن اتفق مع مقاييس المصالح، وتثبيت الهيبة كأغراض أساسية، وهو الأمر الذي كان غير موافق لرغبة جميع القرشيين، فانقسموا حوله في الرأي بعد نجاة تجارتهم. هذا ناهيك عن الخوف القرشي من إصابة أحد من العشيرة، أو سفك دم أحد من بني العمومة أو الإخوة.
ولا نزاع في أن وصول قريش إلى بدر متأخرة عن المسلمين بيوم كامل، لم يعطها فرصة اتخاذ المواقع الملائمة في الحرب، خاصة أنها ما إن دخلت وادي بدر حتى بدأت المعركة، مع الجهد والعطش الذي أخذ بها وهي تحث الخطى أملا في مياه بدر التي وصلتها وقد غورت، مع تضارب رأي الرءوس منها نتيجة غياب القائد الواحد، حيث كان «أبو سفيان/صخر بن حرب» صاحب اللواء متغيبا مع قافلته، مما كان سببا في خلف عظيم بين الملأ في كل شأن منذ خرجوا من مكة، فحاربوا بدون قائد ولا ترتيب ولا حتى نفوس مهيأة للمعركة. (2) وضع المسلمين
وبمقارنة حال المكيين بحال المسلمين، نجد رصيدا موضوعيا آخر لانتصار المسلمين في بدر على أهل الشرك، لعل أهمه هو ثقة شباب الجيش الإسلامي في عدل قضيته، وأن الله يعطي نصره للمظلوم الذي أخرجه الظالمون من أهل بيته وبنيه. إضافة بالطبع إلى الأنصار رجال المجالدة المتمرسين، من حازوا صفة أهل الدم والحرب والحلقة التي ورثوها كابرا عن كابر، وهو ما أجج معنويات المسلمين وأعلاها، لتطلب ثأرها أو موتا بعده جنات خالدة، كناتج ليقين أنهم يحاربون ومعهم رسول الله، ثم كان أعظم دعم لتلك المعنويات العالية، الوعد بالإمداد السماوي المحارب. هذا بالطبع مع تحول الولاء عن القبيلة إلى الأخوة الإسلامية، عن العشيرة إلى الله ورسوله، وعن البطون والأفخاذ إلى الأممية، مما جعلهم يحاربون دون أن يبالوا من يصيبون من العشيرة أو الأهل، وما إن سقط في المعركة أخ أو ابن أو عم أو ابن عم. أما الدافع المادي المباشر للمغانم، فكان لا شك صاحب دور عظيم.
ومن ثم؛ حارب المسلمون وهم تحت قيادة موحدة منظمة، لقائد أعلى وهيئة أركان حرب يثربية، قسمهم إلى ألوية ذات علامات مميزة، وصفوف لكل منها دوره في الرماحة أو المسايفة أو النبالة، مع سمات الصوف التي علقوها بخوذهم ونواصي خيولهم، بعد أن ناداهم النبي «سوموا فإن الملائكة قد سوموا.» لمزيد من معرفة بعضهم بعضا في المعركة، ثم الشعارات الشفرية ونداءات يعرفون بها بعضهم بعضا، ويميزون بها أنفسهم مع اختفاء الرءوس والأجساد تحت الخوذ والدروع الحديدية، وهو لا شك لون عظيم من الاستعداد، لا شك أدى على الجانب الآخر إلى قتل القرشيين بعضهم بعضا، مع سلامة تامة من هذا الأمر على الجانب الإسلامي. كما كان خبر الملائكة مدعاة للاطمئنان النفسي، جعلهم يأخذون ليلة المعركة قسطا طيبا من الراحة والنوم.
وكان التبكير في الوصول إلى بدر، ميزة أخرى مكنت المسلمين من اختيار الأماكن المناسبة، سواء للنبالة في الأعالي، أو للرماحة خلف السواتر الصخرية، أو لبعض من هؤلاء وأولئك في صفوف خلفية، لحماية هجوم السيافة، مع حيازة الماء في الحوض، ثم كان اختيار وجهة القتال ذاتها، وهي ما أشار إليه الواقدي في قوله: ... ووقف رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ينظر إلى الصفوف، فاستقبل المغرب وجعل الشمس خلفه، وأقبل المشركون فاستقبلوا الشمس، فنزل رسول الله بالعدوة الشامية، ونزلوا بالعدوة اليمانية.
7
وهو ما إن حققناه جغرافيا فإنه يعني أن المعركة بدأت في الصباح، والمسلمون وجهتهم الجنوب الغربي والشمس خلفهم، بينما كانت وجهة المشركين الشمال الشرقي والشمس في أعينهم. أما أهل علم النفس فيقولون:
وفي جميع الأحوال، فإن لذلك النوع من الانتصار - وهو كثير جدا في التاريخ، ونبه إلى نظرائه القرآن الكريم - تفسيرا يرد تحت اسم الاستجابة الحرجة
Reaction Critique
حيث تبدي القلة استماتة في الدفاع والهجوم، تؤدي إلى النجاح ، ثم إن تلك الظاهرة معروفة في بعض سلوكيات الطفل أمام خصم أكبر منه، وفي عالم الحيوان عند الدفاع مثلا عن مجاله الحيوي ...
8
هذا بينما نجد قراءة موضوعية واعية للكاتب والمؤرخ الإسلامي «أحمد شلبي»، تطلعنا على النبي عليه الصلاة والسلام كقائد عسكري ناجح، يأخذ بأسباب الظرف الواقعي في كل خطوة، فهو - فيما يقول «الدكتور شلبي» - «إذا أراد خوض معركة، كتم سر اتجاهه الذي يسعى إليه، حتى عن أقرب الناس إليه، ليفاجئ الأعداء بهجومه. وقد روي عن كعب بن مالك أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا أراد أن يغزو غزوة ورى بغيرها. وعن أنس أن رسول الله قبيل غزوة بدر هتف بأصحابه قائلا: إن لنا هدفا، فمن كان ظهره حاضرا فليركب معنا. وكان إذا عقد اللواء في سرية من السرايا لأحد أصحابه، يركز اللواء في فناء المسجد ويختار بعض الأبطال، ولا يحدد المكان لأمير السرية إلا عند التحرك، وأحيانا كان يكتب له كتابا ويطويه، ويأمر بالاتجاه نحو الشمال أو نحو الجنوب مثلا، وألا يفتح الكتاب إلا في مكان يحدده، وكل ذلك حتى لا يتسرب الخبر للعدو، فيبادر بالهجوم وتفشل الخطة.
ومما عني به الرسول أنه قبل المعركة، كان يبذل كل الجهد ليتعرف على أخبار العدو، حتى يأخذ للأمر عدته، وكان له جواسيس بمكة يأتونه بالأخبار. واهتم الرسول اهتماما بالغا بتنظيم الجيش تنظيما شمل مسيرة الجيش، وترتيبه، فهو يسير بجيشه وتكون مسيرته هو في آخر الركب ... وهو يلبس للحرب لباسه وعدته، ويحمل الجيش الألوية وتنشد الأناشيد للتشجيع والحماسة، ويتخذ للجيش كلمة سر ... وكان يضع كل فرد مع أفراد قبيلته ... وقد تأثر القادة المسلمون بأقوال الرسول وفعله تأثرا كبيرا، حتى ليروى أن عليا بن أبي طالب في غزوة بدر، التقى نوفل بن خويلد فصاح نوفل بعلي: أسألك بالله والرحم أن تكف عني، أنا أخو خديجة وخال فاطمة (وهي رواية سترد في غزوة أحد في الرواية الأرجح، حيث كف عنه علي فأمره النبي بقتله. والإشارة هنا مضافة من عندنا إلى كلام الدكتور شلبي)، فقال علي : لا قرابة بين مشرك ومسلم. وقتل أبو عبيدة بن الجراح أباه، وقال له وهو يطعنه: خذها في سبيل الله.»
9 (3) نتائج بدر الكبرى
يقول «البيهقي» معقبا على غزوة بدر، وما أدت إليه من نتائج:
وأذل الله بوقعة بدر رقاب المشركين، والمنافقين، فلم يبق في المدينة منافق ولا يهودي، إلا وهو خاضع عنقه لوقعة بدر.
10
وهكذا؛ وعلى الترتيب ترتبت نتائج غزوة بدر الكبرى، فأذل الله رقاب المشركين، ولم يكن ذلهم إلا بهزيمة ماحقة، قضت على الرءوس القرشية، رجال الملأ القرشي، الأمر الذي كان عسير التصديق عند رجال عرب ذلك الزمان، حتى إن النبي عندما بعث رجاله يسبقونه ببشرى النصر إلى يثرب، ولإلقاء الرعب في قلوب المتظاهرين بالطاعة، وفي أفئدة اليهود، بهتاف ينادي «قتل فلان وفلان، وأسر فلان وفلان، من أشراف قريش.» كان الرد المتسرع من «كعب بن الأشرف» وهو غير مصدق للخبر:
إن كان محمد قد قتل هؤلاء القوم، فبطن الأرض خير من ظاهرها.
11
ولعل مبلغ ذلك الانتصار البدري، يظهر واضحا في المدى الذي وصلت إليه قوة المسلمين، وتضاءلت بجانبه قوى يثرب جميعا، ثم يتضح في مقتل «كعب بن الأشرف» بعد ذلك، لما ذلف به لسانه؛ أما مكة فحالها يتضح في خروج «كنانة بن الربيع» يصحب «زينب» بنت رسول الله رضي الله عنها، نهارا جهارا أمام أعين قريش، وما دار من حوار بينه وبين «أبي سفيان»، يبرز مدى هوان قريش وانحطاط هيبتها. ويروي «ابن هشام» أن قريشا قامت تنوح على قتلاها، «ثم قالوا: لا تفعلوا فيبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بكم، ولا تبعثوا في أسراكم حتى تستأنوا بهم، لا يأرب عليكم محمد وأصحابه في الفداء.» وكان الأسود بن عبد المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده؛ زمعة بن الأسود، وعقيل بن الأسود، والحارث بن زمعة، وكان يحب أن يبكي على بنيه، فبينما هو كذلك إذ سمع نائحة من الليل، فقال لغلام له وقد ذهب بصره: انظر هل أحل النحب؟ هل بكت قريش على قتلاها؟ لعلي أبكي على أبي حكيمة - يعني زمعة - فإن جوفي قد احترق. قال: فلما رجع الغلام إليه قال: إنما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلته، فذاك حين يقول الأسود:
أتبكي أن يضل لها بعير
ويمنعها من النوم السهود
فلا تبكي على بكر ولكن
على بدر تقاصرت الجدود
على بدر سراة بني هصيص
ومخزوم ورهط أبي الوليد
وبكي إن بكيت على عقيل
وبكي حارثا أسد الأسود
وبكيهم ولا تسمي جميعا
وما لأبي حكيمة من نديد
ألا قد ساد بعدهم رجال
ولولا يوم بدر لم يسودوا
12
وهكذا ذهب سراة الناس وجدودهم في بدر، وألقيت أجساد رجال الملأ في القليب، وبقية من كبر وفخر كاذب تمنع قريشا من النواح على كبارها وأشرافها، بينما لم تجد امرأة أضلت بعيرها الوحيد حرجا في العويل والندب، فالفقر له أحكام غير أحكام الغنى والثراء، ومن ثم ومع اللوعة، أخذت قريش تدمر بيدها هيكلها الإنتاجي، المتمثل أهم جوانبه في أمن كل من دخل مكة، فتضرب في غضبها أمن كسبها. في رواية «ابن كثير» عن خروج «سعد بن النعمان» الأنصاري معتمرا إلى مكة، لنرى تلك العمرة ذات غرض واضح للجس والاختبار، ومعرفة مدى ما وصلت إليه أعصاب قريش، ومما ليس له معنى - في رأينا - أن ينزل أنصاري إلى مكة، وأفلاذ كبد مكة لم تزل دماؤها لينة طرية على أرض بدر، لولا غرض واحد يستحق ذلك. فيقول ابن كثير: «خرج سعد بن النعمان بن أكال، أخو بني عمرو بن عوف معتمرا، وكان شيخا مسلما في غنم له بالبقيع، فخرج من هنالك معتمرا، وقد كان عهد قريش أن قريشا لا يعرضون لأحد جاء حاجا أو معتمرا إلا بخير، فعدا عليه أبو سفيان بن حرب بمكة فحبسه بابنه عمرو، وقال في ذلك:
أرهط بني أكال أجيبوا دعاءه
تعاقدتم لا تسلموا السيد الكهلا
فإن بني عمرو لئام أذلة
لئن يكفوا عن أسيرهم الكبلا
ومشى بنو عمرو بن عوف إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فأخبروه خبره، وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبي سفيان فيفكوا به صاحبهم، فأعطاهم النبي، فبعثوا به إلى أبي سفيان، فخلى سبيل سعد.»
13
أما ما تبع ذلك من نتائج متوقعة لبدر الكبرى، فهو أن النبي عليه الصلاة والسلام قد أصبح مرموق الود من القبائل، وخاصة المتاخمة ليثرب، وتدفقت عليه الهدايا لكسب رضاه، مما وسع نطاق الدولة الوليدة وحدودها، بحدود القبائل الموادعة لها على كافة الطرق، وهو ما أضعف في المقابل جبهة مكة، التي لحق تجارتها ضرر جسيم، وهو الموقف الذي أخذ بالتفاقم مع مراجعة القبائل العربية لموقفها، بالنسبة لقريش، إزاء القوة اليثربية الجديدة. هذا بالطبع مع التحسن المطرد لأحوال المسلمين الاقتصادية، بعد أن وضعت بدر بيد المسلمين القوة المادية سلاحا ومالا، ومنحتهم الثقة النفسية والقوة المعنوية، التي مكنتهم من السيطرة شبه الكاملة داخل يثرب، فامتلئوا جرأة، وأخذوا بتأديب المخالفين في يثرب، وإلقاء الرعب في قلوبهم، ثم قتل أي شخص يتجرأ بمعارضة الدولة الطالعة، وذلك فيما يرى «الدكتور الشريف».
14
أما المصطفى
صلى الله عليه وسلم ، الذي اصطفاه ربه، فقد جاءت بشأنه الآيات الكريمة - بعد ذهاب الملأ - تقول:
وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع (النساء: 64).
من يطع الرسول فقد أطاع الله (النساء: 80).
إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا (النور: 51).
أما الأكثر بلاغة وتبليغا، وفيصلا قاطعا، فهو ما سجلته الآيات الكريمة بقولها:
قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء (آل عمران: 26).
ولعل العنصر اليهودي في المدينة، قد أدرك بما عهد به من حصافة، مغزى «الآخرين» في الآية الكريمة:
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم (الأنفال: 60).
وهو البيان الذي ستنبني به الأحداث اللاحقة، والمتلاحقة على صفحات تراثنا الإسلامي.
ومن بين أهل يثرب، أمسى أهل بدر ومقاتليها، هم المقدمين على غيرهم من مسلمين، وهو ما يشير إلى وقع الوقعة وقيمتها ونتائجها، ويظهر في عدد من الروايات حول ما حازة هؤلاء في الدولة الجديدة، «وكان النبي
صلى الله عليه وسلم
يكرم أهل بدر ويقدمهم على غيرهم، ومن ثم جاء جماعة من أهل بدر للنبي وهو جالس في صفة ضيقة، ومعه جماعة من أصحابه، فوقفوا بعد أن سلموا ليفسح لهم القوم فلم يفعلوا، فشق قيامهم على النبي
صلى الله عليه وسلم ، فقال لمن لم يكن من أهل بدر من الجالسين: قم يا فلان، قم يا فلان. بعدد الواقفين؛ فعرف رسول الله الكراهة في وجه من أقامه، فقال: رحم الله رجلا يفسح لأخيه. فنزل قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا (المجادلة: 11)، فجعلوا يقومون بعد ذلك. وخص أهل بدر بأن يزادوا في الجنازة على أربع تكبيرات تمييزا لفضلهم.»
15
وعليه، فقد كان لوقع الوقعة البدرية، وما أحدثته من تغير في موازين القوى، واشتداد عود الدولة الإسلامية الطالعة وصلابته، دور أساسي في ظهور ولاءات جديدة، اعتلى فيها المحاربون الأول والسابقون، سنام الحظوة في الدولة الإسلامية، حتى تم منحهم الجنة منحا مطلقا دون اعتبارات أخرى غير مشاركتهم في الوقعة البدرية. وهو ما نجد نموذجا له في حدث خطير، بعد زمن من بدر، قبل فتح مكة بأيام، عندما أرسل «حاطب بن أبي بلتعة» رسالة تحذير إلى أهل مكة بينما كان الرسول يجهز للفتح سرا، مع امرأة ذهبت تحملها إليهم، فأرسل النبي
صلى الله عليه وسلم
في إثرها جماعة على رأسها «علي بن أبي طالب» الذي يروي قائلا:
فأدركناها تسير على بعير لها، فقلنا الكتاب؟ فقالت: ما معي كتاب، فأنخنا بها والتمسنا في رحلها فلم نر كتابا، فقلنا: ما كذب رسول الله، لنخرجن الكتاب أو لنجردنك. فلما رأت أني أهويت إلى حجزتها وهي محتجزة بكساء، أخرجته فانطلقنا به إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فقال عمر: يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني أضرب عنقه. فقال رسول الله: أليس من أهل بدر؟ وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة وغفرت لكم. فدمعت عينا عمر رضي الله عنه وقال: الله ورسوله أعلم.
16
هذا مع نتائج أخطر على مستوى شكل الدولة الاجتماعي المقبل، كناتج لتعزيز سلطة النبي الحاكمة، وهو الأمر الذي أدى إلى تراجعات عن الأممية المطلقة، والأخوة المطلقة «المؤاخاة» التي كادت تكون مشاعا، وإلغاء نظام المؤاخاة، بعد ما حاز المهاجرون من نفل طيب، وأموال من فك الأسرى، لتطفر الدعوات الأولى للامتلاك والتبرجز، والتي بدأت ترغيبا في امتلاك كنوز كسرى وقيصر. كذلك سنرى فيما بعد، أن المشاركة في بدر كانت أساسا في الحصول على الهبات، ومقياسا للأعطيات، بعد أن اعتلى المحاربون السابقون مكانهم المتميز في الدولة، وبينما كان الباقون منهم على قيد الحياة يتحولون نحو الثراء والامتلاك، كان يتم استحضار روح الآيات المكية الأولى، التي كرست الملكية الفردية، وقدمت عقلنة واضحة للتفاوت الطبقي، من قبيل:
والله فضل بعضكم على بعض في الرزق (النحل: 71).
ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون (النحل: 75).
وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم (الأنعام: 165).
لتبدأ مرحلة جديدة على الخط الاستراتيجي، متجاوزة المرحلة التكتيكية المتحالفة مع المستضعفين، تستكمل خطها الأصلي، لكنها وهي بسبيل ذلك تشكل تراجعا محسوبا عن الأممية المطلقة، فتأخذ السمت الوسطي بين الأممية وبين الدعوة إلى الحفاظ على العلاقات العشائرية، والتوصية بذوي الأرحام، في طور متوازن عبرت عنه الآيات الكريمة بقولها:
وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس (البقرة: 143).
وهو التوجه الذي يفسر رواية أخرى عن «حاطب بن أبي بلتعة» - يجب قراءتها مقارنة بموقف سابق أعتق فيه «بلال» بعد شراء «أبي بكر» له لرفع الأذى عنه - والرواية تقول: إن «حاطبا» آذى عبدا مسلما له، فجاء العبد المسلم يحمل أذاه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، موقنا بحقه في المساواة المطلقة، وبحقه في ظل المبدأ الأممي الذي دفعه للرسول، غير شاك فيما يلزم عن المبدأ من مقررات حقوقية تستوجب التطبيق ، لينهي للرسول النتيجة التي توصل إليها، غير مدرك ما أدت إليه بدر من نتائج وتحولات، فيقول له:
ليدخلن «حاطب» النار.
لكن ليرد عليه النبي عليه الصلاة والسلام: كذبت لا يدخلها؛ فإنه شهد بدرا.
17
ثم لنلحظ أن «حاطبا» نفسه، هو من استمر في معاملة عبيده بالقسوة، وشدد عليهم النكير، وضيق عليهم إلى حد المسغبة، مما دفعهم - عام الرمادة زمن خلافة عمر بن الخطاب - إلى السطو على بعير له والتهامه، وهو ما دفع عمر، صاحب الانتماء القوي إلى المنزع الأممي، إلى تعنيف «حاطبا» تعنيفا شديدا، مع إيقاف تطبيق حد السرقة على عبيده.
ومن ثم فإن قراءة نتائج غزوة بدر، تلاحظ بداية الأسلوب الوسطي المتوازن للدولة بين النقائض، فتدعو لتوحد أممي تحت راية واحدة، وسيادة دولة موحدة، وتحت إمرة سلطة نبوية واحدة، لكنها تضم في شكلها الاقتصادي لونا طبقيا لا نزاع فيه، وتحوي في شكلها الاجتماعي قبائل متوحدة، لكنه توحد غير منفرط إلى فردية مطلقة، إنما ترابط لأضمومات قبلية في هيئة حزم موثقة بوثاق واحد في إطار الدولة، وهو ما تلحظه القراءة المدققة لنزول المسلمين إلى بدر تحت راية واحدة للرسول، وشعار واحد هو «يا منصور أمت.» لكنها انقسمت إلى رايات ثلاث تسير تحت ظل راية الرسول، وتنادت بثلاثة شعارات، تحت الشعار الموحد، فكان للخزرج رايتهم، وللأوس رايتهم، وللمهاجرين رايتهم، وكان لكل من الحزم الثلاث، نداءات شعاريه ثلاثة.
هذا بينما تم الإبقاء على الفردية والولاء الفردي والمسئولية الفردية، ولكن في عالم الفكرة، عالم السماوات الإلهي، العالم الآخر، في علاقة المسلم بربه، فتم تأجيل الفردية المطلقة بمسئولية الفرد الكاملة والذاتية إلى فيما بعد؛ لأن تلك المسئولية المطلقة إنما تعني أيضا حرية مطلقة، وهو ما يتصادم مع الصرامة المطلقة المطلوبة للسلطة النبوية لإقامة الدولة دون معوقات، وهو ما يفسر لنا تجاور الآيات التي تؤكد مسئولية الفرد عن أفعاله أمام الله، والآيات التي تؤكد من جانب آخر الجبرية والحد من تلك الحرية المطلقة، وتقييد تلك الحريات بالمشيئة الإلهية والإرادة القدرية، ومن ثم فقد تأجل تفجير الأطر القبلية تفجيرا كاملا إلى مرحلة مجتمعية أعلى، لكن مجرد وجود الفكرة عن الفردية المطلقة والمساواة المطلقة والمسئولية الفردية المطلقة أمام الإله في عالمه السماوي القادم فيما بعد، في الآخرة بعد البعث، إنما يشير بالتأكيد إلى تواتر الفكرة في المجتمع المدني والمكي حينذاك، وربما في عالم جزيرة العرب، بعد تفكيك الطبقية للشكل الجماعي والمسئولية الجماعية القبلية، وأن الواقع قد أفرز الفكرة، وأنها كانت مطروحة بالفعل في زمانها.
وعليه؛ فقد ظهرت الفردية ومسئوليتها بالفعل، ولكن كفكرة، في مجال القوة، وكممكن قادم في عالم الفعل، لكن في تطور قادم، وهو ما يظهر المرحلة الآنية كجزء من الحركة الانتقالية، وكدرجة أعلى تم ارتقاؤها داخل المرحلة الانتقالية ذاتها، تتلاءم ومعطيات مجمل ظروف الواقع آنذاك، وهو الأمر الذي سيتيح للنبي التحرك داخل ذلك التوازن بين النقائض دون مشاكل. فجاءت التنظيرة لا تصادم الواقع ولا تفرض عليه ما لم يتهيأ له تماما بعد؛ مما سيمكن مؤسسة الدولة من استخدام الأممية دوما، والعشائرية أحيانا، في موضعها المناسب من الظروف المتغيرة، لتحقيق أهداف أكثر نفعا، حين الحاجة إلى أي منهما وحسب الطارئ وظروفه، وما يستدعيه من حاجة إلى أي من الطرفين النقيضين.
وتأسيسا على كل ذلك، فإن غزوة بدر، قد أفضت إلى نتائج هائلة على المستوى النظري والعملي، وحددت مواقف كثيرة، كان الإفصاح عنها مؤجلا حتى يأتي الله بأمره. وكان أهم ما حققته هو وضعها بداية النهاية لنظام قريش السياسي، في حكومة الملأ شبه الجمهورية البدائية، بالقضاء على سادتها المترفين من الملأ والسادة، المنافس الحقيقي لفكرة الدولة الواحدة، وهو ما سيتم تثبيته بعد زمن، بالاعتماد على ذلك التوازن بين النقائض، في مملكة وراثية كبرى، ستمسك بأعنتها قبيلة قريش، قبيلة النبي، والأرستقراطيون فيها تحديدا من البيت الأموي، وهي العودة التي ما كانت لتتم لولا العودة إلى الرحم وصلات العشيرة، التي صبت الأمر بيد الطبقة التي سيتطور شأنها ويتم دعمها بالتدريج خلال حياة الرسول نفسه، وهو ما أدى إلى وضع الشروط السياسية للسلطة المتوازنة للدولة التي انتهت لمركزية متوارثة صارمة .
وبسبيل حدوث ذلك، ستبدأ الدولة تفصح تدريجيا عن وجهها الطبقي دون مواربة، ليهدأ تنديد الآيات بالثروة وأصحابها، مع خفوت متساوق في حديثها عن المستضعفين في الأرض، ولكن ليظل التوازن بين النقيضين وعدم حسمه وسيلة بيد المستضعفين، عندما يرتدي الصراع الطبقي زيه العشائري، في صراع علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، وفي عدد آخر من ثورات المستضعفين ضد الدولة، والذي ارتدى عادة زيه الفاطمي والهاشمي والعباسي، العشائري أيضا.
الباب الثاني
أحد
ثأر قريش
السياسة بعد بدر الكبرى
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين . (آل عمران: 85)
عن ابن إسحاق راوي السيرة النبوية أنه قال:
ولما قدم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
المدينة، مرجعه من بدر ... لم يقم بالمدينة إلا سبع ليال، حتى غزا بنفسه يريد بني سليم.
وقال الواقدي: ... فلما أتاه وجد الحي خلوفا، فاستاق النعم، ولم يلق كيدا، فأقام عليه ثلاث ليال، ثم رجع إلى المدينة.
1
وعليه، فإن السياسة العسكرية الواضحة، تشير إلى أنه بعد قطع الرءوس من شيوخ قريش وسراتها، اتجه الجيش الإسلامي نحو القبائل الكبرى في باطن الجزيرة لإخضاعها لدولته، وإرهابها لتئوب إلى حلف يثرب، إمعانا في تقطيع أوصال الإيلاف القرشي لصالح الدولة الجديدة. أما حديث «الواقدي» هنا، فيشير إلى الأثر العظيم لوقعة بدر في نفوس أعراب بني سليم، تلك القبيلة التي لا يستهان بها، إلى الحد الذي هربوا فيه من مضاربهم لمجرد سماعهم بمقدم المسلمين، وتركوا ديارهم وأنعامهم، ليقيم المسلمون على مياههم وحياضهم ومضاربهم أياما ثلاثة، يعودون بعدها إلى يثرب بغنيمتهم آمنين.
وتشير الأخبار إلى مسير آخر للنبي
صلى الله عليه وسلم
إلى سليم، بعد أن رنا إلى علمه اجتماع سليم وغطفان بحلف يريد الانتقام، ومرة أخرى تهرب سليم هربا غير كريم وتترك حيها:
فلما سار إليه لم يجد به أحدا ... فوجد خمسمائة بعير مع الرعاة، فحازوها وانحدروا بها نحو المدينة ... فأخرج خمسه، وقسم الأربعة أخماس على أصحابه.
2
وتخميس الغنائم هنا يعود إلى أمر الوحي:
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول (الأنفال: 41).
وهي الحصة التي سبق واشترعها لأول مرة، ابن عمة الرسول «عبد الله بن جحش» في سريته إلى نخلة، والتي خرق فيها الأشهر الحرم، واستولى على مغانم القافلة، وكانت أول غنم للمسلمين، ثم قال لرفاقه:
إن لرسول الله مما غنمناه الخمس، ثم فرق الباقي بينه وبين أصحابه. وهو ما جاء الوحي بعد ذلك مصدقا عليه في الآية السالفة.
3
هذا بينما كان الحال في مكة غير الحال في يثرب، فكانت مكة موتورة بقتلاها، حائرة في أمرها وأمر مهابتها وتجارتها وهو ما يعني كل مصيرها، ولما وصل «أبو سفيان» بقافلته، التي كانت سبب بدر الكبرى، ورأى قريشا تعود فلولا منهزمة وهو لا يستطيع شيئا، وهو صاحب اللواء والعسكر، نذر بيمين مغلظ إزاء ما رأى من هوان، ألا يمس رأسه من جنابة حتى يغزو يثرب. ومعلوم في تراثنا، أن الغسل من الجنابة كان ميراثا في تقليد العرب من قديم، مثله مثل الصلاة على الموتى، ومثل الحج وشعائره،
4
وكذلك القسم باليمين، كان واجب الوفاء.
ولما طال الأمر بالرجل، وهو من السادة المرفهين، وكان غزو يثرب بحاجة إلى زمن وإعداد، لم يحتمل عدم الاغتسال، ولم يكن ممن يحنثون باليمين، وهو حنث عند العرب عظيم. فخرج على رأس مائتي راكب من قريش إلى يثرب متخفيا، يريد أن يبر فقط بقسمه حتى يغتسل، فحرقوا بعض النخل المتطرف، وقتلوا رجلين من فلاحي الأنصار كانوا في حرثهما، ثم عادوا هاربين إلى مكة، فخرج النبي عليه الصلاة والسلام مع رجاله في إثرهم، مما اضطر رجال أبي سفيان إلى إلقاء ما معهم من قرب السويق للتخفف والسرعة، والسويق هو حنطة تحمص وتطحن وتمزج بالسمن واللبن والعسل، وتتخذ زادا في السفر، فغنمها المسلمون، لذلك سميت تلك الغزوة «غزوة السويق».
5
ولا يمضي شهر حتى يخرج النبي برجاله لتأديب غطفان على حلفها مع سليم، في الغزوة المعروفة بغزوة «ذي أمر»، وهنا تحكي كتب السير أن غطفان وجدت السلامة في تصرف بني سليم:
وهربت منه الأعراب فوق ذرى الجبال ، ونزل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ذا أمر، وعسكر به، فأصابهم مطر كثير، فذهب رسول الله لحاجته، فأصابه ذلك المطر فبلل ثوبه، فجعل رسول الله وادي ذي أمر بينه وبين أصحابه، ثم نزع ثيابه فنشرها لتجف، وألقاها على شجرة ثم اضطجع تحتها، والأعراب ينظرون إلى كل ما يفعل رسول الله
صلى الله عليه وسلم .
ثم عاد عليه الصلاة والسلام إلى يثرب، بعد أن أقام هناك شهر صفر كله، إرهابا لهم.
6
ولم تمض سوى أيام حتى خرج إلى بني سليم، الطرف الثاني في حلف «غطفان- سليم»، في غزوة ثالثة، حتى بلغ «بحران»، وليقيم هناك شهر ربيع الآخر وشهر جمادى الأولى، يستعرض قوة المسلمين وينشر هيبتهم، دون أن يتجرأ عليه أحد، ثم عاد إلى يثرب.
7 (1) تناقضات يثرب
وهكذا بات غير خاف عن الأعراب، أن أحوال المسلمين قد تبدلت، وصاروا يخرجون ذرافات في سرايا لا تنقطع لقطع طريق الإيلاف، وطرق التجارة الداخلية، وللإغارة على القبائل في مواطنها لإرهابها لقطع موالاتها لمكة، وإخضاعها للدولة الإسلامية. لكن رغم كل هذا، فإن يثرب من الداخل لم تكن خالصة تماما لصاحب الدعوة، وكان كل ما حدث من قبل، وبخاصة الصحيفة، مجرد تسكين مؤقت للأوضاع حتى يأتي الله بأمره. وبعد بدر بدأ الظرف يتغير، وفقدت المصلحة المشتركة بين اليهود والمسلمين، وأخذت السياسة طريقا جديدا. فالسلاح قد فاض بعد بدر ولم تعد الحاجة ملحة لسلاح اليهود، والمال قد جاء من فداء الأسرى المكيين، والأممية إلى تضخم يضيق بالإطار القديم ويتناقض معه. وتحويل يثرب إلى دولة تناوئ دولة مكة، كان لا بد أن يسبقه إزالة التناقضات الداخلية، بجمع شمل المدينة جميعا، ونقلها عن كونفودرالية تحالفية، إلى مؤسسة سياسية مركزية واحدة جامعة، تتجاوز القبائل المتحالفة إلى الدولة الموحدة.
ولما كان التناقض في يثرب يتجاوز القبلية إلى العنصرية الدينية، فقد كان لا بد من حسم في الموقف السياسي نحو توحيد لكل العناصر، أو تخليص يثرب من العناصر المناقضة للتطور الجديد. ومن ثم كان لا بد من موقف باتر لكل لون من المعارضة الداخلية كخطوة إجرائية أساسية، خاصة إذا جاءت تلك المعارضة من الجانب الذي يمثل اختلافا أيديولوجيا غير مرجو الانضواء للدولة. وهنا نقرأ ما حدث بعد إصابة الملأ المكي في بدر، والفزع الذي أصاب يهود النضير مصحوبا بالحزن والأسى، ممثلا في قول «كعب بن الأشرف»:
أترون محمدا قتل هؤلاء؟ فهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس! والله لئن كان محمد قد أصاب هؤلاء القوم، لبطن الأرض خير من ظاهرها.
ثم أخذ يرسل نحيبه الباكي شعرا يرثي صرعى القليب ويقول:
طحنت رحى بدر لمهلك أهله
ولمثل بدر تستهل وتدمع
قتلت سراة الناس حول حياضهم
لا تبعدوا؛ إن الملوك تصرع
كم ذا أصيب به من ابيض ماجد
ذي بهجة يأوي إليه الضيع
صدقوا؛ فليت الأرض ساعة قتلوا
ظلت تسوخ بأهلها، وتصدع
وهنا قام شاعر الرسول «حسان بن ثابت» يكيل لكعب بن الأشرف الرد قائلا:
فابكي، فقد أبكيت عبدا راضعا
شبه الكليب إلى الكليبة يتبع
ولو شفى الرحمن منا سيدا
وأهان قوما قاتلوه وصرعوا
فرد كعب مرة أخرى ينادي المسلمين أن يردوا حسانا عن الشتم والإيذاء بقارص الكلم، وأنه ما بكى بشعره القوم إلا لود كان بينهم في قوله:
ألا فازجروا منكم سفيها لتسلموا
عن القول بأني غير مقارب
أتشقني إن كنت أبكي بعبرة
لقوم أتاني ودهم غير كاذب
فإني لباك ما بقيت وذاكر
مآثر قوم مجدهم بالجباجب.
8
وهنا يروي ابن كثير أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قد هتف قائلا:
من لي بابن الأشرف؟
فنهض محمد بن مسلمة يقول:
أنا لك يا رسول الله، أنا أقتله.
9
ويحكي البيهقي مفصلا «إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: اللهم اكفني ابن الأشرف. فقال له محمد بن مسلمة: أنا يا رسول الله أقتله، فقام محمد بن مسلمة منقلبا إلى أهله، فلقي سلكان بن سلامة، فقال له محمد بن مسلمة: إن رسول الله قد أمرني بقتل ابن الأشرف، وأنت نديمه في الجاهلية، ولم يأمن غيرك، فأخرجه إلي لأقتله. فخرج سلكان ومحمد بن مسلمة وعباد بن بشر وسلمة بن ثابت وأبو عيسى بن جبر (ومشى معهم رسول الله إلى بقيع الغرقد ثم وجههم وقال انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم)، حتى أتوه في ليلة مقمرة، فتواروا في ظلال جذوع النخيل. وخرج سلكان فصرخ: يا كعب. فقال له كعب: من هذا؟ فقال له سلكان: هذا أبو ليلى يا أبا نائلة (وكان كعب يكنى أبا نائلة) فقالت امرأته: لا تنزل يا أبا نائلة، إنه قاتلك. فقال: ما كان أخي ليأتيني إلا بخير، ولو يدعى الفتى لطعنة لأجاب. وأدخل سلكان يده في رأس كعب وشمها فقال: ما أطيب عبيركم هذا! ثم صنع ذلك مرة أو مرتين حتى أمنه، ثم أخذ سلكان برأسه أخذة نصله منها، فجأر عدو الله جأرة رفيعة، وصاحت امرأته وقالت: يا صاحباه! فعانقه سلكان وقال: اقتلوني واقتلوا عدو الله. فلم يزالوا يتخلصون بأسيافهم حتى طعنه أحدهم في بطنه طعنة بالسيف، خرج منها مصرانه، وخلصوا إليه فضربوه بأسيافهم. فقتل الله عز وجل ابن الأشرف.»
10
وزعم الواقدي أنهم جاءوا برأس كعب بن الأشرف إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وفي ذلك يقول كعب بن مالك:
فغودر منهم كعب صريعا
فذلت بعد مصرعه النضير
على الكفين ثم وقد علته
بأيدينا مشهرة ذكور
بأمر محمد إذ دس ليلا
إلى كعب أخا كعب يسير
فماكره فأنزله بمكر
ومحمود أخو ثقة جسور
11 (ويقول البيهقي إن كعبا في كلام له كان قد شبب بنساء المسلمين!)
12
ولكن شعر «ابن مالك» هنا يصل إلى غاية المراد في تأكيده (فذلت بعد مصرعه النضير)، أحد أهم قبائل يهود يثرب، بموت سيدها. ومن الجدير بالذكر أنه في زمن خلافة معاوية بن أبي سفيان، ذكر قتل «كعب بن الأشرف» عنده، فقال «ابن يامين» وكان يهوديا أسلم في غزو النبي للنضير: لقد كان قتله غدرا. وسكت معاوية ولم يعقب كما لو كان راضيا عما يقال، أو سامعا للقصة كما تروى بموضوعية لا مجال فيها للمجاملة، وكان «محمد بن مسلمة» قاتل «كعب» حاضرا رواية «ابن يامين» لمعاوية، فنهض ثائرا يقول: يا معاوية، أيغدر عندك رسول الله ثم لا تنكر، والله لا يظلني وإياك سقف بيت أبدا، ولا يخلو لي دم هذا إلا قتلته.
13
وبعد مقتل «كعب»، وعودة الرجال، قام النبي ينادي ورجع الصدى منه يسري مجلجلا:
من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه.
ومن ثم يروي ابن هشام:
فوثب محيصة بن مسعود من الخزرج، على ابن سنينة، رجل من تجار يهود، كان يلابسهم ويبايعهم، فقتله. كان حويصة بن مسعود «أخو محيصة» إذ ذاك لم يسلم، وكان أسن من محيصة، فلما قتله جعل حويصة يضربه ويقول: أي عدو الله قتلته، أما والله لرب شحم في بطنك من ماله. قال محيصة: والله لقد أمرني بقتله، من لو أمرني بقتلك، لضربت عنقك. قال أوالله لو أمرك محمد بقتلي لقتلتني؟ قال نعم. فأسلم حويصة.
14
وعليه؛ آذن فجر الأيام البدرية، بمغرب مرحلة آن غروبها، وأخذت آيات القرآن تتتالى تحمل روح السياسة الجديدة، تنسخ ما قد سلف من آيات المرحلة السابقة، بآيات تنبئ بما هو آت، توطئة لخلاص يثرب الكامل لسادتها الجدد.
نعم، قالت الآيات في المرحلة السابقة يقينا:
إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (االبقرة: 62).
إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور (المائدة: 44).
وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله (المائدة: 43).
لكن السياسة الجديدة، جاءت بقرارات جديدة وحاسمة تقول:
إن الدين عند الله الإسلام (آل عمران: 19).
أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها (آل عمران: 83).
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه (آل عمران: 85).
وهي السياسة التي ابتغت انضواء اليهود الكامل، السياسي، والعقدي، بحيث لا يكونون أحلافا على ذات القدر من الندية السياسية والدينية. أو العمل على إجلائهم عن يثرب، أو استئصال شأفتهم. وهو الأمر الذي سيتم تحقيقه بإصرار ودون هوادة، والذي كان سببه الوضع الخاص لليهود كأصحاب كتاب سماوي، ودستور عقدي، وهو ما جعلهم المنكر السماوي الحي لنبوة النبي العربي، وهو ما كان يشكل خطرا دائما وحقيقيا على الدولة وأيديولوجيتها.
وهنا تروي لنا كتب السير قصة غزوة «بني قينقاع»، تلك القبيلة اليهودية التي يصف المؤرخون المسلمون رجالها بأنهم «كانوا أشجع يهود، وكانوا صاغة، وكانوا حلفاء عبادة بن الصامت، وعبد الله ابن أبي بن سلول.»
15 (2) غزوة قينقاع
عن ابن عباس قال:
لما أصاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قريشا يوم بدر، فقدم المدينة، جمع يهود في سوق قينقاع فقال: يا معشر اليهود، أسلموا قبل أن يصيبكم بمثل ما أصاب قريشا.
16
فكان رد قينقاع المتحدي:
يا محمد إنك ترانا كقومك؟! لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة. إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس.
17
وهنا يعلن «الواقدي» ما كان مقدور الحدوث في باطن الأيام بقوله: «فحاصرهم رسول الله خمس عشرة ليلة، لا يطلع فيهم أحد، ثم نزلوا على حكم رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فكتفوا وهو يريد قتلهم.»
18
ويتقدم رواة السير المسلمون بتقديم التبرير الذي رأوه مناسبا لنقض الصحيفة، والسير إلى قينقاع وأسرهم. بحكاية عن امرأة عربية، ذهبت تبتضع في سوق قينقاع، فتلاعب بها شباب اليهود، بأن ربطوا ذيل ثوبها بظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها فضحكوا منها، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ اليهودي فقتله، فشد اليهود على المسلم فقتلوه.
19
ومثل تلك القصة التبريرية واضحة الضعف والوهن، فالمرأة العربية التي سببت تلك الوقعة الهامة في تاريخ الدولة الإسلامية، لا ذكر لاسمها، ولا لقبيلتها، ولا ما إذا كانت مسلمة أم لا؟ ولا نعرف اسم الصائغ اليهودي، ولا من هؤلاء الذين تلاعبوا بها، بل والأخطر لا نعلم اسم ذلك المسلم الذي استشهد وهو يدافع عن المرأة، ولا إلى أي قبيلة ينتمي، ولم تزعم قبيلة أنه قد حدث مثل ذلك لأحد من رجالها. وهو الأمر الذي يخالف ما ألفناه مع المتفق عليه بكتب الأخبار والسير. والقصة بكاملها - في رأينا - مختلقة، صيغت على مثال نموذج قديم حدث زمن حرب الفجار الأولى وكان سببا لها. وقد لاحظ الحلبي راوي السيرة ذلك التشابه بين الحادثتين، فتطوع بتذكير القارئ الفطن بقوله: «وقد تقدم وقوع مثل ذلك وأنه كان سببا لوقوع حرب الفجار الأولى.»
20
وربما وافقنا قارئ حصيف في رفضنا للقصة أعلاه، إذا ما أحطناه علما بالتبرير الحقيقي لما حدث، وهو ما جاء مرويا عن «الزهري» عن «عروة»:
نزل جبريل على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بهذه الآية:
وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين (الأنفال: 58). فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : أنا أخاف من بني قينقاع فسار إليهم، ولواؤه بيد حمزة.
21
ولما كان يهود قينقاع، حلفاء للخزرج وسيدهم عبد الله ابن أبي بن سلول، فقد قام عبد الله وهو يرى حلفاءه يساقون إلى الذبح مكتفين، بعد أن استسلموا، ليخاطب النبي ويقول: يا محمد أحسن في مواليي. فلم يرد عليه النبي. فقام يكرر: يا محمد أحسن في مواليي. ومرة أخرى يعرض عنه النبي. فيأخذ الغضب بعبد الله حتى يدخل يده في جيب درع الرسول يمسكه من لحمه الشريف وهو يقول: يا محمد أحسن في مواليي. حتى غضب النبي غضبا شديدا، ورؤي لوجهه ظلل وهو يقول لعبد الله: ويحك، أرسلني، أرسلني. بينما ابن سلول لا زال ممسكا به ويقول: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في مواليي، أربعمائة حاسر، وثلاثمائة دارع، قد منعوني من الأحمر والأسود من الناس، تحصدهم في غداة واحدة؟ إني والله امرؤ أخشى الدوائر! وهنا قال له النبي: هم لك.»
22
وهكذا ألغي الأمر النبوي بقتل بني قينقاع، لكن شرط جلاءهم من المدينة خلال أيام ثلاثة لا تزيد. وبالفعل لم تمض الأيام الثلاثة حتى كان بنو قينقاع يحملون متاعهم راحلين، تاركين مزارعهم وحصونهم وما لم يقدروا على حمله، متجهين إلى أذرعات ببلاد الشام. وبذلك كان أول صدام بين النبي وبين يهود المدينة، وأول قرار يصدر يؤكد سيادة الرسول ويعني قيام حاكم واحد لدولة المدينة، وهو القرار الذي أدى دورا عظيما في انكماش بقية المعارضين في يثرب لسلطان الدولة الجديدة، كما أدى من جانب آخر إلى تقليم أظافر «ابن سلول» وإضعاف مركزه ، بهجرة حلفائه الذين كانوا حماية له من الأحمر والأسود من الناس، أي من اليهود والعرب. ويكفي أن نعلم مدى ذلك الأثر على «ابن أبي»، في فارق الساعات ما بين إمساكه بلحم جنب النبي الشريف، وإصراره على مطلبه، وبين مغادرتهم يثرب بقرار آخر، ما إن سمعه «ابن أبي» حتى عاد مسرعا إلى النبي ليسأله بقاء قينقاع في يثرب، فحال بينه وبين الدخول إلى النبي جماعة من الصحابة، فلما حاول الدخول دفعوه إلى الحائط فشج وجهه، بينما قينقاع ينظرون ينتظرون آملين في نتيجة المحاولة. فلما ضرب «ابن أبي» بالحائط وشج، ذهبت قينقاع في طريقها وهي تقول: والله لا نمكث في بلد يفعل فيه ذلك بأبي الحباب، ولا نستطيع أن ننتصر له. وغادروا يثرب، بل والجزيرة جميعا إلى الشام.
23
وقد عقبت الآيات على موقف «ابن سلول» بقولها:
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين *فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين (المائدة: 51، 52).
أما «الحلبي» كاتب السيرة، فلم يرض - فيما يبدو - بخروج قينقاع سالمين من يثرب، والرجوع عن قتلهم، فقال إن النبي دعا عليهم بالهلاك، فما بلغوا أذرعات الشام، حتى هلكوا جميعا بتلك الدعوة.
24
وهكذا ذلت النضير بمقتل «كعب بن الأشرف»، وغادرت قينقاع، وقلمت أظافر «ابن سلول» وشج وجهه أمام حلفائه وأهله. في الوقت الذي استمرت فيه السياسة العسكرية على طريق الإيلاف، حتى جاءت سرية ذي قرد، لتكشف المدى الذي وصلت إليه قريش من هوان. ويروي لنا الطبري أنها كانت في جمادى الآخر عام ثلاثة للهجرة، عند مياه في نجد تدعى ماء القردة من بطن عالج. والقصة «أن قريشا خافت طريقها التي كانت تسلك إلى الشام، فسلكوا طريق العراق، فخرج منهم تجار فيهم أبو سفيان بن حرب ومعه فضة كثيرة، وبعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم
زيدا بن حارثة، فلقيهم على ذلك الماء، فأصاب تلك العير وما فيها، وأعجزه الرجال، فقدم بها على رسول الله، فكان الخمس عشرين ألفا، فأخذه رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وقسم الأربعة أخماس على السرية.»
25
وهنا قام حسان بن ثابت ينادي العرب، يخبرهم بشأن قريش وجبنها، ساخرا من خوفها ورعبها قائلا:
فلجأت الشام قد حال دونها
جلاد كأفواه المخاض الأوارك
بأيدي رجال هاجروا نحو ربهم
وأنصاره حقا وأيدي الملائك
إذ سلكت الغور من بطن عالج
فقولا لها ليس الطريق هنا لك.
26
وكانت السبة عظيمة، والخسارة أعظم، ومجريات الأحداث التي تجري مع سرايا يثرب تحمل لقريش خرابا تاما مقبلا، وما كان الانتظار بعد ذلك ممكنا، فقامت قريش تتهيأ لحماية تجارتها ومصيرها، وتثأر لكرامتها المهدورة، تريد ضرب المدينة والقضاء على هؤلاء الذين خرجوا منها متسللين، لتقوى شوكتهم حتى درجة القضاء على السادة، وطريق التجارة العالمي، وذلك في الغزوة الكبرى المعروفة باسم غزوة أحد.
الهزيمة
فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين أبشروا. هذا رسول الله، فأشار إلي: أنصت.
كعب بن مالك الأنصاري
وبأحد تبدأ المرحلة الرابعة من مراحل تطور الدولة الإسلامية، التي تنتهي عند صلح الحديبية، ويروي لنا «ابن كثير» كيف بدأت حرب أحد بين المسلمين والمشركين في قوله: «لما أصيب يوم بدر من كفار قريش أصحاب القليب، ورجع فلهم إلى مكة ... مشى ... رجال من قريش ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر، فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش، إن محمدا قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا ندرك منه ثأرا. ففعلوا. قال ابن إسحق: ففيهم ... أنزل الله تعالى:
إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون (الأنفال: 36). ... فاجتمعت قريش لحرب رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، حين فعل ذلك أبو سفيان وأصحاب العير بأحابيشها، ومن تابعها من بني كنانة وأهل تهامة، وخرجوا معهم بالظعن (النساء ) التماس الحفيظة، وألا يفروا.»
1
ويستكمل «برهان الدين الحلبي» في سيرته فيقول: «وبلغ رسول الله عليه الصلاة والسلام ذلك، أرسل به إليه عمه العباس، بعد أن راودوه على الخروج معهم، فاعتذر بما لحقه من القوم يوم بدر، ولم يساعدهم بشيء. وذلك في كتاب جاء إليه
صلى الله عليه وسلم ، وهو بقباء، أرسله العباس مع رجل استأجره من بني غفار، وشرط عليه أن يأتي المدينة في ثلاثة أيام بلياليها، ففعل. ويقال: إن عمرو بن سالم الخزاعي مع نفر من خزاعة، فارقوا قريشا من ذي طوى، وجاءوا النبي
صلى الله عليه وسلم
وأخبروه خبرهم، وانصرفوا.»
2
وعليه، فقد بلغت أخبار مسير قريش رسول الله
صلى الله عليه وسلم
برسالة عاجلة من عمه العباس، الذي كان عينا له مع بعض بني هاشم على قريش، إضافة إلى هوى خزاعة مع النبي، التي كانت عضوا بقبائل الإيلاف، وظلت على إيلافها مع قريش لتتسقط أخبار قريش للنبي. وهو ما يفصح به «عبد الله بن أبي بكر» في قوله: «كانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبة رسول الله، أي موضع سره وعيونه على قريش.» وبخاصة «معبد الخزاعي» الذي لم يكن مؤمنا بدعوة الإسلام، فيما تخبرنا به صدور كتب الأخبار.
3
ولما بلغت الأنباء رسول الله والمسلمين، فرح المسلمون، ورأى من لم يخرج منهم إلى بدر فلم يصب مغنما، أن له نفلا في وقعة قريبة، فيروي «ابن هشام»: «فقال رجال من المسلمين، ممن كان فاته بدر: يا رسول الله؛ اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا.»
4
هذا بينما كان «عبد الله ابن أبي بن سلول»، ذلك الذي تصفه كتب السيرة بأنه زعيم المنافقين، يرى غير ذلك. والجهاد عنده هو الجهاد سواء داخل المدينة أم خارجها، ولا يجد - وهو الرجل الموسر - في المغانم رغبة، قدر ما كانت نظرته تقدم على رؤية تعمل الخبرة القتالية، والحكمة العسكرية. وكان الخروج من المدينة إلى «أحد» حيث عسكر المشركون على بعد ما لا يزيد عن ثلاثة أميال من المدينة، يعني لابن سلول هزيمة محققة للمسلمين . ومن هنا تقدم بالرأي يقول:
يا رسول الله؛ أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم؛ فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا، أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا.
5
وقامت الأنصار بدورها تقول:
يا رسول الله؛ ما غلبنا أحد أتانا في دارنا، فكيف وأنت فيها؟
6
ومع ذلك، ظل الراغبون من المتحفزين للنفل، أو للقاء الله، على حميتهم للخروج إلى قريش، وظلوا بالنبي يحفزونه حتى قام فلبس لباس الحرب، فوضع البيضة على رأسه وتدرع بدرعين، وكان ذلك يوم الجمعة من شوال، من السنة الثالثة للهجرة.
وخرج المسلمون، ولكن على مشارف المدينة، لا أكثر من ميل منها، قرر «ابن أبي» العودة بأتباعه وهو سيد الخزرج، فناداهم بقوله:
ارجعوا أيها الناس، عصاني وأطاع الولدان، وما ندري علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس؟
7
ورجع «ابن سلول» بمن تبعه من قومه «من أهل النفاق والريب، وكانوا ثلث الناس، حوالي ثلاثمائة رجل.»
8
مما يشير إلى أن مجموع المسلمين الذين خرجوا إلى أحد كان تسعمائة مقاتل، مقابل ما تخبرنا به كتب الأخبار عن عدد مقاتلي مكة الذين زادوا عن الثلاثة آلاف. وهو موقف بالمقاييس العسكرية وحدها، كان يفسر - بعقلية عسكرية كعقلية «ابن سلول» - بأنه لون من الانتحار المؤكد، وأتى واضحا في قوله: «علام نقتل أنفسنا ها هنا؟» ومن ثم نستطلع وضع الجيشين في كتب الأخبار فتقول: «حتى إذا كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بالشوط من الجبانة، انخزل عبد الله بن أبي بقريب من ثلث الجيش، ومضى النبي وأصحابه وهم في سبعمائة، وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف، ومعهم مائتا فرس، جنبوها. وجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل، فكان أصحاب رسول الله فرقتين؛ فرقة تقول: نقاتلهم. وفرقة تقول: لا نقاتلهم.»
9
ومن ثم فكان حال الجيش الإسلامي، كحال قريش في بدر، منقسم على نفسه ، لكنه في أحد، كان لا يشكل أكثر من ربع جيش قريش. وهي عوامل موضوعية، كانت كفيلة لمن يقرؤها أن يتنبأ بهزيمة ماحقة للمسلمين، وهو ما قرأه «ابن أبي» الذي صقلته الحروب بالحنكة العسكرية، فنصح بعدم الخروج، ثم رأى إنقاذ أتباعه فعاد بهم إزاء وقعة هي في رأيه لون من الانتحار. ولا شك أن عودته كانت من جانب آخر ضغطا على المسلمين ليتراجعوا إلى المدينة. وكان مثل ذلك الموقف كفيلا بوضع «ابن سلول» في التاريخ الإسلامي كرأس للمنافقين، وهو ما عبرت عنه عبارة ابن هشام:
فرجع بمن اتبعه من قومه، من أهل النفاق والريب.
10
وهكذا تم وصف ثلث المقاتلين المسلمين أنصار رسول الله وأخواله، بأنهم منافقون، يرتابون في نصر الله لنبيه. وربما كان ذلك الوصف الذي دمغ به ثلث المسلمين، راجعا لكون «ابن سلول» وأتباعه لم يأخذوا في اعتبارهم إلا معطيات الواقع الأرضي فقط، دون ما أنزل الله تعالى وتبارك من وعد وبشرى حيث يقول:
سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب (آل عمران: 151).
وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم *إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون *ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون *إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين *بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين (آل عمران: 121-125).
ومن ثم؛ فإن موقف «ابن سلول» إنما يعني عدم أخذه الوعد الإلهي مأخذ الجد، واعتماده معطيات الواقع فقط في اتخاذ القرار، مما يشير إلى عدم إيمان حقيقي. لكن الواجب هنا التنبيه إلى أن «ابن سلول» وهو يدعو إلى عدم الخروج من يثرب، وإشارته إلى أنه ما هاجمها أحد وانتصر، إنما يعني اعتمادا واثقا على حصانة يثرب، وما بها من حصون وآطام. كما يعني أن الرجل يغامر بمدينته وأهله بالكامل في حال انتصار المهاجمين، وهو احتمال وارد أمام العدد الهائل لجيش قريش، وإن كان ضعيفا . وهي مغامرة قبلها على بلده وأهله، مع خيار النصر المحتمل في رد المهاجمين، مفضلا ذلك على أن تنزل بالمسلمين إذا خرجوا هزيمة محققة، قد يفنى فيها الرجال جميعا. وهو نصح لو أخذناه بإنصاف لأنصفنا الصدق والحق على الأقل؛ خاصة أن ما حدث في وقعة أحد بعد ذلك، كان هزيمة حقيقية للمسلمين على مستويات عدة.
وكانت تلك الهزيمة النكراء لجيش المسلمين، مدعاة لمحاولة بعض المفسرين القول: إن وعد الآيات بالإمداد بالثلاثة وبالخمسة آلاف ملك، كان يوم النصر البدري، وليس يوم أحد. بينما وقف آخرون موقفا صارما، يلتزم التاريخ وأسباب النزول وسياق الآيات في السور مقارنا بالحدث، بحجج فقهية تؤكد أن الآيات نزلت في أحد تحفيزا للمسلمين. أما السر في عدم انتصار المسلمين - رغم هذا المدد العظيم، وهو ما كان يعني عدم نزول الملائكة، لأنهم لو جاءوا لحققوا نصرا سهلا دون جهد يذكر من المسلمين - فهو أن الإمداد كان معلقا بشرط، هو التقوى ومصابرة عدوهم. لكن المسلمين لم يصبروا بل فروا، فسقط الشرط، فتوقف الإمداد، ولم يمدوا بملك واحد. أما ذكر بدر في الآيات السالفة فقد جاء اعتراضا في سياق آيات أحد، تذكيرا بنعمة الله على المؤمنين ونصره لهم في بدر رغم ضعفهم ومذلتهم، ليحفزهم على خوض أحد بذات الثقة في نصر الله. مع حجة أخيرة تقول: إن القصة الواردة في سورة آل عمران هي قصة أحد وحدها مستوفاة مطولة، وإن مقارنتها بسورة الأنفال التي تعلقت ببدر، يقطع باليقين أن الآيات نزلت في أحد وليس في بدر.
11 (1) وقائع أحد
وتجمع كل كتب السير والأخبار، أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، كان يكره الخروج إلى أحد، لكنه خرج لرغبة أصحابه. ولما لبس لامته، جاءه الذين استكرهوه على الخروج يراجعون موقفهم ويعتذرون، فكان رد النبي: ما كان لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يحارب. وجعل النبي لأصحابه في ذلك اليوم شعارا يشبه شعار بدر، مع اختلاف بسيط، فقد أسقط من شعار بدر «يا منصور»، ليصبح بدلا من «يا منصور أمت» كلمة واحدة تقول : «أمت، أمت».
12
وعند خروج النبي إلى أحد قال له الأنصار:
يا رسول الله، ألا نستعين بحلفائنا من يهود؟
فقال: لا حاجة لنا فيهم.
13
ولما سار بجيشه ووصل رأس الثنية، «وجد كتيبة كبيرة فقال: ما هذا؟ قالوا: هؤلاء حلفاء عبد الله بن أبي من يهود. فقال:
إنا لا ننتصر بأهل الكفر على أهل الشرك.»
14
ويبدو لنا أن تلك الكتيبة كانت من قبيلة بني قريظة، خرجت إعمالا لبنود الصحيفة، وانتصارا لحليفتها الخزرج، لكن الواضح أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لم يكن على ثقة كافية بهم. ومرة أخرى عرض الأوس على النبي بعد رجوع «ابن سلول»، الاستعانة بحلفائهم من يهود بني النضير، حلفاء «سعد بن معاذ»، ومرة أخرى رفض النبي.
15
ومع ذلك فقد أصر «مخيريق» اليهودي على الخروج إلى أحد، وهو على دينه، وأوصى بماله للنبي إن هو قتل. وبالفعل قاتل الرجل حتى قتل، وآل ما يملكه إلى رسول الله، وفيه قال النبي الكريم «مخيريق خير يهود.»
16
ولما كانوا بالقرب من أحد - حيث بدت لهم صفوف الثلاثة آلاف مكي تنتشر بدروعها وقضها وقضيضها، قد اتخذوا مواقعهم حسب خطتهم في بقاع أحد - استرسل الوحي يحمل إلى قريش برقية تقول:
قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين (الأنفال: 38).
والبرقية هنا رغبة في السلم، لكنها رغبة المقتدر؛ لذلك فهي نصيحة أكثر منها رغبة، فإن تنتهوا وتعودوا إلى مكة، يغفر الله لكم ما قد سلف، وبمعنى موضوعي توقف ما جرته الأحداث الماضية على مكة. لكن النص هنا جاء مصحوبا بذكر الملأ القرشي الذين أهيل عليهم تراب القليب البدري، «فقد مضت سنة الأولين.» أي مضى الأشياخ ومضت معهم سنتهم ونهجهم، ولا معنى للاعتراك على ثأر لقوم ذهبوا. لكن ذلك التذكير كان كفيلا بتأجيج لهيب الذكرى وحمية الرغبة في الثأر، بضرب تلك القوة اليثربية التي إن بقيت فستقضي تماما على قريش وتجارتها. وحتى يتم تأمين طريق الإيلاف مرة أخرى، بعد أن أشرفت مكة على الهلاك بحصارها الاقتصادي .
ووقف «أبو سفيان» (صخر بن حرب) يؤكد أن سنة الأولين باقية، بتصرفه تصرف «عتبة بن ربيعة» في بدر، فقال ينادي أهل يثرب بعدم رغبة مكة في قتال يثرب، ويعلنهم أنهم يريدون فقط غرضا محددا، يتضح في قوله:
يا معشر الأوس والخزرج، خلوا بيننا وبين بني عمنا، وننصرف عنكم.
لكن الرجل «بسنة الأولين أيضا»، وكرأس من رءوس قريش، لم يع حتى الآن ما تمخضت عنه ظروف التطور، ولم يدرك ما جد في وجدان الأنصار ووعيهم، وأنهم قد أدركوا ممكناتهم ومستقبلهم، وأنهم قد أصبحوا المنافس الحقيقي لمكة، ليس فقط على الطريق التجاري، إنما أيضا على من بالحجاز جميعا، فكان ردهم أقبح الشتائم بأقذع اللعنات لأبي سفيان ورهطه.
17
وهنا قامت «هند بنت عتبة» مع نساء مكة وصباياها الغيد، اللائي ترفلن في النعمة، فمشقوا القد، وحازوا الحسن واللطافة، يضربن الدفوف يحرضن رجال مكة ويغنين، مستخدمين أفصح فحيح أنثوي للإغراء، بنداء الوصال «وي-ها»:
ويها بني عبد الدار
ويها حماة الأديار
ضربا بكل بتار
إن تقبلوا نعانق
ونفرش النمارق
إن تدبروا نفارق
فراق غير وامق
18
وعلى الجانب الإسلامي، ركز النبي خطته على حماية رجاله السيافة، بالرجال النبالة، فأنزل الرماة في مواقع تواجه خيل العدو، وأمر عليهم نبالا مشهودا له، هو «عبد الله بن جبير». وأمرهم بعدم ترك مواقعهم حتى يأتيهم منه الأمر بذلك، مهما حدث، فقط كان مطلبه منهم الذي أكده لهم «اكفوني الخيل.»
19
أما قريش فكانت البادئة بتسخين أحد، فخرج طلحة بن أبي طلحة، وأبو طلحة والده اسمه عبد الله بن عثمان بن عبد الدار، وطلب طلحة المبارزة مرارا، فلم يخرج إليه أحد، فقال:
يا أصحاب محمد؛ زعمتم أن قتلاكم في الجنة، وأن قتلانا إلى النار، فهل أحد منكم يعجلني بسيفه إلى النار، أو أعجله بسيفي إلى الجنة؟
فلما لم يخرج إليه أحد، من بين المسلمين، نادى يقول:
كذبتم واللات والعزى، لو تعلمون ذلك حقا، لخرج إلي بعضكم.
فخرج إليه علي بن أبي طالب، فالتقيا بين الصفين، فبدره علي فصرعه؛ أي قطع رجله، ووقع على الأرض وبدت عورته، فقال: يا ابن عم، أنشدك الله والرحم. فرجع عنه ولم يجهز عليه، فقال له رسول الله
صلى الله عليه وسلم : ما منعك أن تجهز عليه؟ فقال ناشدني الله والرحم. فقال: «اقتله، اقتله.»
20
وهكذا، بدا تردد المسلمين واضحا لأهل مكة، فخرج رجل ثان من صفوف المشركين يدعو للمبارزة، «فأحجم عنه الناس حتى دعا ثلاثا، فقام إليه الزبير بن العوام، فوثب حتى استوى معه على البعير، فعانقه، فاقتتلا فوق البعير. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : الذي يلي حضيض الأرض مقتول، فوقع المشرك فوقع عليه الزبير، فذبحه.»
21
وارتفعت معنويات المسلمين بهذين القتيلين، وخرج عبد الرحمن بن أبي بكر من صفوف المشركين، فقال: من يبارز؟ فنهض إليه أبوه أبو بكر شاهرا سيفه، فقال له رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «شم سيفك، وارجع إلى مكانك، ومتعنا نفسك.»
22
أما أبو دجانة «سماك بن خرشة» الأنصاري، ذو الخبرة الحربية، والشجاعة المتفردة بين أقرانه، فقد نهض يتناول من يد رسول الله سيفا. ورجل مثل أبي دجانة إن قام للقتال، كان ذلك تحفيزا لنفوس من يعرفون قدره. ويقول ابن هشام في أمر أبي دجانة:
وكان أبو دجانة رجلا شجاعا يختال عند الحرب إذ كانت، وكان إذا أعلم بعصابة حمراء فاعتصب بها، علم الناس أنه سيقاتل، فلما أخذ السيف من رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، أخرج عصابته تلك فعصب بها رأسه، وجعل يتبختر بين الصفوف، فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت. فقال رسول الله حين رأى أبا دجانة يتبختر: إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن.
23
ثم بدأت الوقعة فعليا عندما هتف النبي
صلى الله عليه وسلم
برجاله: أمت، أمت، وبدأت وقعة أحد بداية متميزة، فقد صرع المسلمون أصحاب اللواء من بيت عبد الدار، «ثم انتشر النبي وأصحابه، وصاروا كتائب متفرقة، فجاسوا في العدو ضربا حتى أجهضوهم عن أثقالهم، وحملت خيل المشركين على المسلمين ثلاث مرات، كل ذلك تنضح بالنبل فترجع مغلولة. وحمل المسلمون عليهم فنهكوهم قتلا.»
24
ولاحت بوادر النصر ، وتقهقر المشركون وهم يلقون بدروعهم وجحفهم وتروسهم، تخففا للهرب، بينما علا صراخ نساء قريش المنعمات وهن يولولن، يبرز صراخهن الخائف مفاتن أنوثتهن، وأخذن يهربن أمام أعين المسلمين.
وقصدن الجبل، كاشفات عن سيقانهن، يرفعن الثياب، وتبع المسلمون المشركين يضعون فيهم السلاح، وينتهبون الغنائم.
25
بينما يصف «عبد الله بن الزبير» الموقف بقوله:
والله لقد رأيتني أنظر إلى هند بنت عتبة وصواحباتها، مشمرات هاربات، ما دون أخذهن قليل ولا كثير.
26
بينما يقول آخر:
والله لقد رأيت النساء يشتددن على الجبل، قد بدت خلاخيلهن وسوقهن، رافعات ثيابهن، فقال أصحاب عبد الله بن جبير - الرماة: الغنيمة، الغنيمة.
27
وهكذا نزل الرماة يلهثون وراء الغنمية، وهو ما يصوره قول أحدهم: «والله ما نجلس هنا لشيء، قد أهلك الله العدو، فتركوا منازلهم التي عهد إليهم النبي ألا يتركوها.»
28 «ونهاهم أميرهم عبد الله بن جبير، فقالوا له: انهزم المشركون فما مقامنا ها هنا؟ وانطلقوا ينتهبون وثبت عبد الله بن جبير، وثبت معه دون العشرة.»
29
لكنها لقارئ مدقق، كانت الخطة والتكتيك. فقد تقهقر قلب جيش المشركين، وشمرت النساء عن سوقهن يصعدن الجبل في المعتليات، وانطلق المسلمون خلفهن وترك الرماة مواقعهم. بينما كانت ميمنة «خالد بن الوليد» في مكانها لا تتزحزح، كذلك ميسرة «عكرمة بن أبي جهل»، ظلت ثابتة دون حراك، حتى إذا ما نزل الرماة، أطبقت الأجنحة على الوسط. وثبت القلب المتقهقر ليعاود الهجوم، في هجمة مرتدة سريعة، ثم ثنى «خالد» و«عكرمة» على الرماة، فحملوا على من بقي منهم فقتلوهم مع أميرهم ابن جبير.
وأحاطوا بالمسلمين، فبينما المسلمون قد شغلوا بالنهب والسلب، إذ دخلت خيول المشركين تنادي فرسانها بشعارها: يا للعزى، يا لهبل، ووضعوا السيوف في المسلمين وهم آمنون. واختلط المسلمون، وصار يضرب بعضهم بعضا من غير شعار، وهو أمت، أمت، مما أصابهم من الدهش والحيرة.
30
أما الأخطر من نسيان المسلمين لشعارهم، نتيجة الدهشة والذهول، وقتلهم بعضهم بعضا، هو تمكن المشركين من الانغراس في العمق إلى نهايته، والوصول إلى موقع رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، لتأخذ منه ثأرها ، وتنال منه فيخمد الجسد الإسلامي ويستسلم. وهو ما خرجت من أجله، لإيقاف نهر الدم، وإنقاذ ما بقي من مصالحها، بقتل النبي
صلى الله عليه وسلم
بالذات وبالتحديد. (2) صرخة الشيطان
وعندما وصل المشركون إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، هرب أصحابه من حوله، حتى صار ينادي:
إلي يا فلان، إلي يا فلان، أنا رسول الله، فما يعرج إليه أحد، والنبل يأتي إليه من كل ناحية.
31
ويروي «الطبري» إنه عند الهجوم على النبي، تفرق عنه أصحابه، فهرب بعضهم وعاد إلى المدينة لا يلوي على شيء، بينما صعد البعض الآخر إلى صخرة فوق الجبل، بينما استمر النبي ينادي:
إلي عباد الله، إلي عباد الله.
32
واستطاع «عتبة بن أبي وقاص» أن يصل إلى النبي، ويهشم بيضته فوق رأسه، بينما تمكن «عبد الله بن شهاب» من أن يشجه في جبهته، ثم كر عليه «ابن قمئة الحارثي»، فكسر أنفه ورباعيته، وضربه بالمغفر فدخلت حلقتان من حلقات المغفر في وجنته الشريفة. كل هذا والرسول ينادي أصحابه.
33
ثم وقع رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، في حفرة، عندما هاجمه ابن قمئة في كرة ثانية، فضربه على عاتقه ضربة شديدة، لكن الدرعين كانا وقاء له، لكن عزم الضربة جعل رسول الله يشكو من عاتقه بعدها شهرا أو أكثر.
34
وهنا لمح المحارب الصلب «أبو دجانة» رسول الله وهو على حاله هذه، فانطلق إليه ليرتمي فوقه يحميه، والنبل يتساقط عليه بغزارة حتى ملأ ظهره وهو لا يتحرك، في الوقت الذي أخذ فيه المهاجمون دورتهم الواسعة في كرة جديدة، انطلق أثناءها إلى النبي عدد من أصحابه، فأنهضوه من الحفرة، وأسرعوا به يصعدون شعب الجبل نحو صخرة منيعة، في اللحظة التي عادت فيها كرة المهاجمين، «فقال النبي
صلى الله عليه وسلم : ألا أحد لهؤلاء؟ فقال طلحة: أنا لهم يا رسول الله. فقال: كما أنت يا طلحة. فقال رجل من الأنصار: فأنا يا رسول الله. فقاتل عنه. وصعد رسول الله ومن بقي معه، فلحقوه، فقال: ألا أحد لهؤلاء؟ فقال له طلحة مثل قوله ، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مثل قوله، فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله. فأذن له، فقاتل مثل قتاله وقتال أصحابه، ورسول الله وأصحابه يصعدون، ثم قتل، فلحقوه. فلم يزل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول مثل قوله الأول، ويقول طلحة أنا يا رسول الله، فيحبسه، فيستأذنه رجل من الأنصار للقتال فيأذن له، حتى لم يبق معه إلا طلحة، فقال رسول الله: من لهؤلاء؟ فقال طلحة: أنا.»
35
وتصف كتب السير أبا طلحة بأنه «كان رجلا راميا شديد الرمي.» فنثر نبله، وأخذ يرمي والرسول يجلس خلفه محتميا به،
36
بينما كان النبي يرسل قوله الآسف على هرب أصحابه المهاجرين عنه: «ما أنصفنا أصحابنا.» ويشرح البيهقي «معناه ما أنصفت قريش «المهاجرين» الأنصار، لكون القرشيين لم يخرجوا للقتال دفاعا عن النبي، بل خرجت الأنصار واحدا بعد واحد.»
37
وظل «أبو طلحة» يرمي دفاعا عن النبي يومذاك، ويترس دونه، حتى كسر ثلاثة أقواس. وكان المسلم يفل هاربا فيمر عليهما فيناديه رسول الله
صلى الله عليه وسلم : انثر نبلك لأبي طلحة،
38
حتى وتره رام أصاب يده في أوتارها فشلت من فورها فصرخ متألما: حس، فقال له النبي؛ لو قلت باسم الله لرفعتك الملائكة، والناس ينظرون إليك، حتى تلج بك في جو السماء.
39
وفي كرة رابعة، عادت موجة مهاجمة إلى المكان الذي فيه رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، بينما كان النبي قد تقهقر من مكانه مصعدا في الشعب. وخرج لهم «مصعب بن عمير» دون رسول الله، فوجد «ابن قمئة» مصعبا في دروعه وخوذته في مكان رسول الله، فشد عليه شدة قتله بها، وهو يظن أنه محمدا، ثم أكمل دورة فرسه نحو المشركين وهو يصيح مهللا: قتلت محمدا.
40
في اللحظة التي كان فيها الرسول يتابع صعوده في شعب الجبل متحاملا على طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، الذي هرع إلى طلحة يساعده في حمل رسول الله.
41
وإذ يقول زعيم طبقة المفسرين ورواة السير والأخبار الحافظ ابن كثير أن صيحة ابن قمئة: قتلت محمدا ، قد أدت إلى بهتة عظيمة بين المسلمين،
42
فإنها على الفور أوقفت - لا جدال - يد القتل المكية عن استمرار القتل والقتال، فهذا ما جاءوا من أجله وقد تحقق، ولم تعد ثمة ضرورة لاستمرار القتل. وبالفعل هدأ الميدان تماما بعد صيحة ابن قمئة. تلك الصيحة التي تصر كتبنا التراثية على القول إنها صيحة الشيطان، لا لشيء إلا لأنها قالت مكروها بحق النبي، رغم أن المتأمل بقليل من النزاهة، يمكنه أن يراها صيحة جاءت في موعدها تماما، وكانت صيحة الإنقاذ لرقاب المسلمين، ولنبيهم.
هذا بينما يرى آخرون - بتغافل حقائق عدة - أن تلك الصيحة كانت السبب في هزيمة المسلمين، ومن ثم لا شك أنها كانت صيحة الشيطان الذي يعنيه هزيمة حزب الله. وذلك بالتأثير الذي فعلته الصيحة بنفوس المسلمين، وخوار عزيمتهم وفزعهم لما علموا أن نبيهم قد قتل، وهو المعلق به مصيرهم ومصير دولتهم. ولكن دقائق الحدث لا تترك لأصحاب ذلك الرأي ما يتمحلون به، لأن الهزيمة كانت قد حلت بالفعل قبل تلك الصيحة، وكانت يد القتل القرشية قد بدأت تفعل فعلها فيمن بقي من المسلمين، ووصل المشركون إلى النبي وفر أصحابه عنه، حتى أصيب إصابات شديدة، وكانت الصيحة متأخرة إلى حد بعيد عن الهزيمة التي تمت قبلها بوقت، عندما ضرب ابن قمئة مصعبا وهو يحسبه محمدا. وما كان ممكنا أن يصل إلى الرسول
صلى الله عليه وسلم
في مؤخرة جيشه، إلا إذا كان ذلك الجيش قد تهاوى وتشرذم، ولم يعد هناك حائل بين المشركين وبين النبي. لكن هؤلاء يصرون، مستندين إلى روايات مثل رواية «الزبير بن العوام»:
وصرخ صارخ: «ألا إن محمدا قد قتل.»
فانكفأنا، وانكفأ القوم علينا.
43
هذا بينما أصحاب تلك الرؤية، وفي روايتهم أنفسهم عما حدث، يظهر واضحا أن «الزبير» كان يصعد مع «طلحة» يساعدان نبيهم الجريح على ارتقاء الشعب، بعد أن خلا الميدان حولهم من أصحابهم، وبقية الصحابة إلى فرار. ومن بقي منهم أخذوا يضربون بعضهم بعضا من البهتة. أما «البيهقي» فيقول:
وصاح الشيطان: قتل محمد.
44
ويقول «ابن هشام »:
الصارخ : إزب العقبة، يعني الشيطان.
45
أما من هو «إزب العقبة»، فهو ما يأتي في حديث منسوب لعبد الله بن الزبير «أنه رأى رجلا طوله شبران على رحله، فقال: من أنت؟ قال: إزب. قال: ما إزب؟ قال: رجل من الجن.» أما «الحلبي» الذي اعتدناه يقف مع ما لا يجده متسقا ومتوافقا، يتساءل أحيانا، ويبرر أخرى، فقد حاول تقديم تبرير لتضارب الروايات حول صاحب الصرخة، فقال: «ويجوز أن يكون قد صدر عن الثلاثة: ابن قمئة، وإبليس، وإزب العقبة.»
46
وعليه، فإن تلك الصرخة المنقذة التي أطلقها «ابن قمئة»، كانت سببا في تراخي أيدي قريش عن القتل، بينما النبي وطلحة والزبير يتسللون متخفين في الشعب، يريدون صخرة عالية، تصادف أنها كانت الصخرة التي فر إليها بعض المسلمين الفارين، ولجئوا إليها لمنعتها. فكان أن رآه «كعب بن مالك» من أعلى الشعب وهو قادم مع صاحبيه، ويروي:
قد عرفت عينيه الشريفتين تزهران تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول الله، فأشار إلي: أنصت، فلما عرف المسلمون رسول الله نهضوا، ونهض معهم نحو الشعب علي بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، في نفر من المسلمين.
47
لكن ليلمحهم «أبي بن خلف» وهم يخفون إلى النبي يساعدونه على الصعود، وقد تطرف «أبي» عن قومه، فسمع صيحة «كعب بن مالك»، فعلم أن الرسول ما زال حيا. وبينما النبي يسند رأسه تعبا في الشعب، كر «أبي بن خلف» بفرسه وهو يهتف متسائلا: «أي محمد (؟!) لا نجوت إن نجا. فقال القوم: يا رسول الله أيعطف عليه رجل منا؟ فقال رسول الله: لا، دعوه. فلما دنا تناول رسول الله الحربة من الحارث بن الصمة، وانتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله فطعنه في عنقه، طعنة تدأدأ منها عن فرسه مرارا،
48
وجعل يخور كما يخور الثور إذا ذبح.»
49
ولمزيد من المنعة، بعيدا عن متناول قريش «نهض النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى صخرة في الجبل ليعلوها، وقد كان بدن رسول الله بين درعين، فلما ذهب لينهض لم يستطع، فجلس تحته طلحة بن عبيدة، فنهض به حتى استوى عليها.»
50
وهكذا نال الإجهاد من النبي كل منال، وأخذ منه الألم كل مأخذ، حتى إنه بعد العودة «ذكر عمرو مولى عفرة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، صلى الظهر يوم أحد قاعدا من الجراح التي أصابته، وصلى المسلمون خلفه قعودا.»
51
وبعد أن امتنع المسلمون الذين بقوا مع نبيهم على الصخرة المنيعة - التي ما كان لأحد أن يصعد عليها إلا ويصاب برماح وسهام الممتنعين فوقها - ومعهم سيوفهم، لا مجال لأخذهم، تقدم أبو سفيان حتى اقترب من سفح الصخرة ثم نادى: «أفي القوم محمد؟ أفي القوم محمد؟ ثلاثا، فنهاهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أن يجيبوه.» وهكذا كانت حصافة القائد تملي على رجاله رغم الامتناع فوق الصخرة، أن يتركوا قريشا تتوهم قتله، حتى لا يحاولوا الكر عليهم مرة أخرى، كما سبق وأمر «كعب بن مالك» بعدم الإعلان عنه وأمره بالصمت، لكن «أبو سفيان» استمر ينادي «أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن الخطاب؟ أفي القوم ابن الخطاب؟ ثم أقبل على أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا وقد كفيتموهم. فما ملك عمر نفسه أن قال: كذبت والله يا عدو الله، إن الذين عددت لأحياء كلهم، وقد بقي لك ما يسوءك».
52
فكان أن رد عليه «أبو سفيان» ومن معه ينادون شامتين متوعدين:
يوما بيوم بدر، إن موعدكم بدر للعام القابل. «فقال رسول الله لرجل من أصحابه: قل: نعم هو بيننا وبينكم موعد ... ثم بعث رسول الله علي بن أبي طالب فقال: اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون؟ فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل، فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل، فإنهم يريدون المدينة. والذي نفسي بيده، لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها، ثم لأناجزهم. قال علي: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون؟ فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل، ووجهوا إلى مكة.»
53
وهكذا، انتهت غزوة أحد بثأر قريش، الذي أعملت له حسابات دقيقة، وهم تجار أصحاب حسابات، يدققون فيما لهم وفيما عليهم، تحدوهم المصلحة والمكاسب في الأول وفي الآخر. فتؤكد كتب الأخبار أنهم قتلوا على التدقيق سبعين مسلما، بسبعين مشركا يوم بدر، وأسروا سبعين مسلما بسبعين مشركا يوم بدر، وهو ما يردفه المفسرون بالآية الكريمة:
أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا
54 (آل عمران: 165). (ومثليها هنا تعني الأمرين، السبعين قتيلا، والسبعين أسيرا)، وهو ما عبر عنه منطق التاجر الأموي، أبي سفيان صخر بن حرب، وهو ينادي المعتصمين بالصخرة، مقدما كشف حساب تجاري دقيق، يقول:
يوما بيوم بدر، وإن موعدكم بدر للعام القابل.
وهو ما عقب عليه الطبري في حديثه عن أحد مقارنا ببدر، إذ يقول:
فلما كان العام القابل في أحد، عوقبوا بما صنعوا، قتل من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
سبعون، وأسر سبعون، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، وفر أصحاب النبي وصعدوا الجبل.
55
فرز أحد
لو كان من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا.
عتاب بن قشير الأنصاري
وكانت أحد ابتلاء فرز واختبار وتمحيص للمؤمنين الصادقين، سواء من أخذهم الرعب فولوا هاربين من حول رسول الله حتى انكشف للمهاجمين، وهو
صلى الله عليه وسلم
يناديهم: أنا رسول الله، إلي يا فلان، إلي يا فلان، فلم يثبتوا وفروا عنه ليعتصموا بصخرة في أعلى الشعب، فأنبهم الوحي الكريم بقوله:
إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم ... (آل عمران: 153).
هذا عمن فروا، ثم هناك ما جاء وحيا يحدث عمن ظنوا بالله ظن الجاهلية، وشكوا في صدق الرسول بل وفي الدعوة برمتها، ليرد عليهم قائلا:
وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور (آل عمران: 154).
ثم يتوجه الوحي نحو من قالوا: لو سمعوا نصحنا لهم بالتحصن في يثرب، وعدم الخروج إلى المشركين ما قتلوا، قائلا:
الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين (آل عمران: 168).
أما الذين تساءلوا كيف يهزمون والله معهم ورسوله؟ فقد جاءهم جواب الوحي مفحما يذكرهم أنهم وإن أصيبوا في أحد، فقد سبق وأصابوا في بدر، ويقول:
أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير (آل عمران: 165).
إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله (آل عمران: 140).
ثم يثني الوحي بصدقه بالقول الفصل، لتأكيد أن ما حدث كان خطة إلهية مقدورة سلفا، من الله تعالى، لفرز المؤمنين الصادقين عن غيرهم، بقوله:
وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين *وليعلم الذين نافقوا ... (آل عمران: 166، 167). (1) مواقف من الهزيمة
ونعود إلى عيون التاريخ نقرأ فيها المفاجأة التي رتبتها قريش للمسلمين، بقرارات مقاتلين من جيل جديد، تلتمع أسماؤهم مع نصال سيوف شرذمت شمل المسلمين وصعقتهم، مثل «خالد بن الوليد» و«عكرمة بن أبي الحكم»، حتى صار المسلمون يضربون بعضهم ويقتلون بعضهم بعضا على غير هدى، ولا شعار. بعد أن أضاعت البهتة لبهم فنسوا شعارهم، ثم جاءت صيحة «ابن قمئة»: إن محمدا قد قتل، لتترك أثرا أعمق في الفارين يحتمون بالشعاب والصخور، فأصحاب الشعب يقولون:
إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قد قتل، فارجعوا إلى قومكم فيؤمنونكم، قبل أن يأتوكم فيقتلوكم، فإنهم داخلون البيوت.
1
وقد ذهب هؤلاء تحديدا إلى رأي يقول:
نلقي إليهم بأيدينا، فإنهم قومنا وبنو عمنا.
ويعقب رواة السيرة بالقول:
وهذا يدل على أن هذه الفرقة ليست من الأنصار، بل من المهاجرين.
2
هذا؛ بينما كان بعض المسلمين ينتهز فرصة المعركة، ويحفز الناس للخروج إليها، من أجل أخذ ثأره من مسلم آخر في حومة الوغى دون عيون تراه، مثل «الحارث بن سويد بن الصامت» ابن صاحب صحيفة لقمان، ذلك المسلم الذي لم تؤثر فيه الأخوة الإسلامية والأممية الجديدة، بل ظل أسير الحمية القبلية الجاهلية، يخضع رغبته الثائرة على مضض ينتهز لها فرصة، يريد بها «المجذر بن زياد» الذي كان قد قتل أباه «سويد» في حرب الأوس والخزرج. وما إن تبدأ المعركة ويختلط الناس بالناس، حتى يغمد سيفه في قاتل أبيه ليشفي غليل ثأره.
3
ثم موقف ثالث لأصحاب الصخرة الذين فروا من حول النبي، واعتصموا بها يردون عن أنفسهم في خفائها، وقد رأى هؤلاء رأيا آخر:
فقال بعض أصحاب الصخرة، ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أمنة من أبي سفيان، يا قوم، إن محمدا قد قتل فارجعوا إلى قومكم، قبل أن يأتوكم فيقتلونكم.
4
وقد بلغ الرعب بأصحاب الصخرة أنهم كادوا يقتلون نبيهم وهو يخف إليهم متحاملا على مناكب صاحبيه، وهم لا يميزونه، ورفعوا عليه نبالهم ورماحهم.
فقال رسول الله: أنا رسول الله، ففرحوا بذلك حين وجدوا رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وفرح رسول الله حين رأى أن في أصحابه من يمتنع بهم ... فقال الله عز وجل في الذين قالوا: إن محمدا قد قتل فارجعوا إلى قومكم:
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم (آل عمران: 144).
5
أما الموقف الرابع، فيمثله من جاء ذكرهم في الواقدي وهو يقول:
لما صاح إبليس: إن محمدا قد قتل، تفرق الناس، فمنهم من ورد المدينة، حتى دخلوا على نسائهم وجعل النساء يقلن: عن رسول الله تفرون؟!
6
وقد عدد «البلاذري» في أنساب الأشراف (1: 326 ) أسماء بعض الفارين من الميدان تماما - الذين يمثلون موقفا خامسا - بعد أن تركوا إخوانهم ورسولهم إلى مصيرهم، وهم عثمان بن عفان، وسواد بن غزية، والحارث بن حاطب، وسعد بن عثمان، وعقبة بن عثمان، وخارجة بن عامر، وأوس بن قيظي. حتى أبعدوا عن المدينة بما يصل إلى ثلاثين ميلا.
7
ولم يعودوا إلى يثرب إلا بعد أن وصلتهم الأخبار بعودة النبي إليها مع من بقي من أصحابه، فعادوا إليها من مهربهم بعد أيام ثلاثة، فقال لهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم : لقد ذهبتم فيها عريضة، ثم جاء الوحي بشأنهم يقول:
إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم (آل عمران: 155).
ويقول «ابن حبيب»: «الذين تولوا يوم التقى الجمعان فعفا الله عنهم من المهاجرين عثمان بن عفان بن العاص بن أمية، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسعد بن عثمان من الخزرج وأخوه عقبة بن عثمان.»
8
وكان هرب «عثمان بن عفان» من أحد، مدعاة بعد ذلك بسنين في الصراع السافر الذي قام على السلطة في الدولة الإسلامية، للتدليل على أن الموقف العدائي لبني أمية من الهاشميين بل من النبي ودعوته، كان متأصلا في نفوسهم. فقد حكى البخاري عن عثمان بن وهب قوله: «جاء رجل حج البيت فرأى قوما جلوسا، فقال: من هؤلاء القعود؟ قالوا: قريش. قال: من الشيخ؟ قالوا: ابن عمر. فأتاه فقال: إني سائلك عن شيء، أتحدثني؟ أنشدك بحرمة هذا البيت أتعلم أن عثمان بن عفان فر يوم أحد؟ قال: نعم. قال: فتعلمه تغيب عن بدر فلم يشهدها؟ قال: نعم. قال: فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم. فكبر، فقال ابن عمر: تعال لأخبرك ولأبين لك عما سألتني عنه، فأما فراره يوم أحد، فأشهد أن الله عفا عنه، وأما تغيبه عن بدر، فإنه كان تحته بنت النبي وكانت مريضة، فقال له رسول الله
صلى الله عليه وسلم : إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه. أما تغيبه عن بيعة الرضوان، فإنه لو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان بن عفان لبعثه مكانه، فبعث عثمان وكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة.»
9
ثم موقف سادس أعلن تشككه في أمر الدعوة بكاملها، وعلاقة الرسول بالسماء، يمثله عتاب بن قشير الذي وقف يتطلع إلى هزيمة المسلمين وهم يقتلون في أحد ويقول:
لو كان من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا.
10
وجاوبه رجع الصدى ممن هم على مثل رأيه:
لو كان نبيا ما قتل، فارجعوا إلى دينكم الأول.
11
وهكذا كان الفرز، وهكذا جاءت أحد لتفصح بوقعتها عما بذات الصدور. وتحدد مواقف، وتصنف الأتباع تصنيفا كامل التحديد والوضوح. لأنه مقابل كل تلك المواقف المتخاذلة والمؤسفة، كانت هناك مواقف أخرى وإن كانت قليلة نادرة ضعيفة، لكنها دخلت الفرز وبرزت كمواقف مبدئية صارمة لا تقبل المساومة. فهذا «أنس بن النضر» ينادي «عمر بن الخطاب» و«علي بن أبي طالب» و«أبا بكر» وصحبهم من أصحاب الصخرة ويقول:
يا قوم؛ إن كان محمد قد قتل، فإن رب محمد لم يقتل، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد، اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ثم شد بسيفه يقاتل، حتى قتل.
12
وهكذا، وبينما المهاجرون في فزعهم، والأنصار يقتلون الواحد بعد الآخر دون رسول الله وهو يصعد الشعب، وبينما المهاجرون يفكرون في اللحاق بقومهم، فإن «رجلا من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه، فقال له: يا فلان، أشعرت أن محمدا قد قتل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل، فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم.»
13
ثم ذلك الأنصاري المبارز الفارس، «أبو دجانة/سماك بن خرشة»، الذي ترس عن الرسول يتلقى عنه النبل، وظل محاربا يخوض معه المواقع بعدها بذات البطولة. «وقزمان» الأنصاري، الذي أبلى في أحد بلاء يعادل في ميزان القتال جيش المسلمين جميعا، فنزل الحومة لا يكل ولا يهرب ولا يتراجع، يتخطف سيفه رءوس المشركين رأسا في إثر رأس، ويصول حتى ينغرس في عمق ثلاثة آلاف مقاتل دون خطوة واحدة للوراء، حتى أعمق بينهم، وحتى عددت له كتب السير عشرة قتلى، من بين اثنين وعشرين قتيلا مكيا هم كل من قتل المسلمون من قريش في أحد، وبينما يعدد «ابن هشام» أسماء المقتولين من قريش، وقاتليهم من المسلمين، نقتطع ما يخص «قزمان» وحده، حيث يقول ابن هشام: ... وكلاب بن طلحة، والحارث بن طلحة، قتلهما قزمان ... وأبو يزيد ابن عمير ... قتله قزمان ، وصؤاب غلام له حبشي قتله قزمان ... والقاسط بن شريح ... قتله قزمان ... وهشام بن أبي أمية بن المغيرة قتله قزمان، والوليد بن العاص بن هشام بن المغيرة، قتله قزمان ... وعبيدة بن جابر وشيبة بن مالك بن المضرب، قتلهما قزمان، ... قال ابن إسحق: فجميع من قتل الله تبارك وتعالى من المشركين يوم أحد، اثنان وعشرون رجلا.
14
ومع ذلك تصر كتبنا التراثية على وصم قزمان بأنه كان منافقا، وأنه من أهل النار، وأن الله قد ينصر دينه على الكافر بالفاجر (؟!)، حتى إن تلك الكتب قدمت روايات تستجهل «قزمان»، وتتجاهل معرفته من بين صحبه وآله من الأنصار، ومن تلك الروايات:
كان فينا رجل أتى لا يدرى من هو، يقال له: قزمان، فكان رسول الله يقول إذا ذكر: إنه لمن أهل النار، فلما كان يوم أحد قاتل قتالا شديدا ... وكان ذا بأس، وأثبتته الجراح، فاحتمل إلى دار بني ظفر.
15
أما لماذا حمل إلى دار بني ظفر بالذات، فإن كتب السيرة تروي روايات بعد أن تتذكر معرفتها بالرجل، فنعرف عند «ابن هشام» أنه «حليف بني ظفر»،
16
فهو لم يكن مجهولا، إنما التجهيل جاء عن عمد. ورغم نسبة قتلاه العشرة من المشركين إلى الله جل وعلا، «فجميع من قتل الله تبارك وتعالى يوم أحد من المشركين اثنان وعشرون رجلا.» ضمنهم عشرة قتلهم قزمان وحده، دون أن يفر إلى شعب، ولا أن يلجأ إلى صخرة، ولا أن يهرب إلى المدينة، ولا أن يوغل ثلاثين ميلا هربا بعيدا عن الميدان، لينتظر هناك أياما يستخبر على من كانت الكرة، ليحدد موقفه. أما السر وراء كل هذا التجهيل والتبخيس لرجل هذا بلاؤه، فيرجع إلى حديث ترويه كتب السيرة عن قزمان وهو جريح في دار بني ظفر:
فجعل رجال من المسلمين يقولون له: والله لقد أبليت اليوم يا قزمان فأبشر. قال: بماذا أبشر؟ فوالله ما قاتلت إلا عن أحساب قومي، ولولا ذلك ما قاتلت. فلما اشتدت عليه جراحه، أخذ سهما من كنانته فقتل به نفسه.
17
وموقف قزمان هنا من المواقف العربية موقف راق، دافع فيه عن أهله وأحسابه، أما قتله نفسه وهو بجراح الموت يتألم فهو صفة معلومة لدى أصحاب المبادئ والإرادة القوية والشجاعة، فيما يخبرنا به علم النفس الحديث.
وهو موقف يختلف إلى حد ما عن موقف «حاطب بن أمية» الذي أصيب ابنه «يزيد» في أحد، فحملوه إلى دار قومه واجتمع حوله أهله،
فجعل المسلمون يقولون له من الرجال والنساء، أبشر يا ابن حاطب بالجنة، وكان حاطب شيخا قد عسا في الجاهلية، فنجم يومئذ نفاقه فقال: «بأي شيء تبشرونه؟ بجنة من حرمل؟ غررتم والله هذا الغلام من نفسه.»
18
وفي شرح السهيلي «الجنة من حرمل، يريد الأرض التي دفن فيها وكانت تنبت الحرمل، أي ليس له جنة إلا ذاك.»
19 (2) مقتل أسد الله
في يثرب، وبعد العودة من أحد «مر رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، بدار من دور الأنصار من بني عبد الأشهل وظفر، فسمع البكاء والنواح على قتلاهم، فذرفت عينا رسول الله فبكى ثم قال: لكن حمزة لا بواكي له. فلما رجع سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير إلى دار بني عبد الأشهل، أمر نساءهم أن يتخرسن ثم يذهبن فيبكين على عم رسول الله.»
20
وهو ما يظهر مدى اللوعة التي أصابت قلب رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، على مصابه في عمه «حمزة بن عبد المطلب»، الذي قتله «وحشي الحبشي» عبد «جبير بن مطعم»، انتقاما لمقتل عم جبير «طعيمة بن عدي» الذي سبق وقتله المسلمون في بدر الكبرى. مع وعد لوحشي الحبشي بالعتق من العبودية إلى الحرية إن فعل، هذا مع وعد آخر تلقاه الحبشي الوحشي من «هند بنت عتبة» إن قتل حمزة انتقاما لأبيها وأخيها وعمها، وكان المقابل الذي سيناله وحشي من هند، فهو ما يعبر عنه نداؤها له كلما مر بها في أحد، أو مرت به، وهي تردد بغنج بدلال وترغيب:
ويها أبا دسمة،
اشف واشتف.
21
ويرسم رواة السيرة، صورة حية لمقتل حمزة رضي الله عنه، بلسان قاتله وحشي، الذي يروي، أنه بينما كان حمزة يصول بسيفه «مر به سباع بن عبد العزى الغشاني، وكان يكنى أبا نيار، فقال له حمزة: هلم إلي يا ابن مقطعة البظور. وكانت أمه أم إنمار ختانة بمكة. فلما التقيا فضربه حمزة فقتله.» وهنا عثر حمزة فوقع، فانكشف درعه الحديدي عن بطنه «فهززت حربتي حتى إذا رضيت منها، دفعتها عليه، فوقعت في ثنته حتى خرجت من بين رجليه، فأقبل نحوي، فغلب، فوقع، وأمهلته حتى إذا مات، جئت فأخذت حربتي ثم تنحيت عن العسكر، ولم تكن لي بشيء حاجة غيره.»
22
وهنا هرولت «بنت عتبة» المدللة الثائرة، لتبقر بطن حمزة رضي الله عنه، وتخرج كبده وتلوك منه قطعة تشفيا، حتى إذا انتهت المعركة ورحلت قريش، مر رسول الله بعمه وهو على تلك الحال، فوقف على رأسه وقد أخذ منه الكمد مأخذا، حتى جعل يقول:
لولا أن تحزن صفية، ويكون سنة بعدي، لتركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير، ولئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن، لأمثلن بثلاثين رجلا منهم.
23
وقد عقب بعض المفسرين بالقول: إن الوحي جاء يرد النبي عن ذلك بقوله:
وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به (النحل: 126)، لكن ابن كثير بحصافته، يدرك أمرا فيقول:
قلت هذه الآية مكية، وقصة أحد بعد الهجرة بثلاث سنين! فكيف يلتئم هذا؟!
24
أما ابن مسعود فيروي القول عن حال النبي يوم مقتل حمزة:
ما رأينا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
باكيا، أشد من بكائه على حمزة رضي الله عنه، وضعه في القبلة ثم وقف على جنازته، وانتحب حتى نشق، وحتى بلغ به الغشي، وهو يقول: يا حمزة يا فاعل الخيرات، يا حمزة يا كاشف الكربات، يا حمزة يا ذاب.
25
أما الأنصار، ورغم مصابهم في قتلاهم، فإنهم عندما شاهدوا حزن ابن أختهم على عمه قالوا:
والله لئن ظهرنا عليهم يوما من الدهر، لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط.
26
ومن ثم - وعلى شرط مسلم - جاءت نساء الأنصار تبكي حمزة وتندبه، لما قال النبي: لكن حمزة لا بواكي له.
27
وهكذا عادت قريش بعد أن أشفت ثأرها، واستشفت لقتلاها، تحمل في ركابها حبلا طويلا تجر فيه الأسرى من المسلمين. تشعر أنها قد أعادت هيبتها في عيون الأعراب، وردعت من فكر بموادعة يثرب على طرق التجارة الداخلية، وأعادت لطريق الإيلاف أمنه، مع اعتزاز بنجاحها في إعادة كنانة إلى إيلافها، ومشاركتها قريشا في أحد، وهو ما عبر عنه شعر هبيرة بن أبي وهب وهو يقول:
سقنا كنانة من أطراف ذي يمن
عرض البلاد على ما كان يزجيها
قالت كنانة: أنى تذهبون بنا؟
قلنا النخيل، فأموها ومن فيها
نحن الفوارس يوم الجر من أحد
هابت معد، فقلنا نحن نأتيها
فأجابه شاعر الرسول حسان بن ثابت يذكره بانتصار المسلمين السابق في بدر، وهو يقول:
سقتم كنانة جهلا من سفاهتكم
إلى الرسول، فجند الله مخزيها
أوردتموها حياض الموت ضاحية
فالنار موعدها والقتل لاقيها
ألا اعتبرتم بخيل الله إذ قتلت
أهل القليب ومن ألقينه فيها
ثم قام «كعب بن مالك» يدعم «ابن ثابت» بالقول:
ونحن أناس لا نرى القتل سبة
على كل من يحمي الذمار ويمنع
جلاد على ريب الحوادث لا نرى
على هالك عينا لنا الدهر تدمع
بنو الحرب لا نعيا بشيء نقوله
ولا نحن مما جرت الحرب نجزع
وهنا قام «عبد الله بن الزبعري» يرد على «حسان بن ثابت» مؤكدا أن النصر كان حليف قريش، وأنهم مقابل شيوخ الملأ في بدر، قد قتلوا من سادة يثرب ومحاربيها من لا يقلون شرفا ومحتدا، بل ويزعم أن قريشا قد قتلت من اليثاربة ضعف ما قتل المسلمون من قريش في بدر، ويقوم ذلك في قوله:
يا غراب البين؛ أسمعت فقل
إنما تنطق شيئا قد فعل
أبلغن حسان عني آية
فقريض الشعر يشفي ذا الغلل
كم قتلنا من كريم سيد
ماجد الجدين مقدام بطل
ليت أشياخي ببدر شهدوا
جزع الخزرج من وقع الأسل
حين حكت بقباء بركها
واستحر القتل في عبد الأشل
فقتلنا الضعف من أشرافهم
وعدلنا ميل بدر فاعتدل
فأجابه «حسان» يرد له الصاع صاعين بقوله:
ذهبت يابن الزبعرى وقعة
كان منا الفضل فيها لو عدل
ولقد نلتم ونلنا منكم
وكذاك الحرب أحيانا دول
نضع الأسياف في أكتافكم ... ... ... ...
نخرج الإصبع من إستاهكم ... ... ... ...
وتركنا في قريش عورة
يوم بدر، وأحاديث المثل
أما «هند بنت عتبة» فقد كانت ترسل شعرها يعلن استشفاءها بعد ثأرها من «حمزة»، وهي تنادي المسلمين بقولها:
نحن جزيناكم بيوم بدر
والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان لي عن عتبة من صبر
ولا أخي وعمه وبكر
شفيت نفسي وقضيت نذري
شفيت وحشي غليل صدري
فشكر وحشي علي عمري
حتى ترم أعظمي قبري
28
هذا، وإن كانت «هند» ترى في نفسها بقية من رغبة لم تتحقق، في القضاء على كل هاشمي وكل أنصاري، فتقول:
رجعت وفي نفسي بلابل رحمة
وقد فاتني بعض الذي كان مطلبي
من اصحاب بدر من قريش وغيرهم
بني هاشم منهم ومن أهل يثرب
ولكنني قد نلت شيئا ولم يكن
كما كنت أرجو في مسيري ومركبي
29
فقامت «هند بنت أثاثة بن عبد المطلب»، سليلة البيت الهاشمي، وقد استنفرها شعر «هند بنت عتبة»، لترد عليها قائلة:
خزيت في بدر وبعد بدر
يا بنت وقاع عظيم الكفر
صبحك الله غداة الفجر
م الهاشميين الطوال الزهر
بكل قطاع حسام يغري
حمزة ليثي وعلي صقري
إذا رام شيب وأبوك عذري
مخضبا منه ضواحي النحر
ونذرك السوء فشر نذر
30
واستمر «حسان بن ثابت» يتبع قوافي «هند بنت عتبة»، ليقع بها وقعة فاحشة، ويرفع الستر عن سرها، ليقول:
لعن الإله وزوجها معها
هند الهنود عظيمة البظر
أخرجت مرقصة إلى أحد
في القوم، مقتبة على بكر
بكر ثقال لا حراك به
لا عن معاتبة ولا زجر
وعصاك إستك تتقين بها
دقي العجاية هند بالفهر
قرحت عجيزتها ومشرجها
من دأبها نصا على القتر
ونسيت فاحشة أتيت بها
يا هند ويحك سبة الدهر
زعم الولائد أنها ولدت
ولدا صغيرا كان من عهر
31
نتائج غزوة أحد
والله ما أبتغي أن يستغفر لي، إن قمت إلا لأشدد أمره.
عبد الله بن أبي بن سلول
يقول البيهقي مصورا حال يثرب بعد هزيمة المسلمين في أحد بقوله:
وأخذ المنافقون عند بكاء المسلمين في المكر ... وتحزين المؤمنين ... وفارت المدينة بالنفاق فور المرجل.
1
ونعت النفاق عند أحد تحديدا، صار - كما هو واضح في كتب الأخبار - يلحق بكل معترض، أو بكل من عقب على الهزيمة بالتشكيك، وهو ما يظهر واضحا في قول ابن كثير:
وقالت اليهود: لو كان نبيا ما ظهروا عليه، ولا أصيب منه ما أصيب، لكنه طالب ملك تكون له الدولة وعليه. وقال المنافقون مثل قولهم، وقالوا للمسلمين: لو كنتم أطعتمونا ما أصابكم الذي أصابوا منكم.
2
والإشارة هنا إلى ثلاثمائة أنصاري، قرروا قبل المعركة البقاء في المدينة، وعدم الخروج إلى أحد، برأي عسكري عركته خبرتهم بمناعة مدينتهم. وإزاء ذلك الفوران، الذي بات يهدد هيبة الدولة الناشئة، ويعطي الفرصة للرءوس المحنية للتعالي والتغامز، وما قد يجره ذلك من تردي هيبة صنعها المجاهدون بدمائهم في بدر؛ كان لا بد من خطوة أولى لتهدئة روع المسلمين، ومن ثم استرسل الوحي يرد على هؤلاء بالقول الكريم:
الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين (آل عمران: 168).
وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين ... (آل عمران: 166).
وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا (آل عمران: 145).
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم (آل عمران: 142).
أما الذين حزنوا على المغانم الزائلة من عرض الدنيا، فقد توجه إليهم الوحي يقول:
ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب (آل عمران: 14).
ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون (آل عمران: 157).
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون (آل عمران: 169). (1) العلاج النفسي
والدليل أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: «لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقبلهم قالوا: من يبلغ إخواننا عنا أننا أحياء في الجنة نرزق؛ لئلا ينكلوا عند الحرب، ولا يزهدوا في الجهاد. قال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم. فأنزل الله تعالى:
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله ... .»
3
ثم يلتفت المصطفى إلى «جابر» رضي الله عنه ويقول له: «يا جابر؛ ألا أبشرك؟ قال: بلى بشرك الله بالخير. قال: شعرت أن الله أحيا أباك فقال: تمن علي عبدي ما شئت أعطكه. قال: يا رب ما عبدتك حق عبادتك، أتمنى عليك أن تردني إلى الدنيا فأقتل مع نبيك، وأقتل فيك مرة أخرى. قال: إنه قد سلف مني القول، لا يرجع إليها.»
4
وهكذا كان العلاج النفسي، والبلسم الشافي المداوي، ولم شتات الأنفس المبعثرة فرقا وهلعا، وتقوية العزائم بتثبيت الإيمان. لكن مؤرخينا لا يجدون - عافاهم الله - في تلك الخطة المداوية، والكلام السديد بالرأي الرشيد، كفاية وشفاء وغناء، إنما يطمحون دوما كدأبهم إلى حديث الأحاجي والمعجزات، وهو حديث ما كان يشفي أصحاب أحد وهم مهزومون، قدر ما يشفيهم الوحي الصادق، والقيادة الحكيمة. لكن أحاديث الأحاجي كتبت على ما يبدو لأجيال بعد ذلك ستقرأ التاريخ، وربما تتساءل في ضوء المشروع عقلا، فكان إلقامهم سلفا تلك الدلائل على الإعجاز، رغم تجرع المسلمين مرارة الهزيمة في هدوء وبطولة. فجاءتنا الروايات تقفو بعضها، لتعيد حديث الملائكة، وتؤكد أن الملأ الأعلى المحارب قد هبط إلى أحد، وأعمل خبرته القتالية في المعركة غير مدركين إلى أي منزلق يذهبون بتلك المزاعم. ومنها ما جاء يحكى عن الوقعة في حميتها، والرسول يتعرض للهجوم، وأمامه سعد بن أبي وقاص، «فقال عليه الصلاة والسلام لسعد: ارددهم. قال: كيف أردهم وحدي؟ فقال له: ارددهم. قال سعد رضي الله عنه: فأخذت سهما من كنانتي فرميت به رجلا منهم فقتلته، ثم أخذت سهما آخر فإذا هو سهمي الذي رميت به، فرميت به آخر فقتلته، ثم أخذت سهما فإذا هو الذي رميت به فرميت به آخر فقتلته، فهبطوا من مكانهم، فقلت: هذا سهم مبارك، فكان عندي في كنانتي لا يفارق كنانتي .»
ولا تفطن الروايات إلى أن سعدا لو استمر بسهمه المبروك هذا، لأفنى المشركين، ثم تؤكد أن هذا السهم «كان بعده عند بنيه ... وروي عنه أنه قال: لقد رأيتني أرمي بالسهم يوم أحد، فيرده علي رجل أبيض حسن الوجه لا أعرفه، حتى كان بعد ... فظننت أنه ملك.»
ثم ينسب لسعد حديث آخر يقول فيه:
رأيت يوم أحد عن يمين النبي عليه الصلاة والسلام وعن يساره، رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عن رسول الله أشد القتال، ما رأيتهما قبل ذلك اليوم ولا بعده.
5
بل وتحدد كتب التراث الرجلين البيض بالثياب البيض بالاسم فقد كانا الملكين «جبريل» و«ميكائيل».
6
ورواية أخرى، تضع سعدا مرة أخرى، في حبكة أخرى، تقول:
لما كان يوم أحد انكشفوا عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وسعد يرمي بين يديه، وفتى ينبل له كلما ذهبت نبلة أتاه بها، يقول: ارم أبا إسحق. فلما فرغوا نظروا: من الشاب؟ فلم يروه ولم يعرف.
7
ومثل تلك الروايات التي تصر على نزول الملائكة إلى أحد وحربها مع المسلمين، رواية تحكي عن أمر تعلمه كتب الأخبار؛ وهو أن «أبا الروم» أخو «مصعب بن عمير»، حمل اللواء من «مصعب» بعد سقوط أخيه شهيدا، وفي زحمة المعركة وهولها، ومع إصابة النبي تلك الإصابات الشديدة، ظن أبا الروم مصعبا، لكن الرواية تتم حياكتها لتخبرنا خبرا آخر يقول:
ولما قتل مصعب بن عمير رضي الله عنه، وسقط اللواء، أخذه ملك في صورة مصعب ... وجعل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول للملك الذي على صورة مصعب: تقدم يا مصعب. فالتفت إليه الملك فقال: لست بمصعب. فعرف عليه الصلاة والسلام أنه ملك أيد به.
هذا بينما يعقب الحلبي في سيرته على الرواية فيقول: «... ورأيت في رواية أنه لما سقط اللواء، أخذه «أبو الروم» أخو «مصعب»، ولم يزل في يده حتى دخل المدينة.»
8
وفي سياق سوق المعجزات، لا يرضى «الحلبي» في موضع آخر من سيرته، إلا بموتة قميئة لابن قمئة الذي شج النبي في وجهه وضربه بالمغفر، فيقول :
إن هذه الشجة لم تشنه، بل زادته جمالا ... فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : أقمأك الله ... وقد استجاب فيه دعوة نبيه، فإنه بعد الوقعة خرج إلى غنمه فوافاها على ذروة الجبل، فأخذ يعترضها، فشد عليه كبشها، فنطحه نطحة فأرداه من شاهق الجبل فتقطع.
9
كذلك تثني الروايات على «أبي بن خلف» الذي قتله النبي بالحربة، حتى يسكته عن إسماع المشركين نداءه وهو يهتف: أي محمد؟ لا نجوت إن نجا. لتقول بلسان عبد الله بن عمر:
مات أبي بن خلف ببطن رابغ، فإني لأسير ببطن رابغ بعد هوي من الليل، إذا نار تتأجج لي فهبتها، وإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتنبها وهو يصيح: العطش العطش. وإذا رجل يقول: لا تسقه، فإن هذا قتيل رسول الله، هذا أبي بن خلف.
10
ثم لا يجد مؤرخونا بأسا هنا من تكرار بعض ما صاغوه لبدر الكبرى، ومنها القول: «أخبرنا أشياخنا أن عبد الله بن جحش جاء إلى النبي يوم أحد وقد ذهب سيفه، فأعطاه النبي
صلى الله عليه وسلم
عسيبا من نخل، فرجع في يد عبد الله سيفا ... وأصيبت يومئذ عين قتادة بن نعمان حتى وقعت على وجنته، فردها رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فكانت أحسن عينيه وأحدهما.» وتفصيل إعادة تركيب العين في موضعها، في أن النبي رفع حدقته فوضعها موضعها ثم غمزها براحته، وقال: «اللهم اكسه جمالا.» فمات وما يدري من لقيه أي عينيه أصيبت.
11
ثم يعرج رواة السير والأخبار على ألوان أخرى من الروايات، قصدوا بها التدليل على صدق نبوة المصطفى
صلى الله عليه وسلم ، وعصمته، وطهارته، وطهارة جسده، وما قد ينال المؤمن الصادق إذا ما نال من ذلك الجسد شيئا، يرفع من مكانته ويزكيه، لكنها من جانب آخر - إن كانت قد حدثت - فإنها تلقي ضوءا على المكانة التي وصل إليها رسول الله مع أتباعه. وربما قصد بتلك الروايات وضعها في مقابلة مع أخبار من شك أو فر وهرب، لإثبات وجود المؤمنين الصادقين الثابتين، الواثقين بنبيهم إلى حد التبتل فيه، حدا لم يصله قبله إنسان ولا بعده. ومن تلك الروايات أن «مالك بن سنان الخدري»، أبا «سعيد الخدري»، قد امتص دم النبي من جروحه في أحد، وازدرد تلك الدماء، فقال النبي:
من سره أن ينظر إلى رجل لا تمسه النار، فلينظر إلى مالك بن سنان، من مس دمي لم تصبه نار.
ويعقب «الحلبي» على ازدراد دم النبي تعقيبا شارحا مطولا يقول فيه: «ولم ينقل أنه
صلى الله عليه وسلم ، أمر هذا الذي امتص دمه بغسل فمه، ولا أنه غسل فمه بعد ذلك، كما لم ينقل أنه أمر حاضنته أم أيمن بركة الحبشية رضي الله عنها، بغسل فمها، ولا هي غسلته بعد ذلك لما شربت بوله
صلى الله عليه وسلم ، ففيها رضي الله عنها أنها قالت: قام رسول الله من الليل إلى فخارة تحت سريره، فبال فيها، فقمت وأنا عطشى فشربت ما في الفخارة، وأنا لا أشعر، فلما أصبح النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: يا أم أيمن، قومي إلى تلك الفخارة فأهريقي ما فيها. فقالت: والله لقد شربت ما فيها. فضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال: لا يجفر بطنك بعده أبدا ... أي لا تشتكي بطنك ... وقد شربت بوله أيضا امرأة يقال لها بركة بنت ثعلبة بنت عمرو، وكانت تخدم أم حبيبة رضي الله عنها، جاءت معها من الحبشة ... وفي كلام ابن الجوزي، بركة بنت يسار مولاة أبي سفيان الحبشية، خادمة أم حبيبة زوج النبي
صلى الله عليه وسلم ، ... فقال لها حين علم أنها شربت ذلك: صحة يا أم يوسف. فما مرضت قط، حتى كان مرضها الذي ماتت فيه.»
12 (2) غزوة حمراء الأسد
هكذا كانت البلسمة الشافية لجراح أحد على المستوى النفسي، لإعادة تثبيت المؤمنين حول الإيمان وحول نبيهم
صلى الله عليه وسلم ، وعلاقته الحميمة بمحبيه ومريديه والخلص له. أما على المستوى العسكري، فإن «ابن هشام» راوي السيرة يحكي:
فلما كان الغد يوم الأحد، لست عشرة ليلة مضت من شوال، أذن مؤذن الرسول في الناس بطلب العدو ... أنه لا يخرجن معنا أحد، إلا أحد حضر يومنا بالأمس.
ثم يعقب بالقول: «وإنما خرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، مرهبا للعدو، وليبلغهم أنه خرج في طلبهم، ليظنوا به قوة، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم.»
13
وعليه، فإن قريشا لم تستمتع بنشوة نصرها سوى ليلة واحدة، أو بضعا منها، وخاب فألها في هيبتها، وسقطت آمالها في تأمين طريق الإيلاف، فلم تمض شوطا عن المدينة، حتى خرج المسلمون وهم بعد جرحى، بزعامة قائدهم المقتدر، رغم ما أثقل جسده الشريف من آلام وجراح، إلى حمراء الأسد. ليوهم قريشا أنه خرج لها مطاردا، وأن المسلمين لم يهنوا أو يتخاذلوا ليسلبهم لذة نصر الأمس، ونشوة عزهم الكاذب، وليثبت لهم أن ما حدث بأحد، كان أمرا اعتراضيا في مشوار طويل سيطول مداه، وأن النبي لن يتراجع عما انتواه. وبالفعل خرج المسلمون إلى حمراء الأسد طاعة لنبيهم رغم جراحهم، «فمنهم من كان به تسع جراحات، وهو أسيد بن حضير رضي الله عنه، وعقبة بن عامر رضي الله عنه، ومنهم من كان به عشر جراحات وهو خراش بن الصمة رضي الله عنه، ومنهم من كان به بضع عشرة جراحة، وهو كعب بن مالك رضي الله عنه، ومنهم من كان به بضع وسبعون جراحة، وهو طلحة بن عبيد الله ... وخرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وهو مجروح في وجهه من أثر الحلقتين، ومشجوج في وجهه، ومكسورة رباعيته، وشفته السفلى قد جرحت من باطنها، وشفته العليا قد كلمت من باطنها، متوهن منكبه لضربة ابن قمئة لعنه الله، وركبتاه مجروحتان من وقعته في الحفيرة.»
14
ثم نعلم أن خزاعة بمشركيها، رغم هزيمة المسلمين، ظلت على عهدها ليثرب وقائدها. وهنا يجب ألا ننسى، أن خزاعة لم تنس أبدا أن قريشا سلبتها سيادتها على مكة وعلى البيت، وطردتها من مكة بعد أن تحالفت مع من والاها من قبائل العرب، بحيلة احتال بها سلف قريش «قصي بن كلاب» على «أبي غبشان الخزاعي»، فاشترى منه مفتاح الكعبة بزق من الخمر وقعود،
15
لذلك:
كانت خزاعة مسلمهم وكافرهم عيبة رسول
صلى الله عليه وسلم
بتهامة، صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئا كان بها. ومعبد بن أبي معبد الخزاعي يومئذ مشرك، مر برسول الله
صلى الله عليه وسلم
وهو مقيم بحمراء الأسد، فقال: يا محمد؛ أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله عافاك فيهم. ثم خرج من عند رسول الله بحمراء الأسد، حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء، وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله وأصحابه ... فلما رأى أبو سفيان معبدا قال: ما وراءك يا معبد؟ قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرقون عليكم تحرقا، قد اجتمع معه من كان قد تخلف عنه في يومكم، وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنق عليكم ما لم أر مثله قط. قال: ويلك ما تقول؟ قال: والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل ... فقال النبي وهو بحمراء الأسد حين بلغه أنهم هموا بالرجعة، والذي نفسي بيده، لقد سومت لهم حجارة، لو صبحوا بها لكانوا كأمس الذاهب.
16
وعليه، شدت قريش في طريق العودة سراعا نحو مكة، وهي تظن يثرب بجمعها قد خرجت وراءها تطلبها، بينما كان النبي عليه الصلاة والسلام في طريق عودته من حمراء الأسد إلى يثرب، بعد أن حقق غرض الإرهاب لقريش، ليبدأ بالمرحلة الثالثة من علاج نتائج أحد، بعد العلاج النفسي، والإرهاب العسكري. فقام يضرب بسرعة وبقوة، كل القوى المناوئة والمضادة في يثرب، وكل من سولت له نفسه التشفي أو التهكم أو اهتبال الفرص، وهو ما بدأه بإصدار الأمر بقتل «الحارث بن سويد بن الصامت»، الذي قتل «المجذر بن زياد» في أحد، ثأرا لأبيه:
فأمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، عويمر بن ساعدة بضرب عنقه، فقال له: قدم الحارث بن سويد إلى باب المسجد واضرب عنقه. وقيل أمر عثمان بن عفان بذلك، «والمرجح أن عثمان هو الذي قتله، رغم أنه كان من الهاربين»، فقدم ليضرب عنقه، فقال الحارث: لم يا رسول الله؟ فقال: بقتلك المجذر بن زياد ... فقال الحارث: والله قتلته، وما كان قتلي إياه رجوعا عن الإسلام ولا ارتيابا فيه، ولكن حمية من الشيطان، وإني أتوب إلى الله ورسوله مما عملت، وأصوم شهرين متتابعين، وأعتق رقبة. فلم يقبل منه النبي
صلى الله عليه وسلم .
17
أما «ابن سلول» الذي عاد بثلث جيش المسلمين من أحد، متشككا في النصر الموعود، والملائكة المنزلة، فكان له شأن آخر، نقرؤه في رواية تقول:
كانت عادة عبد الله بن أبي بن سلول، إذا جلس النبي
صلى الله عليه وسلم
يوم الجمعة على المنبر، قام فقال: أيها الناس، هذا رسول الله بين أظهركم، أكرمكم الله تعالى به وأعزكم، فانصروه وعزروه، واسمعوا له وأطيعوا، ثم يجلس.
ومثل ذلك القول المعتاد من «ابن سلول»، يشير إلى أمر الرجل كسيد من سادة المدينة، يوجه نصحه وأمره لرجاله وأتباعه وحلفائه، بطاعة النبي، كما يشير لهم أنه بخطابه قد بدأ هو بالطاعة للنبي وعليهم اتباعه، كما أن تلك المقدمة الدورية منه كل جمعة. كانت تعني من جانب آخر، تنازلا مضطرا للسيد الجديد، كما كانت تمسحا به وتزلفا لبقية المؤمنين، وهو يعطيها كما لو كان يعطي برضاه، أو كمن تنازل عن السيادة وأمر أتباعه بالطاعة ولولاه ما أطاعوا. إنها المحاولة الدائبة من سيد انحدر أمره يريد التشبث بما بقي له من ظلال السيادة، ولو على من بقي له من أتباع، ليقوم ممثلا لهم معطيا بيعة دورية للسيد الجديد. لكن بعد أحد، حدث ما جاء في كتب السير يقول:
فبعد أحد، أراد أن يفعل ذلك، فلما قام، أخذ المسلمون بثوبه من نواحيه، وقالوا له: اجلس عدو الله، والله لست لذلك بأهل، وقد صنعت ما صنعت. فخرج وهو يتخطى رقاب الناس وهو يقول: كأني إنما قلت هجرا؟! وقال له بعض الأنصار: ارجع يستغفر لك رسول الله، فقال: والله ما ابتغي أن يستغفر لي، إن قمت إلا لأشدد أمره.
18
وهكذا سقط ما كان قد تبقى لابن سلول من سيادة وتشريف، كان يلتمسه عبر تقديم سيد المدينة الجديد لأتباعه، وانحدر أمره، وتضاءل حجمه وأمعن بقية الأنصار مع المهاجرين في تصغيره، حتى لا يكون فتنة للمسلمين بعد الهزيمة، وحتى لا يكون ذا أثر محسوس لمعارضة حية أو نشطة في الدولة الجديدة، زمن حرب ومعركة دائبة. (3) المعارضون
ثم كان أن سل الإسلام سيفه على الرءوس الكبيرة داخل المدينة وخارجها، إرهابا وإنذارا، لتعود القبائل إلى الانكماش ولا تجد في أحد فرصة للتطاول على دولة المسلمين الطالعة، وفي ذلك يذكرنا «ابن حبيب» بمقتل الرأس اليهودي «كعب بن الأشرف»، الذي هاله أمر قتلى المشركين في بدر وأفصح بالعداء للمسلمين، لكن ليضيف إليه رأسا آخر تم اجتثاثه، فيقول: «وفي سنة ثلاث، بعث محمد بن مسلمة وسلكان بن سلامة إلى كعب بن الأشرف فقتلاه ... وبعث في النصف من رجب عبد الله بن أنيس إلى سلام بن أبي الحقيق اليهودي فقتله.»
19
ويفصل لنا «ابن كثير» أمر اغتيال «أبي رافع/سلام بن أبي الحقيق» بقوله: «وكانت الأوس قبل أحد قد قتلت كعب بن الأشرف، فاستأذن الخزرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في قتل سلام بن أبي الحقيق وهو بخيبر، فأذن لهم، قال ابن إسحق: فحدثني محمد بن مسلم الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك قال: وكان مما صنع الله لرسوله
صلى الله عليه وسلم ، أن هذين الحيين من الأنصار والأوس، كانا يتصاولان مع رسول الله تصاول الفحلين، لا تصنع الأوس شيئا فيه غناء عن رسول الله إلا وقالت الخزرج والله لا يذهبون بهذه فضلا علينا عند رسول الله، فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها، وإذا فعلت الخزرج شيئا قالت الأوس مثل ذلك. ولما أصابت الأوس كعب بن الأشرف في عداوته لرسول الله قالت الخزرج: والله لا يذهبون بها فضلا علينا أبدا. قال: فتذاكروا من رجل لرسول الله في العداوة كابن الأشرف، فذكروا ابن أبي الحقيق وهو بخيبر، فاستأذنوا رسول الله في قتله فأذن لهم، فخرج من الخزرج من بني سلمة خمسة نفر: عبد الله بن عتيك، ومسعود بن سنان، وعبد الله بن أنيس وأبو قتادة الحارث بن ربعي، وخزاعي بن أسود حليف لهم، حتى إذا قدموا خيبر أتوا دار ابن أبي الحقيق ليلا ...» ثم يروي راويهم «فلما دخلنا عليه، أغلقنا عليه وعلينا الغرفة، فابتدرناه وهو على فراشه بأسيافنا، فوالله ما يدلنا عليه في سواد الليل إلا بياضه، كأنه قبطية ملقاة ... وتحامل عليه عبد الله بن أنيس بسيفه في بطنه حتى أنفذه وهو يقول: قطني قطني ...» أما «ابن أنيس» فيؤكد المقتلة حتى الموت بقوله:
فوضعت السيف في بطنه، ثم انكفأت عليه، حتى سمعت صوت العظم.
وقال «الزهري»: قال «أبي بن كعب»: فقدموا على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وهو على المنبر: فلما رآهم قال: أفلحت الوجوه ... فقال حسان بن ثابت في ذلك، يعلم الحاضر والبادي أن سيف الإسلام وإن تراجع مهزوما في أحد، فلا زال قادرا على قطع الرءوس:
لله در عصابة لاقيتهم
يا ابن الحقيق وأنت يا ابن الأشرف
يسرون بالبيض الخفاف إليكم
مرحا كأسد في عرين مغرف
حتى أتوكم في محل بلادكم
فسقوكم حتفا ببيض ذفف
مستبشرين لنصر دين نبيهم
مستصغرين لكل أمر مجحف
20
وإذ يصر «ابن حبيب» في كتابه المحبر، على اغتيال أبي رافع سلام بن أبي الحقيق، بعد أحد مباشرة، فإن رواة السيرة في مواضع مختلفة يحاولون تبرير المقتلة، فيقولون إنها حدثت فيما بعد، بعد وقعة الخندق. والسبب هو أن «سلام بن أبي الحقيق» كان أحد الذين حزبوا الأحزاب ضد دولة الرسول وهو ما يناقض ما جاء في شعر «حسان بن ثابت»، عندما جمع بين مقتل «كعب بن الأشرف» ومقتل «أبي رافع سلام بن أبي الحقيق» في قصيدته التي تستعرض قوة السيف الإسلامي. ومعلوم أن «ابن الأشرف» قد تم قتله بعد أحد مباشرة لقولته التي قالها. هذا بينما نعلم من «ابن سيد الناس» في مغازيه «عيون الأثر»، أن «أبا رافع سلام بن أبي الحقيق» قد قتل بعد أحد، وتم تسييد سيد بعده على خيبر هو «أسير بن رزام»، وذلك في قوله: «لما قتل أبو رافع سلام بن أبي الحقيق، أمرت يهود عليهم أسير بن رزام ، فسار في غطفان وغيرهم فجمعهم لرسول الله.» ومن ثم فإن من حزب الأحزاب هنا هو «أسير بن رزام» وليس «أبا رافع»، لأن أبا رافع كان قد قتل بعد أحد، وقد تم الخلط بعد ذلك بين كليهما. إذ إن «أسير بن رزام» هو الذي قتل بعد تحزيبه الأحزاب في سرية إسلامية أخرى، سرت إليه لتقتله بعد غزوة الأحزاب أو الخندق كما سنرى.
21
بل إنه في رواية ابن هشام ما يؤكد قتل «أبي رافع» بعد أحد مباشرة، في قوله السالف «وكانت الأوس قبل أحد قد قتلت كعب بن الأشرف، فاستأذن الخزرج رسول الله في قتل سلام بن أبي الحقيق.»
ثم انطلق سيف الإسلام داخل يثرب يعمل لإسكات أي لون من ألوان الاستهانة بالدولة، وهي الاستهانة والمعارضة التي يمكن أن تشكل كارثة لدولة عسكرية في زمن حرب. وهو ما نقرؤه في قصة اغتيال «أبي عفك/عمرو بن عوف»، ذلك الشيخ الذي تخطى بعمره من الزمان قرنا، فلم تبق لديه قوى تمكنه من إمساك دمعه واستمرار تجلده، وهو يرى مسلما آخر هو «الحارث بن سويد بن الصامت»، وهو يذبح بباب المسجد النبوي وهو ابن «سويد بن الصامت» الذي عرف بين العرب بالحكمة، وبأنه صاحب صحيفة لقمان التي وافق عليها الوحي القرآني. فانهمر دمع «أبي عفك» مرسلا شعره نحيبا باكيا «الحارث» ابن صاحب صحيفة لقمان. ورجل في عمر «أبي عفك» إن أرسل نواحه في الفيافي بين العربان، الذين يقدسون المسنين، ويعبدون الأسلاف ويحنون الهامة للمعمرين، لا يتركها إلا بقلوب كليمة موجوعة جزعة، وهو الشعر الباكي الذي جاءنا خبر منه في رواية ابن إسحق عن «غزوة سالم بن عمير لقتل أبي عفك أحد بني عمرو بن عوف، ثم بني عبيدة، وكان قد نجم نفاقه حين قتل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
الحارث بن سويد بن الصامت.» وإشارة ابن إسحق لنفاق الرجل تشير إلى أنه كان حتى قوله ذلك الشعر مسلما، وما نافق إلا بتلك البكائية التي تقول في طرف منها:
لقد عشت دهرا وما إن أرى
من الناس دارا ولا مجمعا
أبر عهودا وأوفى لمن
يعاقد فيهم إذا ما دعا
من اولاد قيلة في جمعهم
يهد الجبال ولم يخضعا
فصدعهم راكب جاءهم
حلال حرام لشتى معا
فلو أن بالعز صدقتم
أو الملك تابعتم تبعا
فقال رسول الله: من لي بهذا الخبيث؟ فخرج إليه سالم بن عمير، أخو بني عمرو بن عوف (أي أحد رجال عشيرته) فقتله، وهو ما طربت له «إمامة المزبرية» حتى قالت:
تكذب دين الله والمرء أحمدا
لعمر الذي أمناك أن بئس ما يمني
حباك حنيف آخر الليل طعنة
أبا عفك خذها على كبر السن
ولكن لمصرع رجل مثل «الحارث»، ثم مقتل رجل السنين والطوال والحكمة «أبي عفك»، كان لا بد أن يدوي الصدى ليرجع الأمر ترجيعا بين النفوس الجازعة. ولم تتمكن «عصماء بنت مروان» من الإمساك على إسلامها، فأرسلت عبراتها شجونا، تعول وتبكي وتهجو وتحرض، ليسري شعرها بين الناس مرجعا لوعتها وهي تقول:
باست بني مالك والنبيت
وعوف، وباست بني الخزرج
أطعتم أتاوى من غيركم
فلا من مراد ولا مذحج
ترجونه بعد قتل الرءوس
كما يرتجى مرق المنضج
ألا أنف يبتغى غيره
فيقطع من أمل المرتجي؟
ومن ثم لا يجد «ابن هشام» من أمر عبراتها إلا نفاقا، بقوله:
فلما قتل أبو عفك نافقت.
وهو النفاق الباكي الذي استحقت عليه ما جاء ذكره «عند ابن هشام» في قول النبي بين أصحابه هاتفا:
ألا آخذ لي من ابنة مروان؟
فسرى إليها ليلا واحد من بني عشيرتها، هو «عمير بن عدي» فكلاهما من بني خطمة، فأعمل سيفه في أحشائها وهي مستسلمة لنومها في فراشها، «ثم أصبح مع رسول الله فقال: يا رسول الله إني قتلتها. فقال: نصرت الله ورسوله يا عمير.»
أما النتيجة التي ترتبت على قتل عقيلة بني خطمة، فهي هرع من لم يسلم منهم إلى إعلان إسلامه، «فذلك اليوم أول ما عز الإسلام في دار بني خطمة ... فأسلم، يوم قتلت ابنة مروان، رجال من بني خطمة لما رأوا من عز الإسلام.»
22
ويستمر راوي السيرة «ابن هشام» في سرد ما سقط من أحداث في سيرة «ابن إسحق»، ليضيف إلى مقتل «أبي رافع» و«أبي عفك» و«عصماء بنت مروان»، عددا من السرايا لعل أهمها سرية «عبد الله بن أنيس» لقتل سيد هذيل «خالد بن سفيان الهذلي» وسرية «زيد بن حارثة» إلى بني فزارة.
ويروي «الطبري» قصة سرية «عبد الله بن أنيس» فيقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام بعث إلى «عبد الله بن أنيس» وقال له: «بلغني أن خالد بن سفيان بن نبيح الهذلي يجمع لي الناس ليغزو لي، وهو بنخلة - أو بعرنة - فأته فاقتله.» وذهب «ابن أنيس» حتى التقى بالرجل، وأخذه في مسيره شوطا بعيدا عن أصحابه وهو يحكي له عن رغبته في الالتحاق به، حتى وجد منه فرصة بعيدة عن الأعين فقتله، وعاد إلى يثرب ليحكي لنا «فلما قدمت على رسول الله وسلمت عليه ورآني قال: أفلح الوجه.»
23
أما سرية «زيد بن حارثة» إلى بني فزارة بوادي القرى، فكانت إلى «فاطمة بنت ربيعة» المعروفة بأم قرفة، وكانت عجوزا كبيرة تجاوزت من عمرها قرنا، وكانت مطاعة في قومها، ذات منعة وشرف وسيادة، بلغ صيتها كل العربان، وضربوا بعزها الأمثال، وبقي من الأمثال التي تتعلق بأم قرفة مثلان على الأقل، وهما «أمنع من أم قرفة»، و«لو كنت أعز من أم قرفة ما زدت.»
24
وهي كلها أسباب تكشف عن ملامح غزوة «زيد بن حارثة» وغرضها الذي تم بهبوطه عليها على غرة، فأعمل السيوف في الفزاريين، ثم أسر أم قرفة وابنتها هندا. وبينما أبقى على «هند» سبية، فقد أمر بقتل أم قرفة قتلا ذكر «ابن هشام» أنه كان عنيفا.
25
وهو ما جاء تفصيله في «الطبري» شارحا: أنه تم ربط رجليها بحبلين، ثم ربط الحبلان ببعيرين متعاكسين، ثم ضرب البعيران فانطلقا، فشقاها شقا.
26
وهكذا جاء مسلسل الاغتيال والعنف والتصفية الجسدية، لإعادة تثبيت هيبة الدولة التي ترنحت في أحد، ولإعلان الإصرار الذي لا يتزحزح على استدامة الدولة وسيادتها والحفاظ على مستقبلها، ولو مع التضحية بأرواح كثيرة.
ومن ثم كان ضروريا أن تهدأ المدينة، بعد قبر الأصوات المعارضة، لكن بعد أن أصلت غزوة أحد الثارات بين اليثاربة وبين المكيين نارا. كما تركت سرايا الاغتيال بدورها أحقادا ثأرية في نفوس قبائل قطع السيف الإسلامي رءوس سادتها وأشرافها. وهو الأمر الذي ظل قائما ومحركا لأحداث سيتناولها الجزء الثاني من القسم الثاني من هذا الكتاب.
التأسيس
مسار التاريخ والتأسيس التاريخي للأمة
الوسطية بين النقائض
صحيفة المعاقل
الباب الأول: دية بني عامر
غدر العربان
غزوة النضير
تأديب العربان
غزوة الخندق
الباب الثاني: الاعتراف بقيام الدولة
إخضاع القبائل
غزوة المصطلق
غزوة الحديبية
فتح خيبر
الباب الثالث: فتح الفتوح
الإسلام وقاء
مكة: فتح الفتوح
سرايا خالد بن الوليد
غزوة هوازن
حصار الطائف
الباب الرابع: قيام دولة العرب الموحدة
البراءة
عام الوفود
المصادر1
التأسيس
مسار التاريخ والتأسيس التاريخي للأمة
الوسطية بين النقائض
صحيفة المعاقل
الباب الأول: دية بني عامر
غدر العربان
غزوة النضير
تأديب العربان
غزوة الخندق
الباب الثاني: الاعتراف بقيام الدولة
إخضاع القبائل
غزوة المصطلق
غزوة الحديبية
فتح خيبر
الباب الثالث: فتح الفتوح
الإسلام وقاء
مكة: فتح الفتوح
سرايا خالد بن الوليد
غزوة هوازن
حصار الطائف
الباب الرابع: قيام دولة العرب الموحدة
البراءة
عام الوفود
المصادر1
حروب دولة الرسول (الجزء الثاني)
حروب دولة الرسول (الجزء الثاني)
تأليف
سيد القمني
التأسيس
مسار التاريخ والتأسيس التاريخي للأمة
أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه (الشورى: 13/قرآن كريم)
كان تراكم الثروات العظيمة لدى الأرستقراطية المكية عشية الإسلام بحاجة إلى وسائل تنموية متعددة، بينما الواقع المتشظي بضآلة وسائل الإنتاج فيه قد جعل تلك التنمية شبه معدومة، فظلت الثروات في حالة كنز وكمون لا تتحرك إلا مع موسم التجارة، دورة واحدة دون حراك حقيقي يعود بفوائد على المستوى القاعدي الأوسع لأفراد مختلف القبائل.
وللحفاظ على الثروات الكامنة تم كنزها في شكل معادن ثمينة، وهو ما أدى دورا معطلا لدورتها الإنتاجية المفترضة، كما أدى بالتجار الوسطيين وبعض أفراد الأرستقراطية الواعية إلى قراءة آفاق المستقبل وممكناته، بينما ظل أغلبية الملأ على حالهم المحافظ الرجعي بالاكتناز حتى موسم التجارة.
ومثل تلك المقدمات تفسر لنا إسلام بعض التجار الوسطيين مثل أبي بكر بن أبي قحافة ومن كان على رأيه وقت كان الإسلام ينادي المستضعفين، حيث كان هؤلاء الوسطيون أقدر على قراءة حركة الواقع قراءة واعية بحكم موقعهم الاجتماعي. تلك القراءة التي أدركت غاية خط سير التطور، حتى يمكن أن يتحول أمن البيت المكي لأهله من الجوع والخوف إلى أمن لعرب الجزيرة جميعا، بتوحد ينتهي إلى قوة واقتدار، ويؤدي إلى نظرة طموح نحو الإمبراطوريتين المتهالكتين.
كذلك تفسر تلك المقدمات، تلك اللغة القوية الجديدة التي أخذت تسري مع سفي الرياح في فيافي الجزيرة، وأوردنا لها نماذج في الجزء الأول من هذا العمل. ونعضده هنا بإضافة ما وجدناه مجددا عند «الدينوري» في «الأخبار الطوال» وهو يحكي عن «النعمان بن المنذر»، ملك الحيرة العربي المسيحي، المنوب عليها من قبل كسرى فارس. ذلك الرجل الذي ظهر شعوره القومي العربي تجاه قومه، فقام يساعد «سيف بن ذي يزن» العربي اليهودي الذي ثار في اليمن على الاحتلال الحبشي المسيحي لبلاده، فتوسط النعمان لدى كسرى ليمد «سيف بن ذي يزن» بالسلاح والجند، حتى تحررت اليمن من الحبش، لكن لتسقط في تبعية الفرس.
ولو تم تفسير موقف النعمان بأنه كان يوطئ لجيوش الفرس في اليمن لظلمناه ظلما بينا؛ لأن ذلك التفسير سيجافي ما حدث بعد ذلك وينافيه تماما، فقد استمرت سياسة النعمان في موالاة القبائل العربية، حتى توجس منه كسرى الذي وعى بدوره شكل التحولات التي تجري في الجزيرة ونذرها، فتخلص منه. وأوجز سبب قتله في خلاصة واضحة معبرة تماما عن خط سير الأحداث، حيث قال:
وأما ما زعمت من قتلي النعمان بن المنذر، وإزالتي الملك عن آل عمرو بن عدي، إلى إياس بن قبيصة، فإن النعمان وآل بيته قد واطئوا العرب وأعلموهم توكفهم خروج الملك عنا إليهم، وكان لهم في ذلك كتب، فقتلته، ووليت الأمر أعرابيا لا يعقل من ذلك شيئا.
1
وقد تتالت الأحداث إثر ذلك، فأخذت بكر تغير على سواد العراق كرا وفرا،
2
ثم تصاعدت المناوشات بين قبائل إياد والفرس، ليهزم العرب هزائم متتالية.
3
حتى تأتي موقعة ذي قار حيث تحقق القبائل العربية أول نصر عظيم لها على جيش الإمبراطورية؛ ذلك النصر الذي دوى أمره يرجع صداه بين مضارب القبائل الساهرة تسمر حول أخباره، مع فرح عام شمل الجزيرة جميعا عبر بوضوح عن بدء شعور العرب بوحدة جنسهم، وعن ظهور نزوع قومي واضح لا شية فيه، ليلقي بصداه في سمع الأجيال وهي تنصت إلى موحد العرب، النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
وهو يعقب على نصر ذي قار قائلا: «اليوم أول يوم انتصف فيه العرب من العجم وبي نصروا.»
4
وفي مكة، كان أبرز من وعى ممكنات المستقبل وهي تلقي بمقدماتها أمام سادة مكة، رجل من الملأ حكيم، هو عتبة بن ربيعة، الذي وقف يطلب من قريش الكف عن محمد؛ لأن ما سيكون له من شأن سيكون شأنهم، وما سيحققه من عز وملك سيكون ملكهم وعزهم، لكن إصرار الملأ على المنافع الضيقة واستدامة الأرباب القبلية جذبا للتجارة، أدى بذلك المتغير الآتي إلى أن يفرض وجوده فرضا، ليصل خط التطور نحو غايته الحتمية.
وعليه فقد نهض بإتمام التطور وأخذه إلى نهايته الناضجة، لصالح الطبقة التاجرة، ذلك الفرد المنتظر، نبي الإسلام الكريم
صلى الله عليه وسلم
الذي نشأ يتيما فقيرا كادحا، من البيت الهاشمي الذي حاز شرف النسب، لكن مع تواضع مادي، بل كان من الغصن رقيق الحال في ذلك البيت، غصن عبد المطلب وأبي طالب. ومع تجاوزه الصبا إلى اليفوع والرجولة، تحول محمد إلى التجارة لصالح أثرياء مكة، ثم تزوج من الشريفة الثرية السيدة خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها - فخبر الأمرين، وعاش الحالين، وعاين الطبقتين، مما كان كفيلا بوعي نافذ، كان وراء دفع الأمر نحو غايته ونتائجه الحتمية.
وإعمالا لما سبق، وبسبيل الاتساق مع السير الصحيح لوجهة التطور التاريخي، بدأ النبي
صلى الله عليه وسلم
دعوته بالمجاهرة بضرب المصالح الأنانية الضيقة لملأ مكة، ابتداء بضرب التعدد القبلي الربوبي، بهدف التوحيد الآتي. ومن ثم كان إعلانه كفران قريش
قل يا أيها الكافرون ... ، وسلبها لقبها الذي شرفتها به العرب «أهل الله»، وتسفيهه لمعتقداتها وعقائد العربان، مع رفضه الصارم لقواعد التجارة التي قعدوها، التي كانت تعطل سيولة رأس المال وتجمد دورته التنموية، فقام يهاجم كنز الذهب والفضة بأوامر وحي يساير سنن الكون التاريخية ويلتقي معها، حتى وصل في مغالاته إلى ذم المال في ذاته، وهو ما جاء في رواية ابن حنبل: «إن النبي قال: تبا للذهب، تبا للفضة، فشق ذلك على أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم
فقالوا: أي مال نتخذ؟ فقال عمر رضي الله عنه: أنا أعلم لكم ذلك. فقال: يا رسول الله إن أصحابك قد شق عليهم فقالوا: أي مال نتخذ؟ قال: لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وزوجة مؤمنة تعين أحدكم على دينه.»
5
وتكرر موقفه من المال في مواقف من أصحابه من التجار الوسطيين، فقال يوما لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: «ما بطأ بك يا عبد الرحمن؟ قال: ما ذاك يا رسول الله؟ قال
صلى الله عليه وسلم
إنك آخر أصحابي لحوقا بي يوم القيامة، فأقول: ما حبسك عني؟ فيقول المال: كنت محاسبا محبوسا حتى الآن.»
6
وكان طبيعيا أن تسفر الدعوة عن عداء جهير بعد الجفوة، أدى بالنبي
صلى الله عليه وسلم
إلى وجهة مرحلية على خطوات الطريق الاستراتيجي الطويل، تحول بموجبها نحو المستضعفين والمعدمين والعبيد، يدعوهم إلى النسب والامتلاك، بل وامتلاك كنوز تتضاءل أمامها كنوز الملأ القرشي، إنها كنوز كسرى وقيصر؛ بهدف تشكيل نواة جماعة أولى لأمة جديدة واحدة من دون الناس، وعليه كان إعلان الوحي:
ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين (القصص: 5).
ويروي البلاذري: «كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إذا جلس في المسجد جلس إليه المستضعفون من أصحابه؛ عمار بن ياسر وخباب بن الأرت وصهيب بن سنان وبلال بن رباح وأبو فكيهة وعامر بن فهيرة، وأشباههم من المسلمين، فتهزأ قريش بهم ويقول بعضهم لبعض: هؤلاء جلساؤه كما ترون، قد من الله عليهم من بيننا.»
7
وإعمالا لذلك بات واضحا أن المستضعفين هم من سيشكلون مادة الأمة الطالعة، وهم من سيكونون القادة والأئمة، وهم من سيرثون الملأ وحكومته، والسبيل أمة جديدة، تقوم على مبدأ جديد، يوحد ولا يفرق، يجمع أصحاب المصلحة في التغيير في مصهر واحد، عبرت عنه الآيات الكريمة بقوله:
أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه (الشورى: 13). ومن هنا، وفي تلك المرحلة قام الإسلام بضرب القبلية، بإحلال الولاء لجماعة الإسلام محل أي ولاء آخر، وهو ما دعا إليه الوحي في قوله:
ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم (التوبة: 113).
وقد أفصحت الصحيفة التي عقدت بعد ذلك بزمن بعد الهجرة إلى يثرب، عن قرار بقيام الدولة على نظام اجتماعي جديد، يميزها كأمة أخرى تماما دون بقية الأعراب، ووضعت أول مبدأ للأمة الموحدة، معبرة عن التجمع الحضري الكيفي المتجاوز للتجمع القبلي الكمي. وهو المبدأ الوارد في نصها المضيء في مبتداها: «هذا كتاب من محمد النبي، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس.»
8
وتسارعت الخطوات بعد الهجرة بادئة بالمهمة الكبرى، وهي إسقاط نظام الملأ المكي وحكومته شبه الجمهورية، وضرب ذلك النظام في أساسه الخرساني بقطع طريق الإيلاف التجاري المار قرب يثرب، بحروب بدأت رحاها بسرايا وغزوات، كانت الحروب التأسيسية لقيام دولة الرسول في يثرب.
وهكذا كان الانقلاب العظيم الذي جاءت به الدعوة، يتمثل في رفض النموذج البدوي للإنسان العربي في المرحلة القبل إسلامية، ومن ثم جاء الانقلاب ليسارع في تفجير الأطر القبلية، ويبني نموذجا جديدا لإنسان الجزيرة، ويضعه ضمن منظومة اجتماعية جديدة، تنتقل بالفرد من الولاء للقبيلة إلى الولاء للأمة القومية، تلك الأمة التي كان عمادها الرئيس عقيدتها الجديدة.
وإذا كانت ترميزات الوحي المجازية قد جعلت من إبراهيم الخليل أمة وحده، كأب لجميع الأنبياء
إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين (النحل: 120)، فإنها جعلت من محمد
صلى الله عليه وسلم
آخر الأنبياء وخاتمهم؛ ومن ثم كان محمد بدوره أمة. وإذا كان هو كل الإيمان وكل الأنبياء في دين واحد وذات واحدة، فلا شك أن المؤمنين به سيكونون بإيمانهم محمديين؛ أي سيكونون بدورهم أمة؛ لذلك جاءت الآيات تقول:
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير (آل عمران: 104).
كنتم خير أمة أخرجت للناس (آل عمران: 110).
إن هذه أمتكم أمة واحدة (الأنبياء: 92).
وكان الشرط ليكونوا أمة هو الاعتراف بمحمد رسولا خاتما، وبمن سلف من أنبيائهم، أنبياء وأسلاف الأمة وتاريخها، وبالله الواحد ربا جامعا لوحدتهم في كيان اجتماعي عقدي واحد.
ومن البداية كان واضحا أن هذه الأمة الجديدة هي الأمة الجامعة لعرب بدءوا منذ وهلة فقط قريبة جدا يشعرون بوحدة جنسهم وبقوميتهم إزاء تفجر أطر القبيلة، وهو ما تمثل في موقفهم من تحرير اليمن، ومن انتصار قبائل الشمال على الفرس في ذي قار.
ومن هنا أضحى أن مصطلح أمة في العقيدة الجديدة يعني كيانا اجتماعيا جديدا شديد الصلة بمعنى يناقض البداوة والقبلية، ويتماهى مع معنى المدينة والحضارة.
ومنعا لأي التباس في عروبة تلك الأمة، مع وجود العبيد والموالي الذين دخلوا الإسلام من أصول غير عربية، جاء حديث سيد الخلق
صلى الله عليه وسلم
يقول:
أيها الناس: إن الرب رب واحد، والأب أب واحد، والدين دين واحد، وإن العربية ليست لأحدكم بأب ولا أم، وإنما هي لسان، فمن تكلم العربية فهو عربي.
9
كان التوحيد الربوبي ناتجا لتطور ظروف المجتمع، لكنه أيضا كان مؤسسا للدولة الواحدة، وكان لا بد أن يرافقه توحد إثني جنسي يلغي أسلاف القبائل الذين هم أرباب في الوقت ذاته، لتتحقق الوحدة المرجوة؛ ومن ثم كان تأكيد النبي على ما سبق وأعلنه جده عبد المطلب بن هاشم، أن جميع قبائل العرب وإن تفرقت قبائلها وتشرذمت، فإنها إلى أب واحد تعود، هو إسماعيل بن إبراهيم أبو جميع الأنبياء، الذين هم بدورهم مسلمون.
وهكذا كان التوحيد الربوبي يتمثل في الالتفاف حول لواء واحد هو قول لا إله إلا الله، والقبول بالانضواء تحت سلطة نبوية قائدة واحدة تتمثل في الشهادة لمحمد بأنه رسول الله، كأساس تنظيمي للحركة التاريخية نحو إقامة دولة مركزية للأمة الطالعة، وبحيث ينتقل العربان من الوضع القبلي إلى الوضع القومي.
ولتحقيق الهدف، كان لا بد من خروج الفرد من منظومته القبلية إلى رحاب القومية الأرحب، مما يعني انسلاخه الكامل فكريا وسلوكيا عن حالة التبدي والقبلية.
لكن تظهر الإشكالية الكبرى والمستعصية، حيث لم تشعر شراذم العرب القبلية بوحدة جنسها إلا بشكل ابتدائي كلون من العصبية غير الواضحة والضبابية، ناهيك عن انقطاع تلك القبائل عن ماضيها وأحوال من سبقهم، وهو انقطاع تاريخي مع التأريخ لعوامل كثيرة معلومة، ليس هنا مجال عرضها، حتى إنهم ما كانوا يشعرون بوحدة جنسهم، أو أن لهم أية علاقة بالحضارات السامية القديمة. ورغم أن البعض اليوم يقعد تلك الحضارات في مجلس التاريخ العربي، مع الإشارات إلى حضارات الجنوب اليمني، فإن هذا الاعتبار يقوم على الجغرافيا مع إسقاط الجانب اللغوي وخط الكتابة وغيره، وحتى ظهور الخط النبطي الذي تطور عنه الخط العربي بعد ذلك بقرون، فإن عرب الجزيرة أنفسهم ما كانوا يشعرون بوحدة جنسهم، ولم يبدأ ذلك الشعور جليا إلا مع دخول الرسملة وإفصاح المجتمع عن وجهه الطبقي، حيث بدت بوادره بفرح عم جزيرة العرب عندما انتصر حلف قبائل الشمال على جيوش فارس في وقعة ذي قار، وعندما تمكن ابن ذي يزن من تحرير بلاده من الأحباش.
وهكذا كان لا بد للأمة من تاريخ يتصل بها، ويتواصل معها، ويجد لها موطئ قدم راسخ في عمق الزمان الماضي، فأي أمة لا بد لها من عراقة تاريخية عميقة، وتاريخ يضرب بجذوره في الماضي البعيد المؤسس للتطور التالي المنشئ للأمم أصلا.
ومن هنا كان الاتجاه نحو العماد التأسيسي العقدي لإلقائه في رحم التاريخ القديم، بربط النبي محمد بتاريخ النبوة منذ بداياتها المعروفة في القصص الديني؛ ليصبح تاريخ الأمة الجديدة تاريخا نبويا، ومعرفيا سماويا، فتتم أسلمة جميع الأنبياء السابقين، كما يتم تقديس لغة قريش تحديدا باعتبارها اللغة العربية الكاملة، ويتم إعادتها إلى الزمن السماوي القبل خلقي، فتصبح لغة الملأ السماوي، ولغة آدم أبي البشر جميعا في الجنة، ثم لغة جميع الأنبياء، ثم ستكون لغة أهل الجنة بعد.
وعليه تم وضع الأنبياء في سياق تاريخي كان هدفه النهائي هو قيام دولة الإسلام المحمدية، وبحيث يكون النبي
صلى الله عليه وسلم
هو المحور والهدف الأول قبل آدم نفسه، ويظهر كل الأنبياء كخطوات تمهيدية تطورية تاريخية سابقة، كانت مهمتها التوطئة التاريخية لدولة النبي وأمة المسلمين، ويصبح جميع الأنبياء في بقاع مختلفة من عالم الشرق القديم، سواء من بني إسرائيل، أو من أنبياء عرب كصالح وهود في الشام واليمن، أو في العراق كما في حالة إبراهيم، أو في مصر كما في حالة موسى، يصبح كل هؤلاء بموروثهم النبوي، وجدلهم المعرفي والحضاري مع حضارات المنطقة، هم الامتداد التاريخي للأمة العربية الطالعة، وهو الأمر الذي سيلتقي تماما مع التوجهات المحمدية والتوجيهات لأتباعه بغزو تلك البلاد، باعتبارها ميراثا تاريخيا تقوم شرعيته على فلسفة الإسلام التاريخية، وكما ورث محمد كل النبوات، فإن كل بلدانهم بالتبعية وبالضرورة هي ميراث أتباع محمد، الذين هم أتباع لكل الأنبياء في جميع الأمم.
ومن هنا تتالت آيات القرآن الكريم لتعزيز تلك «التاريخية» للأمة الطالعة، بما حوته من قصص الأنبياء؛ لتكون بمثابة إعادة اكتشاف للهوية التاريخية ولتشكيل ماضي الأمة.
ولأن الغرض «توحد» في أمة «موحدة» في عقيدتها، فقد أصبح كل الأنبياء السوالف موحدين؛ ومن ثم كان الهجوم التكفيري على بعض الآراء والعقائد في الديانات السابقة والتي دخلتها شبهة عدم التوحيد، كما في بعض حالات أنبياء اليهودية وفي حالة يسوع المسيح، لتصبح القيم التي مثلوها هي القيم التي تتساوق وتتناغم وتتضافر مع دعوة النبي التوحيدية الموحدة لتوحيد قبائل العرب في دولة مركزية واحدة.
ومن ثم تتالت الآيات القرآنية تؤكد
إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء (الأنعام: 159)، وهي الآيات التي تعني أن تلك القبائل إنما كانت في الأصل على الدين النبوي التوحيدي الذي أسسه سلسال الأنبياء السابقين، وأنهم انقسموا بعد ذلك قبائل وشيعا؛ مما يعني أن الوحدة والتوحيد كانا الأصل ، ومن ثم ينقلب منطق التطور على عقبيه لصالح التأسيس التاريخي للأمة، ومن ثم كان نداء الآيات
أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا (الشورى: 13).
ومن أجل تحقيق وحدة الجماعة المسلمة التضامنية في يثرب كان لا بد من مركز تأسيسي يمثل المركز الحكومي الإداري، وفي ذات الوقت يجب أن يكون مركزا مقدسا؛ ومن هنا أمر الرسول الأتباع عند دخوله يثرب بترك ناقته على حريتها قائلا: «اتركوها فإنها مأمورة.» لتبرك الناقة فيتقدس الموضع الذي بركت فيه ويبني فيه المسجد الذي تقدس في حديث النبي
صلى الله عليه وسلم
بقوله: «لا يشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا.» بل وحرم يثرب جميعا لتعادل بحرمتها مدينة مكة.
وفي المسجد كان المسلمون يلتقون بزعيمهم ومنه يوجههم، وفيه يتم توطيد انتمائهم العام للأمة، بإبعادهم عن المجتمع القديم وعزلهم عنه، كما تأكد المعنى المدني للدولة بإطلاق اسم المدينة على يثرب، مع هجوم عنيف على النزعة البدوية في آيات القرآن الكريم، ومن نماذجها:
الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله (التوبة: 97).
ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر (التوبة: 98).
وممن حولكم من الأعراب منافقون (التوبة: 101).
قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم (الحجرات: 14).
ومن ثم أصبح التمدن مرادفا للإيمان، حيث المدينة تؤكد الشعور بالانتماء والانتساب والمواطنة وبالهيبة الحضارية. لكن بينما كانت حاضرة مثل مكة قد تخلت عن الإغارات البدوية على القبائل الأخرى نهائيا، لظرفها الاقتصادي والمجتمعي، وتأكيد حرمة مدينتها وحرمها؛ فإن يثرب على العكس بدأت غاراتها العسكرية من الوهلة الأولى للحصول على المقومات الاقتصادية لبناء الدولة، حيث قال النبي
صلى الله عليه وسلم :
لم تحل الغنائم لأحد قبلنا، وذلك أن الله تعالى رأى عجزنا وضعفنا فوهبها لنا.
10
ومن ثم تقدست أيضا تلك الغارات، وشرعت الغنيمة وأصبحت بدورها حلالا ومقدسا. أما قريش ومشركوها فقد كانوا يشكلون بوجودهم ضرورة لتحقيق الإسلام، حيث يبرز النقيضان ويتضحان، وكانت حربهم إزاء الحملات العسكرية اليثربية عليهم، مع الظفر الذي تحقق ليثرب، مدعاة لأن يرى العرب فيها رعاية غيبية تقف إلى جوار المسلمين وتدعمهم، وهكذا أبرز ذلك التناقض النقيض المهزوم كنموذج منهار في طريقه إلى زوال.
أما أبو سفيان صخر بن حرب، فقد زلف لسانه بعد ذلك بزمان طويل، يحكي عن حروب النبي
صلى الله عليه وسلم
لقريش وحصارها اقتصاديا فقال: «كنا قوما تجارا، وكانت الحرب بيننا وبين رسول الله قد حصرتنا حتى تهتكت أموالنا.»
11
الوسطية بين النقائض
إن الدين عند الله الإسلام (آل عمران: 19/قرآن كريم)
كان يوم بعاث - وبعاث موضع بالمدينة - كانت فيه وقعة عظيمة، قتل فيه خلق كثير من أشراف الأوس والخزرج وكبرائهم، ولم يبق من شيوخهم إلا القليل. وقد روى البخاري في صحيحه عن عبيد بن إسماعيل عن أبي أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت: كان يوم بعاث يوما قدمه الله لرسوله، قدم رسول
صلى الله عليه وسلم
إلى المدينة وقد افترق ملاؤهم وقتل سراتهم.
1
هذا نص ابن كثير الواضح اللماح، الذي يعلن في إيجاز بليغ بلاغا واضح المعاني، حول الظروف التي انعقدت فيها الاتصالات بين النبي
صلى الله عليه وسلم
وبين أخواله من خزرج يثرب، ومن لحق بهم من بعض الأوس القليل، حيث يشرح ببساطة وضع عرب يثرب - من خزرج وأوس - المنهار والمتفسخ، بعد مقتلة يوم بعاث بين القبيلتين، وقتل الرءوس منهم والسادة؛ مما جعلهم فراغا من أصحاب «الكاريزما» الرئاسية والحنكة المشيخية. وهو ما رآه ابن كثير ترتيبا ربانيا قدمه الله هدية لرسوله، بقتل الرءوس الكبرى من كلتا القبيلتين، مما هيأهم لقبول السيادة النبوية دون مشاكل كثيرة، ودون منافسين أقوياء.
وغني عن البيان أن عاملا آخر أساسيا هيأ لذلك الحلف ومهد له، هو المصاهرة الوثيقة التي سبق أن تمت بين الخزرج وبيت النبي الهاشمي. ناهيك عن كون موقف الخزرج - تحديدا، إضافة لقرابة الخئولة - كان ردا واضحا على قريش وسادة البيت الأموي، إزاء وقفتهم السابقة مع أوس يثرب ضد الخزرج، يومي معبس ومضرس، وهي الوقفة التي عمد إليها ملأ مكة لتفتيت يثرب وتمزيقها شيعا؛ كي لا تشكل خطورة على تجارة مكة، لوقوعها على عصب طريق الإيلاف الشامي، ولإجهاض قوتها حتى لا تطالب بنصيب من الجعالات التي كان يدفعها ملأ مكة للقبائل القائمة على الطريق التجاري، بحيث أسقطت مكة يثرب من حساباتها تماما، بعد تلك الوقائع الدامية بين بطونها. وتأسيسا على ذلك استشرف خزرج يثرب الوعد النبوي بوعي نافذ، لوحدة تلم الشمل، تقف بها يثرب كمنافس له شأنه أمام مكة وسادتها، وربما تكون عاصمة للدولة الكبرى الموعودة مع تداول الأيام، عندما يأتي الله بأمره.
ورغم أن كتب الأخبار الإسلامية والسير والتاريخ، وما تقدمه وسائل التربية الإعلامية والدينية، تجعل يثرب جميعا تستقبل سيدها الجديد المهاجر بالترحاب، وتصدح بنشيد «طلع البدر علينا» بعد أن امتلأت منهم الجوانح بالإيمان، فمنحوا النبي والمهاجرين بيوتهم ونساءهم وعقولهم وأرزاقهم؛ فإن العين الحصيفة المدققة، والقراءة المحايدة المتأنية، لا تجد ذلك الزعم أبدا، حيث نجد وفد يثرب الذي التقى بالنبي في عكاظ، كان من بيت عبد الأشهل الخزرجي وحده وهم أخوال النبي، وأن اللقاء التالي بعد عام كان يضم اثنى عشر؛ تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس. وكان لقاء العقبة الحاسم قبل الهجرة يضم ثلاثة وسبعين؛ منهم أحد عشر أوسيا فقط، وستون خزرجيا. وهو ما يشير إلى أن هؤلاء الأوس كانوا من عقلاء قومهم فأدركوا قيمة الدعوة وما سيتحقق بها، أو أنهم أهل سلام ومصالح ترتبط بذلك السلام، جعلهم يقبلون ذلك العقد مع صاحب الدعوة ويحضرونه. وفي مستوى آخر - يأخذ بسوء الظن - يمكن احتساب أوس العقد دسيسة أوسية على ذلك الاجتماع التاريخي؛ لتسقط أخباره. وهو أمر وارد في ذلك الصراع، وتكشف عنه بعد ذلك الأعداد الكبيرة للأوس المنافقين بعد الهجرة ولزمن طويل، ناهيك عن كون وجود الجواسيس كان أمرا مألوفا، وكان بداخل المهاجرين أنفسهم جواسيس لملأ مكة، وهم من قال الوحي بشأنهم:
يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون (الأنفال: 27).
ثم هناك مستوى ثالث في قراءة موقف الأوس، يتمثل في مباعدة أبي عامر بن عمرو بن صيفي الأوسي مع خمسين من أتباعه ليثرب بعد الهجرة، كارها للنبي والمهاجرين، ومشاركته بعد ذلك في وقعة أحد ضد النبي؛ إلا أن الواضح الجلي هو أن النبي قد دخل يثرب في حمى أخواله الخزرج أساسا، مع تعضيد من بعض عقلاء الأوس، وهو ما يفصح عن قدر شديد من المبالغة في روايات الإخباريين عن إيمان عرب يثرب جميعا قبل الهجرة مباشرة. ويدلل هذا التحليل ما حدث في وقعة بدر، حيث لم يتمكن النبي من جمع أكثر من ثلاثمائة رجل معه في الوقعة، مهاجرين وخزرجيين وأوسيين، وهو أمر ذو دلالة إن قارناه بما حدث بعد استتباب الأمر في المدينة للنبي، وقدرته على حشد قوة تماثل عشرة أضعاف ما جمعه في بدر، وهو ما يشير إلى انضمام جموع أخرى متأخرة إلى حلف النبي اليثربي.
لكن ذلك لا يعني سوى أن يثرب قد استقبلت الرسول، متهيئة لذلك بحكم ظروفها وتكوينها، التي أتيحت لها دون أي موقع آخر بالجزيرة؛ ففيها كان أخوال الرسول وحلفاء البيت الهاشمي، وفيها كان اليهود وحكاياتهم عن أنبيائهم مع كتابهم المقدس، وهو ما كان عاملا جوهريا في وضع التاريخ الديني موضع احترام من عرب يثرب، إضافة إلى النبوءة التوراتية التي كانت تتواتر هناك عن مقدم نبي آخر الزمان، كما كان التوحيد اليهودي مدعاة لاختلال علاقة عرب يثرب بالوثنية، وهو ما هيأهم لقبول فكرة التوحيد عندما جاءت عربية. وقد تهيأت يثرب بعد ذلك لأخذ دورها الريادي كعاصمة للدولة المقبلة، في تحولها التدريجي للتوحد إيمانيا، بل وطبقيا، بذوبانها في مستوى مادي متقارب، كناتج للتوزيع العادل للغنائم. وتحولت الجماعة الإسلامية إلى جيش متكامل ووحدة عسكرية، مقاتلة، بدأت تداهم بدورياتها طريق الإيلاف الشامي؛ لتضرب حول مكة حصارها الاقتصادي.
فلم ينسلخ من الأيام سوى أشهر سبعة بعد الهجرة إلى يثرب، حتى خرجت دوريات المسلمين تقطع على قريش طريقها إلى الشام، وكان أولاها سرية حمزة بن عبد المطلب، وبعدها بشهر سرية عبيدة بن الحارث بن المطلب، وبعدها بأيام سرية سعد بن أبي وقاص. ورغم أن كثيرا من تلك السرايا الأولى لم تحقق غايتها بالاستيلاء على قوافل قريش، فإنها وضعت تجارة قريش على حافة الخطر، وأشعرت الملأ أي أمر ينتظرهم من محمد، خاصة بعدما قام النبي
صلى الله عليه وسلم
بنفسه يغزو الطريق بهدف آخر، هو إرهاب حلفاء قريش على طريق الإيلاف، لتفكيك الإيلاف بين تلك القبائل وبين قريش، وبعد النجاح الذي لاقته تلك الغزوات حيث تمكن النبي من سلخ إيلاف بني مدلج، وأخذ عليهم عهود الموادعة، كما تمكن من عقد عقود مكتوبة مع بني ضمرة بن بكر من كنانة.
وجاء أخطر إنذار لقريش، عندما تمكنت سرية عبد الله بن جحش من الاستيلاء على قافلة لقريش، ضربت أثناءها بالتحريم المكي للأشهر الحرم عرض الحائط، فقتلت، وسلبت، وأسرت؛ لتعلن القوة الجديدة في يثرب عن رفضها لقواعد قريش الدينية، واستخفافها بتلك القواعد، بخاصة مع تلازم ذلك باتخاذ النبي للقدس قبلة له وللمسلمين، وصيامه يوم الغفران اليهودي، ذلك الاستخفاف الذي استهجنته قريش تعلن في العربان أن محمدا قد انتهك حرمة الأشهر الحرم، لكن ليرد النبي عليهم وحيا يقول:
يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير (البقرة: 217).
وبينما ينقطع قمح يثرب عن مكة، وتخرج سرايا يثرب إلى ميناء الجار على البحر الأحمر لتمنع شحنات القمح المصري من الوصول إلى مكة، ودوريات المسلمين تنقض على طريق الإيلاف كل لحظة، كان صفوان بن أمية يردد لسان حال قريش وهي تقول:
إن محمدا وأصحابه قد عوروا علينا متجرنا، فما ندري ماذا نصنع بأصحابه وهم لا يبرحون الساحل؟ وأهل الساحل قد وادعوا محمدا، ودخل عامتهم معه، فما ندري أين نسكن؟ وإن أقمنا في دارنا هذه أكلنا رءوس أموالنا فلم يكن لنا من بقاء، وإنما حياتنا على التجارة إلى الشام في الصيف وإلى اليمن في الشتاء.
2
ولعل أهم وقعة كبرى حولت بالفعل مسار التاريخ بعدها، كان سببها قافلة كبرى لقريش بقيادة صاحب اللواء أبي سفيان بن حرب، وهي وقعة بدر الكبرى، حين تحول اتفاق الأنصار مع النبي في العقبة الثانية إلى غايته المضمرة، من ميثاق دفاعي إلى حلف هجومي محارب، تحولت معه عناصر الجماعة الإسلامية كلها - مهاجرون وأنصار - إلى دولة محاربة هجومية، دولة عسكر ومغانم، كالقبيلة تماما، وبذات منطقها، لكن بعد أن تحول الولاء عن القبيلة وسلفها المعبود إلى الدولة، ممثلة شخصيا في رسول الله ورمزيا في ذات الله، وإلى المصالح المادية المباشرة التي جمعت بالفعل أعضاء الدولة. وكان بدء الغزوات والمغانم نقطة التحول الكبرى التي لعبت دورا عظيما في جذب الأتباع من مستضعفي القبائل ومحاربيهم، بعد أن ظل النبي
صلى الله عليه وسلم
يدعو في مكة ثلاثة عشر عاما دون إجابة، ولم يتبعه خلال كل تلك السنوات سوى حوالي المائة نفر، حيث كانت الدعوة تؤجل الوعد بالنعمة إلى جنة الخلد، ولكن عندما تم الإعلان عن تحلة الغنيمة الدنيوية من أموال الآخرين المخالفين للدعوة ودولتها، أصبح حل مشكلة المعدمين حقيقة ملموسة، ومكاسب عينية تدعوهم إلى الانخراط مع العصبية الإسلامية. وبعد فترة من الزمن ستصبح تلك المكاسب كبيرة إلى الحد الذي سيدفع رجالات قريش المميزين إلى الانخراط في جيش المسلمين، وهو ما يفصح عنه إسلام «عمرو بن العاص» الذي ذهب إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
يؤكد أن هجرته ليست للمال بل لله ورسوله، لكن ليجيبه النبي
صلى الله عليه وسلم
بكل صراحة ووضوح: «نعما بالمال الصالح للرجل الصالح.» ثم أرسله قائدا عسكريا غازيا وهو يقول له: «إني أريد أن أبعثك وجها، يسلمك الله فيه ويغنمك، وأزعب لك زعبة من المال.» ومن ثم كان إعلان النبي
صلى الله عليه وسلم
تميز عمرو بقوله: «أسلم الناس وآمن عمرو.»
3
ومع النصر البدري الساحق، أصبح النبي مرموق الود من القبائل، خاصة المتاخمة ليثرب، مما وسع نطاق الدولة الوليدة وحدودها، بحدود القبائل الموادعة لها على كافة الطرق، دون أن تعلن هذه القبائل ولاءها الديني لدولة النبي بإشهارها الإسلام. كان الغرض عسكريا وسياسيا في هذه المرحلة من مراحل بناء الدولة، بهدف مرحلي تكتيكي على الطريق الاستراتيجي الطويل، يهدف إلى إضعاف جبهة حكومة الملأ المكية، وتفكيك إيلافها مع القبائل، وإسقاط هيبتها أمام العربان. وقد لحق نتيجة ذلك ضرر جسيم بالعمود الخرساني لمنظومة مكة المتمثل في ثروتها التجارية، وهو ما حدا بالقبائل إلى مراجعة موقفها من قريش، إزاء القوة اليثربية الطالعة، في الوقت الذي أخذت فيه أحوال المسلمين الاقتصادية في التحسن المطرد، بعد أن وضعت بدر بيد المسلمين القوة المادية؛ سلاحا، ومالا، ومنحتهم مزيدا من الثقة النفسية في أنفسهم وفي مشروعهم وفي قائدهم، فامتلئوا - بتلك القوة المعنوية - جرأة، وأخذوا بتأديب المخالفين في يثرب، وإلقاء الرعب في قلوبهم، بل وقتل أي شخص يتجرأ على معارضة الدولة.
هذا - بالطبع - مع نتائج أخطر على مستوى الشكل الاجتماعي للدولة، كناتج طبيعي لتعزيز سلطة النبي الحاكمة، وهي النتائج التي أخذت تتضح في تراجعات الدولة الوليدة عن الأممية المطلقة والأخوة المطلقة التي كادت في بدئها أن تكون مشاعا؛ وذلك بعقد صحيفة المعاقل في مرحلة تالية، التي كانت إعلانا مكتوبا سافرا عن سلطة النبي كسيد مطلق ليثرب جميعا؛ ومن ثم بدأت مع صحيفة المعاقل مرحلة جديدة بتكتيك تمثل في تراجع دقيق ومحسوب عن الأممية المطلقة، لتأخذ الدولة السمت الوسطى بين الأممية، وبين الدعوة إلى صلة الأرحام والمحافظة على العلاقات العشائرية.
وقد بدأت تلك السياسة الوسطية تتضح بعد غزوة بدر مباشرة؛ حيث لحظنا - كما شرحنا في الجزء الأول من هذا العمل - بداية توازن الدولة بين النقائض، فكانت دعوتها لتوحد أممي تحت راية واحدة وفي ظل سيادة دولة موحدة وتحت إمرة سلطة نبوية واحدة، وضمت في شكلها الاقتصادي تقاربا ماديا زاد من ذلك التوحد، لكنها إبان ذلك كانت تضم أيضا الرقيق والعبيد مما حملها من الداخل للون طبقي. ومع التراجع عن التنديد بالثروة والأثرياء، وخفوت صوت المستضعفين في الوحي والأحاديث، بدأت الدولة تفسح بداخلها فجوات المجتمع الطبقي، ثم فجوات المجتمع القبلي معا؛ حيث كانت الدعوة للرحم والعشيرة مدعاة لوضوح شكل الدولة في أضمومات قبلية محزمة وموثقة بوثاق الدولة الواحدة. أما إذا تتبعنا أنساب العشرة المبشرين بالجنة، فسنجدهم تمثيلا قبليا وسياديا لأهم البطون القرشية؛ فهذا أبو بكر وطلحة يمثلان تيما، وهذا علي يمثل هاشما، وهذا عثمان يمثل أمية، وهذا عمر وسعيد بن زيد يمثلان عديا، وهذا عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص يمثلان زهرة وهذا الزبير يمثل أسدا، وهذا أبو عبيدة يمثل فهر بن مالك، وهو التمثيل الذي أصبح يوازي في يثرب حكومة الملأ القرشية في مكة (وقد لوحظ ذلك بذكاء الباحث الأستاذ خليل عبد الكريم).
وتأسيسا على كل ذلك، فإن غزوة بدر قد أفضت إلى نتائج هائلة على المستوى النظري والعملي، وحددت مواقف كثيرة كان الإفصاح عنها مؤجلا حتى يأتي الله بأمره، لكن أهم ما حققته هو وضعها بداية النهاية لسيطرة الملأ القرشي، وسيادة حكومته البدائية شبه الجمهورية، بالقضاء على سادتها المترفين، أولئك المنافس الحقيقي لفكرة الدولة الواحدة. وهو ما سيتم تثبيته بعد زمن بالاعتماد على التوازن بين النقائض، في مملكة وراثية كبرى ستمسك بأعنتها قبيلة النبي، قريش، وهي العودة التي ما كانت لتتم لولا العودة إلى صلات الرحم والعشيرة، التي وضحت في تحرك رحم النبي لأهله الهاشميين في وقعة بدر، وأمره لرجاله بعدم قتل أي من بني هاشم؛ ليتوازن ذلك مع نقيضه من بعد، فيصب الأمر كله بيد الطبقة التي سيتم دعمها بالتدريج خلال حياة الرسول نفسه، لتقف على رأسها الطبقي منظومة قريش القبلية؛ ليظل حال التاريخ العربي والإسلامي بعد ذلك حتى اليوم، إعمالا للمقدس واتباعا له، يظل واقفا على حافة الوضع الاجتماعي الاقتصادي المعروف بالإقطاع التجاري، ويبقى المأثور مصرا على أن الخلافة من قريش، وليس من الأنصار.
ويتضح ذلك جليا عندما نقرأ المراحل اللاحقة في تطور أحوال الأمة الطالعة، بعد أن استقام أمرها؛ حيث بدأت تفتح صدرها تماما للتجار، خاصة بعد فتح مكة، وحيث احتلت طبقتهم في الإسلام مكانا، كان مكانهم الطبيعي في الفرز التطوري. ولا ننسى أن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان هو من يحاول دوما جذب تجار مكة وأثريائها لدعوته. وبعد هذه النقلات سنلحظ دون عناء كيف خففت السور اللاحقة والمتأخرة - التي تناغمت بصدقها مع متغيرات الواقع - من حدتها إزاء الأثرياء، وهدأ تنديدها بهم ، مع خفوت متساوق في الاهتمام بقضايا المستضعفين، وبعد أن كان هؤلاء المستضعفون المقاتلون مادة الحركة ووقود حروبها، تحول من بقي منهم حيا إلى طبقة كبار الملاك. وهو ما يكفي أن نذكر له مثلا واحدا فقط، يتعلق بأكبر الصحابة زهدا وتقشفا وورعا، وكان أرق نظرائه حالا وأقلهم مالا.
عن علي رضي الله عنه: «لقد رأيتني مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وإني لأربط الحجر على بطني من الجوع، وإن صدقتي اليوم لتبلغ أربعين ألف دينار.»
4
ثم يمكننا أن نلحظ المال نفسه الذي كان محل هجوم شرس وضار، وأحل للمسلمين مصادرته بالغزو، وهو يتحول ليصبح بالإمكان بقاؤه وتناميه، بعد تطهيره بالزكاة والصدقات، ويبيت كسبا حلالا، وتسعة أعشار الرزق في التجارة، والمال والبنون زينة الحياة الدنيا. لقد كانت خطوات التاريخ في طريقها إلى إنضاج الطبقة التجارية - وليس إلغائها - في سبيل كيان سيادي يسد الفراغ السياسي تحت لواء عقيدة عقدتها حتمية السنن الكونية.
وجولة سريعة للعين في كتبنا التاريخية ستلحظ دون عناء يذكر كيف أضحت التجارة في أحاديث النبي هي أطيب مكاسب المؤمن،
5
و«أن التاجر الأمين مع الكرام البررة يوم القيامة»،
6
ولما كانت الأمانة أساس التجارة القرشية، فقد طالهم الوعد جميعا، ثم لا بد أن نلحظ أنه لم تفرض ضريبة واضحة خاصة بالتجارة، أما أبو يوسف فيورد لنا حادثة لها في سياقنا هذا دلالاتها الواضحة، حيث يقول:
إن السعر غلا في زمن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فقال الناس لرسول الله
صلى الله عليه وسلم : إن السعر قد غلا، فوظف وظيفة نقوم عليها. فقال: إن الرخص والغلاء بيد الله وليس لنا أن نجوز أمر الله وقضاءه.
7
أما العبيد فقد غامت قضيتهم تماما، بل ولم يعطهم النبي من أموال الفيء باعتبارهم في كفالة غيرهم من الأحرار،
8
ثم نجد النبي بعد ذلك يهدي بنفسه أعدادا من العبيد لآخرين، كما في أمثلة عديدة، فقد أهدى العبيد لأخته من الرضاعة «الشيماء» ولغيرها، وكان يتقبل الهدايا عبيدا أيضا. وهو ما سنجده في مواضعه من هذا العمل .
ومن ثم خرجت إلى تاريخ العرب تلك الحالة الوسطية التي تتوازن بين النقائض، على كل المستويات؛ بين القبلية وبين الطبقية، بين العشائرية وبين الأممية، بين الوحدة الشاملة وبين تضمن تلك الوحدة للقبائل في شكل حزم وأضمومات، وبين إلغاء الشفعاء واستبدالهم بشفيع واحد هو نبي الإسلام، وبين الوحدانية المطلقة للإله التي لا تقبل شراكة. ومن ثم كانت التراجعات التي اعترفت بمقدسات القرشيين والتي كانت تعد وثنيات، كالاعتراف بالكعبة، ثم في فتح مكة يتم تقديس الكعبة ذاتها وحجرها الأسود، وشعائر الوثنيين القديمة كالطواف والسعي، وتكريس المقامات والمواضع كالصفا والمروة وعرفات. لقد باتت الدولة بحاجة إلى معبد مؤسسي له تاريخه، بعد الرجوع عن القدس «أورشليم»، معبد يجتمع عنده جميع العربان، لكنه معبد قريش قبيلة الرسول في المقام الأول، وسدنته الهاشميين آل البيت.
كذلك تم الوقوف وسطيا بين نقائض أخرى، بين البدء بالدعوة إلى عتق الرقيق وجعلهم أنسابا، وبين ما فرضته حروب الدولة من ضرورة استمرار ذلك النظام العبودي، متمثلا في سبايا تأتي من الحروب وانتصارات الدولة. ثم بين الدعوة إلى عقيدة جديدة تؤسلم جميع الناس تحت رايتها، وبين ضرورات فرضتها الظروف، حيث تم ترك كثير من القبائل على عقائدها فترة من الزمن، لكن مع موادعتها وعقد المحالفات بينها وبين دولة يثرب النبوية، إزاء حرب تلك الدولة مع مكة، مع ما فرضته ظروف أخرى متأخرة في غزوات النبي على أصحاب الأراضي الخصبة، وقيمة تلك الأراضي التي كان يمكن أن تبور تماما؛ مما أدى إلى قرارات باتفاقيات مع أصحابها، تقرهم على دينهم وعلى أرضهم، على أن يدفعوا شطر المحصول لحكومة يثرب، وما تطور بعد ذلك في نظام الجزية.
ثم تطور آخر على ذات الخط بين النقائض، عندما صب الأمر كله بيد دولة يثرب النبوية، وامتلأت خزائنها بالخيرات، ليأتي نداء جديد بأن من يعلن إسلامه معترفا بوحدانية الله وسيادة رسوله، يضمن سلامة حياته وماله، على أن يدفع الضرائب للدولة في نظامي الزكاة والصدقة؛ وهي مجموعة الخطوات التي اقتربت مرة وتباعدت مرة من القرار بأن الدين عند الله هو الإسلام ، وهي مجموعة التوازنات الوسطية التي تأرجحت مع المستجدات والتطورات على أرض الواقع، وتركت بصماتها بين نقائض خلقت فجوات دائمة في تاريخ الإمبراطورية الإسلامية، كانت تختل معها أثقال الميزان فتتأرجح كفتاه إزاء الموقف الوسطي على الخط الفاصل بين توازنات النقائض؛ مما أعطى الفرصة دوما لأقدار السياسة وبحرفية وسطاء الساسة المحترفين من رجال الدين، لتبرير مواقف تجد لها بين كفتي الميزان أثقالا مناسبة حسب تغير الأحوال عبر السنين.
صحيفة المعاقل
لليهود دينهم وللمسلمين دينهم.
نص بصحيفة المعاقل
بين بدر وأحد تتوقف سرايا المسلمين عن مداهمة طريق الإيلاف، لكن مع شن حملاتها التأديبية على القبائل، مع ظاهرة جديدة تمثلت في شرع نظام الاغتيال، باغتيال رءوس القبائل وأشراف الناس وسراتهم وحكمائهم، وبدأ تطبيق ذلك النظام باغتيال كعب بن الأشرف الذي رثى قتلى بدر شعرا، وتبعه قطع عدد من الرءوس خاصة بعد وقعة أحد.
وعند العودة الظافرة من بدر الكبرى، كان الوحي يسترسل طالبا من المسلمين اليقظة والاستعداد لقتال أعدائهم، وذلك في النص
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم (الأنفال: 60)؛ فأما عدو الله وعدو المسلمين فمعروف، وهم ملأ مكة، أما من هم أولئك الآخرون غير الملأ المكي الذين يعلمهم الله ولا يعلمهم سواد المسلمين؟ إنه ما أوضحته الأحداث التالية بنداء النبي
صلى الله عليه وسلم
لرجاله: «من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه.» وهو ما تم تنفيذه بالفعل في عدة رءوس يهودية، وهو المنحى الذي جاءت مفاصله في آيات تنسخ حرية الاعتقاد، لتنهي العمل بآيات من قبيل
لكم دينكم ولي دين (الكافرون: 6)، وتلغي الصفح الجميل والصبر الأجمل، لتؤكد معنى جديدا هو
إن الدين عند الله الإسلام (آل عمران: 19).
وهي السياسة التي ابتغت انضواء اليهود الكامل، السياسي والعقدي، تحت لواء الدولة الجديدة وسيادة مؤسسها، أو استئصال شأفتهم من يثرب. وهو الأمر الذي كان سببه الوضع الخاص جدا باليهود، كأصحاب كتاب سماوي ودستور عقدي وأيديولوجيا تاريخية موثقة، وهو ما جعلهم المنكر الديني الحي لنبوة النبي العربي، مما كان يشكل خطرا دائما وحقيقيا على الدولة الوليدة وأيديولوجيتها العربية. وهو ما صب في إعلان واضح يسفر عن الهدف، فيما جاء مرويا عن الزهري عن عروة:
نزل جبريل على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بهذه الآية:
وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين (الأنفال: 58). فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : أنا أخاف من بني قينقاع. فسار إليهم ولواؤه بيد حمزة.
1
ومن ثم انجلت غزوة قينقاع عن هجرتهم من يثرب كأول قبائل يهود يتم إجلاؤها عن المدينة، مع استيلاء المسلمين على كراعهم وأسلحتهم وأرضهم. ولكن لأن الرياح لا تأتي عادة بما تشتهي السفن، فقد أجمعت قريش أمرها على قتل محمد، بعد أن طال حصاره لها حتى كاد يقضي عليها، وذلك في الوقعة المعروفة بوقعة أحد، التي انهزم فيها المسلمون هزيمة مريرة، أدت بالبيهقي إلى تصوير حال يثرب بعد الهزيمة بقول واضح يقول: «... وفارت المدينة بالنفاق فور المرجل.»
2
وترنحت الدولة «الطالعة»، وكان لا بد من اتخاذ عمل سريع وحاسم ودءوب لا يكل ولا يهدأ، لإصلاح ما أفسدته أحد، وذلك بضرب كل من سولت له نفسه الطمع في النيل من سلطان الدولة. ولما لم يكن ممكنا الخروج في ذلك الظرف إلى قريش، والجروح لم تزل طازجة، ومعنويات المسلمين في حضيضها، فقد اتجه السيف الإسلامي إلى اجتثاث الرءوس التي أخذت ترتفع وتتطاول على السلطان المحمدي في يثرب أو خارجها؛ ومن ثم تدحرجت رءوس عدة، منها رأس «سلام بن أبي الحقيق» المعروف بأبي رافع، و«أبي عفك عمرو بن عوف»، و«عصماء بنت مروان عقيلة بن خطمة»، و«خالد بن سفيان» سيد هذيل، و«فاطمة بنت ربيعة» زعيمة فزارة ومحل شرفها وفخرها؛ ليكون هذا المسلسل من العنف والاغتيالات والتصفية الجسدية، إعلانا عن أن السيف المحمدي وإن كسرت منه الذؤابة في أحد، فإنه ما زال قويا مقتدرا بل وعنيفا، إعلانا عن إصرار لا يتزحزح على استدامة الدولة والحفاظ على مستقبلها، ولو مع التضحية بأرواح كثيرة.
بهزيمة أحد كان لا بد من وقفة متأنية، تؤجل - مؤقتا - بعض القرارات، حتى يأتي الله بأمره، ويستعيد المسلمون - إبان ذلك التأجيل - قوتهم وتعافيهم المعنوي. كذلك دفعت الهزيمة في أحد سيد يثرب ليفصح لرءوس قريش الصلبة عن الأغراض البعيدة للدعوة؛ كي لا تتكرر مأساة أحد بهذا العنف. فهذا «أبو قتادة الأنصاري» تهزه مناظر أهله مذبوحين في أحد، ومشهد الحمزة مبقورا، فيشير بالتمثيل بجثث قتلى قريش في أحد، لكن ليرد عليه سيد الخلق
صلى الله عليه وسلم
مفصحا برسالة تقول:
يا أبا قتادة
إن قريشا أهل أمانة، من بغاهم أكبه الله تعالى إلى فيه، وعسى إن طالت بك مدة، أن تحقر عملك مع أعمالهم، وفعالك مع فعالهم، ولولا أن تبطر قريش لأخبرتها بما لها عند الله.
3
ومن هنا نعود إلى ابن سعد نسمعه وهو يقول في طبقاته الكبرى: «إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لما هاجر إلى المدينة، صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا، وكان يحب أن يصرف إلى الكعبة، فنزلت عليه: قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها. فوجه إلى الكعبة. وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي إلى بيت المقدس. ونزل فرض شهر رمضان بعدما صرفت القبلة إلى الكعبة بشهر، في شعبان، على رأس ثمانية عشر شهرا من مهاجر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في هذه السنة بزكاة الفطر.»
4
وهو ذات ما أكده ابن الأثير في سرده لأحداث العام الثاني للهجرة، ولحظه ابن كثير الدمشقي، وهو يسرد أحداثا ينسبها للعام الثاني للهجرة،
5
في قوله:
وفيها - أي عام 2ه - حولت القبلة ... وفيها فرض صيام رمضان ... وفيها فرضت زكاة النصب وزكاة الفطر، وفيها خضع المشركون من أهل يثرب واليهود ... صانعوا المسلمين وأظهر الإسلام طائفة كثيرة من المشركين واليهود، وهم في الباطن منافقون ... قال ابن جرير: وفيها كتب الرسول
صلى الله عليه وسلم
صحيفة المعاقل، وكانت معلقة بسيفه.
6
إن حديث ابن كثير هنا يحسم أمورا كثيرة مختلفا عليها بين كتاب السير والأخبار؛ فهناك من يشير إلى أن صحيفة المعاقل قد كتبت بين أهل يثرب جميعا وبين المسلمين، وأنها كتبت بعد الهجرة مباشرة، بينما يذهب آخرون إلى توقيتها بنهاية العام الثاني للهجرة. وأهمية حديث المعاقل ترجع لارتباطه بأحداث أهم سببته ونتجت عنه، وقد ذهب ابن كثير في مبتدأ فصله مع الكثرة القائلة بكتابة المعاقل مبكرا وقت الهجرة، بحيث تبدو يثرب جميعا قد عمها الإيمان، وبحيث يظهر النبي
صلى الله عليه وسلم
سيدا يملك كل مقومات السيادة من الوهلة الأولى، فخضع لسيادته الجميع بما فيهم يهود يثرب، فكتبوا معه معاهدة تعاقلية، يردون فيها كل أمر إليه وحده. وقد ذهبنا في الجزء الأول من هذه الدراسة ذات المذهب، حتى نبهنا إلى ضرورة إعادة النظر في تزمين صحيفة المعاقل، الدكتور عبد الهادي عبد الرحمن،
7
وكانت إعادة النظر مدعاة لنتيجة مفادها إن القول بعقد المعاقل عند الهجرة مباشرة، أمر يخالف معطيات الواقع، وشروط الفهم السليم، وكان للرجل في ذلك فضل غير منكور.
الواقع يقول بمهاجرة النبي ضعيفا متخفيا هاربا من مدينته وأهله، إلى حمى أخواله في يثرب، ولاجئا مع أتباعه إلى مدينة أخرى غريب عليها. وهو ما يحيط الصورة - التي رسمتها كتب الأخبار والسير لذلك الاستقبال الهائل والطاعة العمياء والكاملة من اليثاربة لسيدهم المكي - بكثير من الشك وعدم القبول؛ حيث تناقض تلك الصورة الإخبارية بشدة بنود الصحيفة التعاقلية، التي وضعت أمر يثرب جميعا بيد النبي
صلى الله عليه وسلم ، في ذات الوقت الذي تؤكد فيه ذات الكتب أن غالب أهل يثرب كانوا إما يهودا أو وثنيين، وأن من دخل منهم في حلف الدعوة كان في أعمه من المنافقين أو الدسائس على المسلمين؛ ومن هنا رجع ابن كثير عما قال في البداية ليؤخر زمن صحيفة المعاقل إلى السنة الثانية للهجرة، بحيث تبدو الأحداث منطقية بشكل أكثر، وبحيث تبدو النتائج متفقة مع مقدماتها من أحداث، فاختار زمنا تحول فيه المسلمون إلى قوة قادرة على فرض هيمنتها.
وللتحديد أو محاولة التدقيق في الزمن الذي كتبت فيه المعاقل ، نجد أن غزوة قينقاع لم يرد فيها - في أي رواية إخبارية - أية إشارة لتعاقد المسلمين مع اليهود، كما لم نسمع بمنابذة يهود قينقاع للنبي بنقض العهود، كما حدث في وقائع أخرى تالية مع قبائل يهودية أخرى، وهو ما يشير إلى أنه حتى غزوة قينقاع لم تكن تلك الصحيفة قد كتبت بعد؛ ومن هنا نظن أن تلك الصحيفة قد كتبت ضمن مجموعة الإجراءات الحاسمة مع التراجعات المحسوبة، التي تمت بعد هزيمة المسلمين في أحد.
ومعلوم أن هزيمة أحد قد هزت معنويات المسلمين بعنف، ودفعت المناوئين للتطاول عليهم، لكنها لم تقض على القوة العسكرية الإسلامية التي تنامت وتضخمت منذ بدر الكبرى. وكان مقتل ذلك العدد من المسلمين في أحد غير ذي تأثير حقيقي، وكان الأمر بعدها أمر معنويات تحتاج إلى ترتيق وإصلاح سريعين؛ ومن ثم نجد الحكاية الإخبارية تأتينا ببعض الروايات التي تؤكد أن حملة النبي على القبيلة الثانية النضير، جاءت بعد وقعة «بئر معونة».
8
ونحن نعلم أن بئر معونة قد وقعت بعد أحد بزمن، وبعد وقعة الرجيع التي وقتها الواقدي في صفر سنة أربع للهجرة،
9
ونعلم أيضا أن بني النضير قد نابذوا النبي بنقض العهود والمواثيق في تلك الغزوة؛
10
مما يشير إلى أن صحيفة المعاقل كانت قد عقدت قبل غزوة النضير، وفي الزمن الواقع بين غزوة أحد وبين غزوة النضير، وهو ما يمكن الكشف عنه في قراءة البيهقي:
اجتمعت بنو النضير بالغدر، فأرسلوا إلى النبي
صلى الله عليه وسلم : اخرج إلينا في ثلاثين رجلا من أصحابك، وليخرج منا ثلاثون حبرا، حتى نلتقي بمكان المنصف، فيسمعوا منك، فإن صدقوا وآمنوا بك، آمنا بك. فلما كان الغد، غدا عليهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بالكتائب فحصرهم فقال لهم: إنكم والله لا تأمنون عندي إلا بعهد تعاهدونني عليه. فأبوا أن يعطوه عهدا، فقاتلهم يومهم ذلك، ثم غدا على بني قريظة بالكتائب وترك بني النضير، ودعاهم إلى أن يعاهدوه فعاهدوه فانصرف عنهم.
11
ويفهم من الحديث هنا أن يهودا أرادت اختبار نبوة النبي بالحوار المعرفي والفقهي الديني، لكن النبي رأى أن يتعامل معهم بمنطق آخر فجرد عليهم كتائبه العسكرية، وقاتل النضير حتى نزلت على عهد مكتوب معه، ثم إن قريظة رضيت بالعهد دون قتال، ولا نعلم عهودا تمت سوى صحيفة المعاقل، وهو الأمر الذي يعضد ما ذهبنا إليه في توقيع المعاقل إبان محنة تطاول الرءوس بعد هزيمة أحد. وما يبدو لنا أن المعاقل قد تمت ضمن سلسلة الإجراءات السريعة التي حدثت لعلاج آثار أحد، لرفع روح المسلمين المعنوية، بإخضاع قبائل المدينة جميعا للسلطان النبوي، وتأمين الجبهة الداخلية، في نفس الوقت الذي قدمت فيه دولة الإسلام تنازلا تراجعيا وضح في النص: «لليهود دينهم وللمسلمين دينهم.»
12
وإذا كان الإخباريون يصرون على ربط صحيفة المعاقل زمنيا بمجموعة أخرى من الإجراءات تمت في ذات الزمن، مثل تحويل القبلة وفرض الزكاة والصوم العربي ... إلخ، فمن المحتمل أن تكون تلك الإجراءات بدورها قد تمت ضمن مجموعة التراجعات التي أفرزتها أحد.
لقد كانت الحسابات التي سبقت الهجرة، واستمرت حتى غزوة بدر الكبرى، تعمل حسابا لقوة اليهود بالمدينة، مما جعل النبي يحاول استمالة اليهود والتقرب منهم لتحييدهم على الأقل؛ ففرض على أتباعه صوم يوم الغفران اليهودي «يوم كيبور/عيد الفصح»، وهو اليوم الأهم والأعظم في تاريخ اليهود، يوم خروجهم من مصر عبر سيناء لاحتلال فلسطين، بل واتجه النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
مع أتباعه وجهة اليهود في الصلاة، نحو أورشليم القدس، وقد سبق ذلك ورافقه آيات تمجد أنبياء بني إسرائيل، الذين هم أسلاف اليهود الإسرائيليين وأجدادهم، وتمجد التوراة ككتاب سماوي صادق
إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور (المائدة: 44)، و
وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله (المائدة: 43)، بل وتمجد اليهود ذاتهم بتأكيد أن الله قد فضلهم على العالمين.
ومع ذلك ظل اليهود يهودا، يستمسكون بدينهم ولا يرضون بمحمد سيدا، رغم كل الإشارات والتوضيحات التي كانت تصر على تأكيد أن محمدا من ذات النسل؛ فهو الحفيد البعيد لإسماعيل شقيق إسحاق بن إبراهيم، وأن القرابة العرقية قائمة، وأن انتظار اليهود لمخلص نبوي مقبل يجد صداه في النبي العربي الذي يحقق نبوءة التوراة، حتى جاءت وقعة «أحد» لتستدعي تحركا سريعا يكفل انضواء هؤلاء التام لسلطان الدولة لتأمين المدينة داخليا، فتمت صحيفة المعاقل كما جاء خبرها السريع عند البيهقي، مع تحرك آخر على مفصل قريش يهدئ من عوارمها ويطمئنها؛ فكان أن تم إلغاء الصوم اليهودي مع تقرير الصوم العربي الرمضاني، كما تم تحويل القبلة إلى كعبة مكة.
يقول ابن سعد: «نزل فرض شهر رمضان بعدما صرفت القبلة إلى الكعبة بشهر، في شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من مهاجر رسول الله.»
13
ويؤكد جميع أهل السير أن وقعة بدر الكبرى كانت في شهر رمضان من العام الثاني للهجرة، وهو ما يقوله ابن الأثير: «وفي السنة الثانية كانت وقعة بدر الكبرى في شهر رمضان في السابع عشر وقيل التاسع عشر وكانت يوم الجمعة.»
14
لكن؛ إذا كان الصيام الرمضاني قد فرض في شعبان من ذلك العام، وكانت وقعة بدر الكبرى قد وقعت في رمضان من ذات العام، فلا أقل من أن نسمع من كتب الأخبار والسير عن ظروف المسلمين وهم صائمون، ومتى أهلوا بالصيام ومتى أفطروا، وهل قاتلوا صائمين أم مفطرين، وهي العادة مع كتب الأخبار التي تفصل تلك الأمور وتدقق بشأنها في كل غزوة، مثلما حدث بشأن تأخير الصلاة في غزوة «قريظة»، وما حدث بشأن الصيام الرمضاني في فتح مكة، حيث تجد تفاصيل صغيرة ودقيقة. والمعنى المقصود هنا هو أن الصيام الرمضاني لو كان قد فرض قبل بدر الكبرى، بينما بدر قد وقعت في شهر رمضان، لوجدنا لمسألة الصيام مكانها في سرد الأحداث البدرية وهو ما لم يحدث؛ مما يعني وجوب تأجيل الصيام الرمضاني والزكاة وتحويل القبلة وصحيفة المعاقل معا إلى الفترة التي افترضناها، خاصة مع ارتباط تلك الأحداث في سياق واحد يناسب بعضه بعضا، وهو الفرض الذي يقبل الخطأ كما يقبل الصواب.
وإعمالا لذلك كله، فإن الآيات الكريمة التي تحدثت عن التوراة وهداها ونورها، وعن تفضيل الله لبني إسرائيل، والقص الطويل عن أنبياء التوراة من إبراهيم إلى إسحاق ويعقوب ويوسف والأسباط وموسى وداود وسليمان ... إلخ. كل ذلك أفرغ محتواه في الصحيفة التي عقدت بين جميع أطراف القوى في يثرب، والتي كانت أولا نتيجة لتحول حال المسلمين بعد بدر من ضعف إلى قوة، ومن لاجئين إلى مواطنين على ذات الدرجة. وكانت ثانيا محاولة لفرض الهيمنة وإعادة الأمر كله لسيد المدينة الجديد بعد التهاوي المعنوي في هزيمة أحد؛ لتأمين الجبهة الداخلية ليثرب مؤقتا. كما كان لوقعة أحد نتيجة أخرى هامة، تمثلت في تحويل القبلة إلى الكعبة - هذا إن كان فرضنا صادقا - في رسالة واضحة لكل الأعراب، أن قطع طريق الإيلاف وضرب مصالح الملأ الأنانية، لا يعني بالضرورة ضرب الرمز الديني المكي، ورسالة موجزة برقية لأهل مكة أنفسهم تهدئ من روعهم إزاء سيد يثرب. أما أصحاب السير والأخبار فلم يجدوا سببا واضحا يعلل التحول عن أورشليم إلى مكة، سوى ما ردده الإخباريون مع الطبري أن النبي: «كان يحب أن يصلي قبل الكعبة فأنزل الله: قد نرى تقلب وجهك في السماء.»
15
ثم جاء التحول إلى الصيام العربي ليلتقي مع تقديس يوم العروبة (يوم الجمعة وكان يسمى يوم العروبة) في وقت مبكر، ليعلن في إشارات واضحة منحى التحول. أما أبرز الشواهد على أن صحيفة المعاقل قد عقدت في ظرف يستعرض فيه المسلمون قوتهم، أنها علقت بسيف رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وهو ما لم يكن ممكنا زمن الهجرة عندما كان المسلمون قلة ضعيفة لاجئة إلى يثرب، وكان تعليقها بسيف رسول الله رسالة ذات معنى لجميع سكان يثرب وللمنافقين. ولحق ذلك جميعه تدريب آخر للمسلمين على نظام الدولة المؤسسية؛ ففرضت الضرائب (الزكاة). أما أهم بنود الصحيفة التي كانت ترفرف على سيف النبي، فهي تلك التي قالت في مفتتحها: «هذا كتاب من محمد النبي الأمي.» وهو ما يشير إلى المعاقل كفرمان صادر من سلطة النبي السيادية. فرغم أن المعاقل كانت بين أطراف، فإن تلك الأطراف لم تكن متكافئة؛ لأن صيغتها وأسلوبها وإيحاءاتها، ناهيك عن ذلك الاستهلال في مفتتحها تشكل قرارا صادرا من سيد قوي فوق بقية الأطراف، فهي بمثابة كتاب أمان من النبي لسكان يثرب، إضافة إلى أن الصياغة لم تقل: «هذا كتاب من محمد بن عبد الله.» إنما فرضت صفة النبوة على جميع الموقعين أدناها، وهو الأمر الذي استثمر رغبة اليهود والمشركين اليثاربة في الأمان بعد سل سيف الاغتيال وتجريد الكتائب بعد أحد، ليمنحهم سلاما مشروطا بسيادة المسلمين ونبيهم، وهو ما توضحه قراءة بقية بنود صحيفة المعاقل.
وضمن تلك البنود يأتي النص الذي يؤكد أن المعاقل قد تمت: ... بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين (ويتم ذكر كل بطن من البطون وكل دار)، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وأنه من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم ... وإنكم مهما اختلفتم في شيء فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد
صلى الله عليه وسلم
وأن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ... وأن بطانة اليهود كأنفسهم، وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد ... وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار، يخاف فساده، فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله.
16
والمطالع لهذه البنود سيلمس فورا أمرا شديد الأهمية، حيث يتضح حصول المهاجرين على أساس اقتصادي يرفع عبأهم عن إخوانهم اليثاربة، وإلغاء نظام المؤاخاة نتيجة ذلك. فالنص يؤكد «المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم ويفدون عانيهم بالمعروف والقسط»؛ ومن ثم أصبح على الأنصار أن يعودوا إلى معاقلهم الأولى «على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى». أما البند الذي يؤكد بوضوح أن تلك الصحيفة لم تكن قد عقدت قبل بدر الكبرى، فهو تلك السلطة الواضحة في إرجاع كل الأمور بالمدينة إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
حتى الخروج من المدينة لليهودي لا يتم إلا بإذن محمد
صلى الله عليه وسلم . والأكثر بلاغة في كل هذا، أن الصحيفة سردت البيوت والأفخاذ اليثربية في معاقلها، وسط تلك الأفخاذ والبيوت تم وضع المهاجرين كأحد أبناء البلد وكفخذ من الأفخاذ اليثربية الأصيلة، بحيث اكتسب المهاجرون بصحيفة المعاقل وجودهم الشرعي، ليتحولوا من لاجئين إلى مواطنين، بل أفصح الأمر عما هو أشد بيانا، فغدا الأنصار تابعين لا مجيرين ومتبوعين.
وكانت النغمة العروبية الواضحة في صيام رمضان وتقديس يوم العروبة، ثم العودة عن اغتراب القبلة الأورشليمية إلى الكعبة العربية المكية، إشارة واضحة إلى بدء التخلي عن ممالأة يهود المدينة، والإفصاح بتلك الإشارات القوية إلى أن الأمر كله عائد في النهاية إلى أهل الله القرشيين، وأن القدس كله في محل كعبتهم، وهي الطمأنة لقريش وتأكيد أن الإسلام لا يهدد أبدا مصالح مكة السياسية ولا الدينية المرتبطة دوما بالاقتصادية، وأن خط سير التاريخ يحث خطاه إلى نتائجه النهائية، وأن الحروب جميعا ما كانت إلا لتوحيد العرب بزعامة قرشية يمثلها أشرف الخلق وسيدهم المصطفى
صلى الله عليه وسلم .
أما المعجزة القومية الكبرى التي قدمتها الدعوة إلى العرب، فتتمثل في إعلان أن رب الأديان الكبرى المحيطة بالجزيرة، هو رب واحد، هو رب العالمين، وأن هذا الرب قد اختار محمدا العربي، وأنه تكلم إليه باللغة العربية؛ ليسحب بذلك الامتياز الذي كان قاصرا حتى ذلك الوقت على اليهود والمسيحيين ليمنحه للعرب المسلمين، الذين وصفهم ذلك الإله العالمي بأنهم خير أمة أخرجت للناس.
الباب الأول
دية بني عامر
الوقائع من أحد إلى الخندق
غدر العربان
ما أنا والله قتلت خبيبا، لكن أبا ميسرة أخا بني عبد الدار أخذ الحربة فجعلها في يدي ثم طعنه.
معاوية بن أبي سفيان
بينما كانت السرايا والغزوات تضيف باستمرار مزيدا من التراكم المادي والسلاح لدولة النبي اليثربية، فإنها كانت - من جانب آخر - تسهم باستمرار في ضعضعة الحكومة المكية وسيرها نحو الانهيار. هذا إضافة إلى تعبئة القبائل المجاورة لمكة ، والتي آبت - رعبا وخوفا وربما طمعا - إلى حلف يثرب، مثل قبائل مزينة وجهينة، ناهيك عن قبائل أخرى حالفت يثرب طائعة مختارة كراهية في قريش، مثل خزاعة (الحارس القديم للكعبة المكية)، والتي سبق وخلعتها قريش وأقصتها عن مكة إقصاء؛ ومن هنا وجدت خزاعة في محمد وفي يثرب حليفا تحارب من خلاله قريشا، فلعبت دورا تجسسيا عظيما على قريش لصالح يثرب، كان له أثر بعيد في حسم أمور كثيرة لصالح الدولة اليثربية. ومع هذا وذاك، تمت عقود الموادعات بين يثرب وقبائل الساحل التي فضلت الخضوع ليثرب؛ رغبة في مغانم قوافل قريش المارة بطريق الساحل، وتجنبا لحرب يؤذنون بها من الله ورسوله.
وقد ترافقت مع تلك الخطوات الخطوة الضرورية والحاسمة لهيبة الدولة في يثرب وسيادتها، بضرب المنازع الأعظم داخل يثرب، اليهود، الشاهد الديني القدسي الحي، صاحب دستور ينتسب للسماء، رفض التنازل عنه أمام الدستور القرآني الذي ينسب ذاته بدوره إلى السماء وإلى ذات الإله. وهو ما كان من غير الممكن استمراره في ظل دولة توحيدية موحدة تحكم بدستور واحد وتعبد إلها واحدا وتنتظم تحت إمرة قائد واحد؛ ومن ثم شكلت كل تلك الخطوات المحسوبة بدقة وإحكام هيبة عظيمة للدولة الطالعة، ساعدت على اتساع سطوتها في المحيط العربي، حتى جاءت وقعة أحد بضربة موجعة وغير متوقعة على جدول الحسابات؛ وهو الأمر الذي أدى إلى ترنح هيبتها في نفوس الأعراب، وهو الأمر الشديد الخطورة آنذاك. ولم يكن مسلسل الاغتيالات الذي طال الرءوس من القبائل بكاف لإقناع العربان، بالكفاية القمعية للدولة، فكان أن شهدت تلك المرحلة بداية التطاول على الدولة اليثربية الطالعة.
وبينما المسلمون يلمون شعثهم في خطوات متسارعة وحاسمة، بعقد المعاقل، وتكثيف السرايا المسلحة، للإعلان أن الدولة لم تزل قوية، وأنها وإن انكسرت في أحد، فإن يراعها لم يزل بإمكانه أن يطول ويضرب ويؤدب لإخضاع القبائل؛ خرجت بسرعة سرية أبي سلمة إلى بني أسد في المحرم من السنة الرابعة للهجرة - بحسابات الواقدي - وبعد شهر واحد من هزيمة أحد.
لم تكن جراح أبي سلمة قد أبلت بعد، وكان الجرح الذي أصابه في أحد بعضده لم يزل طازجا، وأمره النبي بالخروج على رأس السرية برجالها المائة والخمسين إلى مضارب بني أسد. وعند وصوله مضاربهم فزع الأسود من سرية الرجل الجريح وهربوا تاركين نعما كثيرة من الإبل والشياه، غنيمة للمسلمين، وأسر منهم ثلاثة.
ثم يحكي لنا «عمرو بن أبي سلمة» عن أبيه، أنه «لما دخل المدينة انتفض به جرحه فمات، لثلاثة بقين من جمادى الأولى، فاعتدت أمي حتى خلت أربعة أشهر وعشر، ثم تزوجها رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ودخل بها في ليال بقين من شوال؛ فكانت أمي تقول ما بأس من النكاح في شوال والدخول فيه.»
1
والمعلوم أن أم سلمة كانت امرأة شديد الجمال قوية الشخصية ذربة اللسان فصيحته. ثم تأتي سرية عاصم بن ثابت إلى عضل والقارة.
عن أبي هريرة قال:
بعث النبي
صلى الله عليه وسلم
سرية عينا، وأمر عليهم عاصم بن ثابت ... فانطلقوا حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة، ذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان، فتبعوهم بقريب من مائة رام، فاقتصوا آثارهم ... حتى لحقوهم ... وجاء القوم فأحاطوا بهم، فقالوا لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا ألا نقتل رجلا منكم. فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا رسولك. فقاتلوهم حتى قتلوا عاصما في سبعة نفر بالنبل، وبقي خبيب وزيد ورجل آخر، فأعطوهم العهد والميثاق. فلما أعطوهم العهد والميثاق نزلوا إليهم، فلما استمكنوا منهم حلوا أوتار قسيهم فربطوهم بها، فقال الرجل الثالث الذي معهما: هذا أول الغدر. فأبى أن يصحبهم، فجروه وعالجوه على أن يصحبهم، فلم يفعل، فقتلوه. وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة، فاشترى خبيبا بنو الحارث بن عامر بن نوفل، وكان خبيب هو قاتل الحارث يوم بدر، فمكث عندهم أسيرا ... فخرجوا به من الحرم ليقتلوه ...
2
والنص أعلاه أورده ابن كثير نقلا عن الواقدي، لكن ابن كثير لحظ اختلافا بين رواية الواقدي وبين رواية ابن إسحاق، فقال:
ولنذكر كلام ابن إسحاق ليعرف ما بينهما من التفاوت والاختلاف :
قدم على رسول الله بعد أحد رهط من عضل والقارة، وقالوا: يا رسول الله، إن فينا إسلاما، فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهوننا في الدين، ويقرئوننا القرآن، ويعلموننا شرائع الإسلام. فبعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم
معهم نفرا ستة من أصحابه ... فخرجوا حتى إذا كانوا على الرجيع، ماء لهذيل بناحية الحجاز، غدروا بهم، فاستصرخوا عليهم هذيل، فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف قد غشوهم؛ فأخذوا أسيافهم ليقاتلوا القوم، فقالوا: إنا والله ما نريد قتلكم، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه ألا نقتلكم. فأما مرثد وخالد بن البكير وعاصم بن ثابت، فقالوا: والله لا نقبل من مشرك عهدا ولا عقدا أبدا ... ثم قاتل حتى قتل، وقتل صاحباه. أما خبيب وزيد بن الدثنة وعبد الله بن طارق، فلانوا ورقوا ورغبوا في الحياة وأعطوا بأيديهم؛ فأسروهم، ثم خرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها، حتى إذا كانوا بالظهران نزع عبد الله بن طارق يده من القران، ثم أخذ سيفه واستأخر القوم، فرموه بالحجارة حتى قتلوه، فقبره بالظهران. وأما خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة فقدموا بهما مكة، فباعوهما قريش بأسيرين من هذيل كانا بمكة ... وذكروا أنهم لما صلبوا زيد بن الدثنة رموه بالنبل ليفتنوه عن دينه، فما زاده إلا إيمانا وتسليما.
3
والتضارب هنا واضح جلي، في شأن الغرض الذي خرج له المسلمون الستة إلى ماء الرجيع بعضل والقارة؛ فهناك قول إنهم كانوا جواسيس لرسول الله (سرية عينا)، يستقصون أخبار هذيل، وهو فيما يبدو ما لم يرتح له الطبري وابن الأثير وابن إسحاق، ربما لوجوب أن تأتي الأخبار المطلوبة من السماء دون عناء، أو بخبر الملاك جبريل، الذي كثيرا ما ذكرت عنه صحف السير أنه كان يقوم بمثل تلك المهام للدولة وزعيمها؛ ومن هنا قال هؤلاء بخبر آخر، هو أن ما حدث كان كمينا محبوكا، حبكته لحيان ذلك البطن الهذلي بغرض النيل من هيبة الدولة التي اهتزت بعد أحد ، ويبدو لنا أن ذلك الإجماع يجنح إلى الصواب، إذا ما تذكرنا أن العربان لا تترك ثأرها، وأن محمدا
صلى الله عليه وسلم
سبق وأرسل سرية اغتالت من هذيل رأسها «خالد بن سفيان بن نبيح الهذلي»، وهو ما يبرر الحدث ويفسره. فما وصل الصحابة الأجلاء إلى ماء الرجيع، حتى برزت لهم هذيل، لتقتل منهم أربعة، وتأسر اثنين تسلمهما لقريش هما خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة.
ويخبرنا ابن هشام أن حجيرا قد ابتاع خبيبا، وأن صفوان بن أمية ابتاع زيدا، وتم قتلهما ثأرا، ويقول ابن هشام إنهم لم يعجلوا في قتلهما تعظيما لحرمة الأشهر الحرم، فلما انقضت خرجوا بخبيب من جوار الحرم الذي وضعوا قواعد أمنه، حيث صلبوه على خشبة بعيدا عند ثنية التنعيم، وكان قاتله هو معاوية بن أبي سفيان، الذي حاول أن يبرئ نفسه بعد ذلك بزمان، عندما دار الزمن دورته ليملك أعنة دولة الإسلام، فكان يقسم «والله ما أنا قتلت خبيبا، لكن أبا ميسرة أخا بني عبد الدار أخذ الحربة فجعلها في يدي ثم طعنه.»
4
لقد استهانت هذيل بالدولة اليثربية، وما جاءت استهانتها إلا بعد هزيمة أحد، وإزاء تلك الاستهانة انطلق لسان شاعر النبي حسان بن ثابت يهجو لحيان الهذلية، معبرا عما آل إليه الأمر في يثرب يومذاك ليقول:
إن سرك الغدر صرفا لا مزاج له
فأت الرجيع فسل عن دار لحيان
قوم تواصوا بأكل الجار بينهم
فالكلب والقرد والإنسان مثلان
لو ينطق التيس يوما قام يخطبهم
وكان ذا شرف فيهم وذا شان
5
وكالمعتاد في مثل ذلك الأحوال، كان لا بد من شيء يبلسم الجراح، ولو بالجنوح إلى الخيال تستمد منه قوة الاستشفاء النفسي، بأسطورة تأتينا في شكل خبر يتم تناقله بين كتاب السيرة عن عاصم بن ثابت، الذي ثبت للهذليين حتى قتل رافضا أن يعطي بيديه. وكانت سلافة بنت سعد بنت سهيل قد نذرت حين أصاب عاصم ولديها في أحد، لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن في قحفه الخمر، لكن هذيل لا تستطيع أن تأتي برأس عاصم ، لماذا؟ لأن الله قد علم بنذر سلافة، فأرسل إلى جسد الشهيد جنودا تحميه من هذيل، في شكل زنابير تجمعت على الدم المراق، فلم يقدروا منه على شيء.
6
ولا يرضى ابن الأثير بحماية الزنابير وينتهي الأمر، بل يأتينا بخبر أشد أسطرة فيقول إن الوادي قد ابتلعه؛ لأنه كان قد عاهد الله ألا يمس مشركا ولا يمسه مشرك، فمنعه الله في مماته كما منع في حياته.
7
وهو الأمر الذي حدث له نموذج شبيه مع الأسير الثاني خبيب؛ فهذه ماوية مولاة حجير تحكي بعد ذلك بزمان روايتها العجيبة فتقول: «حبس خبيب بمكة في بيتي، فطلعت عليه يوما وإن في يده لقطفا من العنب، أعظم من رأسه، يأكل منه، وما في الأرض يومئذ حبة عنب.» ليردف البيهقي الذي آل على نفسه جمع العجائب، راويا عن أمية الضمري الذي حكى لولده وعن ولده الذي حكى لحفيده، أنه تسلل ليلا لإنقاذ خبيب عن الصليب، ويقول: «جئت إلى خشبة خبيب فرقيت فيها، وأنا أتخوف العيون، فأطلقته، فوقع على الأرض، ثم اقتحمت فانتبذت قليلا ثم التفت، فكأنما ابتلعته الأرض، فلم يذكر لخبيب رمة حتى الساعة.»
8
هذا رغم أن راوية ابن كثير توضح لنا دون لبس كيف اختفى جسد خبيب، برواية أمية الضمري ذاته، الذي أكد هذه المرة أنه حمل جثة خبيب على ظهره وسار به حتى تنبه له الناس، فأسرع برميه على الأرض، ثم يقول ما نصه: «وأهلت عليه التراب برجلي.»
9
ثم يأتي يوم بئر معونة
وهو يوم قبائل سليم، التي تكاثرت عليها سرايا يثرب وغزواتها تقفو بعضها بعضا، عندما تداعى المسلمون في أحد لتجدها سليم فرصة الثأر وشفاء الغليل، فيما رواه أنس بن مالك، ويشير إلى أن سليم قد سلكت مسلك هذيل ذاته، فذهب بعضهم إلى المدينة يستمد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مددا على عدو لهم، معلنين اتباعهم له، فيمدهم النبي بأربعين من خيار المسلمين، ومعهم رسالة يحملها خال النبي حرام بن ملحان الأنصاري، إلى سيد بني عامر «عامر بن الطفيل»، الذي ما إن يطالع الرسالة حتى يعمل سيفه وسيوف سليم في الأربعين مسلما عند بئر معونة، ثم يبقي على مسلم واحد هو عمرو بن أمية الضمري، فقط ليقول له متحديا: ارجع إلى صاحبك فحدثه. فخرج عمرو إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فأخبره.
وحديث بئر معونة بدوره - في كتبنا الإخبارية - يحمل بعض التضارب، فرغم أن البيهقي بحديث أنس بن مالك قد قال إن سليم استمدت النبي المدد على عدو لها،
10
فإن ابن كثير يروي عن ذات الراوي أنس بن مالك رواية أخرى تقول:
بعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم
سبعين رجلا لحاجة، يقال لهم القراء، فعرض لهم حيان من بني سليم؛ رعل وذكوان، عند بئر يقال لها بئر معونة، فقال القوم: والله ما أردنا إياكم، وإنما نحن مجتازون في حاجة للنبي
صلى الله عليه وسلم . فقتلوهم، فدعا النبي عليهم شهرا في صلاة الغداة، وذلك بدء القنوت، وما كنا نقنت.
11
وهنا يختلف السبب، كما يختلف عدد المسلمين، هذا إضافة إلى رواية ثالثة تقول:
قدم أبو براء، عامر بن مالك بن جعفر، ملاعب الأسنة، على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بالمدينة، فعرض عليه الإسلام ودعاه إليه، فلم يسلم، ولم يبعد. وقال: يا محمد لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد، فدعوهم إلى أمرك، رجوت أن يستجيبوا لك. فبعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم
المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة المعنق، ليموت في أربعين رجلا من أصحابه من خيار المسلمين ... فلما نزلوا بعث حرام بن ملحان بكتاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في الكتاب حتى عدا على الرجل فقتله، ثم استصرخ عليهم بني عامر فأبوا ... فاستصرخ عليهم قبائل من سليم من عصية ورعل وذكوان والقارة، فأجابوه إلى ذلك. حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم حتى قتلوا عن آخرهم ... وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري ... وأخذ عمرو أسيرا فلما أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل وجز ناصيته، وأعتقه عن رقبة كانت على أمه فيما زعم.
12
والرواية هنا تلتقي إلى حد كبير برواية عضل والقارة في أسبابها، وهو الأمر الذي لا يمكن قبوله؛ حيث يقع المسلمون في الخطأ ذاته مرتين. ومن غير المعقول أيضا تصور النبي
صلى الله عليه وسلم
يرسل ببساطة خيرة رجاله إلى سليم، التي أخذها الرعب من النبي كل مأخذ، بعد السرايا والغزوات المتتالية عليها. كما أنه من غير المستساغ أبدا أن يرسل النبي سبعين رجلا ليعلموا سليم أو عامر القرآن وقواعد الإسلام، بينما كان يكفي شخص واحد أو شخصان لأداء تلك المهمة، بدلا من أن يفقد من رجاله عددا لم يفقده في معاركه الكبرى. ثم لا يمكن أن نفهم كيف يذهب سيد من بني عامر هو ملاعب الأسنة، ليأخذ المسلمين إلى سيد آخر من بني عامر أيضا هو عامر بن الطفيل، ليستصرخ عليهم عامر بن الطفيل العامري قبائل أخرى هي قبائل سليم؟ إن هذا الإرباك لا ينجلي إلا إذا تصورنا مؤامرة قد عقدتها سليم مع بني عامر، فما كان ممكنا أن يستجيب النبي لدعوة كتلك من سليم، إنما كان ممكنا أن يستجيب لبني عامر، خاصة إذا كان الداعي عامريا في كرامة وشهرة ملاعب الأسنة، ليأخذ المسلمين لتقتلهم سليم.
كما يجب ألا نذهب مع القول إنه دعاهم ليعلموا العامريين الإسلام فكان يكفي فرد أو اثنان كما قلنا؛ لذلك يجب قبول الرواية التي تقول إن ملاعب الأسنة قد استمدهم على عدو له، وللتشجيع - ربما - تم تحديد هذا العدو بعدوة النبي سليم تحديدا؛ لمزيد من حبكة المؤامرة وجعلها قادرة على الإقناع والتمرير.
ومما يعضد ذلك التفسير المفترض لما حدث، هو أمر ذلك الحلف الغريب الذي تتحدث عنه كتب السير والأخبار، الذي تم عقده بين النبي
صلى الله عليه وسلم
وبين بني عامر، حيث يستمر ابن كثير في سرد قصة يوم بئر معونة ليقول إن عمرو بن أمية الضمري، الذي أطلقه عامر بن الطفيل ليبلغ رسالته المتحدية للنبي
صلى الله عليه وسلم «خرج عمرو بن أمية حتى إذا كان بالقرقرة من صدر قناة، أقبل رجلان من بني عامر حتى نزلا في ظل هو فيه، وكان مع العامريين عهد من رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وجواره، ولم يعلمه عمرو بن أمية. وقد سألهما حين نزلا: ممن أنتما؟ قالا: من بني عامر. فأمهلهما حتى إذا ناما، عدا عليهما وقتلهما، وهو يرى أنه قد أصاب بهما ثأرا من بني عامر. فلما قدم عمرو بن أمية على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أخبره الخبر، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : لقد قتلت قتيلين لأدينهما.»
13
ومرة أخرى لا يترك مأثورنا حديث الأحاجي المعجز، فيقول الإخباريون: «لما قتل الذين ببئر معونة وأسر عمرو بن أمية الضمري، قال له عامر بن الطفيل: من هذا؟ وأشار إلى قتيل. فقال له عمرو بن أمية: هذا عامر بن فهيرة. قال: لقد رأيته بعدما قتل، رفع إلى السماء حتى إني لأنظر إلى السماء بينه وبين الأرض.»
14
وهكذا تروى المعجزة على لسان من لقبته كتبنا التراثية بعدو الله «عامر بن الطفيل»، ومع ذلك لم يؤمن الرجل رغم ما رأى؟! وبينما «البيهقي» يزيدنا إعجازا بقوله: إن النبي دعا على ابن الطفيل فأصابه الطاعون وذلك في عام الوفود سنة تسع للهجرة. هذا بينما نجد ابن الأثير يورد سببا آخر لموت ابن الطفيل، هو أن أبا براء ملاعب الأسنة الذي أجار مسلمي بئر معونة قد رأى في قتل ابن الطفيل لهم تعديا على إجارته، فطعن ابن الطفيل وهو على فرسه، فسقط ابن الطفيل ليموت وهو يقول: «إن مت فدمي لعمي.»
15
ومع يقظة سليم وتحفز عامر، ومع ضرورة اتخاذ موقف ردع سريع برزت سياسة الاغتيال مرة أخرى، لتنتقم لشهداء المسلمين، فيرسل النبي يستدعي عمرو بن أمية الضمري وسلمة بن أسلم بن حريش، ليوجههما وجهة أخرى لقطف رأس كبير بأمره القائل: «اخرجا حتى تأتيا أبا سفيان بن حرب، فإن أصبتم منه غرة فاقتلاه.» ويحكي ابن الضمري فيقول: «فأتينا مكة فطفنا أسبوعا وصلينا ركعتين فلما خرجت لقيني معاوية بن أبي سفيان فعرفني،
16
فصرخ بأعلى صوته : هذا عمرو بن أمية ! فقاموا في طلبي وطلب صاحبي، فقلت له النجاء، هذا والله الذي كنت أحذر، أما الرجل فلا سبيل إليه فانج بنفسك. فخرجنا نشتد حتى أصعدنا في الجبل، فدخلنا في غار فبتنا فيه ليلتنا وأعجزناهم هربا، فرجعوا وقد استترت دونهم بأحجار ...»
17
ويتمكن ابن الضمري من الوصول إلى منطقة أبعد، عند غليل ضجنان، فيدخل غارا يبيت فيه ويحكي: «فبينما أنا فيه إذ دخل علي رجل من بني الديل بن بكر، أعور، طويل، يسوق غنما له، فقال: من الرجل؟ فقلت: رجل من بني بكر. قال: وأنا من بني بكر. ثم اضطجع معي فيه، فرفع عقيرته يتغنى ويقول:
ولست بمسلم ما دمت حيا
ولست أدين دين المسلمينا
فقلت: سوف نعلم. فلم يلبث الأعرابي أن نام وغط، فقمت إليه فقتلته أسوأ قتلة قتلها أحد أحدا، قمت إليه فجعلت سية قوسي في عينه الصحيحة ثم تحاملت عليها حتى أخرجتها من قفاه.»
18
ويتابع روايته «ثم خرجت حتى هبطت فلما أسهلت في الطريق، إذا رجلان بعثتهما قريش يتجسسان الأخبار، فقلت: استأسرا. فأبى أحدهما فرميته فقتلته، فلما رأى الآخر ذلك استأسر، فشددت وثاقه ثم أقبلت به إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
وقد ربطت إبهامه بوتر قوسي، فلقد رأيت النبي يضحك، ثم دعا لي بخير.»
19
ومع فشل بعثة ابن الضمري لقتل سيد مكة، كان لا بد من عمل سريع إزاء قبائل سليم التي باتت ساهرة الأجفان تتوقع الثأر الآتي لا محالة، وبالفعل جاءها الغزو فجأة بقيادة النبي نفسه، لكن لتهرب سليم جميعا ويتركوا منازلهم وأنعامهم، فيجمع المسلمون أنعامهم ويعودون بها إلى يثرب فيما عرف بغزوة «قرقرة الكدر».
20
وكان من غير الممكن الاستمرار في الانتظار طويلا للإيقاع بالناس وقعة كبرى تعيد للدولة هيبتها، وتعيد العربان إلى سابق انكماشهم؛ ومن ثم كان لا بد من تحديد هدف كبير، ولإيجاد سبب مناسب يكون مدخلا إلى ضربة كبرى تعيد إلى المسلمين ثقتهم في أنفسهم، وتلقي الرعب في قلوب الذين كفروا.
غزوة النضير
اخرجوا من بلدي فلا تساكنوني بها ... وقد أجلتكم عشرا فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه.
رسالة النبي إلى بني النضير
مرة أخرى نعود إلى خبر ذلك العهد الغامض والملتبس بكتبنا الإخبارية، والذي عقد بين النبي
صلى الله عليه وسلم
وبين بني عامر، ورغم المكيدة التي راح ضحيتها ما بين الخمسين والسبعين من خيار المسلمين في بئر معونة، والتي دبرت بشكل غير واضح في مأثورنا، وقاد المذبحة الزعيم العامري «عامر بن الطفيل»، فإن أمية الضمري عندما قتل عامريين في طريق عودته، وجد النبي غير راض عما فعل، بل أعلن أن عليه تأدية الدية في العامريين القتيلين؛ لأن بينهما عهدا، وهو العهد الذي لم يعلم به الصحابة، وهو ما يوضحه عدم علم ابن الضمري الذي قتل العامريين.
والأكثر التباسا أن يقول الطبري: «إن عامر بن الطفيل كتب إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم : إنك قتلت رجلين لهما منك جوار وعهد فابعث بديتهما.»
1
الأمر هنا غير مقبول إطلاقا؛ فعامر بن الطفيل يكيد للمسلمين، ويقتل بمعاونة قبائل سليم سبعين مسلما، ثم يرسل للنبي طالبا الدية لعامريين قتلهما الضمري ثأرا؟! ويصبح موقف النبي
صلى الله عليه وسلم
غير مفهوم في إصراره ليس على الانتقام وإنما في أداء الدية لبني عامر! كما سبق وحدث بغزوته على أهل الرجيع ودار لحيان انتقاما لسبعة فقط من رجاله في مؤامرة مثيلة؛ وعليه فما يبدو لنا أن السبب الواضح في الإصرار على دفع الدية للمعتدي، كان إيجادا لسبب هو أعظم وأجل، ألا وهو إجلاء بني النضير، تلك القبيلة اليهودية الكبرى عن يثرب، وخاصة أن النضير كانوا حلفاء الأوس، وكان المنافقون من الأوس كثر، وهم من كانوا وراء غليان المدينة بالنفاق بعد هزيمة أحد، خاصة أن كتب الأخبار التي أفاضت في أمر دية بني عامر، قد توقفت تماما عن ذكرها بعد غزوة النضير، حتى لا نعلم بعدها هل تم أداء تلك الدية فعلا أم لا؟ كما لو كان أصحاب السير والأخبار يعلمون بدورهم أن دية بني عامر إنما كانت المدخل لإعلان الحرب على النضير؛ لتطهير يثرب، وتقليم أظافر المنافقين بإبعاد حلفائهم الأقوياء ، ثم - من جانب آخر - تقوية الروح المعنوية للمسلمين بنصر وغنائم تعوضهم عن هزيمة أحد.
ويتضح دور دية بني عامر والإصرار عليه فيما أدت إليه من نتائج باهرة، توضحها رواية الطبري عن النبي
صلى الله عليه وسلم
عندما ذهب إلى بني النضير، يستعين بهم في أداء دية العامريين، بما أصبح بينهم وبين الرسول من تحالف في صحيفة المعاقل، فتقول الرواية:
فانطلق رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى قباء، ثم مال إلى بني النضير مستعينا بهم في ديتهما، ومع نفر من المهاجرين والأنصار، فيهم أبو بكر وعمر وعلي وأسيد بن حضير. فلما أتاهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يستعينهم في دية ذلك القتيلين، قالوا: نعم يا أبا القاسم، نعينك على ما أحببت، مما استعنت بنا عليه.
2
إن أي قارئ كان لا بد أن يتوقع من بني النضير تسويفا أو مماطلة أو رفضا، لكن يبدو أن يهود نضير قد قدروا الأمر تقديرا عميقا، فما زال خروج يهود قينقاع المهين مائلا في الأذهان، وهناك صحيفة معاقل تضمن لهم قدرا من السلام لا يرجون غيره، مع مسلسل الاغتيالات الذي نال رجالهم المقدمين، ناهيك عن معرفتهم أن المسلمين قد صاروا مقتدرين ماليا على أداء مثل تلك الديات بعدما حصلوه من مال نتيجة غزوة بدر الكبرى؛ ومن ثم كانت الحكمة تقتضي إجابة مثالية واضحة، لا تعطي أية فرصة لنقض صحيفة المعاقل ولما يمض عليها من الشهور سوى ستة، فقالوا: نعم يا أبا القاسم، نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه. رغم ما في ذلك من نكاية بعهدهم مع بني عامر وحلفهم معهم. وهو ما يعلمنا به ابن اسحاق، الذي أكد أن النضير مثلما كانت قبل الهجرة على حلف تآخ مع أوس يثرب، كانت على ذات الحلف مع بني عامر
3
ومعنى أن يدفعوا الدية عن مسلمين، أنهم اتخذوا جوارهم وفكوا حلفهم مع العامريين.
ويتابع الطبري روايته فيقول إن يهود النضير عندما أجابوا النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى ما طلب:
قام وقال لأصحابه: لا تبرحوا حتى آتيكم، وخرج راجعا إلى المدينة. فلما استلبث رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أصحابه، قاموا في طلبه، فلقوا رجلا مقبلا من المدينة، فسألوه عنه، فقال: رأيته داخلا المدينة. فأقبل أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حتى انتهوا إليه، فقالوا: يا رسول الله، انتظرناك ومضيت. فقال: يهود همت بقتلي وأخبرنيه الله عز وجل.
4
أما كيف همت نضير بقتل النبي
صلى الله عليه وسلم
وهو جالس وسط رجاله، وكيف علم النبي وحده بتلك المؤامرة؟ فهو ما تخبرنا به رواية ابن إسحاق وهو يقول: «فأتى رسول الله الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج عائدا إلى المدينة.»
5
وقد أخبرته السماء عبر وسيطها جبريل أن يهود نضير قد خلا بعضهم ببعض فقالوا: «إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذا، ورسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى جنب جدار من بيوتهم قاعدا، فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة ويريحنا منه.»
6
ومن ثم لم يكن هناك سوى رد واحد على خبر السماء الصادق بخيانة بني نضير الواضحة، وهو الجلاء عن يثرب. وزيادة في النكاية بهم أرسل النبي لهم واحدا من الأوس هو محمد بن مسلمة، يحمل إليهم رسالة النبي
صلى الله عليه وسلم
تنذر وتقول بلا لبس:
اخرجوا من بلدي فلا تساكنوني بها، وقد هممتم بما هممتم به من الغدر، وقد أجلتكم عشرا، فمن رئي بعد ذلك، ضربت عنقه.
7
لقد كانت نضير تظن عبر تاريخها الطويل أن يثرب بلدها هي، لكن ها هي الرسالة واضحة مفصحة تؤكد أنها قد أصبحت بلد الرسول، وأنه سيدها، وأن عليهم مغادرتها فورا وخلال أيام عشرة، أو يكونوا في خسر، تقطع بعدها منهم الرقاب إن ظلوا قائمين. ويقول البيهقي إن النضير لما رأت أن محمد بن مسلمة الأوسي يحمل لها تلك الرسالة القاسية، وهو كشخص بحد ذاته يعد رسالة أخرى من النبي لهم بخذلان الأوس لهم، تساءلت عن حلفها مع الأوس وعقدها قائلة لابن مسلمة: «يا محمد، ما كنا نرى أن يأتي بهذا رجل من الأوس.» فقال محمد بن مسلمة: «تغيرت القلوب.»
8
أو بنص الطبري: «تغيرت القلوب ومحا الإسلام العهود.»
9
وهنا يعلمنا ابن سعد عبر طبقاته أن عبد الله بن أبي بن سلول أرسل لهم يقول: «لا تخرجوا من دياركم وأقيموا في حصونكم؛ فإن معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب، يدخلون معكم حصنكم، فيموتون عن آخرهم، وتمدكم قريظة، وحلفاؤكم من غطفان.» ومن ثم كانت إجابة زعيم النضير، الذي لقبته العرب سيد الحاضر والبادي، حيي بن أخطب: «إنا لا نخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك.»
10
وهو أيضا ما أكده ابن كثير وهو يروي: «فبعث لهم أهل النفاق يثبتونهم ويحرضونهم على المقام، ويعدونهم بالنصر، فقويت عند ذلك نفوسهم، وحمي حيي بن أخطب، وبعثوا إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أنهم لا يخرجون، ونابذوه بنقض العهود.»
11
وهنا تسترسل آيات الوحي تنذر وتتوعد وتقول:
ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون * لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون (الحشر: 11-12).
وكان الإنذار واضحا لا يحمل أي لبس، وهو ما كان كفيلا بتراجع المنافقين وحساب مواقفهم بدقة، بحيث لا نرى عند حصار المسلمين للنضير أي تحرك من جانب الأوس، ولا من جانب ابن سلول وأشياعه. أما قريظة فقد فهمت الرسالة؛ ومن ثم التزمت صحيفة المعاقل، وهو ما يقوله ابن سعد في تقريره:
واعتزلتهم قريظة فلم تعنهم، وخذلهم ابن أبي وحلفاؤهم من غطفان، فأيسوا من نصرهم.
12
أما الطبري فقد أفصح عن موقف قريظة في إعلان زعيمها كعب بن أسد:
لا ينقض العهد رجل من بني قريظة وأنا حي.
13
ويحكى أن سلام بن مشكم قال لرفيقه حيي بن أخطب: «يا حيي، اقبل هذا الذي قال محمد، وإنما شرفنا على قومنا بأموالنا، قبل أن تقبل ما هو شر منه.» قال: «وما هو شر منه؟» قال: «أخذ الأموال، وسبي الذرية، وقتل المقاتلة.» فأبى حيي، وأرسل حيي إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «إنا لا نريم دارنا فاصنع ما بدا لك.» فكبر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وكبر المسلمون معه وقال: «حاربت يهود.»
14
ويقول ابن كثير إن النضير لما «نابذوه بنقض العهود، عند ذلك أمر الناس بالخروج إليهم ... فحاصرهم ست ليال ...»
15
لكن يهود لم تستسلم، وهنا أمر النبي بهدم مساكنهم المنتشرة حول حصونهم، كما أمر بالمعاول وتقطيع النخل والأشجار وحرق المزروعات، فنادوه:
يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بال تقطيع النخل وتحريقها؟!
16
ما ذنب شجرة وأنتم تزعمون أنكم مصلحون؟
17
وقال الحلبي في سيرته:
لما قطعت العجوة، شق النساء الجيوب، وضربن الخدود، ودعون بالويل. وعند ذلك نادوه: يا أبا القاسم، ما هذا الفساد؟ يا محمد، زعمت أنك تريد الصلاح، أفمن الصلاح قطع النخل؟ وهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد في الأرض؟ وقالوا للمؤمنين: إنكم تكرهون الفساد وأنتم تفسدون؟!
18
قال السهيلي في شروحه:
فوقع في نفوس المسلمين شيء من هذا الكلام.
19
هنا لم يكن الأمر مسألة مبادئ توجه إليها الانتقادات والملامات، أو أفكار تعاب، فالمعركة يجب أن تحسم، ولن تحسمها سوى القوة العسكرية لا الأخلاقيات التي قعدها قوم مزارعون وضعوا لها الأعراف لحماية زروعهم؛ وعليه فقد جاء الرد وحيا يرفع الملامة عن النبي وصحبه، يؤكد ألا ملامة في قطع الزرع وحرق النخيل، فكله بأمر الله وحده وإرادته، ليقول الآي الكريم:
ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين (الحشر: 5).
واستمر الحصار يوما وراء آخر حتى بلغ خمسة عشر يوما، وهنا «صالحوه على أن يحقن دماءهم وله الأموال والحلقة»،
20
ولهم ما حملت الإبل. ووافق النبي الكريم
صلى الله عليه وسلم
لكن حتى لا تحمل الإبل متاعا، فقد أعطى لكل ثلاثة أفراد بعيرا واحدا يركبون عليه ويحملون عليه ما يمكن حمله.
وجاء وقت توزيع الغنائم، وفي ذلك يقول الحلبي: «كان نخل بني النضير لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
خاصة، أعطاه الله تعالى إياه ... وأكثر الروايات، أن أموال بني النضير أي مواشيهم كالخيل ومزارعهم وعقارهم، حق لرسول الله خاصة له ... حبسا لنوائبه، وكان ينفق على أهله منها، وكانت صدقاته منها.»
21
وفي الحديث عن عمر بن الخطاب أنه قال: إن أموال بني النضير كانت مما أفاء الله على رسوله، مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، وكانت لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
خالصة.
22
وهو ما جاءت بشأنه الآيات لتحسم أمره، حيث أوضحت أن المسلمين لم يبذلوا في سبيله ولم يحاربوا من أجله؛ ومن ثم فهو أمر قد حدث بتفاوض بين النبي
صلى الله عليه وسلم
وبين بني النضير؛ لذلك فهو من حق النبي وحده، حيث تقول الآيات:
ما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب (الحشر: 6). أما ما حدث لنضير فهو بأمر الله، حيث تؤكد الآيات
ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير (الحشر: 6).
وخرجت النضير من ديارها ذليلة مهانة، يقودها حيي بن أخطب الذي عرفت له العرب فضل السيادة والشرف فلقبته سيد الحاضر والبادي، واتخذ المرتحلون طريق الشمال، لكن لينزل بعض سادة النضير على يهود خيبر مثل سلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع، وحيي بن أخطب مع جمهور من يهود النضير، بينما يستمر باقي الركب يقطع الفيافي باتجاه أرض الميعاد ليستقر هناك في فلسطين.
أما الآيات الكريمة فكانت تختتم الحدث، يتردد صداها بين فيافي الجزيرة ويسري مع الرياح يسمع مضارب القبائل في كل مكان، ورجع الصدى منه يرجف قلوب العرب ويصك أسماعهم، حيث تقول:
سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم * هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار * ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار * ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب (الحشر: 1-4).
تأديب العربان
فأبلغ أبا سفيان عني رسالة
فإنك من غر الرجال الصعالك
حسان بن ثابت
كان خروج النضير وسادتها من أشراف العرب وسراتهم بهذا الشكل المزري، وانهيارهم أمام المسلمين رغم حصونهم التي كانت في نظر العرب معاقل كبرى، عاملا عظيم الأثر في بث الرعب في قلوب العربان الذين لا يملكون حصونا ولا صياصي. ورجعت الأصداء أخبار ذلك النصر المبين، فكنت حكاية العربان الراجفة المزلزلة، عن تلك القبيلة العربية يهودية الديانة، التي استقرت في يثرب قرونا، وكونت لنفسها بين العرب جليل المكانة، ليطيح بها السيف المحمدي خارج حدود جزيرة العرب جميعا. وكان طبيعيا أن ترجف هذيل وتسفي رياح الحدث بأعصاب رجالها وتشتت أمنهم، فثأر أصحاب الرجيع لم يزل قائما، وكان تأديب فخذها اللحياني أمرا آتيا لا محالة، لكن لحيان الهذلية كانت قد وعت درس أصحاب «بئر معونة»، الذين هربوا ما إن حذروا بمقدم جند الله وتركوا الديار وفروا فرارا غير كريم؛ ومن ثم باتت لحيان ساهرة الأجفان تتشمم الأخبار، بينما كان النبي يلج برجاله عليهم، لكن ليسلك طريقا غير الطريق المضروب لدار لحيان، ليسقط عليها فجأة ويأخذ منها غرة. فسلك برجاله طريقا وعثا وعرا نحو الشام؛ حتى يرى العرب أنه يريد أمرا بعيدا، لكن ليلتفت بجيشه التفافة كبرى لم تغب عن عيون لحيان المرعوبة، فتركت له الديار ليصلها فيجدها فراغا، وأصحابها قد صعدوا رءوس الجبال وتمنعوا بوعورة بيئتهم، وأخذوا معهم أموالهم وأنعامهم في مواضع الأمان. وهنا اتخذ القائد خطا آخر ليستدير على مواضعهم المنيعة من طريق عسفان، ذلك الطريق شديدة الوعورة قرب مكة، مما كبد النبي وجيشه مشقة ووعثاء شديدتين، لكن مكة ظنته قادما إليها، فخرج إليه خالد بن الوليد على رأس مائتي فارس، وهو أمر لم يستعد له المسلمون، وكانت مواجهته تحتمل هزيمة يقينية؛ مما اضطر جيش المسلمين إلى إلغاء الحملة التأديبية الثأرية على لحيان الهذلية، بعد كل ما تكبده جيش المسلمين من مشاق، مع الانسحاب الهادئ والمحسوب تجاه يثرب دون إثارة ابن الوليد وجنده، بعد التفاف واسع آخر، والعودة بلا أي مغنم وبدون تحقيق أي هدف للحملة، وهو ما ترك أثره فيما ردده النبي العائد برجاله وهو يقول دون أن يظفر بشيء:
أعوذ بالله من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في الأهل والمال.
1
ولم تنقض أيام بيثرب على الجند المكدود، حتى صدع الناس بأمر نبيهم للخروج على غطفان، التي كانت حليفا للنضير، والتي وعدت بإمدادهم وتراجعت، لكن معنى ذلك أنها ركبت مركب العداء لحكومة يثرب ولصاحب الدعوة؛ ومن ثم كان من الضروري إرهابها وتقليم أظافرها بغزوة تأديبية، هي الغزوة المعروفة ب «ذات الرقاع»، التي أراد بها النبي بني محارب وبني ثعلبة من غطفان، لكن غطفان علمت بمسيره فجمعت حشودها واستعدت استعدادا عسكريا متميزا لملاقاة الجيوش، ووصل المسلمون ليجدوا أنهم قد فقدوا عنصر المفاجأة، ورأوا أمامهم جيشا مستعدا متجهزا، ليروي لنا الطبري ما حدث في قوله: «ولم يكن بينهم حرب، وقد خاف الناس بعضهم بعضا، حتى صلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بالمسلمين صلاة الخوف، ثم انصرف بالمسلمين.»
2
ومع الحملات الفاشلة على التوالي، كان لا بد أن يجد رواتنا عافاهم الله ما يسدون به الفراغ بين الانتصارات، فالتجئوا كعادتهم إلى حديث المعجزة؛ ففي غزوة ذات الرقاع يروي لنا الإمام النويري رواية عجيبة تقول: «وفي هذه الغزوة جاءته - أي إلى الرسول -
صلى الله عليه وسلم
امرأة بابن لها، فقالت: يا رسول الله، هذا ابني قد غلبني عليه الشيطان. ففتح فاه فبزق فيه وقال: اخسأ عدو الله، أنا رسول الله. ثم قال
صلى الله عليه وسلم : شأنك بابنك، لن يعود إليه شيء مما كان يصيبه. فكان ذلك.»
3
وفي تلك الغزوة التي لم تحقق شيئا، نجد حديثا آخر يملأ الفراغ بالمسليات من معجزات، حيث لا ملائكة، ولا دور عسكري يقوم به جبريل؛ فتقول إحدى الروايات إن المسلمين عانوا من الجوع إزاء ذلك الالتفاف الطويل، فنفدت ميرتهم من الطعام، فعثروا على ثلاث بيضات نعام، فقال النبي للصحابي جابر: «دونك يا جابر فاعمل هذه البيضات.» قال جابر: «فعملتهن ثم جئت بهن في قصعة، فجعلنا نطلب خبزا فما نجد، فجعل النبي وأصحابه يأكلون من ذلك البيض بغير خبز، حتى انتهى كل إلى حاجته؛ أي إلى الشبع، والبيض في القصعة كما هو.»
4
ويبدو أن تلك الغزوة التي خاف فيها النبي والمسلمون القتال، حتى صلوا صلاة الخوف، كانت مدعاة لكثير من حديث المعجزات؛ لملء فراغ كان يجب أن يملأه جند السماء، وهي معجزات شبيهة بالمعجزات اليسوعية؛ فطرد الشيطان من الأجساد، وإطعام الجمع الغفير في القفر بالقليل من الطعام، معجزات معلومة للمسيح؛ فيسوع قد سبق وأخرج الشيطان من جسد ابن المرأة الكنعانية، كما أطعم جمعا غفيرا برغيف وسمكتين بعد أن باركها، وبقيت فضلات تملأ أجولة. ثم تأتي هنا معجزة شبيهة بالمعجزات السليمانية، يتحول فيها النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى قدرة التحادث مع الحيوانات، وهو ما ورد في قصة البعير الذي جاء وحدث النبي بشكواه فأنصفه.
5
ومن خبر ذات الرقاع تنقلنا كتب السير إلى غزوة بدر الآخرة، حيث كان أبو سفيان قد تنادى بالمسلمين المختبئين فوق الصخرة في غزوة أحد قائلا: «يوما بيوم بدر، وإن بدرا موعدنا العام المقبل.» وقد حان موعد اللقاء المضروب، بمرور عام كامل على وقعة أحد.
ويحكي لنا ابن هشام خبر غزوة بدر الآخرة بقوله: «ثم خرج في شعبان إلى بدر لميعاد أبي سفيان، حتى نزله، واستعمل على المدينة عبد الله بن أبي سلول ... فأقام عليه ثماني ليال ينتظر أبا سفيان.
6
لكن أبا سفيان لم يأت لموعده بعدما علم بخروج المسلمين مستعدين إلى سوق بدر، حيث نزلوا مسلحين بالعتاد وبالتجارة، متجهزين لكلا الأمرين. ولما كانت بدر سوقا للأعراب، يطلب فيها التجار الأمن والأمان، فقد جاء مخشى بن عمرو الضمري إلى النبي، وكان قد كتب عهد موادعة مع النبي عندما غزاهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
غزوة ودان، ليسأل النبي
صلى الله عليه وسلم :
يا محمد، أجئت للقاء قريش على هذا الماء؟
لقد جاء الرجل يتساءل، وماء بدر في حمى بني ضمرة، لا يريدون عليه حربا، ويطلبون له الأمان والسلام للرواج التجاري، لكن ليجيبه النبي بالقول القاطع والحاسم:
نعم يا أخا بني ضمرة، وإن شئت رددنا إليك ما كان بيننا وبينك، وجالدناك حتى يحكم الله بيننا وبينك.
لكن ليجيبه الرجل من فوره:
لا والله يا محمد، ما لنا بذلك من حاجة!
7
ويخبرنا الواقدي أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قد خرج إلى بدر الآخرة في ألف وخمسمائة من الجند المسلحين، وأقام على بدر ينتظر أبا سفيان لميعاده مدة الموسم وهي ثمانية أيام، والسوق قائمة، والمسلمون يتاجرون وهم يحملون السلاح، فكان لا ينازعهم في السوق منازع، فربحوا عن الدرهم درهمين.
8
ليعقب الوحي الكريم على الحدث بقوله:
فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم (آل عمران: 174).
وهكذا أسفر أمر بدر الآخرة عن إعلان لجميع العربان بجبن أهل الله المكيين عن الخروج لملاقاة جند الله اليثربيين. جبنت قريش وتراجعت وأخذت تخسر أسواقها، بعد أن خسرت طريق الشام المار بالمدينة، وانهارت سمعتها بين الأعراب. وزيادة في تمريغ تلك السمعة وإظهار هوان قريش، أرسل كعب بن مالك رسالة شعرية - يرددها العربان - لأبي سفيان، تعيره هو وقريش وتقول:
وعدنا أبا سفيان بدرا فلم نجد
لميعاده صدقا وما كان وافيا
فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا
لأبت ذميما وافتقدت المواليا
تركنا به أوصال عتبة وابنه
عمرا أبا جهل تركناه ثاويا
أما حسان بن ثابت الذي يجبن عند الحرب، ويرسل لسانه سليطا عند الحاجة، فقد أرسل برقية تقول:
فأبلغ أبا سفيان عني رسالة
فإنك من غر الرجال الصعالك
9
وهو الأمر الذي آذى قريشا، حتى جاء صفوان بن أمية إلى أبي سفيان لائما يقول: «قد والله نهيتك يومئذ أن تعد القوم، وقد اجترءوا علينا، ورأوا أنا أخلفناهم، وإنما أخلفنا الضعف.»
10
هذا ما كان عليه حال قريش. أما حال يثرب فلم يكن مرضيا لأهلها؛ فالحملات تفشل، والعربان تتطاول، والدولة بحاجة دائمة إلى أعمال كبرى تعلن دوما عن حجم القوة الإسلامية. وهنا يحكي لنا ابن كثير أنه قد بلغ النبي أن الدنو من أبواب الشام، أمر سيفزع قيصر الروم فزعا شديدا، وكان الخبر هاما، فليس هناك رسالة للعربان أفصح ولا أقوى من فزع عظيم الروم ذاته.
وإعمالا للخبر «ندب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
الناس، فخرجوا في ألف من المسلمين، فكان يسير بالليل ويكمن بالنهار، ومعه دليل من بني عذرة، فلما دنا من دومة الجندل، أخبره دليله بسوائم بني تميم، فسار حتى هجم على ماشيتهم ورعائهم، فأصاب من أصاب، وهرب من هرب في كل وجه، وجاء الخبر أهل دومة الجندل، فتفرقوا، فنزل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بساحتهم، فلم يجد فيها أحدا، فأقام فيها أياما، وبث السرايا، ثم رجعوا وأخذ محمد بن مسلمة رجلا منهم فأتى به رسول الله، فسأله عن أصحابه، فقال: هربوا أمس.»
11
هكذا وصلت أخبار الجيش المحمدي، وهكذا كان أهل الحدود البيزنطية يسمعون بما يحدث في باطن الجزيرة؛ لهذا كان تصرفهم عندما سمعوا بمقدمه عليهم، وكانت إجابة أكيدر حاكم دومة الجندل على غزوة النبي بعد عودته إلى يثرب، فهي أن «أرسل إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بجبة من ديباج منسوج فيها الذهب.»
12
وفي طريق العودة من دومة الجندل، رأى النبي أن يمر بمضارب فزارة وهو في استعداده العسكري هذا، ولم يجد عيينة بن حصن الفزاري سيد فزارة سوى موادعة سيد يثرب، وكانت موادعة عيينة مكسبا لو صدق، حيث كان بإمكانه أن يجمع عشرة آلاف فتى من المحاربين عند الحاجة؛ ومن هنا منحه النبي عهدا يرعى بموجبه سوائمه في تغلمين عن قرب من يثرب، حيث أجدبت أراضي عيينة، ومر المسلمون بسلام عائدين إلى المدينة.
13
ولم تمض أسابيع حتى كان عيينة يعدو على سوائم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ويقتل رعاته ويعود إلى أرضه بما غنم من أموال النبي
صلى الله عليه وسلم .
هذا بينما كانت قريش في أمر آخر، تحسب حساباتها، وتراجع أمر تجارتها، وما شاع بين العربان عن جبنها.
غزوة الخندق
كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط.
معتب بن قشير الأنصاري
خطوات سريعة، تلك التي اتخذها رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من أجل تطهير المدينة وخلاصها للمسلمين، تم بها تصفية كثير من المعارضين من المنافقين والمشركين واليهود، وقبلها كان قد تم طرد يهود قينقاع، ومن بعد أحد تم عقد المعاقل - فيما ذهبنا إليه من اجتهاد افتراضي - لكن النبي كان يعلم يقينا، أن وجود يهود بكتاب مقدس، ومأثور تاريخي، وسلسلة من النبوات قفت بعضها بعضا، يعني وجود منكر دائم لنبوته، وداخل مدينته، وفي عقر دار دولته الصغيرة؛ ومن ثم كانت تلك الخطوات المتسارعة لتطهير يثرب، بطرد بني النضير، وسيدهم حيي بن أخطب ذلك الشريف السيد الداهية، الذي ما خرج من يثرب إلى خيبر، حتى أخذ سادة النضير وأشرافهم، سلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وانحدر بهم إلى مكة، ليدرك ثأره من محمد.
وكانت سرايا المسلمين وغزوات النبي، قد أرهقت قريشا وقطعت سبيلهم إلى الشام، ثم جاءت سلسلة سرايا الاغتيال، التي ألقت نتائجها موادعات وتحالفات للقبائل الضاربة على الطريق التجاري، مع محمد ورجاله مما قطع إيلافهم مع قريش، ووصل الأمر بقريش إلى الجبن عن ملاقاة محمد على ماء بدر في بدر الآخرة، رغم أن أبا سفيان صاحب اللواء القرشي، كان صاحب الموعد التهديدي في أحد؛ ومن ثم استجابت قريش من فورها لسعاية يهود نضير، الذين أخذوا على عاتقهم إقامة حلف عظيم بين العرب مع قريش، لضرب العصبة المؤمنة في يثرب، ضربة قاتلة ونهائية.
وهكذا أسفرت دية بني عامر عن طرد يهود النضير، لكنها أفرزت أيضا أول جمع عظيم لجند قريش، مع أحابيشها المتحمسين في الدين، المعظمين للكعبة والأشهر الحرم، وكانوا يرون محمدا قد خرق تلك التحريمات فجازت عليه الحرب، ثم فرسان كنانة وأهل تهامة وأشاوس غطفان وأشداء نجد، وكان هؤلاء بدورهم قد وتروا في زعامتهم المغدورة، ولم ينس الغطفانيون من بني فزارة مقتلة عقيلتهم الشريفة أم قرفة، التي مزقها زيد بن حارثة في غزوة مفاجئة أخذتهم على غر، لكن غطفان لم تكن ذات مصالح مباشرة مادية في تلك الحرب الشاملة، ولأن اليهود قد أدركوا ذلك فقد تعاقدوا مع الطماع الأحمق المطاع عيينة بن حصن الفزاري على اتفاق يحصل بموجبه عيينة على تمر خيبر لمدة عام كامل، فوافق من فوره.
1
وتحرك الجيش العظيم، الذي يربو على عشرة آلاف من المقاتلين الأشداء، بين فيافي الحجاز ميمما شطر يثرب، ليكون أول جيش يجمعه العرب بهذا الحجم تعرفه جزيرة العرب تحت قيادة واحدة، وتحت رايات قريش، لينزل الجمع الهائل بمجمع الأسيال من رومة بين الجرف والغابة، قرب جبل أحد، مركز الانتصار الأول لقريش، ولم تكن المعركة هذه المرة بغرض الانتقام فقط، إنما بغرض التصفية النهائية، وهو الأمر الذي بلغ يثرب فقامت من فورها بالتعبئة القصوى، لكن لتصل تعبئتها فقط إلى ثلاثة آلاف رجل، إزاء جيش جرار من المحاربين. ووقع في أيدي المسلمين!
ويوجز لنا ابن هشام قصة تحزيب الأحزاب في قوله:
كانت غزوة الخندق في شوال سنة خمس ... كان من حديث الخندق أن نفرا من اليهود، منهم سلام بن أبي الحقيق النضري، وحيي بن أخطب النضري، وهوذة بن قيس الوائلي، وأبو عمار الوائلي، في نفر من النضير ونفر من بني وائل، هم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حتى قدموا على قريش مكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله ... ثم خرج أولئك النفر من يهود حتى جاءوا غطفان من قيس عيلان، فدعوهم إلى حرب رسول الله
صلى الله عليه وسلم . قال ابن إسحاق: فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن في بني فزارة، والحارث بن عوف ... في بني مرة، ومسعر بن رخيلة فيمن تابعه من قومه من أشجع.
2
ويستكمل الطبري:
فلما سمع بهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ضرب الخندق حول المدينة ... وكان الذي أشار على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بالخندق سلمان الفارسي، وقال: يا رسول الله إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا.
3
ومعلوم أن الخندق أمر لم تعرفه العرب قبلا، ووافق الرسول من فوره على الخندق الفارسي واستحسنه، ووجد فيه خلاصا مفاجئا، وفكرة لماعة لإيقاف الهدير الآتي؛ ومن ثم كانت مكافأة صاحب الفكرة المنفذة في قول الرسول الكريم
صلى الله عليه وسلم : «سلمان منا آل البيت.» حيث جاء الخندق ليكون إنقاذا حقيقيا لموقف ميئوس منه، وكان القائد النبيل سيد الخلق أجمعين، قد استفاد من درس أحد وأخطائها، ومشورة عبد الله بن أبي بن سلول، التي كان قد أهملها زمانها وسط حمية رجاله وحماسهم للخروج من يثرب إلى أحد. وأدرك القائد أنه إزاء حشد لن يعود إلا بعد إسقاط دولته، والقضاء عليه وعلى رجاله؛ ومن ثم كان الخندق إنقاذا للموقف على عدة مستويات:
الأول:
أن حلف الأحزاب قد قام بغرض خوض معركة خاطفة حاسمة تنهي دولة الرسول في يثرب وتسقطها، اعتمادا على حشده لقوى بشرية عظيمة، بينما اتجهت خطة النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى تحصين المدينة بالخندق لإفقاد الحلف مزية المعركة السريعة الحاسمة، وإجباره على المكوث في البرد القارس، وهو ما كان كفيلا بفقد الأحزاب لزخم القتال، وما قد يطرأ من نتائج وخيمة مع طول الانتظار، خاصة مع ما يحمله هذا الحلف من تناقضات بين المتحالفين؛ وبذلك أفقد الخندق المهاجمين عوامل انتصارهم، وأطاح بالتفوق العددي.
ثانيا:
كان الخندق تأمينا عسكريا لم يسبق للعرب معرفته، حيث يضمن أكبر قدر من الأمان لمن هم في داخل يثرب، لديهم الغداء والميرة، بينما يترك المهاجمين في العراء مع ما جمعوا من ميرة - مهما كان حجمها - فهو حجم ما أمكن للدواب حمله، وهو آيل إلى نفاد إن طال الحصار دون اختراق الخندق.
ثالثا:
إن الخندق قدم حلا مثاليا لمشكلة كبرى وهو ما أوضحه عبد الهادي عبد الرحمن، فضمن عدم وقوف المسلمين وحدهم لملاقاة الأحزاب، إنما ضمن بقاء بقية سكان يثرب من غير المسلمين بالداخل، وهو الضمان الذي جعل من لم يسلموا بعد والمنافقين في محنة كبرى؛ ففي العراء يمكن للمنافقين ألا يحاربوا، بل أن يجدوا فرصة وغرة من المسلمين وقت هياج المعركة واختلاط الحابل بالنابل. أما وهم بالداخل، وإزاء جيش سيضطر إلى العبور إن استطاع ليستأصل الجميع دون تفرقة، فهو ما يعني أن يثرب أصبحت تتعرض لغزو حقيقي، ودخول الغزاة على أهلها، وهو ما يعني أيضا أن كل فرد بالمدينة قد انخرط راغبا أم غير راغب في جيش الدفاع عن بلده، وسواء كان مسلما أم لا. لقد حول الخندق أمر المدينة إلى وطن، وأجج الشعور الوطني، فلكل رجل زوجة وأطفال ومال وبيت وحقل يدافع عنهم. لقد جعل الخندق من المعركة غزوا لوطن ودفاعا وطنيا؛ ومن ثم سيحارب الرجال والبيوت، وسيحارب الشجر، وسيحارب الحجر، وستحارب النساء بل وربما الأطفال، سيحارب المشرك والمنافق. إن الخندق كان دعوة لقريش وأحزابها لغزو حرمة بلد وبيت ودار، فحول المدينة جميعا إلى رجل واحد، وحول معادلة الثلاثة آلاف جندي إزاء العشرة آلاف إلى معادلة أخرى، إلى شعب يدافع عن وطنه ضد غزاة، شعب تكتل جميعه مع دروب بلده وحوائطها وزرعها وسوائمها، إزاء جيش وإن كان عظيما فهو يفترش العراء، بعيدا عن دياره، يأكل ميرته لتنقص كل يوم، ليس بينهم ألفة، فهم أحزاب لا أهل بلد واحد، يأكلون بعضهم بعضا بتضارب المصالح بينهم. إنه الأمر الذي لا محالة يستدعي الآن وبقوة نصيحة عبد الله بن أبي بن سلول وهو يقول للنبي في أحد:
يا رسول الله، أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا، أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا.
4
وهكذا ما إن بلغ سيد المدينة
صلى الله عليه وسلم
أمر مسير يهود بين العرب لتحزيبهم حتى ضرب الخندق الفارسي لأول مرة في جزيرة العرب، ثم نرى هذا السيد، النبي، الرسول، القائد، في مرآة قادة التاريخ، وهو يقف نموذجا بين رجاله، يحمل أتربة الخندق، ويضرب بفأسه مع رجاله كتفا بكتف ويدا بيد.
ولم تتوان قريظة عن الوفاء بمعاقلها مع النبي، فأمدت جيشه بآلات عظيمة للحفر ونقل الأتربة، وهو ما قررته كتبنا الإخبارية وهي تمر على الخبر سريعة دون توقف، في برقية موجزة مقتضبة تقول: «واستعاروا من بني قريظة آلة كثيرة، ومساحي وكرازين ومكاتل.»
5
ونستمع هنيهة للصحابي البراء وهو يروي نتفا من أيام حفر الخندق فيقول:
لما كان يوم الأحزاب، وخندق رسول الله
صلى الله عليه وسلم
الخندق، رأيته ينقل التراب من الخندق، حتى وارى عني التراب جلد بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات عبد الله بن رواحة وهو ينقل التراب ويقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا
ولا تصدقنا، ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا
وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا
وإن أرادوا فتنة أبينا
ثم يمد صوته بآخرها: أبينا، أبينا.»
6
ويستكمل ابن إسحاق قصة الخندق فيقول:
ولما فرغ رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجمع الأسيال من رومة، بين الجرف وذوي غابة، في عشرة آلاف من أحابيشهم، ومن تبعهم من بني كنانة وأهل تهامة. وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد حتى نزلوا بذي نقمي إلى جانب أحد. وخرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم
والمسلمون، حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع، في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب عسكره هنالك، والخندق بينه وبين القوم ... حتى وقفوا على الخندق. فلما رأوه قالوا:
والله إن هذه لمكيدة،
ما كانت لتكيدها العرب.
7
هنا وجدت قريش وأحزابها إزاء تكتيك عسكري جديد لم تكن تعرفه العرب، ووقع في أيديها؛ ومن ثم أرسل سيد الأحزاب إلى سيد المدينة يستفز فيه القتالية العربية، ليخرج إليه من وراء الخندق قائلا فيما كتب:
باسمك اللهم
فإني أحلف باللات والعزى، وأساف ونائلة، وهبل، لقد سرت إليك في جمع وأنا أريد ألا أعود أبدا حتى أستأصلكم، فرأيتك قد كرهت لقاءنا، واعتصمت بالخندق، قد اعتصمت بمكيدة ما كانت العرب لتعرفها، وإنما تعرف ظل رماحها وشبا سيوفها، وما فعلت هذا إلا فرارا من سيوفنا ولقائنا، ولك مني يوم كيوم أحد.
فكان رد سيد الخلق على سيد مكة يقول
صلى الله عليه وسلم :
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد
من محمد رسول الله، إلى صخر بن حرب، قد أتاني كتابك، وقديما غرك بالله الغرور، أما ذكرت أنك سرت إلينا، وأنت لا تريد أن تعود حتى تستأصلنا؟
فذلك أمر يحول الله بينك وبينه، ويجعل لنا العاقبة، وليأتين عليكم يوم أكسر فيه اللات والعزى وأساف ونائلة وهبل، حتى أذكرك ذلك يا سفيه بني غالب.
8
معجزات الخندق
ثلاثة آلاف كبير وصغير وشاب وحدث، هي أقصى إمكانات التعبئة العسكرية، التي تمكنت يثرب من حشدها، إزاء عشرة آلاف مقاتل يحاصرون مدينتهم، وليس هناك خبر عن إمداد سماوي، ولم يأت جبريل وجنده؛ ومن ثم وقف الرواة مع الحديث البديل عن التعبئة السماوية، مع تفاصيل بها عبر ووعود، وهي التفاصيل التي يمكن من خلال بعض الثغرات فيها المرور إلى حديث الأحاجي والمعجزات، ومنها رواية ابن إسحاق التي تقول:
حدثت عن سلمان الفارسي أنه قال: ضربت في ناحية من الخندق، فغلظت علي، ورسول الله
صلى الله عليه وسلم
قريب مني، فلما رآني أضرب، ورأى شدة المكان علي، نزل فأخذ المعول من يدي، فضرب ضربة فلمعت تحت المعول برقة، ثم ضرب به ضربة أخرى فلمعت تحته برقة أخرى، ثم ضرب به ثالثة فلمعت تحته برقة أخرى.
قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما هذا الذي رأيت يلمع تحت المعول وأنت تضرب؟
قال: أوقد رأيت ذلك يا سلمان؟
قلت: نعم.
قال: أما الأولى فإن الله قد فتح علي بها اليمن، أما الثانية فإن الله فتح علي بها الشام والمغرب، وأما الثالثة فإن الله فتح علي بها المشرق.
9
حتى الآن والأمر واضح ليس فيه ألغاز، وطبيعي تماما، فالرسول
صلى الله عليه وسلم
يضرب الصخرة الغليظة بالمعول الحديدي فتقدح شررا، فيتساءل سلمان، ويرد الرسول بالحكمة النبوية عن فتوحات قادمة، في وقت يحتاج فيه الجند إلى تقوية الروح المعنوية، وهم في أسوأ حال، وقد أخذ الرعب بهم، مع ذلك الحصار الهائل الذي تكتل فيه العرب كتلة رجل واحد ضدهم، وهو الرد الحكيم الكفيل بطمأنة النفوس الجازعة؛ فالدلالة فيه أن كل ذلك الذي يحدث زوبعة طارئة منتهية، ليس ذلك فقط، بل إن الجزيرة جميعا ستكون ملك أمر المؤمنين، وبعدها الفتوح الكبرى لأقطار الأرض جميعا. ولكن ذلك الحديث الذي قصد منه النبي بحكمته إذهاب الغم عن المؤمنين والكرب، تلقفته مع ذلك البرق اللامع، روايات تذهب به مع الزيادات التدريجية إلى دائرة الأساطير، وتتحول آمال النبوة المقبلة مع تلك الروايات إلى تجليات كبرى انفلت معها الشرر ليصبح ضوءا مبهرا معلنا وجود قدرات كبرى إلى جوار النبي ورجاله؛ حيث يروي النسائي ذات الرواية لكن مع بعض الإضافات فيقول:
فندر ثلث الحجر، وسلمان الفارسي قائم ينظر، فبرق مع ضربة رسول الله برقة، ثم ضرب الثانية وقال: وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا، لا مبدل لكلمات الله، وهو السميع العليم. فندر الثلث الآخر وبرقت برقة، فرآها سلمان، ثم ضرب الثالثة وقال: وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا، لا مبدل لكلمات الله، وهو السميع العليم. فندر الثلث الباقي، وخرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فأخذ رداءه وجلس، فقال سلمان: يا رسول الله، رأيتك حيث ضربت لا تضرب ضربة إلا معها برقة. قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
رأيت ذلك يا سلمان؟ قال: إي والذي بعثك بالحق. قال: فإني حين ضربت الضربة الأولى، رفعت لي مدائن كسرى وما حولها ومدائن كثيرة، حتى رأيتها بعيني. قالوا: يا رسول الله ادع الله أن يفتحها علينا، ويغنمنا ذراريها ونخرب بأيدينا بلادهم، فدعا بذلك.
قال: ثم ضربت الضربة الثانية، فرفعت لي مدائن قيصر وما حولها حتى رأيتها بعيني. قالوا: يا رسول الله، ادع الله أن يفتحها، ويغنمنا ذراريهم، ونخرب بأيدينا بلادهم، فدعا.
ثم قال: ثم ضربت الثالثة فرفعت لي مدائن الحبشة وما حولها من القرى، حتى رأيتها بعيني. ثم قال رسول الله: «دعوا الحبشة ما وادعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم.»
10
ولا ينتهي حديث الصخرة والبرقات الثلاث إلى هنا، إنما يتزايد ويتضخم، لتتحول الشرارات الثلاث - التي رآها سلمان؛ لأنه كان بجوار النبي
صلى الله عليه وسلم
والتي استدعت دهشة النبي وهو يسأل سلمان: أوقد رأيت ذلك يا سلمان؟ - تتحول إلى برق إعجازي أسطوري يسجل آية عظمى، فيدونها ابن الأثير بعد صياغتها الجديدة، ليس فقط لإبراز المعجزة، إنما أيضا لإبراز قوة النبي الجسدية الهائلة التي صدعت الصخرة فيقول:
فأخذ المعول، وضرب الصخرة ضربة صدعها، وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتي المدينة فكبر الرسول
صلى الله عليه وسلم
وكبر المسلمون، ثم الثانية كذلك، ثم الثالثة كذلك، ثم خرج وقد صدعها. فسأله سلمان عما رأى من البرق، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : أضاءت الحيرة وقصور كسرى في البرقة الأولى، وأخبرني جبرائيل أن أمتي ظاهرة عليها، وأضاء لي في الثانية القصور الحمر من أرض الشام والروم، وأخبرني أن أمتي ظاهرة عليها، وأضاء لي في الثالثة قصور صنعاء، وأخبرني أن أمتي ظاهرة عليها.
11
أما البيهقي، باعتباره صاحب كتاب دلائل النبوة، وجامع تلك الدلائل التي رآها جميعا إعجازية، فقد وجد في قصة الصخرة مناسبة طيبة ليقدمها بما يليق بها من دلائل النبوة، ليكرر، ولكن ليفصل القول بقوله:
فأخذ رسول الله
صلى الله عليه وسلم
المعول من سلمان، فضرب الصخرة ضربة صدعها، وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها (أي لابتي يثرب)، حتى لكأن مصباحا في جوف ليل مظلم، فكبر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
تكبيرة فتح، فكبر المسلمون. ثم ضربها رسول الله
صلى الله عليه وسلم
الثانية فصدعها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، حتى لكأن مصباحا في جوف ليل مظلم، فكبر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
تكبيرة فتح وكبر المسلمون. ثم ضربها رسول الله
صلى الله عليه وسلم
الثالثة فكسرها، وبرق منها برقة أضاءت ما بين لابتيها، حتى لكأن مصباحا في جوف ليل مظلم، فكبر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وكبر المسلمون .
فقال سلمان: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد رأيت شيئا ما رأيته قط. فالتفت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى القوم فقال: هل رأيتم ما يقول سلمان؟ قالوا: نعم يا رسول الله بأبينا أنت وأمنا، قد رأيناك تضرب فخرج البرق كالموج، فرأيناك تكبر ولا نرى شيئا غير ذلك. فقال: صدقتم، ضربت ضربتي الأولى فبرق الذي رأيتم، أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى، كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها. ثم ضربت ضربتي الثانية، فبرق الذي رأيتم، أضاء لي منها قصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل - عليه السلام - أن أمتي ظاهرة عليها. ثم ضربت ضربتي الثالثة، فبرق منها الذي رأيتم، أضاءت منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل - عليه السلام - أن أمتي ظاهرة عليها، فأبشروا.
ويعقب البيهقي تعقيبا واضح المدلول بقوله: إن الرسول أراد بذلك أن «يبلغهم النصر».
12
وقد استدعى حديث تلك الصخرة تداعيات وأخبارا عن صخور أخرى وصياغات أخرى، وهو ما جاء في رواية ابن هشام عن ابن إسحاق، تقول:
وكان في حفر الخندق أحاديث بلغتني فيها من الله عبرة في تصديق رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وتحقيق نبوته، عاين ذلك المسلمون؛ فكان مما بلغني، أن جابر بن عبد الله كان يحدث أنه اشتدت عليهم في بعض الخندق كدية، فشكوها إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فدعا بإناء من ماء فتفل فيه، ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به، ثم نضح ذلك الماء على تلك الكدية، فيقول من حضرها: فوالذي بعثه بالحق نبيا، لانهالت حتى عادت كالكثيب.
13
وإذا كانت خاتمة حديث النبي
صلى الله عليه وسلم
فيما رواه البيهقي «فأبشروا»، مع الإلحاق التوضيحي «يبلغهم النصر»، كان القصد منها أن يرفع روحهم المعنوية بالاستبشار، بل ويصبح ذلك النصر سهلا وبسيطا هين الشأن إذا قورن بما بيتته الأيام القادمة للمسلمين من فتوحات لأقطار الدنيا؛ فإن هناك من الصحابة من كان له رأي آخر إزاء حصار المدينة، وما أخذ المسلمين من رعب وفزع حتى بلغت القلوب الحناجر، فهذا معتب بن قشير يعقب على حديث الصخرة والفتوح المقبلة ساخرا، يقول برواية ابن الأثير:
ألا تعجبون؟!
يعدكم الباطل!
ويخبركم أنه ينظر من يثرب الحيرة، ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم وأنتم لا تستطيعون أن تبرزوا؟!
14
أو برواية ابن هشام:
كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط؟!
15
ولهذا السبب، ولتلك القولة التي كانت تعبر عن مكنون صدر الرجل إزاء حال واقع بصراحة العربي التي لا تعرف التزويق، وباندفاعه الحر، فقد أدرج أهل الأخبار معتب بن قشير في طائفة المنافقين، لكن ليلاحظ ابن هشام أن ابن قشير لا يمكن احتسابه منافقا؛ لأنه كان من مقاتلي النصر البدري الأكبر، وهم من غفر الله لهم ما تقدم من ذنبهم وما تأخر، وأصبحوا جميعا من أهل الجنة، وفي ذلك يقول: «وأخبرني من أثق به من أهل العلم، أن معتب بن قشير لم يكن من المنافقين، واحتج بأنه كان من أهل بدر.»
16
ورغم ذلك، فقد جاء الوحي يرد على ابن قشير قائلا:
وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا (الأحزاب: 12).
ومع الحصار، واشتداد الأزمة، يستطيب رجالاتنا حديث الأحاجي ليستمرئوا الاستمرار فيه، فيروي ابن إسحاق:
وحدثني سعيد بن مينا أنه حدث أن ابنة بشير بن سعد أخت النعمان بن بشير، قالت: دعتني أم عمرة بنت رواحة فأعطتني حفنة من تمر في ثوبي، ثم قالت: أي بنية، اذهبي إلى أبيك وخالك عبد الله بن رواحة بغذائهما.
قالت: فأخذتها فانطلقت بها، فمررت برسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأنا ألتمس أبي وخالي، فقال: تعالي يا بنية. ما هذا معك؟ قالت: قلت: يا رسول الله، هذا تمر بعثتني أمي به إلى أبي بشير بن سعد وخالي عبد الله بن رواحة، يتغذيانه. فأمر بثوب فبسط له ثم دحا بالتمر عليه فتبدد فوق الثوب، ثم قال لإنسان عنده: اصرخ في أهل الخندق أن هلم إلى الغداء. فاجتمع أهل الخندق عليه فجعلوا يأكلون منه، وجعل يزيد، حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه ليسقط من أطراف الثوب.
17
ومع الجوع إبان العمل الدءوب الذي يسابق الزمن قبل وصول قريش، تتتالى أحاديث الطعام المبارك، في معجزات شبيهة بالمعجزات اليسوعية المعلومة، ومثله رواية أخرى عن ابن إسحاق عن سعيد بن مينا عن جابر بن عبد الله قال:
عملنا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في الخندق، فكانت عندي شويهة غير جد سمينة، فقلت: والله لو صنعناها لرسول الله
صلى الله عليه وسلم . فأمرت امرأتي فطحنت لنا شيئا من شعير فصنعت لنا منه خبزا، وذبحت تلك الشاة فشويناها لرسول الله
صلى الله عليه وسلم . فلما أمسينا وأراد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
الانصراف من الخندق، وكنا نعمل فيه نهارنا فإذا أمسينا رجعنا إلى أهالينا، قلت: يا رسول الله، إني قد صنعت لك شويهة كانت عندنا، وصنعنا معها شيئا من خبز هذا الشعير، فأحب أن تنصرف معي إلى منزلي، وإنما أريد أن ينصرف معي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وحده.
فلما أن قلت ذلك، قال: نعم. ثم أمر صارخا فصرخ أن انصرفوا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى بيت جابر بن عبد الله. قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون. فأقبل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأقبل الناس معه، فجلس وأخرجناها إليه، فبارك وسمى ثم أكل، وتواردها الناس، كلما فرغ قوم قاموا وجاء ناس، حتى صدر أهل الخندق عنها.
18
وذات الرواية تروي عن جابر أيضا، لتفسر السر وراء زيادة ذلك الطعام القليل ليكفي ألف رجل على الأقل ويفيض عنهم، فتقول:
وجئت امرأتي فقالت: بك وبك ... فأخرجت لنا عجينا فبسق فيه وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبسق وبارك، ثم قال: ادع خبازة فلتخبز معك، واقدحي من برمتك، ولا تنزلوها، وهم ألف. فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا كما هو.
19
ورغم كل الأحاجي وروايات المعجزات، فإنك تلمس واقع الحال واضحا، كما جاء في رواية ابن كثير التي شرحت كيف عظم البلاء على الناس، واشتد الخوف بالمسلمين، لا تغنيهم فيه برمة تفور أو تمر وشويهة مباركات، حتى ظن المؤمنون كل ظن، وأخذ كثير منهم يتهرب من العمل في ذلك البرد القارس، مثل أوس بن قيظي الذي جاء للنبي يتحدث نيابة عن قومه: يا رسول الله، إن بيوتنا عورة من العدو، فأذن لنا أن نرجع إلى ديارنا فإنها خارج المدينة. بينما طائفة أخرى تهبط المعنويات وتثبط الهمم وتقول للناس: يا أهل يثرب، لا مقام لكم هنا فارجعوا. بينما يسترسل الوحي معقبا على تلك المواقف المتخاذلة ليقول:
وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا (الأحزاب: 13).
وهو ما يؤكده تقرير الطبري عن فريق آخر، فقد «أبطأ على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في عملهم رجال من المنافقين، وجعلوا يورون بالضعف من العمل، ويتسللون إلى أهاليهم بغير علم الرسول.»
20
قريظة تنقض العهد
وحفر أكبر خندق عرفته الجزيرة، امتنع به أهل يثرب من هجوم الأحزاب، مع محاولات بائسة لعبوره من قبل المهاجمين، انتهت بفشل ذريع مع التراجع؛ مما أدخل الطمأنينة بعض الشيء في النفوس الجازعة لحصانة خندقهم، ولم يبق غير الانتظار لنفاد ميرة المهاجمين، ومجالدة كل من يحاول اقتحام الخندق.
وقد أثبتت قريظة حتى حفر الخندق وعيها الدقيق بموقفها الشديد الحساسية، وحتى لا يكون مصيرها مصير قينقاع ونضير، فالتزمت بنود صحيفة المعاقل، وأمدت المسلمين بالمساحي والمكاتل والكرازين، من أدوات الحفر اللازمة. وكان الموقف الدقيق يحتاج تحوطا، فقد أحاط الخندق بالمدينة تماما، اللهم إلا جبل سلع بالخلف، كان بذاته مانعا طبيعيا قويا، يكفيه بعض الرماة ليصبح حصنا منيعا لا يمكن اجتيازه، ثم حصن قريظة القوي المتين على حافة المدينة وبمواجهة الأحزاب، يطل عليهم مباشرة. وهنا كانت نقطة الضعف التي كان يدركها جميع الأطراف، المسلمون، وقريظة، والأحزاب؛ فكان يكفي أن تفتح أبواب حصن قريظة ليمر منها جند الأحزاب إلى داخل يثرب لينتهي الأمر فورا. وقد وعى المهاجمون ذلك وقرروا اللعب عليه، فتحرك محزب الأحزاب «حيي بن أخطب» زعيم النضير المطرود من يثرب، ليدق أبواب حصن قريظة طالبا لقاء زعيم قريظة «كعب بن أسد». وتدون هنا أقلام كتاب السير والأخبار قصة ما حدث في ذلك الموقف الدقيق بقولها: «وخرج عدو الله حيي بن أخطب حتى أتى كعب بن أسد القرظي، صاحب عقد بني قريظة وعهدهم، وكان قد وادع الرسول
صلى الله عليه وسلم
على قومه، وعاهده على ذلك وعاقده، فلما سمع كعب حيي بن أخطب، أغلق دونه حصنه، فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له.» فناداه ورد عليه في الحوار التالي، كما أوردته كتبنا الإخبارية:
حيي :
يا كعب افتح لي.
كعب :
ويحك يا حيي، إنك امرؤ مشئوم، إني عاهدت محمدا، فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا.
حيي :
ويحك، افتح لي أكلمك.
كعب :
ما أنا بفاعل.
حيي :
والله إن أغلقت دوني إلا جشيشتك أن آكل معك منها.
وهنا، وحيي يستفز كعب، يعيره بمسبة كبرى في العربان، وينعته بما هو أنكى من البخل وإغلاق الباب دون جائع، يفتح له كعب باب الحصن ليغلق خلفه سريعا، ويستمر الحوار:
حيي :
ويحك يا كعب، جئتك بعز الدهر وببحر طام، جئتك بقريش على قادتها وسادتها، حتى أنزلتهم بمجمع الأسيال من رومة، وبغطفان على قادتها وسادتها ... قد عاهدوني وعاقدوني ألا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدا ومن معه.
كعب :
جئتني والله بذل الدهر، بجهام قد هراق ماءه، يرعد ويبرق وليس فيه شيء. ويحك، دعني ومحمدا وما أنا عليه، فلم أر من محمد إلا صدقا ووفاء.
وتستمر كتبنا الإخبارية في الرواية لتقول: «فلم يزل حيي بكعب، يفتله في الذروة والغارب، حتى سمع له، على أن أعطاه عهدا من الله وميثاقا، لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا، أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك، فنقض كعب بن أسد عهده، وبرئ مما كان عليه، فيما بينه وبين رسول الله
صلى الله عليه وسلم .»
21
وهكذا تقرر كتب السير أن قريظة قد نقضت العهد، لكنها لا توضح علامات ذلك النقض المحورية، والتي كان يمكن أن تكون قاتلة ونهائية لو فتحت أبواب حصونها، لكنها لم تفعل، ويبدو أن المقصود بالنقض هنا هو مجرد تفكير قريظة، وإعمالها ذلك التفكير خلال أيام، تم فيها علاج الموقف المتأزم من جانب النبي، قبل أن تسقط قريظة فعلا في خيانة واضحة.
وبلغ النبي بما له من عيون بما يحدث في حصون بني قريظة، وبلغ الأمر كذلك المسلمين المجهدين المكدودين الفزعين، وأخذ بهم الخوف والرعب. فطلب النبي سعد بن معاذ سيد الأوس وسعد بن عبادة سيد الخزرج، ومعهما عبد الله بن رواحة وخوات بن جبير، وقال لهم انطلقوا حتى تنظروا، أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ ثم أضاف القائد الحصيف وهو يرى معنويات رجاله في التداعي: «فإن كان حقا، فالحنوا إلي لحنا أعرفه، ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم، فاجهروا به للناس.»
22
ووصل الوفد حصن قريظة «ثم ناداهم سعد بن معاذ فقال: إنكم قد علمتم الذي بيننا وبينكم يا بني قريظة، وأنا خائف عليكم مثل يوم بني النضير أو أمر منه، فقالوا: أكلت بأير أبيك.»
23
وهكذا بدأ الحوار بخطاب تهديدي، كان رده تحديا بجارح الألفاظ وقبيح الشتائم، وهو يصوره ابن هشام بقوله: «إن رجال وفد النبي خرجوا حتى أتوهم، فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم، نالوا من رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وقالوا: من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد. فشاتمهم سعد بن معاذ، وشاتموه، وكان رجلا فيه حدة، فقال له سعد بن عبادة: دع عنك مشاتمتهم، فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة. ثم أقبل سعد وسعد ومن معهما إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فسلموا عليه وقالوا: عضل والقارة (الرجيع)؛ أي كغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع، خبيب وأصحابه.»
وفهم النبي اللحن والرمز الهامس بكلمة السر الشفرية. وكان المسلمون ينتظرون إجابة وقد زاغت منهم الأبصار، فما كان من القائد الحكيم إلا أن رد بأنه لا شيء إطلاقا يستدعي كل ذلك الفزع، وأن كل شيء على ما يرام، وهو ما تمثل في صيحته التهليلية: «الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين.»
24
وتأزمت الأزمة فعلا، وكان لا بد من تحرك سريع وحاسم، قبل أن تقدم قريظة بالفعل على فتح أبوابها للأحزاب، وتستجيب لدافع العصبية والثورة لبني جلدتها نضير وقينقاع، حيث تفيد مصادر أخرى أنهم اشترطوا على السعدين لمواصلة الالتزام بالصحيفة، والاستمرار في المدد، إعادة بني النضير للمدينة.
25
ومن ثم بدأت دراسة الموقف مرة أخرى على أناة وهدوء وتدبر، لتصل إلى نتيجة مفادها أنه إذا كانت نقطة ضعف المدينة هي حصن قريظة، فإن بين الأحزاب نقطة ضعف أخرى هي غطفان الفزارية، أتباع الأحمق المطاع الطماع عيينة بن حصن؛ فهم ليسوا أبدا أصحاب سيادة وثروات مثل المكيين، كما لم يكونوا أصحاب مصلحة فعلية في القضاء على محمد، فلم يدفعهم إليه إلا ثأر أم قرفة، والحصول على المغانم، وهو ما يمكن علاجه بالمغريات المالية.
وعند هذه اللحظة من التفكير المتأني أرسل النبي سرا إلى قائدي غطفان، عيينة بن حصن والحارث بن عوف، يفاوضهما على الانسحاب من الأحزاب مقابل ثلث ثمار المدينة، وجرت المساومات السرية أخدا وردا، اشترط معها عيينة النهم نصف تلك الثمار، لكن ليشترط عليه النبي في مقابل ذلك الإيقاع بين الأحزاب وبين قريظة.
26
وقام النبي يخبر السعدين بما اتفق عليه مع غطفان، فيحتج السعدان ويقولان: «إنا نرى ألا نعطيهم إلا السيف.» ليرد النبي على سعد بن معاذ: «فأنت وذاك.» فيتناول ابن معاذ الصحيفة ويمحو ما بها من تعاهد اتفاقي ويقول: «ليجهدوا علينا.»
27
بينما يأتي من غطفان رجلها الداهية نعيم بن مسعود الأشجعي ليرى النبي ويسمع منه خطته للإيقاع بين الأحزاب، فيقول له الرسول
صلى الله عليه وسلم :
خذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة.
28
ويفهم نعيم المقصود ويستوعب الخطاب ويبدأ في التنفيذ، ويدرك أن الأمر الآن أمر عسكرية وخدع، فالعبرة بالنهايات والخواتيم، وليست العبرة بقواعد قد تؤدي إلى دمار؛ وعليه يروي ابن هشام كيف تمت الخدعة وكيف حبكها نعيم بن مسعود، فيقول:
ثم إن نعيم بن مسعود ... بن غطفان، أتى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فقال: ... إن قومي لم يعلموا بإسلامي،
29
فمرني بما شئت. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : فخذل عنا إن استطعت فالحرب خدعة. فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة ... فقال: يا بني قريظة ... إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، فيه أموالكم وأبناؤكم، لا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره، وأن قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه، قد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فليسوا كأنتم، فإن رأوا نهزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم، وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم؛ فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم، يكونون بأيديكم، ثقة لكم، على أن تقاتلوا معهم محمدا حتى تناجزوه.
فقالوا له: لقد أشرت بالرأي.
وخرج حتى أتى قريشا، فقال لأبي سفيان بن حرب، ومن معه من رجال قريش ... إنه قد بلغني أمر رأيت علي حقا أن أبلغكموه نصحا لكم، فاكتموا عني. فقالوا: نفعل. قال: تعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه: إنا قد ندمنا على فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين، من قريش وغطفان، رجالا من أشرافهم فنعطيكهم، فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم؟ فأرسل إليهم: أن نعم.
فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم، فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا.
وأخذت الريبة برءوس قريش، ثم استبطأت فتح قريظة أبواب حصونها للأحزاب، وزاد الأمر توترا قدوم تلك الليالي الشاتية القارسية على رجالهم في العراء، مع النفاد المتزايد للميرة، وهنا يقول لنا ابن هشام:
فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس ... أرسل أبو سفيان بن حرب ورءوس غطفان إلى بني قريظة ... فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخف والحافر، فاغدوا للقتال كي نناجز محمدا ... فأرسلوا إليهم: إن اليوم سبت، وهو يوم لا نعمل فيه شيئا ... ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل محمدا معكم، حتى تعطونا رهنا من رجالكم، يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمدا، فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال، أن تنشمروا إلى بلادكم، وتتركونا والرجل في بلدنا، ولا طاقة لنا بذلك منه. فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة، قالت قريش وغطفان: والله إن الذي حدثكم به نعيم بن مسعود لحق. فأرسلوا لبني قريظة: إنا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا. فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا، فإن رأوا فرصة انتهزوها، وإن كانت غير ذلك انشمروا إلى بلادهم، وخلوا بينكم وبين الرجل في بلدكم.
فأرسلوا إلى قريش وغطفان: إنا والله لا نقاتل محمدا معكم حتى تعطونا رهنا، فأبوا عليهم ...
وخذل الله بينهم ...
وبعثت عليهم الريح في ليال شاتية باردة شديدة البرد، فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح أبنيتهم ... ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام ... أخلفتنا قريظة ... ولقينا من شدة الريح ما ترون ... فارتحلوا فإني مرتحل ... فانشمروا راجعين إلى بلادهم.
30
ورغم أن ابن هشام يعلم أين كانت الخديعة، وكيف دبرت، ومن دبرها للإيقاع بين الأحزاب وقريظة، فإنه يقول بهدوء المؤمن الواثق: «وخذل الله بينهم.» وحتى يتضح ذلك التدخل الإلهي، الذي يجب أن تظهر له مظاهر واضحة، في أدوات فاعلة تليق بحجم فاعلها فقد ورد القول عند ابن قتيبة:
أما رياح الشمال والجنوب فقد ساءلت بعضها عمن يتوجه لمساعدة رسول الله. عن عكرمة قال: لما كانت ليلة الأحزاب قالت الجنوب للشمال: انطلقي نمد رسول الله
صلى الله عليه وسلم . فقالت: إن الحرة لا تسري بالليل. فكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبا.
31
وهو الأمر الذي جاء تأكيده وحيا يقول:
يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا (الأحزاب: 9).
وهي الجنود الملائكية التي لم تحارب أبدا في الخندق، وهو ما جاء مشروحا عن مجاهد: «وجنود لم تروها؛ يعني الملائكة، ولم تقاتل الملائكة يومئذ.»
32
وهو ما يعني أن الملائكة كانت وراء تلك الريح الصرصر العاتية، وأنها أخذت تعبث بالمهاجمين وتقلع خيامهم وتكفأ قدورهم وتطفئ نارهم.
وهكذا يعود ابن هشام من قوله «وخذل الله بينهم» إلى القول بقدرات لله أعظم بكثير من أساليب الخداع الإنساني، فيتابع القول: «وبعث الله عليهم الريح في ليال شاتية باردة شديدة البرد، فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح أبنيتهم.» مصورا فعل الطبيعة قاصرا فقط على الأحزاب. لكن بعد سنوات من الخندق، نجد الصحابي أبا حذيفة يحكي لجلسائه مشاهده القتالية مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فيقول له جلساؤه: والله لو كنا شهدنا ذلك، لكنا فعلنا وفعلنا. فيغتاظ أبو حذيفة من سهولة الكلام، بعيدا عن واقع الفعل، ليحكي لهم عن تلك الليالي الشاتية قوله:
لا تمنوا ذلك؛ لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعود، وأبو سفيان ومن معه فوقنا وقريظة اليهود أسفل منا نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة ولا أشد ريحا منها، في أصوات ريحها أمثال الصواعق، وهي ظلمة ما يرى أحدنا إصبعه، فجعل المنافقون يستأذنون النبي
صلى الله عليه وسلم
ويقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة، فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له، ويأذن لهم ويتسللون، ونحن ثلاثمائة أو نحو ذلك.
33
ويختتم ابن إسحاق وقعة الخندق، ومع آخر القوافل المرتحلة من الأحزاب وغبارها يسطع في الأفق تشيعها كلمات الرسول
صلى الله عليه وسلم
وهو يقول لأصحابه: «لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا، لكنكم تغزونهم.» ثم يعقب راوي السير بقوله: «فلم تغز قريش بعد ذلك، وكان رسول الله يغزوهم بعد ذلك، حتى فتح الله عليه مكة ... رواه البخاري.»
34
وقولة الرسول هنا تعبر تعبيرا صادقا عن واقع حال قريش بعد الخندق، فلم تعد ذلك العدو الفتي المهدد الهادر، إنما شاخت وضاعت هيبتها بين العربان.
وهكذا جاء الحدث الكبير الذي تمثل في تحزيب أحزاب العرب ضد يثرب، بنتائج أيضا كبيرة لكن بعكس ما توقع الأحزاب وما كانوا يرجونه؛ فقد تلاحمت يثرب، ورغم جبن بعضهم وهربهم، ونفاق آخرين، ورغم ما مر عليهم من ليالي رعب وفزع شاتية، فإن الحدث أيقظ لدى الناس شعورا وطنيا جارفا زاد من تلاحم المهاجرين والأنصار؛ حيث شعر المهاجرون أن الدار قد أصبحت دارهم، وصدق الله وعده لنبيه بانشمار الأحزاب راجعين إلى بلادهم، ناهيك عن النتيجة الأهم والأخطر من كل هذا، وهي تحرير يثرب تماما من العنصر اليهودي؛ بغزوة قريظة، التي قضت على اليهود، وجعلت المنافقين عرايا من أي حلفاء، مما اضطرهم في النهاية للخضوع التام لسلطان الدولة.
مذبحة قريظة
عن عائشة: أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لما فرغ من الأحزاب دخل المغتسل ليغتسل، وجاءه جبريل فرأيته من خلال الباب قد عصب رأسه الغبار، فقال: يا محمد، أوضعتم أسلحتكم؟ فقال: وضعنا أسلحتنا. فقال: إنا لم نضع أسلحتنا بعد، أنهد إلى بني قريظة. ثم قال البخاري ... عن أنس بن مالك قال: كأني أنظر إلى الغبار ساطعا في زقاق بني غنم، موكب جبريل حين سارع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى بني قريظة.
35
أو برواية الطبري:
فلما كان الظهر أتى جبريل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
معتجرا بعمامة من إستبرق، على بغلة عليها رحالة، عليه قطيفة من ديباج، فقال: أوقد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: نعم. قال جبريل: ما وضعت الملائكة السلاح، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم. إن الله يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة، وأنا عامد إلى بني قريظة. فأمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مناديا فأذن في الناس:
من كان سامعا ومطيعا، فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة.
36
ولمزيد من التأكيد على أن المسير إلى قريظة كان أمرا إلهيا، حمله جبريل إلى الرسول الأمين، يقدم البيهقي الشواهد الدالة على مقدم مبعوث الإله الأول جبريل، يحمل ذلك الأمر السماوي، في قوله:
وخرج النبي فمر بمجالس بينه وبين قريظة، فقال: هل مر بكم من أحد ؟ قالوا: مر علينا دحية الكلبي على بغلة شهباء، تحته قطيفة من ديباج. فقال النبي
صلى الله عليه وسلم : ليس ذلك بدحية، ولكنه جبريل عليه السلام، أرسل إلى بني قريظة ليزلزلهم ويقذف في قلوبهم الرعب.
هذا، ومن المعلوم أن دحية هذا رجل معلوم الشأن لأهل يثرب، فهو دحية بن فروة بن فضالة، من الخزرج، وكان صاحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم .
37
وطاعة لأمر السماء، خرج المسلمون إلى بني قريظة ليضربوا عليهم الحصار، ولما يهدأ بعد غبار سوائم وخيول الأحزاب المغادرة، واصطف جنود الرحمن يتحلقون حول الحصون القرظية، ويصل الرسول إلى مقدمة الدوائر المقاتلة مقتربا من الحصون، وبينما يصنع له أصحابه بالحجف ما يشبه البوق ليسمعهم كلامه، كان يهود قريظة يرهفون الأسماع وهم يرجفون لندائه
صلى الله عليه وسلم :
يا إخوة القردة والخنازير.
لكن ليرد المرتعدون:
يا أبا القاسم ما كنت فحاشا!
38
ليعود النبي يناديهم:
يا إخوان القردة،
هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟
وتفهم قريظة الرسالة لترد راعشة:
يا أبا القاسم ما كنت جهولا!
39
وأمام ما تراه قريظة، أخذت تصرخ طالبة من محمد
صلى الله عليه وسلم
أن يرسل إليهم من حلفائهم أبا لبابة بن عبد المنذر الأوسي، وسمح الرسول لأبي لبابة بالمرور إلى حصونهم ليسمع منهم، وننصت مع كتب السير لذلك المسمع يقول:
قالوا: يا أبا لبابة، ماذا ترى وماذا تأمرنا به فإنه لا طاقة لنا بالقتال؟
ولم نجد قولا لأبي لبابة، بل إشارة وحركة ذات معنى، فيورد ابن كثير رده على التساؤل:
فأشار أبو لبابة بيده، إلى حلقه وأمره عليه، يريهم أنه إنما يريد بهم الذبح.
40
وهو ذات ما يرويه الطبري في قوله:
ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف - وكانوا حلفاء الأوس - نستشيره في أمرنا. فأرسله رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إليهم، فلما رأوه.
قام إليه الرجال.
وجهش إليه النساء.
والصبيان يبكون في وجهه.
فرق لهم .
وقالوا له: يا أبا لبابة، أترى أن ننزل على حكم محمد؟
قال: نعم.
ثم أشاره بيده إلى حلقه.
إنه الذبح.
41
وندخل مع الطبري إلى حصن قريظة الكبير، نستمع لما يدور في الداخل، في تلك الهنيهات البارقة الراجفة من الزمن، لنسمعه يطالع ما يحدث ويقول:
وقد كان حيي بن أخطب النضري، قد دخل على بني قريظة في حصونهم، حيث رجعت عنهم قريش وغطفان، وفاء لكعب بن أسد بما كان قد عاهده عليه، فلما أيقنوا أن رسول الله غير منصرف عنهم حتى يناجزهم، قال كعب بن أسد لهم:
يا معشر يهود؛ إنه قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا، فخذوا أيها شئتم. قالوا: وما هي؟ قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه ... قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا ... قال: فهلم نقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد ... ولم نترك وراءنا ثقلا يهمنا، حتى يحكم الله بيننا وبين محمد ... قالوا: نقتل هؤلاء المساكين؟! فما خير العيش بعدهم؟ قال: فإن الليلة ليلة سبت، وإنه عسى يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها، فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة. قالوا: نفسد سبتنا؟! قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة حازما!
42
وينتهي المشهد داخل الحصن بقرار من قريظة؛ أنها لن تقاتل، وأنها ستنزل على حكم رسول الله وتستأسر جميعا. وبالفعل ينزلون في طابور طويل يكتف فردا فردا بالحبال التي تصلهم ببعضهم لينتظروا مصيرهم، آملين في موقف أحلافهم الأوسيين لحقن دمائهم، مثلما فعلت الخزرج من قبل مع قبائل يهود التي خرجت بأرواحها، وتركت المال والعقار والعتاد، وبينما هم في وهمهم هذا، نسمع الطبري يقول:
ثم استنزلوا فحبسهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في دار امرأة من بني النجار (أي من الخزرج وليس من الأوس)، ثم خرج
صلى الله عليه وسلم
إلى سوق المدينة ... فخندق بها خنادق.
43
وقد بدا الأمر كما لو كان يسير حسبما توقعت قريظة من الأوس، حيث تواثبت الأوس حول النبي تذكره بأن قريظة مواليها دون الخزرج، وأنه سبق ومنح حياة يهود لمواليهم من الخزرج، يطلبون كرامتهم إزاء كرامة الخزرج في المواقف السابقة، وهنا يجيبهم الرسول
صلى الله عليه وسلم
بقوله: «ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى. قال: فذاك سعد بن معاذ.»
44
في ذلك الوقت كان سعد يعاني من قطع أصاب أكحله (شريانه) بسهم غارب جاءه من خارج الخندق إبان الحصار، ولم تلجأ كتبنا التراثية هنا إلى حديث الأحاجي والمعجزات التي ينسبونها للنبي
صلى الله عليه وسلم ؛ لأن سعدا لقي نهايته الفاجعة خلال أيام، حيث قام النبي
صلى الله عليه وسلم
يحسم له جرحه بنفسه كيا بالنار، لكن يده انتفخت ثم انفجر الشريان بالنزيف، فعاد النبي إلى كيه مرة أخرى ليسد مخرج الدم بالنار فانتفخت يده مرة أخرى. أما الرواة فقد رأوا أن المعجزة لم تحدث هنا؛ لأن الأكحل إن قطع فلا علاج له كما أفادوا، فهناك ما يمكن علاجه بالمعجزات وهناك ما لا يمكن علاجه كقطع الأكحل.
وبينما سعد على حاله هذا، أرسل إليه النبي وجاء به في مشهد يرويه الطبري بقوله:
فلما انتهى سعد إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال
صلى الله عليه وسلم : قوموا إلى سيدكم ... فأنزلوه. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : احكم فيهم. قال: فإني أحكم فيهم بأن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء.
فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لسعد:
حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة.
45
وهنا يكشف لنا الطبري سر الخنادق التي أمر النبي بخندقتها، بينما كان القرظيون يكتفون بالحبال، حيث يقول إن النبي قد «بعث إليهم، فضرب أعناقهم في تلك الخنادق، يخرج إليه أرسالا، وفيهم عدو الله حيي بن أخطب، وكعب بن أسد رأس القوم، وهم ستمائة أو سبعمائة، المكثر لهم يقول كانوا نحو الثمانمائة إلى التسعمائة.»
46
ويبدأ مشهد المذبحة كالتالي:
أتي بعدو الله حيي بن أخطب ... مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلما نظر إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال:
أما والله ما لمت نفسي في عداوتك أبدا.
ثم أقبل على الناس فقال:
أيها الناس، إنه لا بأس بأمر الله، كتاب الله وقدره، ملحمة قد كتبت على بني إسرائيل. ثم جلس فضربت عنقه.
47
ويشرح لنا رجالاتنا من أهل السير كيف كانت المذبحة، فيصور لنا الواقدي أحد المشاهد بقوله:
إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أمر أن يشق لبني قريظة في الأرض أخاديد، ثم جلس، فجعل علي والزبير يضربان أعناقهم بين يديه.
48
ويحدد لنا البيهقي مكان المقتلة بدقة فيقول:
قتلوا عند دار أبي جهل التي بالبلاط، ولم تكن يومئذ بلاطا، فزعموا أن دماءهم بلغت أحجار الزيت التي كانت بالسوق.
49
ويشرح لنا ابن هشام أنه بينما كان الأوس حلفاء قريظة في الجاهلية، فإن الخزرج لذلك السبب كانوا يحملون لقريظة العداوة، ولما كان الخزرج أخوال النبي، فقد حبس الأسرى القرظيين لديهم، ثم عند المذبحة أمرهم هم بإجراء المذبحة، فيقول مصورا لنا مشهدا أوسع للمذبحة:
فجعلت الخزرج تضرب أعناقهم، ويسرهم ذلك. فنظر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى الخزرج، ووجوههم مستبشرة، ونظر إلى الأوس فلم ير ذلك فيهم، فظن أن ذلك للحلف الذي بين الأوس وقريظة، ولم يكن بقي من بني قريظة إلا اثنا عشر رجلا، فدفعهم إلى الأوس، فدفع إلى كل رجلين من الأوس رجلا من بني قريظة، وقال: ليضرب فلان، وليذفف فلان.
50
أما شأن سعد بن معاذ فنعرف من خبره أن أكحله الذي حسمه له النبي
صلى الله عليه وسلم
قد عاد وانفجر بعد مذبحة قريظة، ولما كان هو صاحب الحكم الذي هو حكم الله، فقد وجبت مكافأته، فيما يرويه البيهقي:
إن جبريل أتى النبي
صلى الله عليه وسلم
في جوف الليل، معتجرا بعمامة من إستبرق، فقال:
يا محمد، من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء، واهتز له العرش؟
فقام رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يجر ثوبه، مبادرا إلى سعد بن معاذ، فوجده قد قبض.
ومن ثم وقف النبي يشير إلى سعد وهو يعلن:
إن هذا الذي تحرك له العرش.
وشيع جنازته سبعون ألف ملك.
51
أما ابن سيد الناس فيؤكد مشاركة الملائكة في تشييع جسد سعد إلى مثواه الأخير بقوله:
ولما حمل سعد على نعشه، وجدوا له خفة، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : إن له حملة غيركم.
52
وفي مجال الإشادة بسعد بن معاذ وتكريمه، يروي الترمذي والنسائي حكاية البغلة والجبة التي أرسلها أكيدر دومة الجندل إلى النبي هدية، في القول إنها:
جبة من ديباج، منسوج فيها الذهب، فلبسها
صلى الله عليه وسلم
فقام على المنبر وجلس فلم يتكلم، ثم نزل فجعل الناس يلمسون الجبة وينظرون إليها، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم :
أتعجبون منها؟!
لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن مما ترون.
53
ثم نعلم من مأثورنا علما جديدا بشأن تلك المذبحة، حيث يعلمنا أنها لم تقتصر على الرجال فقط، بل نالت أيضا من الصبية، حيث يقول الطبري مدعما من كل رجال السير والأخبار أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم :
قد أمر بقتل كل من أنبت منهم.
54
وهو أيضا ما يأتينا تأكيده في حكاية ابن إسحاق عن صبي نجا من المذبحة هو عطية القرظي، حيث يقول:
وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قد أمر بكل من أنبت منهم ... عن عطية القرظي قال: كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قد أمر أن يقتل من بني قريظة كل من أنبت منهم، وكنت غلاما، فوجدوني لم أنبت، فخلوا سبيلي. رواه أهل السنن الأربعة ... وقد استدل به من ذهب من العلماء، إلى أن إنبات الشعر الخشن حول الفرج دليل البلوغ.
55
وعن كثير بن السائب أن بني قريظة عرضوا على النبي
صلى الله عليه وسلم ؛ فمن كان محتلما أو نبتت عانته قتل، ومن لم يكن قد احتلم ولا نبتت عانته ترك.
56
وكاد ينجو من المقتلة رجل واحد من أشراف قريظة، لولا رغبته هو في الموت ذبحا، هو أبو عبد الرحمن الزبير بن باطا القرظي، وكان يوم وقعة بعاث قد من على ثابت بن قيس وخلى سبيله، فلما أصبح ثابت مسلما، رأى أن يرد الدين إلى أبي عبد الرحمن، فذهب بحكايته القديمة ودينه بالحياة يرويها للنبي ويطلب حياة أبي عبد الرحمن، فمنحه إياها، وذهب ثابت يبشر أبا عبد الرحمن بالحياة، ليدور بينهما الحوار التالي:
أبو عبد الرحمن :
أي ثابت، ما فعل الذي كان وجهه مرآة صينية تتراءى فيها عذارى الحي كعب بن أسد؟
ثابت :
قتل.
أبو عبد الرحمن :
فما فعل سيد الحاضر والبادي حيي بن أخطب؟
ثابت :
قتل.
أبو عبد الرحمن :
فماذا فعل مقدمتنا إذا شددنا وحاميتنا إذا كررنا عزال بن سموءل؟
ثابت :
قتل.
أبو عبد الرحمن :
فما فعل المجلسان؟ يعني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة.
ثابت :
ذهبوا، قتلوا.
أبو عبد الرحمن :
فإني أسألك بيدي عندك يا ثابت؛ ألا ألحقتني بالقوم، فوالله ما في العيش بعد هؤلاء من خير، فما أنا بصابر لله قبلة دلو نضح، حتى ألقى الأحبة.
وهنا أخذه ثابت من يده وأوقفه في طابور المذبحة ليأخذ دوره، فضربت عنقه.
57
وبعد الانتهاء من شأن المذبحة، أتى دور الغنائم والسبايا؛ فأما الغنائم فيحصيها لنا ابن سعد في قائمة طويلة كالتالي:
ألف وخمسمائة سيف.
ثلاثمائة درع.
ألفا رمح.
ألف وخمسمائة ترس وجحفة.
جمال ونواضح كثيرة.
58
وهي القائمة التي تشي بمدى العدة والعتاد التي كانت في حوزة قريظة، وهو أيضا ما يفصح عن رغبة قريظة في النأي عن الحرب طمعا في مصير نضير وقينقاع للخروج بأرواحهم دون عتادهم وأموالهم.
وجاء دور السبايا ليقول ابن سعد:
واصطفى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ريحانة بنت عمرو لنفسه، وأمر بالغنائم فجمعت، فأخرج الخمس من المتاع والسبي، وأمر بالباقي فبيع فيمن يزيد، وقسمه بين المسلمين.
59
أما ريحانة بنت عمرو، التي اختارها النبي، فقد قال بشأنها ابن كثير:
عرض عليها النبي
صلى الله عليه وسلم
أن يعتقها ويتزوجها، فاختارت أن تستمر على الرق ليكون أسهل عليها، فلم تزل عنده حتى توفي عنها عليه الصلاة والسلام.
60
ويؤكد الطبري موقف ريحانة في قولها لسيدها الجديد:
تتركني في ملكك، فهو أخف علي وعليك. فتركها، وكانت حين سباها رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قد تعصت بالإسلام، وأبت إلا اليهودية.
61
وفاضت السبايا حتى بيعت بقيتهم لرجال نجد، وكان عائد البيع عظيما، وتم شراء خيل وسلاح إضافي بثمنهم؛ لتتضخم الأعتدة العسكرية الإسلامية وكراعها بمخزون عظيم لما هو آت.
وهكذا جاءت دية بني عامر بمجموعة من التداعيات أخذ بعضها بعقب بعض؛ فطردت نضير من يثرب، لكن ليحزب زعماؤها الأحزاب في غزوة الخندق التي انتهت بدورها لصالح يثرب، بالانسحاب بعد الخدعة، لينتهي الأمر بالقضاء على بني قريظة، وتطهير المدينة تطهيرا كاملا، وسيطرة النبي سيطرة تامة على يثرب، مع نمو هائل في ثروة المسلمين وقوتهم العسكرية، وهو الأمر الذي دفع المنافقين لحسم مواقفهم؛ حيث لم يعد لهم سند من حلفائهم اليهود، ولم يعد بإمكانهم التطاول على القوة الإسلامية المتعاظمة، وانتهى أمرهم بالخضوع الكامل لسيد المدينة، وهي النتائج التي أوجزتها الآيات الكريمة بإيجازها البليغ تبلغ العربان وتذكرهم بقولها:
ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا * وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم
62
وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا * وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديرا (الأحزاب: 25-27).
الباب الثاني
الاعتراف بقيام الدولة
إخضاع القبائل
يا رسول الله، لا تحرم علينا حلالا ولا تحل لنا حراما!
زيد بن رفاعة الجذامي
بالطبع لم تنفذ يثرب اتفاقها مع غطفان الفزارية، بعد أن مزق السعدان الصحيفة التي كان من المزمع تنفيذها مع عيينة بن حصن الفزاري، للتخذيل بين الأحزاب؛ لذلك ما إن انصرفت الأحزاب عن يثرب، وعلم القرشيون بحجم المكيدة التي دبرها الغطفاني الداهية نعيم بن مسعود، حتى عاد عيينة بن حصن ببعض خيل غطفان؛ ليغيروا على لقاح النبي بالغابة، لكن بالجوار كان سلمة بن الأكوع، يراهم، فيركض نحو التلول يرتقيها موجها وجهه شطر يثرب منذرا صائحا: واصباحاه! عدة مرات، ثم يهرع نازلا يمنع القوم بنباله. ويروي لنا ابن كثير بطولة ذلك المسلم الفرد في صورة رائعة وهو يقول:
فإذا وجهت الخيل نحوه انطلق هاربا، ثم عارضهم، فإذا أمكنه الرمي رمى ... وبلغ رسول الله
صلى الله عليه وسلم
صياح ابن الأكوع، فصرخ بالمدينة: الفزع الفزع! فترامت الخيول إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فلما اجتمعوا إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أمر عليهم سعيد بن زيد وقال: اخرج في طلب القوم حتى ألحقك بالناس. وأقبل رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، واستنقذ بعض اللقاح، وسار الرسول حتى نزل بالجبل من ذي قرد، وتلاحق به الناس، فأقام عليه يوما وليلة. وقال سلمة بن الأكوع: يا رسول الله، لو سرحتني في مائة رجل، لاستنقذت بقية السرح، وأخذت بأعناق القوم. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : إنهم الآن ليغبقون في غطفان ... ثم رجع قافلا إلى المدينة. (ويقول ابن الأكوع) ثم رجعنا، وردفني رسول الله
صلى الله عليه وسلم
على ناقته حتى قدمنا المدينة.
1
ومرة أخرى تتعرض لقاح الرسول لغدر الأعراب، الذين أطمعتهم سوائمه، فقدم على النبي ثمانية رجال من عرينة، وأظهروا الإسلام، وبعد أيام اشتكوا للنبي سوء حالتهم الصحية بداخل يثرب، وأنهم أهل بوادي لا يطيقون المدن والزروع، فأذن لهم بالخروج لرعاية لقاحه، الذي يرعى بذي الحدر بناحية قباء، فظلوا فيها فترة، ثم عدوا على لقاح رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وقتلوا واحدا من عبيد النبي،
2
فكان أن أرسل وراءهم سرية كرز بن جابر الفهري ليقبض عليهم، ويلقوا جزاء ما قدمت أيديهم بحق النبي وبحق الدولة، وهو الجزاء الذي جاءنا ذكره في البيهقي وهو يروي:
فلم ترتفع الشمس حتى أتي بهم، فأمر بمسامير فأحميت، فكواهم، وقطع أيديهم وأرجلهم، وألقاهم في الحرة يستسقون فلا يسقون، حتى ماتوا.
3
ويضيف ابن سيد الناس أنه قد أمر إضافة لذلك بسمل عيونهم.
4
ومع تلك التحركات الطامعة الغادرة من الأعراب، كان على يثرب أن تكثف مرة أخرى من سراياها المسلحة التأديبية المنذرة؛ لتئوب القبائل إلى سابق انكماشها. فكانت سرية عبد الله بن أنيس الجهني، التي سرت إلى خيبر لتنتقم من مشاركة سادتها في تحزيب الأحزاب، فيقطع ابن أنيس من خيبر رأسها ، أسير بن رزام؛ جزاء وفاقا لما قدمت يداه.
5
لتتبعها سرية عكاشة بن محصن الأسدي مغيرا على قومه بني أسد في الغمر، ويبدو أن الأسود عرفوا رأس الحكمة من الغارة السابقة للنبي عليهم، فهربوا مع نعمهم وشياههم، ويصل عكاشة فيجد الديار فراغا، لكنه لم يشأ أن يرجع فارغا، فهجم على بني عمومة لهم في الجوار، ليستاق منهم مائتي بعير يعود بها مغنما إلى يثرب.
6
وإذا كانت حكمة الأسود تدعوهم كل مرة إلى الفرار بأموالهم وأرواحهم، فإن الثعالب من بني ثعلبة كانت لهم حكمة أخرى، فما إن هبطت عليهم سرية محمد بن مسلمة بذي القصة باتجاه الربذة في عشرة من المسلمين، حتى نذر به الثعالب بدهائهم، وأحدقوا بالسرية وحملوا على رجالها تقتيلا، ولم ينج سوى مسلم واحد خرج سليما، ليحمل محمد بن مسلمة جريحا ويعود به إلى المدينة.
وفورا يرسل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
سرية أبي عبيدة بن الجراح للضرب على يد بني ثعلبة بقوة، ويمده بأربعين مقاتلا يهبطون على ذي القصة متسللين متخفين ليفاجئوا الثعالب في عماية الصبح. ولكن مرة أخرى ينذر به الثعالبة - متأخرين بعض الشيء - فيهبون إلى دروبهم وشعابهم بين جبال يعلمون سبلها ولا يتمكن المسلمون منهم، فيكتفون بحيازة أنعامهم التي تركوها، وينحدرون بها عودا إلى المدينة.
ووسط تلك الأحداث، يأتينا خبر طلاق زيد بن حارثة من زينب بنت جحش، وتزويج السماء لزينب من النبي، ليخرج من بعدها زيد للاستشفاء النفسي، في عدد من السرايا المتوالية، أو ليرسله النبي في عدد من السرايا المتتابعة، لا يهدأ ولا يكل، فينزل بسرية على بني حارثة من قبائل سليم ليصيب منهم سوائمهم، ثم يردفها بسرية إلى العيص تعترض طريق قافلة تجارية قرشية قادمة من الشام بها فضة عظيمة، فيستولي على ما فيها، ثم يتبعها بسرية ثالثة إلى بني ثعلبة، فيغنم منهم أنعاما جزيلة، ثم يخرج بسرية رابعة إلى حسمى من وراء وادي القرى، بأمر من الرسول
صلى الله عليه وسلم
انتقاما من بني جذام الذين قطعوا الطريق على صديق النبي دحية الكلبي، الذي كان يتمثل به جبريل الملاك، فيسلبونه منحة قيصر له. وينزل زيد بساحتهم فيقتل منهم قوما كثيرين، ويذبح زعيمهم الهنيد وولده، ويأخذ نعمهم وماشيتهم ونساءهم، وما يربو على خمسة آلاف شاة، وألف بعير، غير مائة من السبايا وعدد عظيم من الغلمان، ولا يصاب البطل المسلم المتميز زيد في كل تلك السرايا إصابة واحدة.
7
لكن بين جذام والنبي كان كتاب موادعة سابق، فيهرع أحد الناجين هو زيد بن رفاعة إلى النبي، في نفر من قومه فيهم أبو يزيد بن عمرو، ثم نستمع إلى المشهد حال دخوله على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من ابن سعد وهو يحكي:
فدفع إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كتابه الذي كان كتب له ولقومه، وقال:
يا رسول الله، لا تحرم علينا حلالا ولا تحل لنا حراما.
فقال الرسول: وكيف أصنع بالقتلى؟
قال أبو يزيد بن عمرو: أطلق لنا يا رسول الله من كان حيا، ومن قتل فهو تحت قدمي هاتين.
فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : صدق أبو يزيد.
8
وما إن يرحل الجذاميون، بما كان لهم عند النبي، حتى يخرج زيد مرة أخرى بسرية خامسة إلى وادي القرى.
9
لتعطي تلك السرايا دلالتها حيث بدأت تأخذ وجهة الشمال الرومي والمشرق الكسروى. ويزداد تأكيد المقاصد والدلالات، بإغارة عبد الرحمن بن عوف مرة أخرى برجاله على قبائل كلب في دومة الجندل بالشمال، وهناك يعلن زعيمهم الأصبغ اتباعه للدولة وللدين ويشهر إسلامه، ويزوج ابنته تماضر لقائد السرية عبد الرحمن بن عوف، ليعود بها وبالعهد إلى المدينة.
10
ولكن وجهة الشمال حيث كنوز كسرى وقيصر الهدف الأعظم، لا زالت بحاجة إلى تأكيد، فتخرج إليها سرية علي بن أبي طالب إلى بني سعد بن بكر في فدك، ليغير عليهم على غرة، فيهزمهم، وهم من كانوا من القوة بحيث هزموا قبل البعثة فيالق كسرى، لكن الرعب يأخذهم فيفرون قبل وصول السرية ديارهم، ويتركون له ألفي شاة وخمسمائة بعير يعود بها. أما كلب التي كانت في الطريق، فقد تركت له طريق العودة وهربت من ديارها بنسائها وأموالها رغم ما تأكد لها من عهود مع دولة النبي
صلى الله عليه وسلم .
11
وهكذا أبلغت السرايا وبلغت رسائلها إلى الشمال الرومي، ووصلت برقيات الرعب إلى زعيم نصف العالم آنذاك، قيصر الروم.
غزوة المصطلق
سمن كلبك يأكلك!
عبد الله بن أبي بن سلول
يا منصور، أمت، أمت.
صيحة الفزع المرعبة التي دوت على ماء «المريسيع» فجأة ودون سوابق أو ممهدات، بمضارب «بني المصطلق»، ليهبط عليهم الرسول
صلى الله عليه وسلم
برجاله في جمادى الآخرة من عام ستة للهجرة، فتأخذهم الفجأة وتشلهم الصعقة، فما يفيقوا إلا على قتلاهم وأسراهم وسباياهم وأموالهم ونعمهم، تجمع بيد السيد المنتصر.
1
وبين السبايا وقفت بنت السادة الرافلة في النعيم، زوجة مسافع بن صفوان المصطلقي (جويرية بنت الحارث) سيد المصطلق، تنتظر دورها،
2
فتقع في سهم جندي مسلم هو مجرد نفر اسمه قيس بن الشماس؛ ومن ثم تحكي لنا جويرية وهي ترى ما آلت إليه، باحثة عن مخرج يلائم مكانتها:
رأيت قبل قدوم النبي
صلى الله عليه وسلم
بثلاث ليال، كأن القمر يسير من يثرب، حتى وقع في حجري، فكرهت أن أخبر بها أحدا من الناس، حتى قدم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فلما سبينا، رجوت الرؤيا.
3
ولتحقيق الرؤيا، ساومت آسرها ثابت بن قيس، على أن تدفع له فداءها عن نفسها ويطلقها حرة، بموجب مكاتبة على العتق بذلك، وهي تعلم يقينا أنها أسيرة لا تملك مالا تشتري به نفسها، ولا تعلم حتى إن هي اشترت نفسها أين تذهب بعد أن ذهب قومها قتلا وأسرا؛ ومن ثم قررت أن تختبر الرؤيا، فذهبت إلى النبي لتطلب منه إعانتها في مكاتبتها!
وهنا تقول لنا أم المؤمنين السيدة عائشة الغيور:
فوالله ما إن رأيتها على باب حجرتي، فكرهتها وعرفت أنه
صلى الله عليه وسلم
سيرى منها ما رأيت.
أما ماذا رأت السيدة عائشة رضي الله عنها؟ فهو ما توضحه في قولها:
كانت امرأة حلوة ملاحة.
لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه.
ويشرح لنا السهيلي شارح السيرة المعنى لكلمة «ملاحة» في قول أم المؤمنين بقوله:
الملاح أبلغ من المليح.
والملحة هي البياض.
وملاحة في العينين.
وقال الأصمعي:
الملاحة في الفم.
وقول عائشة ... من الغيرة عليه والعلم بموقع الجمال منه
صلى الله عليه وسلم .
ونتابع الحدث وهو يتحرك، فنرى جويرية الأسيرة تدخل على النبي
صلى الله عليه وسلم
لتقول:
يا رسول الله،
أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، سيد قومه،
وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك،
فوقعت في السهم لثابت بن الشماس،
فكاتبته على نفسي،
فجئت أستعينك في كتابتي.
وهنا يتطلع سيد الخلق، العارف بمواطن الجمال والملاحة، ويملأ عينيه منها، ليعقب السهيلي على ذلك التطلع الطويل بقوله: «أما نظره عليه السلام لجويرية، حتى عرف من حسنها ما عرف، فإنما ذلك لأنها كانت امرأة مملوكة، ولو كانت حرة، ما ملأ عينه منها؛ لأنه لا يكره النظر إلى الإماء، ويجوز أن يكون نظر إليها؛ لأنه نوى نكاحها، كما نظر إلى المرأة التي قالت له إني وهبت نفسي لك. وقد ثبت عنه عليه السلام الرخصة في النظر إلى المرأة، عند إرادة نكاحها.»
وكان ما توقعته جويرية الحسناء، التي تعرف قدر حسنها، وقدمت لها الأقدار تحقيق رؤياها، حين قال لها النبي بعد تأمله الطويل:
فهل لك في خير من ذلك؟
قالت: وما هو يا رسول الله؟
قال: أقضي عنك كتابك وأتزوجك.
قالت: نعم يا رسول الله قد فعلت.
وهنا تعقب السيدة عائشة رضي الله عنها: «وخرج الخبر إلى الناس؛ أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قد تزوج جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، فقال الناس: أصهار رسول الله
صلى الله عليه وسلم . وأرسلوا ما بأيديهم. قالت: فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة كانت أعظم على قومها بركة منها.
4
ويقول ابن سيد الناس: «وكان الإبل ألفي بعير، والشاة خمسة آلاف شاة، وكان السبي مائتي بيت.»
5
وبينما كان حسن جويرية وملاحتها يحل على أهلها بركة وسلاما، لتزف إلى سيد الخلق في زيجة جديدة، عكر صفو العرس حدث جديد أحدثه عبد الله بن أبي بن سلول، مع نفر من أتباعه ممن تنعتهم كتب الأخبار بالمنافقين، وهو ما يأتينا خبره في عدد من الروايات؛ أولها ما رواه بن هشام في قوله: إنه بينما المسلمون يتزاحمون على ماء المريسيع «وردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير له من غفار يقال له جهجهاه بن مسعود، يقود فرسه، فازدحم جهجهاه، وسنان بن وبر الجهني حليف بن عوف من الخزرج على الماء، فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار. وصرخ جهجهاه: يا معشر المهاجرين. فغضب عبد الله بن أبي بن سلول، وعنده رهط من قومه، فقال:
أوقد فعلوها؟
قد نافرونا وكاثرونا،
والله ما عدنا وجلابيب قريش إلا كما قال الأول:
سمن كلبك يأكلك.
أما والله لئن رجعنا المدينة،
ليخرجن الأعز منها الأذل.
ثم أقبل على من حضره من قومه، فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم؛ أحللتموهم بلادكم، قاسمتموهم أموالكم. أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم، لتحولوا إلى غير دياركم.»
6
ويسمع الصبي «زيد بن أرقم» ما بدر من ابن سلول، وما أفصحت عنه شفتاه من مكنون صدره، ليهرع من فوره إلى النبي يهمس له بما قال ابن سلول، ويسمع الأنصار همس الصبي، فينبرون دفاعا عن رجلهم المقدم: «يا رسول الله، عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل.» حدبا على ابن سلول ودفعا عنه.
7
وتحتد بعمر أعصابه وتأخذه الغضبة أخذا فيقول للنبي وهو يرعد: مر عباد بن بشر فليقتله. لينافس عمر ولد عبد الله بن سلول الذي يحمل اسم أبيه «عبد الله»، فيهرع إلى مجلس النبي يقول: «إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت لا بد فاعلا، فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه.»
8
ولكن حكمة سيد الخلق أفصح وأنصع وأكرم، فتنفرج شفتا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عن قوله:
فكيف يا عمر إذا تحدث الناس:
أن محمدا يقتل أصحابه؟
ويلتفت إلى «عبد الله بن سلول» الابن ويقول له بكل حب أبوي ورحمة نبوية:
لا،
بل نترفق به،
ونحسن صحبته ما بقي معنا.
9
وهي الحكمة والرحمة البليغة، التي كانت ردا غير منتظر، وضع ابن سلول في موقف شديد الهزال أمام قومه، ليعقب الشعور بالفزع والرعب شعور المهانة والتدني والخجل، وهي المشاعر التي دفعته يسعى للنبي
صلى الله عليه وسلم
ليحلف له بأغلظ الأيمان، بأنه ما قال ما قال ولا تكلم به.
وكي تتم معالجة الأمر على وجه السرعة، لقمع دعوى الجاهلية، وإيقاف أي طارئ جانبي قد يحدث بين أنصاري ومهاجر هنا أو هناك، وما قد يجره أي حدث جانبي من تفكك في الجبهة الإسلامية؛ أمر النبي القائد الفذ وزيره عمر بن الخطاب أن يؤذن في الناس بالرحيل الفوري على عجل ودون إبطاء، في ساعة هجير شديد القيظ، ويحكي ابن إسحاق:
فلما استقل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وسار، لقيه أسد بن حضير، فحياه تحية النبوة وسلم عليه، وقال: يا نبي الله، والله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : أوما بلغك ما قال صاحبكم؟ قال: وأي صاحب يا رسول الله؟ ... يا رسول الله ارفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا.
ثم مشى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مسا من الأرض، فوقعوا نياما.
ويعقب ابن إسحاق على تلك القسوة من القائد على رجاله، بقوله: «وإنما فعل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ذلك؛ ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس، من حديث عبد الله بن سلول.»
10
أما إجابة الرسول الحكيمة لعبد الله بن سلول الابن، ولعمر بن الخطاب، فسرعان ما آتت ثمارها فيما يخبرنا ابن هشام عن ابن سلول: «فجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث، كان قومه هم الذين يعاتبونه ويعنفونه ، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لعمر، حين بلغه ذلك من شأنهم: كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي أقتله، لأرعدت له أنوف، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته.»
11
ولم يكن حدث ابن سلول المعكر الوحيد لصفو العرس الجديد؛ فالصبي زيد بن أرقم الذي مدحه النبي وكرمه لما حمل إليه مقالة ابن سلول، وأمسكه من أذنه وقال
صلى الله عليه وسلم : «هذا الذي أوفى الله بأذنه.» وجد له دورا، فعاد يهمس للنبي أنه «سمع رجلا من المنافقين يقول ورسول الله يخطب فيهم: «لئن كان هذا صادقا، لنحن شر من الحمير.» فيرد عليه الصبي: «فهو والله صادق، وأنت شر من الحمار.»
12
ويتعالى التشكيك في نبوة النبي من بعض رجاله، فيما يرويه البيهقي:
وفقدت راحلة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من بين الإبل، فسعى لها الرجال يلتمسونها، فقال رجل من المنافقين كان في رفقة الأنصار: أين يسعى هؤلاء؟ قال أصحابه: يلتمسون راحلة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ضلت. فقال المنافق: ألا يخبره الله بمكان راحلته؟ فأنكر عليه أصحابه ما قال، وقالوا: قاتلك الله، نافقت.
13
أما أشد المنكرات من أحداث معكرة، صاحبت غزوة المصطلق، وعكرت عرس النبي بجويرية، ما جاء بحدث الإفك عن أم المؤمنين الغيور وهي تصحب زوجها في زفة عرسه، لتلوك الألسن عنها بالفحشاء وترميها بالشاب صفوان بن المعطل في القصة المعروفة التي أتى بها عصبة من الأفاكين، حيث حسمت السماء الأمر بتدخلها بالوحي الصادق، الذي برأ أم المؤمنين مما أتى به أهل الإفك والبهتان.
غزوة الحديبية
أما الرحمن فلا أدري والله ما هو؟!
سهيل بن عمرو
بمجيء شهر ذي القعدة، بداية موسم الحج الجاهلي، وفجأة، ودون أي علامات أو مقدمات منذرة، يتم التحول دورة كبرى، عن السرايا الصغيرة والغزوات المتناثرة، إلى الهدف الأكبر، يوم قام النبي من نومه ليعلن لأصحابه خبر رؤيا رآها في منامه؛ أنهم يدخلون معه مكة يطوفون بالبيت آمنين. وهو ما يعقب عليه السهيلي في شروحه: «كان النبي قد رأى ذلك في منامه، ورؤيا الأنبياء وحي.»
1
ومن ثم، نادى المنادي بين مسلمي يثرب، وبين عربان جهينة ومزينة وخزاعة وغيرها من حلفاء يثرب، الذين حالفوها سياسيا بإسلام من البعض وبعدم إسلام من آخرين، ويقول ابن إسحاق:
واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي والأعراب ليخرجوا معه ... فأبطأ عليه كثير من الأعراب.
ويتابع ابن سعد يقول:
واستنفر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أصحابه إلى العمرة، فتهيئوا وأسرعوا، ودخل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بيته فاغتسل ولبس ثوبين، وركب راحلته القصواء ... ثم دعا بالبدن التي ساق فجللت ثم أشعرها في الشق الأيمن وقلدها، وأشعر أصحابه أيضا ... وهي سبعون بدنة ... وأحرم ولبى ... وخرج معه من المسلمين ألف وستمائة.
2
ولا شك، أنه مثلما كان للنبي عيونه داخل مكة، فإن مكة ما كان ليفوتها أن تدس عيونا لها بيثرب، تلك العيون التي - لا بد - قد أخذتها الدهشة، وهي ترى النبي يفعل فعل قريش، فيدعو إلى عمرة، ويمارس ذات شعائر قريش؛ فيسوق أمامه البدن (البعير المساقة هديا للذبح) بعد أن جللها وقلدها، بل ويسير أمام رجاله يلبي فيلبون، معلنا أنه قد جاء ساعيا معتمرا لا يريد حربا،
3
في الوقت الذي كانت تأتيه عيونه الخزاعية بخبر يقول: «إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي، قد جمعوا لك الأحابيش، وجمعوا لك جموعهم، وهم قاتلوك أو مقاتلوك.»
4
ورغم التظاهرة الدينية الواضحة، التي أرادها النبي رسالة مبلغة إلى قريش؛ لتعلم أنه جاء محترما مشاعرها وشعائرها وطقوسها، وهي الطقوس المرتبطة جميعا بتجارتها ومكاسبها، وما في تلك الرسالة من طمأنة ضمنية وإبراق فصيح بالتحولات الآتية؛ فإن مكة لم تر في ذلك العدد الهائل من المقاتلين الذين يصل عددهم إلى ألف وستمائة، سوى محاولة مكشوفة لدخول مكة تحت ستار العمرة، محتمية بحرمة الأشهر الحرم؛ لتعمل سيوفها في بطن مكة من الداخل بغتة؛ وهو الدرس الذي لم تنسه قريش منذ سرية عبد الله بن جحش التي انتهكت الأشهر الحرم، وحللها الكلم القرآني وصادق عليها؛ لذلك ما إن بلغت أخبار بدء يثرب بالمسير إلى مكة، حتى أخذت مكة تهيئ رجالها على الطريق؛ لتقف في وجه الغزو الآتي. وبلغ النبي أن على الطريق قد وقف بنو لؤي بجموعهم وخيلهم، فتوجه إلى رجاله قائلا:
أشيروا علي، أترون أن نميل على ذراري هؤلاء الذين أعانوهم، فنصيبهم؛ فإن قعدوا موتورين محرومين وإن نجوا تكن عنقا قطعها الله؟ أم ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه؟
5
كان بإمكان المسلمين أن يميلوا على مضارب بني لؤي الخالية من الرجال؛ ليقتلوا ما شاءوا من أطفالهم، وتكون عنقا قطعها الله، وكان بإمكانهم أن يتوجهوا عن طريق آخر إلى مكة، فإن اعترضتهم قريش قاتلوها؛ وردا على استشارة النبي رجاله جاءه جواب أبي بكر الصديق الحكيم «... من حال بيننا وبين البيت قاتلناه.»
6
وإعمالا للمشورة، يخبرنا ابن سعد بما تلا ذلك من أحداث، فيقول:
سار النبي
صلى الله عليه وسلم
حتى دنا من الحديبية، وهي طرف الحرم، على تسعة أميال من مكة، فوقعت يدا راحلته على ثنية، تهبطه على غائط القوم، فبركت، فقال المسلمون: حل، حل. يزجرونها، فأبت أن تنبعث، فقالوا: خلأت القصواء.
وهنا تأتي برقية جديدة لقريش لمزيد من الطمأنة، تحمل في فحواها معاني لذوي العقول، في قول المصطفى
صلى الله عليه وسلم :
إنها ما خلأت، لكن حبسها حابس الفيل. أما والله لا يسألونني اليوم خطة فيها تعظيم حرمة الله، إلا أعطيتهم إياها. ثم زجرها فقامت، فولى راجعا عوده على بدء، حتى نزل بالناس على ثمد من أثماد الحديبية.
7
وبينما القوم ينيخون رحلهم، حمل بشر بن سفيان الكعبي خبرا آخر عند عسفان، يقول للنبي:
يا رسول الله، هذه قريش قد سمعت بمسيرك، فخرجوا معهم العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور، وقد نزلوا بذي طوى، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم، قد قدموها إلى كراع الغميم. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم :
يا ويح قريش.
لقد أكلتهم الحرب.
ماذا لو خلوا بيني وبين سائر العرب؟
فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا،
وإن أظهرني الله عليهم دخلوا الإسلام وافرين،
وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة.
8
وتحاشيا للاصطدام بجيش خالد بن الوليد، قال النبي بين رجاله: «من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟» فيقوم له دليل يسلك معه النبي وجيشه طريقا وعرا بين الشعاب، حتى يهبط الوادي. وتعلم قريش بمكانه، فترسل له حليفا له من خزاعة، هو بديل بن ورقاء، برسالة، ليرده إليهم النبي برسالة أخرى تؤكد أنه جاء معظما لحرمة بيتهم، رمز تجارتهم وسطوتهم وسلطانهم ومعتقدهم. ويذهب بديل بالرد النبوي ليقول: «يا معشر قريش، إنكم تعجلون على محمد، وإن محمدا لم يأت لقتال، إنما جاء زائرا معظما لهذا البيت.» لكن قريشا التي تعلم هوى خزاعة مع النبي تتهم بديل وتخونه؛ ذلك الهوى الذي كان يعلمه كتاب السير والأخبار وهو ما أفصح عنه ابن كثير في قوله:
وكانت خزاعة عيبة نصح لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
مسلمها ومشركها، لا يخفون عنه شيئا كان بمكة.
9
ولتجب على بديل بردها:
وإن كان جاء لا يريد قتالا، فوالله لا يدخلها علينا عنوة أبدا، ولا تحدث العرب بذلك عنا.
10
وتتذاكر قريش ما حدث لقريظة؛ ذلك الحدث الذي أذهل العرب جميعا وقريشا بخاصة، فأي قتال كان في الجزيرة، كان لا يصل إلى إبادة ذلك العدو جميعا، وإبادة قوم بكاملهم، وما صحب الحدث من إنذارات تمثلت في الآي الكريم:
سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ؛ ليأخذ الرعب بقلب مكة قابضا منها على الجوانح والحشايا، وتظن بالنبي الكريم سوء الظن، وتتسارع أنفاسها وهي تتصور دخوله عليها، ومصيرا كمصير قريظة وفناء من على وجه الأرض إلى آخر الدهر. فقامت تدفع برسلها إليه رسولا في عقب رسول، فتبعث بعد بديل مكرز بن حفص، وهو من عامر بن لؤي الذين يحملون للنبي كراهية. فلما رآه النبي مقبلا، قال: «هذا رجل غادر.» ثم قال له ما سبق وقال لبديل ليحمله إلى مكة.
11
ثم يردفون وراء مكرز، الحليس بن علقمة سيد الأحابيش، وهم قوم قد تدروشوا في حب البيت حتى قدسوا أمره جميعا، وصاروا يمثلون أشد الاتجاهات تعظيما لحرمة البيت وشعائره. فلما رآه النبي قادما عن بعد، قال لرجاله: «إن هذا من قوم يتألهون.» ويشرح ابن سيد الناس معقبا شارحا: «يتألهون: يعظمون أمر الإله. قال الخشني: التأله التعبد. ورأيت عن ابن الكلبى في نسب الحليس بن ريان، أنه الحليس بن عمرو بن عامر بن المغفل.»
12
ومن هنا كان التصرف الذي يمكن أن يقنع الحليس، فقال النبي بسرعة: «ابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه.» أي أرسلوا النوق المشعرة المجللة المهداة للذبح ليراها، وهنا يقول ابن هشام:
فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إعظاما لما رأى، فقال لهم ذلك، فقالوا: اجلس، فإنما أنت أعرابي لا علم لك.
13
وترسل قريش رسولا آخر إلى مجلس النبي، من سادة ثقيف، هو «عروة بن مسعود الثقفي»، الذي وصل إلى مجلس النبي وجلس قبالته مباشرة، ليفصح عن رعب قريش وذكرى قريظة في قوله:
يا محمد،
أرأيت إن استأصلت قومك،
فهل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك؟
يا محمد،
جمعت أوشاب الناس (الأوباش)، ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم؟
لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا!
لكن ليرد عليه أبو بكر على الفور:
امصص بظر اللات.
أنحن ننكشف عنه؟
فيلتفت عروة ليسأل النبي: من هذا يا محمد؟
ولما لم يكن من المقبول ألا يعرف عروة شخصية أبي بكر، فإن الاستنتاج هو أن أبا بكر كان ملبسا بالحديد، خوذة ودروع، ويجيبه النبي: «هذا ابن أبي قحافة.» فيرد عليه عروة معرضا عن إهانته: «والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بهذا، ولكن هذه بها.»
ويستمر عروة يحدث النبي، ويتناول لحية رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كلما حدثه، «والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في الحديد فجعل يقرع يده إذا تناول لحية الرسول
صلى الله عليه وسلم
ويقول: اكفف يدك عن وجه رسول الله قبل ألا تصل إليك. فيقول عروة: ويحك ما أفظك، ما أغلظك!»
ويبتسم رسول الله؛ لأن عروة لم يعرف ابن أخيه وهو مدرع بالحديد، ذلك الحديد الذي كان كافيا لإقناع عروة أن الأمر ليس أمر عمرة أبدا، ويتساءل عروة: من هذا يا محمد؟ فيجيبه: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة.
وكان المغيرة قد قتل ثلاثة عشر رجلا من بني مالك، ثم فر إلى النبي مسلما، ودفع عنه عمه عروة ديتهم جميعا، وهنا يقول عروة للمغيرة: «أي غدر؟ وهل غسلت سوءتك إلا بالأمس؟»
ويتطلع عروة حوله؛ فيرى بين إبل الهدي جملا مهدى لأبي جهل، وهو ما جاء في قول ابن عباس: «إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أهدى عام الحديبية في هداياه جملا لأبي جهل، في رأسه برة من فضة.»
ويقلب عروة النظر هنا وهناك فيزداد عجبا؛ فالرسول لا يبصق بصاقا إلا ابتدره أصحابه، ولا يتنخم نخامة إلا تسابقوا عليها يتلقونها بأكفهم يدلكون بها وجوههم، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، ولا يحدون النظر إليه تعظيما وإجلالا، فينهض الرجل مشدوها مبهوتا، ويعود إلى قريش يقول:
يا معشر قريش،
إني قد جئت كسرى في ملكه،
وقيصر في ملكه،
والنجاشي في ملكه،
وإني والله ما رأيت ملكا قط في قومه،
مثل محمد في أصحابه.
14
وهنا يخطر للنبي خاطر، قبل أن تعود إليه رسل مكة، فيختار من رجاله رجلا عزيزا على ملأ مكة وأشرافهم من الأمويين، هو «عثمان بن عفان» الأموي، فيرسله إلى أهله بمكة يحمل رسالة إليهم. ويتأخر عثمان في العودة، لأمر كان مقدورا في باطن الزمان؛ حيث تسري شائعة لا نعلم من أطلقها؛ أن عثمان بن عفان قد قتلته قريش؛ ومن ثم توجب الانتقام، فيدعو النبي المسلمين فجأة ودون مقدمات واضحة، إلى بيعته، تسليما له في أي قرار ويتخذه دون مناقشة، فكانت بيعة الرضوان على أي أمر يراه النبي حتى لو كان الموت؛ ومن هنا كانت تلك البيعة تسليما لما هو في باطن الساعات الآتية، آت . وكوفئ جميع من أعطى التسليم في قول النبي لهم: «لا يدخل النار إن شاء الله أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها.»
15
وبانتهاء البيعة، يظهر عثمان بن عفان سليما معافى ليس فيه شيء، وتعلم قريش أنها لن تستطيع أن تزحزح محمدا ورجاله، وأنها لن تنجو من مصير قريظة إلا بالتساهل، خاصة بعدما بلغتها الرسالة: «والله لا يسألونني اليوم خطة فيها تعظيم حرمة الله إلا أعطيتهم إياها.» وهي ما تعني رغبة في الصلح.
وتساهلت قريش فأرسلت سهيل بن عمرو، رجل المفاوضات المحنك إلى النبي، لكنها بدافع من الأنفة والعزة، وضعت للصلح شروطا تضمن لها كرامتها أمام الأعراب، وهو ما وعاه النبي فور أن رأى سهيلا يهل على المسلمين، فالتفت إلى رجاله يقول: «لقد سهل الله لكم أمركم.»
16
ويجلس سهيل مع النبي، ويعرض عليه عروض مكة؛ وهي الصلح بهدنة مدتها عشر سنوات، لا يتعرض فيها أحد للآخر، وهو ما يضمن عودة الأمان للطريق التجاري. ويوافق النبي.
وأن من أحب أن يحالف قريشا من العرب حالفها، ومن أحب محالفة محمد حالفه. ويوافق النبي.
وترتفع المطالب المكية تدريجيا للاختبار وجس النبض، ليقول سهيل:
ومن أتى محمدا بغير إذن وليه رده إليهم. ويوافق النبي.
ثم تتعالى نبرة التشدد أكثر فيقول سهيل: وأنه من أتى قريشا من أصحاب محمد لم يردوه إليه. ويوافق النبي.
ويستمر سهيل: ويعود محمد برجاله عن مكة هذا العام ليعودوا في العام المقبل دون سلاح أو حديد إلا سلاح الراكب المسافر العادي، حيث يتركها لهم أهلها ثلاثة أيام، يعتمر بها ثم يتركها مغادرا. ويوافق النبي.
ويقول ابن كثير إن المسلمين وهم يرون تشدد سهيل وتساهل النبي أمامه كادوا يهلكون غما وغيظا ونكدا. ويزداد الغم عندما تبدأ كتابة كتاب الصلح الرسمي؛ فعندما بدأ النبي يملي علي بن أبي طالب الكتاب قائلا: «اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم.» رد سهيل على الفور:
أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو!
اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب.
ويهتف المسلمون بالرفض والاستهجان والشجب، يصرون على «بسم الله الرحمن الرحيم»، لكن النبي يقول لعلي: «اكتب: باسمك اللهم، هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو.» لكن ليعترض سهيل مرة أخرى بالقول:
لو كنا نعلم أنك رسول الله،
ما قاتلناك، لكن اكتب اسمك،
واسم أبيك.
فيأمر النبي عليا أن يمحو «رسول الله»، فيرفض علي رفضا قاطعا قائلا: «والله لا أمحاك أبدا.» فيمسك النبي الصحيفة - فيما روى البخاري - ويمحو «رسول الله»، ويكتب بخط يده «محمد بن عبد الله».
17
وبينما المسلمون في غم وشدة وكرب، يأتي ما يزيد الهم هما والكرب كروبا؛ فيفاجئهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو قد انفلت من مكة يرسف في قيوده ليصل في تلك اللحظة الحرجة إلى النبي جالسا مع أبيه يكتتبون صلحهم ليقفز سهيل بن عمرو قائلا للنبي
صلى الله عليه وسلم : «وهذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده.» فيرد النبي: «إنا لم نقض الكتاب بعد.» لكن ليرد سهيل بعنف، مقسما إن لم يفعل: «والله لا نصالحك على شيء أبدا.» فيقول النبي
صلى الله عليه وسلم : «إذن فأجره لي.» فيقول أبوه: «ما أنا بمجيره لك.» فيعود النبي للقول راجيا: «بلى، فافعل.» لكن ليرد سهيل: «ما أنا بفاعل.»
ويروي لنا ابن كثير تفاصيل تلك الوقائع فيما يروى:
فبينما رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو، إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد، وقد انفلت إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وكان أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قد خرجوا لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله
صلى الله عليه وسلم . فلما رأوا من الصلح، والرجوع، وما تحمل عليه رسول الله في نفسه، دخل من ذلك أمر عظيم على الناس حتى كادوا يهلكون. فلما رأى سهيل أبا جندل، قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلابيبه وقال: يا محمد قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا. قال: صدقت. فجعل ينتزه بتلبيبه ويجره، يرده إلى قريش؛ وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين ، أرد إلى المشركين يفتنوني في ديني. فزاد ذلك الناس إلى ما بهم. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين مخرجا، إنا عقدنا مع القوم صلحا، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهدا، وإنا لا نغدر بهم. فوثب عمر بن الخطاب يمشي مع أبي جندل إلى جنبه، ويقول: اصبر يا أبا جندل، فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب. ويدني قائم السيف منه، يقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب أباه، فضن الرجل بأبيه.
18
وقد لقي عمر بن الخطاب من أمر هذا الصلح رهقا شديدا استنفره استنفارا حتى ذهب إلى النبي يقول:
ألم تعدنا أن نأتي البيت ونطوف به؟
قال: نعم.
وبين الإجابة، وبين واقع ما يحدث، أخذت الحيرة والرعدة الغاضبة عمر ليذهب إلى أبي بكر يقول في حوار متوتر:
عمر :
يا أبا بكر، أليس برسول الله؟
أبو بكر :
بلى.
عمر :
أولسنا بالمسلمين؟
أبو بكر :
بلى.
عمر :
أوليسوا بالمشركين؟
أبو بكر :
بلى.
عمر :
فعلام نعطي الدنية في ديننا؟
أبو بكر :
يا عمر، الزم غرزه؛ فإني أشهد أنه رسول الله.
عمر :
وما شككت منذ أسلمت إلا الساعة!
ويشرح السهيلي معقبا على قولة عمر، التي لم تحوله إلى منافق كما هي العادة مع المعترضين والشكاكين:
وفي هذا أن المؤمن قد يشك، ثم يحدد النظر في دلائل الحق، فيذهب شكه، وقد روي عن ابن عباس أنه قال: هو شيء لا يسلم منه أحد.
19
وأمام شك رجل في وزن عمر، وهو من هو، وهو وزير الرسول، وهو الذي عز به الإسلام، جاء الوحي ليقطع الشك باليقين الصادق مؤكدا:
لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق (الفتح: 27).
و
إنا فتحنا لك فتحا مبينا (الفتح: 1).
ومع تأكيد الوحي أن الرؤيا قد صدقت، وأن كتاب الصلح كان فتحا مبينا، كان يفترض أن يهدأ الأمر ويستكين، لكن بعض صحابة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كان لهم رأي آخر؛ «فقال رجل من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم : ما هذا بفتح؛ لقد صدونا عن البيت، وصد هدينا. ورد رسول الله رجلين من المسلمين كانا قد خرجا إليه، فبلغ رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قول أولئك فقال: «بئس الكلام، بل هو أعظم الفتح.»
20
ومن ثم يثني ابن هشام موضحا ما حدث من لبس عند الصحابة، فيقول: «إن بعض من كان مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال له لما قدم المدينة: ألم تقل يا رسول الله إنك تدخل مكة آمنا؟ قال: بلى. أفقلت لكم من عامي هذا؟ قالوا: لا. قال: فهو كما قال لي جبريل عليه السلام.»
21
ونعود إلى المسلمين وهم في كربهم إبان كتابة الصحيفة الرسمية في اتفاق هدنة ومصالحة، لنرى النبي بعد توقيعات الشهود يقوم ينادي رجاله لاستكمال شعائر العمرة التي لم تتم، قائلا: «قوموا فانحروا ثم احلقوا.» ليقول لنا ابن الأثير إن الناس جميعا قد تعصبوا على رسول الله، في قوله: «فما قام أحد، حتى قال ذلك مرارا، فلم يقم أحد منهم، فدخل على أم سلمة فذكر لها ذلك، فقالت: يا نبي الله، اخرج ولا تكلم أحدا منهم، حتى تنحر بدنك وتحلق شعرك. ففعل. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وحلقوا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما.»
22
ويقول ابن هشام إن النبي «قدم إلى هديه فنحره، ثم جلس فحلق ... فرأى الناس أن رسول الله قد نحر وحلق، فوثبوا ينحرون ويحلقون ... عن ابن عباس قال: حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون. قال رسول الله: يرحم الله المحلقين. قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: يرحم الله المحلقين. قالوا والمقصرين يا رسول الله؟ قال: والمقصرين. فقالوا: يا رسول الله، فلم ظاهرت بالترحيم للمحلقين دون المقصرين؟ قال: لم يشكوا.»
23
أما الرجل الآخر الذي جاء النبي مسلما فرده إعمالا لبنود الهدنة، فهو أبو بصير بن عتبة، حيث هرب إلى يثرب ولحق بالرسول
صلى الله عليه وسلم
فكتب فيه للنبي الأزهر بن عوف والأخنس بن شريق، وبعثا بالكتاب رجلا من بني عامر ومعه مولى له، يطلبون رد أبي بصير، فرده معهما، لكن ما إن غادروا يثرب حتى انتهز أبو بصير فرصة أخذ فيها سيف العامري وقتله، وعاد للنبي يقول: «يا رسول الله وفيت ذمتك، وأدى الله عنك. أسلمتني بيد القوم، وقد امتنعت بديني أن أفتن فيه، أو يعبث بي.» وغادر أبو بصير مجلس النبي ميمما خارج يثرب نحو الساحل، على طريق تجارة قريش، ليتبعه النبي بقوله يردد:
ويل أمه محش حرب،
لو كان معه رجال.
وبلغت كلمات النبي المستضعفين بمكة «لو كان معه رجال» فخرج إليه نحو سبعين رجلا من المستضعفين يقطعون تجارة قريش، يقتلون رجالها ويسلبون ما فيها، حتى اضطرت قريش أن تكتب للنبي تسأله فيها بصلة الرحم أن يأوي أبا بصير ورجاله في يثرب، وأنها لا حاجة لها بهم، فعادوا إلى يثرب بموافقة مكة، ورغم بنود عهد الهدنة.
24
ولم يكن ذلك أول كسر لبنود صحيفة الهدنة، وهو وإن تم برضا قريش، فهو رضا المكره، وكان بتحريض من النبي، لكن حدثت كسور أخرى، عندما هربت أم كلثوم بنت عقبة إلى النبي، وخرج وراءها أخواها عمارة والوليد يطلبان ردها بموجب شروط عهد الحديبية، وببساطة تامة يقول ابن هشام عن رد النبي
صلى الله عليه وسلم : «فلم يفعل، أبى الله ذلك.»
25
فالله هو الذي أبى وليس النبي، بدليل الوحي القائل:
يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار (الممتحنة: 10).
ورغم تأكيد النبي، والله، أن ما حدث يوم الحديبية كان أعظم الفتح، فإن هناك من شك، وهناك من اعترض؛ ومن جانبهم رأى كتاب السير والأخبار أن يضيفوا للأمر بعض المبهرات من أحاجيهم المعتادة، فيروي البيهقي عن البراء:
كنا مع النبي أربع عشرة مئة، والحديبية بئر فنزحناها، فلم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك النبي
صلى الله عليه وسلم
فأتاها فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء ماء منها، فتوضأ ثم مضمض ودعا، ثم صبه فيها، فتركها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا نحن وركائبنا.
ومعجزة مائية أخرى، يرويها لنا الصحابي جابر في حوار له مع شعبة إذا يقول:
أتي رسول الله بماء في تور، فوضع يده فيه، فجعل الماء يخرج من بين أصابعه كأنه العيون، قال: فشربنا ووسعنا وكفانا. قلت: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا ألفا وخمسمائة.
26
ثم معجزة ثالثة حول تكثير الطعام عندما جاع الجيش في قول الصحابة للنبي:
يا رسول الله، لو انتحرنا من ظهورنا، فأكلنا من لحومها وشحومها وحسونا من المرق، أصبحنا غدا إذا غدونا عليهم وبنا جمام. قال: لا، ولكن ائتوني بما فضل من أزوادكم. فبسطوا أنطاعا ثم صبوا عليها فضول ما فضل من أزوادهم. فدعا عليها رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بالبركة، فأكلوا حتى تضلعوا شبعا، ثم لفلفوا فضول ما فضل من أزوادهم في جربهم ... عن عبد الله قال ... كنا نأكل مع النبي ونحن نسمع تسبيح الطعام.
27
نتائج الحديبية
يقول ابن الأثير عن صلح الحديبية: «فما فتح في الإسلام قبله فتح أعظم منه؛ حيث آمن الناس كلهم، فدخل الإسلام في تينك السنتين مثلما دخل فيه قبل ذلك وأكثر.»
28
ويقصد ابن الأثير بالسنتين، السنتين اللتين مرتا ما بين صلح الحديبية وبين عام فتح مكة، وهو الفتح الذي سبق وشك فيه الصحابة، وتساءلوا رغم الوحي الواضح: أوفتح هو؟ حتى اضطر سيد الخلق على القسم بالله للناس أنه فتح قائلا: «إي والذي نفسي بيده إنه لفتح.»
29
فكيف يمكن رؤية ما حدث في الحديبية باعتباره بالفعل أعظم الفتوح؟
إن قليلا من التمعن في خط سير الأحداث، سيكشف من فوره عن صلح الحديبية كفتح عظيم بالفعل، وعمل دبلوماسي من أعظم أعمال الدبلوماسية والسياسية، يستحق أن تدرسه بإمعان أكاديميات العالم العسكرية، وأنه كان بمصداقية الرسول الكريم وبلاغة الوحي الصادق، هو الباب إلى فتح الفتوح.
لو عدنا قليلا إلى الوراء نطالع تطور الأحداث بعد غزوة الخندق سنلحظ دون جهد يذكر أن خيبر بعد نزول يهود يثرب إليها بقياداتها، ودورها الذي قامت به في الخندق، قد تحولت إلى مركز قوة طالع، مع النشاط الذي لم يهدأ لليهود بين قبيلتي أسد وغطفان لتجديد الأحلاف القديمة، مع الإغراء بميرة خيبر الزراعية، ناهيك عن مفاوضاتهم لقبائل الشمال من فدك وما وراءها.
وكان وصول المعلومات إلى النبي عن خيبر أولا بأول قد كونت لديه فكرة واضحة عن تنامي قوة خيبر، بحيث دخلت توازنات القوى في الجزيرة وأصبحت مركز قوة جديد أصاب تلك التوازنات باختلال، أزاح قريشا إلى موقع خلفي، وكان معنى أن تترك خيبر تتنامى دون تدخل يحد من ذلك التطور، فهو ما كان يعني أن المدينة سوف تصبح بين طرفي معادلة شديدة الخطورة؛ فخيبر في الشمال مع أحلافها، وقريش في الجنوب، وأي تحالف ثنائي بين خيبر وقريش كما حدث في الخندق كان كفيلا بتهديد حقيقي لدولة يثرب.
ومن ثم كانت عمرة الحديبية التي وعى مؤرخونا أهدافها فأسموها غزوة الحديبية، حيث كان النبي قد توجه نحوها بعسكره مسلحين مدرعين ملبسين بالسلاح، لكنه عندما التقى ببديل بن ورقاء الخزاعي حمله إلى قريش رسالة واضحة تقول:
إننا لم نجئ لقتال أحد،
ولكننا جئنا معتمرين.
وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأخذت بهم؛
فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس،
وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا،
وإلا فقد حموا.
وإن هم أبوا،
فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي أو لينفذن الله أمره.
30
وهكذا أعلن النبي لقريش أنه يعلم بحالتها المنهكة والمتردية، وأنه مع ذلك يعرض عليها من الخيارات ثلاثة: أولاها هدنة محددة المدة؛ وكي يدفعهم لقبول الهدنة، أرفق بخيار الهدنة خيارات أخرى أشد قسوة عليهم، وجاءهم بقوة مسلحة قادرة، ولم يعلن لأصحابه أبدا الرغبة في الهدنة بل وعدهم بالفتح، حتى يظهروا أمام قريش وسفاراتها إليهم في أكمل استعداد للانقضاض، ولم يظهر لهم إطلاقا ما قر في ضميره لدفع قريش إلى قبول الهدنة.
وقد وضح لدينا مدى شعور قريش بالضعف، الذي ظهر في إرسالها السفراء واحدا إثر آخر. أما أبرز الشواهد على أن النية على الهدنة كانت معقودة بداخله وحده، وربما علم بها أبو بكر فقط، تتمثل في أنه سمح بتسرب الأخبار لقريش عن مسيره إليها، بقصد أن يعلموا بتحركه، ثم إعلانه ذلك صراحة لكن ضمن خيارات أخرى، مع تشديده على رجاله بإظهار القوة، ثم خطوته المحسوبة بدقة بإرسال عثمان بن عفان الأموي تحديدا برسالته إلى أهل مكة، ثم حرصه الواضح بعد ذلك لتذليل كل العقبات التي تقف أمام عقد الهدنة مع سهيل بن عمرو، مع ذلك القدر من المرونة الذي فاجأ رجاله وجعلهم يجأرون بالمعارضة والوجيعة مما يحدث.
لأول مرة يعترف الملأ المكي سادة الحجاز وأشراف العرب، أصحاب الأشهر الحرم، وأهل الله ورعاة بيته، رجال العرب المقدمون وسراتهم، لأول مرة يعترفون في عهد مكتوب وكتاب موثق بشهادات الشهود، بدولة يثرب، وبسيدها؛ اعتراف واضح من سيد لسيد أنه سيد، بل هو اعتراف من سادة العرب للسيد الجديد أنه رئيس دولة مستقلة ذات سيادة، وهو ما يعني تخلي قريش عن فكرة قيادتها وحدها للعرب، بدليل البند الخاص بترك الحرية لمن أراد أن يدخل في عقد محمد، واكتفائها بتحصين نفسها ضد مؤثراته؛ وهو الأمر الذي سمح بعد ذلك بانتشار أتباعه يدعون بين العرب، ودخول العرب في حلف يثرب بأعداد لم تشهدها الدولة من قبل. أليس ذلك إذن فتحا حقيقيا من وجهة نظر الدبلوماسية، والتكتيكات العسكرية المرحلية؟
ومن بنود الصحيفة أصبح بإمكان النبي مع رجاله أن يزوروا مكة أياما ثلاثة، وهو أمر شديد الخطورة؛ حيث سيكون بإمكان أهل مكة أن يروا بنيانه ودولته ورجاله عن قرب مما يتيح لهم المقارنة والفهم.
كما أدت الحديبية إلى تفكك المجتمع المكي وانهيار مقاومته النفسية بعد تدهور قناعة أهل مكة بإمكان استمرار وضع قريش السيادي؛ ومن ثم دخل رجالهم المقدمون في دين الله، وكان أبرزهم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة.
كان اليهود يشكلون في بداية الأمر مطمحا لدعوة الإسلام؛ للانضواء تحت لوائها واتباع صاحبها، لكن بمضي الوقت تكشف لليهود وللنبي
صلى الله عليه وسلم
اختلاف توجهاتهم بل وتضاربها، وكان استمرار وجود اليهود في يثرب على يهوديتهم يشكل شرخا عميقا في بناء دولة قامت على أيديولوجيا دينية واحدة موحدة؛ وعليه فقد كانوا عقبة كأداء بحسبانهم أصحاب كتاب من ذات المصدر السماوي الذي يأتي منه الكلم القرآني، وكان مفترضا أن يكونوا مصدقين لما أتى محمد من آي الكتاب القرآني، لكنهم إطلاقا لم يعترفوا له بهذه الصلة مع السماء، وكان رأيهم باعتبارهم أصحاب الكتاب الأول هو العامل الحاسم لدى العربان في مدى صدق علاقة الآي القرآني بالسماء، لكن وجودهم في يثرب وعدم اتباعهم دعوة النبي الدينية حمل للعربان إشارات واضحة ودلالات بإنكارهم عليه تلك النبوة، فكانوا المنكر السماوي القائم في الواقع العربي للوحي القرآني؛ وهو ما أدى إلى بدء صراع طويل معهم انتهى بطردهم من يثرب، وطردهم من رحمة الإله بعدما كانوا عنده أفضل العالمين، وتم أثناء ذلك إزاحة رموزهم الدينية إلى الوراء، فحلت الكعبة المكية محل أورشليم، وعاد النبي إلى تمجيد المعبد الذي قدسه الجاهليون طوال عصورهم الجاهلية، وهي العودة التي صحبت باحترام ذلك البناء المكي المتواضع هندسيا ومعماريا، وإلقائه في رحم تاريخ أقدم يعود به إلى زمن آدم ثم إبراهيم فإسماعيل. وهو التحول الذي لفت انتباه قريش، حيث بدأت تلحظ ما يمكن أن يتحقق لها مع محمد وبه، وهم يرونه نتيجة الخندق يتخلص من آخر يهودي بيثرب، ليتحول تماما مع غزوة الحديبية إلى المشاعر العربية القرشية المكية، فيهل بالمناسك الأولى التي هي مناسكهم وأعرافهم التي تواضعوا عليها. ثم لا شك يتذكرون قول عتبة بن ربيعة حكيمها المقدم، وهو يقول لهم منذ زمان قبل أن يواريه ثرى بدر: «أطيعوني وخلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن للذي سمعت منه نبأ؛ فإن أصابته العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن ظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به.»
والمقصد من هذا كله أن عقلاء مكة، قد أصبحوا الآن يرون ما لم يكن بإمكانهم رؤيته من قبل، خاصة بعد أن وجه أنظارهم لما ينتظرهم من أمجاد، بغزواته على حدود الروم فيما بين 626 و629. وجلى لديهم أنهم فقط بالاتفاق السلمي والتسليم له ولقيادته، يمكنهم المحافظة على مكانتهم وأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، والخروج معه إلى الدنيا الرحبة، خاصة بعد أن رأت النبي
صلى الله عليه وسلم
يفتح لها الأبواب ويعد لها المواقع في منظومة دولته سياسيا ودينيا واقتصاديا ومجتمعيا.
وكان اعتراف النبي لقريش بقواعد التعامل مع البيت المكي الحرام، وبالعمرة، وبالنسق الديني الجاهلي المتعلق بالكعبة، بلاغا واضح المعاني والمعالم بخطواته التوفيقية الجديدة؛ ومن ثم تصرف النبي في الحديبية بحنكة ومهارة رجل السياسة وسائس الدولة الدبلوماسي، وهو ما لم يفهمه المسلمون الصحابة لأول وهلة، بينما كان عروة بن مسعود يعود يعلن لقريش قبيلة النبي أن ولدهم قد أصبح ملكا لا تدانيه ملوك الأرض، وأنه ما رأى ملكا مثله قط، وهي مجموعة المتوافقات التي أدت خلال الهدنة، بل خلال أشهر قليلة، إلى اندفاع العربان وجند قريش إلى سيد الدولة اليثربية، يعلنون الطاعة والإسلام، وعلى رأسهم خالد بن الوليد، الجندي الحاذق الذي سيصبح سيف الدولة وسيف الله، وعمرو بن العاص داهية العرب ورجل السياسة الذي لا يشق لمكره غبار، وغيرهم ممن شكلوا من بعيد قيادات العسكرتاريا العربية.
وتأسيسا على ما أدت إليه الحديبية من اعتراف سادة العرب لمحمد بالسيادة، مع الاعتراف الواضح بدولته، صنع الرسول لنفسه وللدولة خاتما رسميا؛ ليصدق به على رسائله الرسمية للعالم، التي بدأت تفد على الملوك والقياصرة ممهورة بخاتمه، يدعوهم فيها إلى اتباعه، ووصلت تلك البعوث الأولى من العرب إلى الدنيا تعلن النجاشي والمقوقس وعظيم الروم وكسرى فارس بقيام دولة جديدة على خريطة عالم ذلك الزمان.
أما النتيجة الأهم إطلاقا وتتشابك مع كل الأسباب والنتائج، فهي أن النبي قد تمكن بصلح الحديبية من تأمين خطوطه الخلفية من أي تحرك معاد تقوم به قريش، ومع انهيار قريش توجه النبي إلى مركز القوة الصاعد، إلى خيبر.
فتح خيبر
الله أكبر! خربت خيبر. إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين.
النبي
صلى الله عليه وسلم
وأثابهم فتحا قريبا ... وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها (الفتح: 18-21).
وهذا وعد آخر بفتح قريب، تليه فتوح أخرى مقبلة لم يتمكن المسلمون منها، لكن الله يمهدها لهم، فيحيط بها ويجهزها للفتح، حيث يبدو أن الأتباع لم يعجبهم ما حدث بالحديبية، ولم يدركوا مرامي العهد البعيدة، وأفصح بعضهم عن أن النبي لم يحقق لهم في الحديبية ما وعدهم به سلفا، ومع تأكيده لهم أن ما تم من عقد صلح الهدنة كان فتحا عظيما، فإن رؤاهم قصرت عن تتبع البصيرة النبوية وهي تعمل في الآتي؛ ومن هنا جاءت تلك الآيات بوعد جديد، يعوض المسلمين عن فتح مكة ويثيبهم بدلا عنها بفتح آخر قريب، إضافة لفتوحات أخرى أعظم حاولوها ولم يقدروا عليها؛ ومن ثم عقب الحكم على الآيات بقوله:
أخبرني عبد الرحمن بن أبي ليلى في قوله:
وأثابهم فتحا قريبا ، قال: خيبر.
وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها ، قال: فارس والروم.
1
وعقب موسى بن عقبة بقوله: «لما رجع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من الحديبية، مكث عشرين يوما أو قريبا من ذلك، ثم خرج إلى خيبر، وهي التي وعده الله إياها.» أما مروان والمسور فقد قالا: «انصرف رسول الله عام الحديبية، فنزلت عليه سورة الفتح بين مكة والمدينة.»
2
وهو الأمر الذي يفصح عن معرفة القائد بدواخل رجاله، وضرورة الإسراع بما يعوضهم بغنائم فورية، عوضا عن أملهم الطموح في ثروات مكة العظمى، وهو ما وعاه البيهقي وهو ينقل عن الرواة القول:
انصرف رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عام الحديبية، فنزلت عليه سورة الفتح فيما بين مكة والمدينة، فأعطاه الله عز وجل فيها خيبر.
وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها،
فعجل لكم
هذه خيبر.
3
وفي الطريق إلى خيبر، كانت غطفان بثقلها، تلك القبيلة الفزارية التي يقودها الطماع الأحمق المطاع، الذي خذل في اتفاقه السري بالخندق، وتم التخذيل بين الأحزاب دون أن يجني لطمعه مغنما، وعاد صفر اليدين، فلا هو حارب برجاله مع قريش فغنم، ولا هو عاد من محمد بما اتفقا عليه من مكاسب.
ومن ثم كانت خطة القائد أن ينزل الرجيع ليقطع بين غطفان وخيبر، وكان توقع القائد صائبا؛ فقد جهزت غطفان رجالها لما سمعت بمسير جند الله لتظاهر خيبر ضد الجيش الإسلامي. وهنا، وما إن تحرك رجال غطفان نحو الرجيع حتى سمعت مؤخرة جندهم ضجيجا خلفهم، في بيوتهم، وجلبة شديدة، فعاد رجال غطفان سراعا إلى ديارهم؛ خوفا على أموالهم ونسائهم وذراريهم، لكن كتبنا الإخبارية لا تحيطنا علما شافيا وواضحا بحقيقة ما حدث في ديار غطفان مما أجبرها على لزوم ديارها.
4
المهم، وما يجب استنتاجه، أن غطفان لزمت ديارها بعد خطة مقدرة ومحكمة أجبرتها على عدم الحركة، ليستمر الجيش اليثربي في تقدمه الوئيد الهادئ الكامن، يسير ليلا ويكمن نهارا، يستخفي حتى يبغت خيبر فجأة في حصونها وصياصيها. ويصل جند الله سارين دون صوت عند سدول الليل، يحيطون بالحصون دون أن يصدروا صوتا أو يشعلوا نارا، حتى تبدأ خيوط الفجر تضيء المزارع حول الحصون. ويخرج مزارعو خيبر كعادتهم مع إشراقة الصباح، يسحبون ماشية الحرث والسكك والفئوس، لكن ليلمح أحدهم الخوذ والدروع المتحركة، ويلمحهم آخر كامنين بين الزروع، ليكتشف مزارعو خيبر الدوائر المحكمة تحيط بهم من كل جانب، فيرجعون يدفعهم الفزع صارخين نحو حصونهم:
محمد، والخميس معه.
ليجاوب صراخهم الفازع هتاف النبي في رجاله معلنا بدء الهجوم.
الله أكبر!
خربت خيبر.
إنا إذا نزلنا بساحة قوم،
فساء صباح المنذرين.
5
كانت خيبر أرض زرع وسط بدو جياع، خبرت غدر العربان وإغاراتهم المتكررة وقت نضوج المحصول، عندما كانوا يهبطون عليها كالجراد ينهبون عرق الشهور والتعب والجهد؛ وهو ما دعا الخيابرة إلى إقامة عدد من الحصون القوية والصياصي، لصد تلك الغزوات البربرية، لكن التجربة الجديدة مع الجيش الإسلامي المنظم، أثبتت أنهم ليست مانعتهم حصونهم، فتدنى المسلمون يفتتحون الحصون حصنا حصنا، ليسقط حصن ناعم، وعنده يستشهد الصحابي محمود بن مسلمة، عندما ألقت عليه امرأة خيبرية رحاها من على سور الحصن، ثم حصن النطاة ليسقط بعده حصن الشق، ويهرب سكان كل حصن إلى الحصن الذي يليه، حتى يتحصنوا جميعا في الحصون الخمسة الباقية، الأخبية والوطيح والسلالم والقموص والكتيبة.
ويظن الخيابرة أنهم باتوا في أمان، فيرفضون النداء المردد حولهم بالخروج من الحصون مستسلمين، ليمر أربعة عشر يوما من الحصار، انتهى بعدها النبي إلى قرار يتم تنفيذه لأول مرة في بلاد العرب، هو الأمر بإقامة المنجنيق لدك الحصون؛ ذلك السلاح الذي كان قاصرا على جيوش الإمبراطوريات. وأيقن المتحصنون بالهلاك، وأنه لو ضربها بالمنجنيق لدكها دكا، وآل مصير البقية الباقية إلى مآل قريظة.
وما إن يشاهد المتحصنون فوق أسوارهم شكل العمل الذي يتم تحتهم في العراء، وطبيعته، حتى يدركوا أنها أيام حتى ينتصب السلاح الرهيب. وهنا يخرج من الحصن تحت راية السلام زعيمهم كنانة بن أبي الحقيق، حاملا للنبي صلحا على شروط صلح النضير؛ أن يغادروا بلادهم، ويتركوا للنبي أموالهم وحصونهم وأرضهم، لا يأخذون معهم لا صفراء ولا بيضاء، اللهم إلا ما يستر العورة من لباس؛ فقط نظير أن يحقن النبي
صلى الله عليه وسلم
دماءهم، ووافق النبي، وهو ما نقله ابن كثير عن الواقدي وهو يروي:
فنزل إليه ابن الحقيق، فصالحه على حقن دمائهم ويسيرهم، ويخلون بين رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وبين ما كان لهم من الأرض والأموال والصفراء والبيضاء والكراع والحلقة، على البر، إلا ما كان على ظهر الإنسان يعني لباسهم.
6
ثم يردف:
فنزلوا من شدة رعبهم منه فصالحوه، وأموال بني النضير المتقدم ذكرها، مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، فكانت هذه الأموال لرسول الله خاصة.
7
لكن الصلح بهذه الشروط الواضحة لم يسر حتى كمال اكتماله، فقد أضاف النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى الشروط شرطا آخر حول الأموال حين قال:
وبرئت منكم ذمة الله ورسوله، إن كتمتم شيئا.
فصالحوه على ذلك.
8
أو ما جاء عند ابن سعد برواية ابن عباس، في سؤال النبي
صلى الله عليه وسلم
للزعيم الخيبري المرعوب كنانة بن أبي الحقيق، وأخيه الربيع:
أين آنيتكما التي كنتما تعيرانها أهل مكة؟
ويرتبك الزعيم المهزوم، ويجف حلقه وهو يقول متلعثما: «هربنا فلم تزل تضعنا أرض وترفعنا أخرى، فذهبنا، فأنفقنا كل شيء.» فيرد النبي
صلى الله عليه وسلم :
إنكما إن كنتما تكتماني شيئا فاطلعت عليه، استحللت دماءكما وذراريكما.
فقالا: نعم.
9
وهنا نعلم أنه كان شركا وقع فيه الزعيمان حيث نعلم أن النبي كان يعلم سلفا بأمر كنز عظيم، بل كان يعلم بمكانه، حيث يقول ابن سعد: «إن الله قد دل رسوله على ذلك الكنز.»
10
بينما يوضح لنا ابن هشام في سيرته، سر معرفة الرسول بالكنز المخبوء، في قوله:
أتى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
رجل من يهود فقال لرسول الله
صلى الله عليه وسلم :
إني قد رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة.
وهو ما دفع النبي للشرط السابق ذكره، والذي أورده ابن هشام في قوله:
فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لكنانة:
أرأيت إن وجدناه عندك، أأقتلك؟
قال: نعم.
11
وهنا نتابع من ابن سعد، الذي لم يعلم بأمر ذلك اليهودي الذي باع قومه وأفشى سر الكنز العظيم، مما دعا ابن سعد لاعتبار معرفة النبي بأمر الكنز خبرا إلهيا، فنجده يقول في روايته متابعا:
فدعا النبي
صلى الله عليه وسلم
رجلا من الأنصار فقال: اذهب إلى قراح كذا وكذا، ثم ائت النخل فانظر نخلة على يمينك أو عن يسارك، فانظر نخلة مرفوعة، فأتني بما فيه. فانطلق، فجاء بالآنية والأموال.
12
والآن وقد كشف خداع الرجلين، وجيء بكنزهم للنبي، توجه النبي إلى كنانة مرة أخرى يسأله ما بقي من كنزه، فأنكره.
فأمر به رسول الله الزبير بن العوام فقال: «عذبه حتى تستأصل ما عنده.»
فكان الزبير يقدح بزند في صدره، حتى أشرف على نفسه.
ثم دفعه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى محمد بن مسلمة، فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة.
13
وانطلق السيف الإسلامي يعمل في المستسلمين، ليقتل منهم في قول ابن سعد «ثلاثة وتسعين رجلا من يهود، منهم الحارث أبو زينب، ومرحب، وأسير، وياسر، وعامر، وكنانة بن أبي الحقيق، وأخوه، وإنما ذكرنا هؤلاء وسميناهم لشرفهم.»
14
وكان تبرير تلك المقتلة واضحا لكل ذي عينين، وهو ما ألح ابن كثير على شرحه وبيانه في قوله:
قلت: ولهذا لما كتموا وكذبوا وأخفوا ذلك المسك الذي كان فيه أموال جزيلة،
تبين أنه لا عهد لهم!
فقتل أبي الحقيق، وطائفة من أهله، بسبب:
نقض العهود والمواثيق!
فقتل رسول الله ابني أبي الحقيق،
وأحدهما زوج صفية بنت حيي بن أخطب.
وسبى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
نساءهم وذراريهم وأموالهم؛
بالنكث الذي نكثوه.
وأراد إجلاءهم عنها، فقالوا:
يا محمد، دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها. ولم يكن لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
ولا لأصحابه غلال يقومون عليها، وكانوا لا يفرغون أن يقوموا عليها، فأعطاهم خيبر، على أن لهم الشطر من كل زرع ونخيل.
15
وهكذا، وبعد المقتلة التي نتجت عن نقض العهود من زعماء خيبر، رأى من بقي منهم أن يقترحوا على النبي أمرا آخر، هو أن يظلوا في أرضهم يزرعونها يفلحونها ويستخرجون خيراتها، بدلا من مغادرتهم وخراب الأرض وبوارها من بعدهم، على أن يظلوا على دينهم دون تبعية دينية، لكن مع تبعية خراجية، يعطون بموجبها ليثرب شطر محصولهم، مع شرط تنبيهي من النبي، يقول لهم مردفا:
على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم.
16
وبانتهاء المعركة وبعد هذا الاتفاق، جاء دور السبايا وتقسيم الأموال؛ فأما الأموال التي أوجف عليها المسلمون بالخيل والركاب، فقد قسمت بينهم، أما التي استسلمت وعقدت الاتفاق، فعائدها كان خاصا لرسول الله، أما السبايا فقد تم تقسيمهن بين المقاتلين من جند الله.
ويؤكد لنا رواة السير والأخبار جميعا، أن غزوة خيبر قد فشا فيها إتيان المسلمين لنساء يهود على ملأ، ففشت السبايا الخيبريات في المسلمين، إلى الحد الذي دفع النبي لوقف اغتصاب النساء الحبالى، يناشد رجاله بندائه الراقي الرحيم:
لا يحل لامرئ أن يسقي ماءه زرع غيره.
17
وكان النبي قد قتل كنانة بن أبي الحقيق، زوج صفية بنت حيي بن أخطب سيد النضير، وكان قد سبق وقتل أباها حييا في مذبحة قريظة؛ لذلك، وحتى لا ينصرف ذهن كائد للإسلام ونبيه الكريم، إلى أن قتل زوجها كنانة، كان للاستيلاء على صفية، فإن كتب الأخبار تأتي هنا واضحة لا تحمل في خبرها لبسا ، فتعلمنا أن النبي لم يعلم بجمال صفية بنت حيي زوجة كنانة، إلا بعد أن قتل زوجها بالفعل، لنقضه العهود والمواثيق، وتتفق جميعا حول رواية أنس بن مالك الذي قال:
قدمنا خيبر، فلما فتح
صلى الله عليه وسلم
الحصن،
ذكر له جمال صفية بنت حيي بن أخطب،
وقد قتل زوجها،
وكانت عروسا.
فاصطفاها لنفسه.
18
وقد قدرت الأقدار، أن تحظى صفية بالإكرام، فتحظى بسيد الخلق أجمعين
صلى الله عليه وسلم ، رغم أنها بنت عدو الله حيي بن أخطب، الذي حزب الأحزاب، وزوج زعيم يهود خيبر كنانة بن أبي الحقيق، الذي نقض العهود والمواثيق، بعد اتفاقه السلمي مع النبي، وهو ما يشرحه أنس في قوله:
جمع السبي،
فجاء دحية الكلبي فقال: يا رسول الله، أعطني جارية من السبي.
قال: اذهب فخذ جارية.
فأخذ صفية بنت حيي،
فجاء رجل إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فقال:
يا نبي الله، أعطيت دحية صفية بنت حيي سيد قريظة والنضير؟ ما تصلح إلا لك!
قال: ادعوا بها. فلما نظر إليها
صلى الله عليه وسلم ،
قال: خذ جارية من السبي غيرها.
19
وفي رواية أخرى أن دحية الكلبي صديق النبي، تم تعويضه عن صفية بسبعة رءوس دفعة واحدة، وهو ما أخبرنا به ثابت في قوله: «وقعت صفية في سهم دحية، وكانت جارية جميلة، فاشتراها رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بسبعة رءوس، ودفعها إلى أم سليم تصنعها وتهيئها.»
20
وما إن ارتحل الجيش عن خيبر، حتى أناخ في سد الصهباء في الطريق إلى يثرب، وضربت للنبي وصفية قبة، ظل فيها النبي معها من الأيام ثلاثة، أو بتعبير ابن كثير:
وأقام ثلاثة أيام يبني بها.
وكانت التي جملتها إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ومشطتها وأصلحت من أمرها أم سليم بنت ملحان، أم أنس بن مالك.
21
ويروي البيهقي:
وقد بات أبو أيوب ليلة دخل بها رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قائما قريبا من قبته.
ولما خرج الرسول من القبة سأله عن طوافه حول القبة كل ذلك الوقت، فرد أبو أيوب مفصحا عن مدى إخلاص الرجال لصاحب الدعوة:
لما دخلت بهذه المرأة،
وذكرت أنك قتلت أباها وأخاها وزوجها،
وعامة عشيرتها،
فخفت لعمر الله أن تغتالك.
22
وهو الأمر الذي يجد صداه فيما أفصح عنه لسان صفية عندما آلت إلى النبي في قولها: «كان رسول الله من أبغض الناس إلي، قتل زوجي وأبي، فما زال يعتذر إلي ويقول إن أباك ألب علي العرب، حتى ذهب ما بنفسي.»
23
أحداث في خيبر
وفي خيبر أحداث حدثت، تفصح عن كثير مما في النفوس من مكامن، وتكشف عما في العقول من مفاهيم؛ فهذه صفية تصفو للنبي ويزول ما بنفسها من بغض له، لتخبره وهو يبني بها داخل القبة برؤيا رأتها، يأتينا خبرها في قص البيهقي علينا:
أقام رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بين خيبر والمدينة ثلاث ليال يبني بصفية ... ورأى
صلى الله عليه وسلم
بعين صفية خضرة، فقال: يا صفية ما هذه الخضرة؟ قالت: كان رأسي في حجر ابن أبي الحقيق وأنا نائمة، فرأيت القمر زال من مكانه فوقع في حجري، فأخبرته بذلك، فلطمني وقال: وقال: «تمنين ملك يثرب؟!» أو: «تمنين هذا الملك الذي بالمدينة؟!»
فأعجب الرسول
صلى الله عليه وسلم
برؤياها.
24
وهو الرد الذي يعبر عن رؤية العرب آنذاك للنبي كملك على يثرب، أو رؤيتهم الأوسع لما هو آت، في صياغة ابن هشام لرد كنانة على زوجته صفية:
ما هذا إلا لأنك تمنين ملك الحجاز محمدا.
25
وهو ما أعجب ابن كثير فطرب له وهو يوصف رؤيا صفية في قوله: «فسألها ما شأنها؟ فذكرت له ما كانت رأت من تلك الرؤيا الصالحة رضي الله عنها وأرضاها.»
26
ومفهوم كنانة بن أبي الحقيق، ومفهوم صفية بنت حيي عن النبوة بحسبانها ملكا، هو الفهم الطبيعي الناشئ عن تأسيس دولة للعرب في يثرب، وهي رؤية واضحة من صفية تتفق مع مفاهيم توراتها، قبل أن تعاشر النبي وتعرف معنى النبوة الحقة، فهي لا تعلم حسب مأثورها الديني سوى الملك، كملك داود، وملك سليمان وغيرهما، أما أنبياء التوراة فكانوا مجرد دراويش، وما يفعله محمد هو بالمطابقة فعل داود وسليمان عندما وحدا قبائل البدو في دولة تأسيسية في فلسطين، وفي ضوء هذا الفهم يلتقي تجريد الكتائب والجيوش مع أساليب ملوك التوراة، وهو الأمر الذي ترك في نفسها في مبدأ الأمر بغضا شديدا لذلك الملك الذي حلمت به، وزادها بغضا ما رأته يفعل بقومها إزاء إخفائهم أمر كنزهم عنه، ويروي ابن هشام مشهدا لا شك كان ذا أثر عميق في نفس صفية، حيث يقول نقلا عن ابن إسحاق:
ولما افتتح رسول الله
صلى الله عليه وسلم
القموص، حصن بني الحقيق، أتي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بصفية بنت حيي بن أخطب وبأخرى معها فمر بهما بلال، وهو الذي جاء بهما، على قتلى من قتلى يهود، فلما رأتهم التي مع صفية، صاحت، وصكت وجهها وحثت التراب على رأسها، فلما رآها رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، قال: أغربوا عني هذه الشيطانة.
وأمر بصفية فحيزت خلفه،
وأبقى عليها رداءه.
فعرف المسلمون أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قد اصطفاها لنفسه، وقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لبلال: أنزعت منك الرحمة يا بلال، حتى تمر بامرأتين على قتلى من رجالهما؟
27
وهكذا كان الرسول ينبه هذا وينهى ذاك، ويحاول رفع القسوة وانعدام الرحمة، ويمنع نكاح الحبالى من النساء، ومع ذلك ظلت هناك مظاهر للقسوة تنبو هنا وتطفو هناك، مثلما حدث مع محمد بن مسلمة الذي لم يكتف بقتل كنانة أبي صفية ثأرا بأخيه محمود الذي ألقيت عليه الرحى، حيث يقول الواقدي: «إن محمد بن مسلمة ضرب ساقي مرحب فقطعهما، فقال مرحب: أجهز علي يا محمد. فقال محمد: ذق الموت ذق، كما ذاقه أخي محمود.» وظل الرجل على حاله يعاني لولا أن مر عليه الإمام علي ففصل رأسه عن جسده رحمة به.
28
ومن الجدير بالذكر أن الرواة اختلفوا في أمر صفية؛ هل ظلت محظية ضمن جواري الرسول أم تزوجها لتصبح من أمهات المؤمنين، خاصة أنه قد بنى بها ولم تكمل عدتها؟ لكن تميل الأغلبية إلى أنه أعتقها وتزوجها، وهو ما جاء في الشاهد: «قال حماد: قال عبد العزيز لثابت: يا أبا محمد، أنت قلت لأنس ما أصدقها؟ قال: أصدقها نفسها. فحرك ثابت رأسه كأنه صدقه.»
29
بمعنى أنه تزوجها بدليل أنه أعطاها صداقا، وأن هذا الصداق كان عتقها ولكن ... «كأنه صدقة»؟!
ولا يمضي من الزمن هنيهات وأيام، حتى يحدث أمر جلل، حيث كانت محاولة اغتيال سيد الخلق بالسم، وهو ما جاء في رواية تقول:
دخل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
على صفية، ومعه بشر بن معرور، وهو أحد بني سلمة، فقدمت إليهم الشاة المصلية، فتناول رسول الله الكتف وانتهش منها، وتناول بشر عظما وانتهش منه.
30
ويلوك النبي نهشته من لحم الكتف، ليلفظه بسرعة ويهتف بضيوفه: «ارفعوا أيديكم فإن كتف هذه الشاة يخبرني أنه مسموم.» فلم يقم بشر من مكانه حتى عاد لونه كالطيلسان، ويموت بشر من نهشته، ويشعر النبي بآثار السم القاتل تسري في بدنه، فيحتجم يومئذ، وقد حجمه مولى بني بياضة بالقرن والشفرة، وبقي رسول الله بعده ثلاث سنين، حتى كان وجعه الذي توفي فيه، فقال: «ما زلت أجد في الأكلة التي أكلت من الشاة يوم خيبر عددا، حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري.» فتوفي رسول الله شهيدا. قال ابن هشام: الأبهر هو العرق المعلق بالقلب ... فكان المسلمون يرون أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قد مات شهيدا، مع ما أكرمه به الله من النبوة.»
31
ثم نعلم من كتب الأخبار والسير والتاريخ، أن تلك الشاة المسمومة، جاءت صفية هدية من قريبة يهودية لها هي زينب بنت الحارث أهدتها لها لتقدمها إلى سيد الخلق المصطفى، ولما سألها النبي لم اقترفت ذلك العمل الشنيع؟ قال: «قتلت أبي وعمي وزوجي وأخي.» قال القاضي عياض: واختلفت الآثار والعلماء؛ هل قتلها النبي
صلى الله عليه وسلم
أم لا؟»
32
ورغم أن غزوة خيبر كانت ناجحة بكل المقاييس، إلا أن رواتنا لم يعودوا بقادرين على تجاوز منهجهم الإعجازي، في إلحاق كل حدث بمعجزات مناسبة، ونموذجا لذلك ما روته الأخبار عما حدث أمام أحد حصون خيبر في رواية ابن كثير حيث يقول:
فتراموا ... حتى أصاب نبلهم بنان النبي
صلى الله عليه وسلم ، فأخذ عليه السلام كفا من الحصى فرمى حصنهم، فرجف بهم حتى ساخ في الأرض، وأخذهم المسلمون أخذا باليد.
33
من غير أن يدرك ذلك الراوية أن هذا الحل العملي، كان بديلا مناسبا عن كل ذلك الحصار الطويل وساعات المعارك وإقامة المنجنيق، وأنه كان بالإمكان في سويعات أن يرمي النبي تلك الحصى على كل حصن لينتهي الأمر بكل بساطة، ويؤمن الجميع إزاء تلك المعجزة الكبرى، وهو ما يذكرنا بحصى بدر الإعجازية.
وأحاديث أخرى عن معجزات أخرى، تبزر وسطها رواية هي بحق من اللطائف، لتعبر عن الجزاء الفوري للمؤمن بالنكاح حتى للموتى، وهو ما جاء خبره متعددا في كتب الأخبار عن الراعي الأسود الذي أسلم يوم خيبر ودخل المعركة، فقتل بحجر، وجاء الرسول ووقف أمام الشهيد الذي أسلم من لحظات، «فالتفت إليه رسول الله ومعه نفر من أصحابه، ثم أعرض عنه، فقالوا: لم أعرضت عنه؟ قال: إن معه الآن زوجتيه من الحور العين.»
34
وبينما الجيش في الطريق إلى يثرب، يأمر الرسول بالالتفاف دورة كبرى، يهبط بها بغتة على وادي القرى، وفي أربعة أيام أنهى الأمر وقسم غنائم وادي القرى على أصحابه، وعامل يهود الوادي على أرضهم بشروط خيبر، يزرعون أرضهم ويعطون نصف الناتج ليثرب، وبلغ ذلك يهود تيماء وفدك، وبينما يعرج عليهم أتوه هم بالطاعة، يصالحونه على ذات الشروط دون حروب.
35
وهكذا جاءت حصافة يهود خيبر بمنفذ لقبائل الشمال، الضاربة على مواطن الخصب، لتنجو من الذبح والدمار، فسارعت القبائل تدفع الجبايات، وتئوب لسلطان الدولة العربية معلنة الخضوع طوعا، لبرز هيكل الدولة واضحا في قواعد زراعية ثابتة، تتجاوز مفهوم الغنيمة البدوي الابتدائي، الذي كان سائدا حتى غزوة خيبر.
ثم يأتينا خبر حادث آخر يحمل أكثر من دلالة، فيعود الركب المنتصر قافلا نحو يثرب، نسمعه من الواقدي عن أم عمارة عندما قالت:
سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بالجرف وهو يقول لا تطرقوا النساء بعد صلاة العشاء . قالت: فذهب رجل من الحي فطرق أهله فوجد ما يكره، فخلى سبيلها ولم يهجر، وضن بزوجته أن يفارقها، وكان له منها أولاد وكان يحبها، فعصى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فرأى ما يكره.
36
ويتأكد ذات المعنى في رواية مثيلة عن سعيد بن المسيب قال:
لما نزل النبي
صلى الله عليه وسلم
المعرس، أمر مناديه فنادى: لا تطرقوا النساء. فتعجل رجلان، فكلاهما وجد مع امرأته رجلا.
37
ويبدو أن الأمر كان متكررا مع خروج المجاهدين، حتى قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم :
حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم، وما من رجل من القاعدين يخلف رجلا من المجاهدين في أهله، إلا نصب له يوم القيامة فقيل له: هذا خلفك في أهلك، فخذ من حسناته.
38
ولما أصبح الأمر فيما يبدو شديد الوطأة على المجاهدين، كثير التكرار، قام الرسول هذه المرة خطيبا في الناس يقول مهددا متوعدا بالنكير:
ألا كلما نفرنا غازين في سبيل الله، خلف أحدهم له نبيب كنبيب التيس يمنح أحدهم الكثبة؟
أما والله إن يمكنني الله من أحدهم، لأنكلنه عنه.
39
كانت تلك الأحداث تجري بين خيبر ويثرب، بينما مكة تحاول أن تتسمع الأخبار، يهبطها الحجاج بن علاط السلمي قادما من عند النبي، ولا يعلمون أنه من أتباعه، ليجمع أموالا له عندهم، ويحكي الحجاج قائلا:
ولم يكونوا قد علموا بإسلامي، فقالوا: الحجاج بن علاط؟ عنده والله الخبر، أخبرنا عن محمد، فإن قد بلغنا أن القاطع قد سار إلى خيبر وهو بلد يهود وريف الحجاز. قلت ... هزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط وقتل أصحابه قتلا لم تسمعوا بمثله قط، وأسر محمد أسرا. وقالوا: لا نقتله حتى نبعث إلى أهل مكة فيقتلوه بين أظهرهم بما كان أصاب من رجالهم.
فقاموا، وصاحوا بمكة وقالوا: قد جاءكم الخبر، وهذا محمد إنما تنتظرون أن يقدم عليكم فيقتل بين أظهركم. قال: قلت: أعينوني على جمع مالي بمكة، وعلى غرمائي؛ فإني أريد أن أقدم خيبر، فأصيب من نفل محمد وأصحابه، قبل أن يسبقني التجار إلى هناك.
فقاموا فجمعوا لي مالي كأحث جمع سمعت به.
وهنا يسمع العباس عم النبي وعينه على قريش بالخبر الذي أتى به الحجاج بين علاط فيهرول إلى الحجاج فزعا، لكن ليهمس له الحجاج سرا:
احفظ علي حديثي يا أبا الفضل، فإني أخشى الطلب ثلاثا، ثم قل ما شئت، فإني والله تركت ابن أخيك عروسا على بنت ملكهم؛ يعني صفية بنت حيي، ولقد افتتح خيبر وانتثل ما فيها، وصارت له ولأصحابه.
وفي هذه الساعة، رأى العباس أن أمر ابن أخيه قد صار أمرا، وأنه قد بات في إمكانه أن يعلن اتباعه له جهرا «حتى إذا كان اليوم الثالث، لبس العباس له حلة، وتحلق، وأخذ عصاه وخرج حتى أتى الكعبة فطاف بها، فلما رأوه قالوا: يا أبا الفضل، هذا والله التجلد لحر المصيبة. قال: كلا والله الذي حلفتم به، لقد افتتح محمد خيبر، وترك عروسا على بنت ملكهم، وأحرز أموالهم وما فيها، فأصبحت له ولأصحابه.»
40
وقد وضع هذا الإعلان القاسي قريشا ورجالها العقلاء في موقع الحيرة، فلم يعرفوا هل يحزنون لنصر محمد الذي هو عدوهم الألد، أم يفرحون وهو ولدهم وفخرهم بانتصاراته؟ لكن المؤكد أن نصر خيبر قد قوبل بحماسة قومية انتشرت في الفيافي مع أخبار السلطان العظيم لدولة الإسلام. أما الناتج المؤسسي لتلك الغزوة الكبرى فقد تمثل في قيام دولة يثرب على هيكل إنتاجي وفر لها الأسس الزراعية المستقرة في خيبر.
أما العرب الذين خذلوا النبي من مزينة وجهينة وبكر عندما دعاهم إلى الحديبية،
41
فقد أخذوا درسا من نوع يليق بهم، فتم حرمانهم من غنيمة خيبر التي وزعت فقط على من حضر الحديبية.
42
الباب الثالث
فتح الفتوح
الإسلام وقاء
الحمد لله الذي أمات أبي ولم يشهد هذا اليوم، حتى يقوم بلال ينهق فوق الكعبة.
خالد بن أسيد
وهكذا أمنت قريش بالحديبية على تجارتها، وعلى حلفائها، لكن التكوين العسكري لدولة يثرب، وقيام العسكرية فيها على المغانم، كان يتطلب دوما إيجاد المنافذ لهؤلاء الجند؛ ومن ثم استمرت سياسة السرايا العسكرية على قبائل العرب، فخرج أبو بكر على رأس سرية أغار بها فجأة على بني فزارة، ليقتل الناس على مائهم، ويغنم المال والذراري والنساء، وينفل أبو بكر فتاة غاية في الجمال ويمنحها للصحابي سلمة مكافأة له على بلائه، ويحكي سلمة كيف حصل على تلك الغادة الموصوفة بأحسن العرب، في قوله:
إنه لما اشتدت المعركة مع فزارة، نظرت إلى عنق من الناس فيه من الذرية والنساء نحو الجبل، وأنا أعدو في آثارهم، فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل، فرميت بسهم وقع بينهم وبين الجبل، فجئت أسوقهم إلى أبي بكر حتى أتيته على الماء، ومنهم امرأة من فزارة عليها قشع من أدم، ومعها ابنة لها من أحسن العرب، فنفلني أبو بكر بنتها.
فما كشفت لها ثوبا حتى قدمنا المدينة، ثم بت فلم أكشف لها ثوبا، فلقيني رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في السوق، فقال لي: يا سلمة، هب لي المرأة. فقلت: والله يا رسول الله لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوبا. فسكت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وتركني حتى إذا كان الغد لقيني رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في السوق فقال: يا سلمة، هب لي المرأة. فقلت: يا رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، والله لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوبا. فسكت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وتركني، حتى إذا كان الغد لقيني رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في السوق فقال: يا سلمة، هب لي المرأة لله أبوك. قلت: يا رسول الله ما كشفت لها ثوبا وهي لك يا رسول الله.
ويشي إصرار الرواية على أن سلمة لم يكشف لها ثوبا، أنها ستنتهي إلى رسول الله، لكن الرواية تستمر لتقول: «بعث بها رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى أهل مكة وفي أيديهم أسارى من المسلمين، ففداهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بتلك المرأة.»
1
وفي هذه الإضافة خلل واضح، حيث لم يكن في ذلك الوقت تحديدا أي أسارى من المسلمين في مكة، كما كان العقد قد وقع بالحديبية في هدنة مدتها من السنوات عشر . وتظل هذه المرأة غير المسماة بكتبنا التراثية لغزا غامضا رغم إشارة الأحداث إلى بقائها بحوزة النبي.
وبعد سرية أبي بكر إلى فزارة خرج عمر بن الخطاب على رأس سرية إلى تربة من وراء مكة، فهرب الناس وعاد عمر ورجاله إلى يثرب، ثم تلتها سرية ثالثة بقيادة بشير بن سعيد إلى بني مرة في فدك، ونزل بلادهم واستاق نعمهم لكن لتكر عليه قبائلها ويقتلوا جميع أفرادها ويهرب بشير بن سعيد إلى بيت يهودي يخفيه ويأويه ليعود بعد أيام إلى يثرب مستخفيا. فيعود النبي
صلى الله عليه وسلم
ليرسل عليهم غالب بن عبد الله الكلبي وأسامة بن زيد في سرية تالية، وهناك يدركون فرداس بن نهيك، فيشهر عليه أسامة السيف فيصرخ الرجل: أشهد أن لا إله إلا الله. ولكن أسامة ورفاقه لا يمهلونه وينزلون عليه بسيوفهم فيقتلونه.
ويحكي أسامة يقول:
فلما قدمنا على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أخبرناه فقال: يا أسامة، من لك بلا إله إلا الله؟ قلت: يا رسول الله، إنما قالها تعوذا من القتل ... فكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت يومئذ.
2
وهنا نجد عودة إلى البدء، أيام كانت الدعوة طازجة في مكة، تحمل للناس بشرى وسلاما، حيث يعود هنا الأمر يبرز بين العربان، فيستجيب له الرسول الكريم، فيعلن الأعرابي شهادته بوحدانية الإله ليأمن على حياته وماله، ليصبح ذلك الإعلان في زمن الهدنة إعلانا صريحا من سيد الدولة اليثربية، أنه يكفي للعربان الشهادة للإله بالوحدانية، والاعتراف له بأنه رسول هذا الإله؛ ليصبح للشاهد الجوار والأمان، وتصبح شهادته توقيعا معلنا على ميثاق الدولة، وبموجبها يصبح مواطنا يستحق رعاية الدولة وحمايتها، كما يصبح هو فردا في جنودها، وهي السياسة التي ستؤتي ثمارها خلال أشهر قليلة، أدت إليها مجموعة غزوات وسرايا جعلت للأمن سورا بابه الإيمان، حيث يجتمع للنبي خلال تلك الأشهر، جيش يربو على عشرة آلاف محارب.
ولم يلحظ الأتباع في مبدأ الأمر تلك العودة؛ لإيقاف الأطماع في الغنائم دون قواعد واضحة، قد تضر بالدولة بعد الاعتراف بها رسميا ضررا جسيما، فتأتي سرية أبي حدرد لتؤكد عزم النبي على التحول إلى شكل الدولة، بالشهادة لأيديولوجيتها؛ تلك الشهادة التي تعني توقيع ميثاق الانضمام إليها، وهي السرية التي حكى لنا عنها قائدها، وهو يقول:
بعثنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى أضم في نفر من المسلمين منهم أبو قتادة الحارث بن ربعي ومحلم بن جثامة بن قيس، فخرجنا حتى إذا كنا ببطن أضم مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود له، ومعه متيع له ووطب، فسلمنا عليه بتحية الإسلام فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلم بن جثامة فقتله لشيء كان بينه وبينه، وأخذ بعيره ومتاعه، فلما قدمنا على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أخبرناه الخبر.
وجاء الجواب وحيا يقرع القاتل، ويؤكد خلل رواية أبي حدرد، حيث توضح الآيات أنه لم يكن بين القاتل والمقتول شيء سوى استلابه متاعه واغتنام ما معه، رغم أن الله قد من على المسلمين بمغانم عظيمة كفتهم الناس، وأن عليهم من الآن اتباع الأمر الجديد، ليتابع أبو حدرد قائلا:
فنزل فينا القرآن:
يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا (النساء: 94).
3
عمرة القضاء
وانصرم عام على الحديبية، وجاء الموعد من العام التالي سريعا يهرع، وآن أوان مغادرة أهل مكة لمكة، ثلاثة أيام، ليدخلها المسلمون يعتمرون، ومن جانب قريش كان عليها أن تفي بعقدها؛ لتثبت لكل العرب، أنها لا زالت ذلك البلد الآمن المفتوح لمن أراد من العرب، لكنها هذه المرة تحديدا كانت تعلم يقينا أن تركها ديارها إنما عن ضعف منها، كما لا شك هي تعلم أن جميع العربان بذلك الأمر نفسه تعلم، فلم تكن تلك العمرة لأجل مزيد من الرواج التجاري، إنما كانت تنازلا واضحا ونقصا في السيادة لسيادة أخرى منافسة على ذات الدار وذات الأيديولوجيا وذات المعبد ؛ فلم يكن المعتمرون أفرادا فرادى ، إنما جيش كبير هو في النهاية ذلك الجيش المعادي الذي بدأ يتحول عن قطع الطريق إلى التطهر، نحو السيادة الدينية، حيث يخبرنا ابن سعد أن عدد المعتمرين قد وصل إلى الألفين عددا.
4
وكل تلك المعاني تفصح عنها تصرفات سيد الخلق نفسه، فيما رواه ابن عباس، أن بعض أهل مكة بقي في مكة فضولا وتطلعا ورصدا، وأن من بقي منهم في مكة:
صفوا عند دار الندوة لينظروا إليه وإلى أصحابه، فلما دخل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
المسجد اضطبع بردائه، وأخرج عضده اليمنى ثم قال:
رحم الله امرءا أراهم اليوم من نفسه قوة.
5
ولتأكيد رسالة القوة أمام عيون العربان، أمر النبي رجاله قائلا:
اكشفوا عن المناكب واسعوا في الطواف.
وهو ما عقب عليه البيهقي موضحا الداعي له:
ليري المشركين قوتهم وجلدهم.
فاستكف أهل مكة الرجال والنساء والصبيان، ينظرون إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأصحابه وهم يطوفون بالبيت.
6
وتصعق قريش مأخوذة، عندما ترى النبي، ذلك الذي حاصرها اقتصاديا وقتل أفلاذ كبدها، وفكك عرى إيلافها، وأعلن كفرانها، يسلك مسالكها وينسك مناسكها ويهل بشعائرها، فيسعى بالبيت، وبالصفا والمروة، وهو ما فاجأ الصحابة المسلمين أنفسهم؛ فما كانوا يرون أنهم بعائدين إلى شعائر الجاهلية ومناسكها، وهو ما جاء واضحا في رواية ابن هشام وهو يروي لنا المشهد النبوي داخل مكة بقوله:
ثم استلم الركن،
وخرج يهرول، ويهرول أصحابه معه، ... واستلم الركن اليماني،
ومشى حتى يستلم الركن الأسود،
ثم هرول كذلك ثلاثة أطواف،
ومشى سائرها. فكان ابن عباس يقول:
كان الناس يظنون أنها ليست عليهم؛ وذلك أن رسول الله إنما صنعها لهذا الحي من قريش ... حتى إذا حج حجة الوداع لزمها فمضت السنة بها.
7
ومن ثم لزم النبي شعائر قومه، لكنه توجها بالإعلان الجديد، واحتوائها وتضمنها في الأداء العلني لدولته النبوية ممثلا في الأذان الإسلامي؛
ولما قضى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
نسكه في القضاء، وداخل البيت لم يزل فيه، حتى أذن بلال الظهر من فوق الكعبة.
لم تسجل صحيفة الحديبية في بنودها ذلك، لكن بلالا صعد بأمر الرسول فوق كعبة قريش، ومن هناك أعلن بأعلى الصوت أداء دولة النبي العلني؛ ليعلم جميع العرب بالصيغة الإسلامية، وأهمها: أن محمدا رسول الله. لكن ليعقب من بين الواقفين بعيدا عكرمة بن أبي الحكم بقوله:
لقد أكرم الله أبا الحكم حين لم يسمع هذا العبد يقول ما يقول.
ليثني خالد بن أسيد:
الحمد لله الذي أمات أبي ولم يشهد هذا اليوم، حتى يقوم بلال ينهق فوق الكعبة.
8
ولا تمر تلك العمرة دون فرحة كبرى تأخذ بأفئدة الهاشميين، ويتقدم العباس بن عبد المطلب بإجراء يدخل السرور إلى قلب ابن أخيه نكاية في الملأ الأموي، فيزوجه ميمونة بنت الحارث شقيقة زوجته أم الفضل بنت الحارث، لينكحها وهو محرم، وهو ما تأكد في قول ابن عباس: «إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
تزوج ميمونة بنت الحارث وهو في سفره ذلك وهو حرام، وكان الذي زوجه إياها العباس بن عبد المطلب ... تزوجها وهو محرم.»
9
ومن تلك النكايات الواخزة، ما كان من أمر عبد الله بن رواحة الذي دخل مكة يحجل أمام رسول الله متوشحا سيفه يطوحه يمينا ويسارا، يسب قريشا، وينعتها بالكفر داخل ديارها، مهددا بالقتل وسفك الدم لمن لا يعترف بسيادة النبي، وهو يرتجز قائلا:
خلوا بني الكفار عن سبيله
أنا الشهيد أنه رسوله
قد أنزل الرحمن في تنزيله
في صحف تتلى: رسوله
فاليوم نضربكم على تأويله
كما ضربناكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقتله
ويذهل الخليل عن خليله
10
فيأمره النبي زيادة في النكاية، وللرصانة، أن يقول:
لا إله إلا الله.
نصر عبده.
وأعز جنده.
وهزم الأحزاب وحده.
11
وهو ما عقب عليه البيهقي: «وكان يكابدهم بكل ما استطاع.»
12
وبانتهاء اليوم الثالث، يهبط سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى في نفر من قريش، ليقولوا للنبي:
إنه قد انقضى أجلك فاخرج عنا.
فيرد النبي بلطفه وسماحته:
وما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم، وصنعنا لكم طعاما فحضرتموه؟
فيجيبونه الإجابة المعبرة عن مكنونات الصدور من وجع:
لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنا.
13
لينطلق صوت سعد من بين المسلمين معبرا عن إمكان الاستيلاء على مكة الآن ببساطة، فيقول:
يا عاضا ببظر أمه،
أأرضك وأرض أمك هي دونه؟
14
لكن ليتدخل سيد الخلق المطهر، ويسكت سعدا، ويفي بالعهود والمواثيق، مكتفيا بذلك الإعلان العملي السافر لكل العرب، ويأمر رجاله بالرحيل عن مكة.
استمرار السرايا المسلحة
ويعود جند الله إلى مدينة يثرب بعد الاعتمار المشهود، وتعود السرايا مرة أخرى للخروج على القبائل، فينزل شجاع بن وهب بسرية على جمع من هوازن، فيبغتهم ويصيب أنعامهم وسبيا منهم، لكن هذا الجمع الهوازني كان قد علم طريق الأمن وبابه، فقدم وفدهم على النبي يعلن إسلام جماعتهم ليرد إليهم النبي كل أملاكهم وسباياهم، في بلاغ إلى كل العرب واضح المعالم محدد المعاني.
وتخرج سرية كعب بن عمير إلى أطراف الشام لتغير على قضاعة بذات أطلاح، المستندة على أسنة الإمبراطورية، وناداهم كعب بدعوة الإسلام، لكن قضاعة الشامية ما كانت ترى فيهم سوى كرة عربية مثل كرات عهدتها على حدود الإمبراطورية، بل وتعمل سيوفها في أفراد السرية، ويهرب منها جريح واحد يعود إلى الرسول بالخبر، وهنا يعلن الرسول أنه قد آن الأوان لمهاجمة إمبراطورية الروم، حيث الأرض التي لم يقدروا عليها وأحاط بها الله.
وعلى رأس السرية يوفد النبي زيد بن حارثة في ثلاثة آلاف مقاتل، وكان النبي يعلم جيدا ماذا يواجهون، ويعلم سلفا النتائج، لكنها كانت أول هجمة كبرى مقصودة للإعلان عن الآتي؛ ولعلمه
صلى الله عليه وسلم
بما هو مقدم عليه قال في رجاله إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، وإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس، فإن قتل عبد الله فليرتض المسلمون بينهم رجلا فليجعلوه عليهم.
15
وتخرج سرية الشهداء العظام، تلك السرية الفدائية، ميممة وجهها شطر البلقاء على تخوم جنوبي دمشق، ويبلغ خبرها إلى هرقل عظيم الروم، فينزل بنفسه إلى لقاء هؤلاء الذين تجرءوا على حدود مملكته، في مائة ألف من الروم، ومائة ألف من القبائل العربية المتاخمة للروم والموالية لها ، وهو الهول الذي يصوره أبو هريرة قائلا:
شهدت مؤتة، فلما دنا المشركون منا، رأينا ما لا قبل لأحد به.
16
وكان طبيعيا أن يقتل الروم الأمراء الثلاثة، وكثيرا من مقاتلي المسلمين المقدمين، حتى تناول خالد بن الوليد الراية، لينسحب بما بقي من الجيش الذي عاد ممزقا إلى يثرب، ويستقبلهم العامة على أبواب المدينة بالتراب يحثونه في وجوههم يقولون:
يا فرار، فررتم في سبيل الله.
لكن ليرد عليهم سيد الخلق بعد أن بلغ رسالة عملية إلى هرقل بعد رسالته المكتوبة، وإلى قريش، وإلى العالم أجمع، بقوله للناس:
ليسوا بالفرار،
لكنهم الكرار إن شاء الله.
إعلانا عن أن تلك السرية الفدائية كانت مقدمة، وأن الإصرار على غزو الروم وكسرى قائم لا يلين، وأن هناك كرات آتية وكرات، وأن الوعد النبوي قائم كعلم يرفرف لا يتراجع، يردد في مسمع العربان: «والذي نفس محمد بيده، لتملكن كنوز كسرى وقيصر.»
أما إذا كان عدد من خيار الصحابة قد قدموا أنفسهم شهداء على مذبح الهدف الأكبر، فقد نالوا كفايتهم من الثواب، إلى الحد الذي ارتفعوا فيه إلى مصاف كبار الأنبياء، بعد أن رآهم النبي في رحلة سماوية في رؤياه، حيث اطلع عليهم في فردوس الرحمن «فإذا بنفر ثلاثة يشربون من خمر، فقلت من هؤلاء؟ قالوا:
هذا جعفر بن أبي طالب،
وزيد بن حارثة،
وعبد الله بن رواحة.
ثم أشرفوا شرفا آخر فإذا بنفر ثلاثة، فقلت من هؤلاء؟ قالوا:
هذا إبراهيم،
وموسى،
وعيسى،
عليهم السلام، وهم ينتظرونك.»
17
وإعمالا للوعد لا ينتظر النبي طويلا، فقط يغير في التكتيك، فيرسل على العربان المتحالفين مع الروم من بلى وقضاعة سرية يقودها عمرو بن العاص، فتصل إلى ذات السلاسل، فيخاف عمرو كثرة عدوه، فيمده النبي بأبي بكر بعدد آخر من الجند، لكن ليرى قادة السرية أنه لم يأن الأوان بعد فيعودون دون أية مغانم أو فتوح.
18
ولكن ببعض التدقيق والملاحظة، لا يمكن أن تعتبر غزوة مؤتة هزيمة في نظر عرب الجزيرة، ولا عدها النبي كذلك، ولا حتى قريش؛ لأن مجرد خروج العرب لمجابهة الروم، كان أمرا بعيدا حتى عن الأحلام. لقد كان مجرد الخروج إلى الروم والاصطدام بهم في معركة حقيقية واجهوا فيها فيالقهم المنظمة الهائلة تحت قيادة ملكهم بنفسه، كان بلا شك انتصارا وحده وبحد ذاته.
مكة: فتح الفتوح
والله يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما.
أبو سفيان
تعود بنا كتب السير والأخبار القهقري زمنا إلى ما قبل الدعوة، لتطلعنا على السر وراء نقض معاهدة الحديبية قبل موعدها بزمن طويل، فتحكي لنا عن مخاصمة ثأرية كانت بين قبائل خزاعة وقبائل بكر؛ كان سببها أن رجلا من بكر خرج تاجرا، فلما توسط ديار خزاعة، عدوا عليه وقتلوه واستلبوا تجارته، فكان أن ثارت بكر لرجلها وأخذت بثأرها برجل من خزاعة، فترد خزاعة بإطلاق سيفها ليطيح بالرءوس من أشراف كنانة، فيسقط رأس مالك بن عياد، ثم الديلي، ثم سلمى، ثم كلثوم، ثم ذؤيب،
1
وهنا تأتي الحديبية.
وتنص بنود الحديبية على أن من أراد الدخول في عقد محمد دخل، وأن من أحب الدخول في عقد قريش دخل، فتدخل خزاعة في حلف محمد، وهو الأمر الذي لم يكن جديدا ولا خافيا، فقد كانت خزاعة طوال الوقت مع محمد، مشركها ومسلمها؛ ترى بذلك أنها تنال من قريش جميعا، بعدما أقصاهم قصي الجد البعيد لقريش عن مكة، واستلبهم الكعبة ومفاتيحها، وسيادة كانوا يرونها لهم؛ ومن ثم كان منطقيا تماما، أن تدخل عدوتها بكر في حلف قريش.
وإبان هدنة الحديبية، ولم يمض على توقيعها بعد عام عمرة القضاء أسابيع، حدثت مقاتلة بين بكر وخزاعة فجأة، أرجعها رواتنا إلى غدر بكر، حيث انتهز بنو الديل أحد بطونها فرصة من خزاعة؛ لتثأر لرجلها الديلي، فيطارد بعض رجالهم خزاعيا عليل القلب مفئودا اسمه منبه، وكان برفقة رفيق له يدعى تميما، ولما ركض الرجلان أمام مطارديهم لم يستطع منبه الاستمرار، فنادى رفيقه تميما قائلا: «... يا تميم، انج بنفسك، فأنا والله لميت، قتلوني، أو تركوني، لقد أنبت فؤادي.» وينطلق تميم، ويموت منبه. وتضيف كتب الأخبار باقتضاب شديد لا يفصح عن أية تفاصيل حول مدى صدق تلك الإضافات، فتقول إن الأمر قد هاج بين القبيلتين، وإن بعضا من قريش أمدوا بكرا بالسلاح، وربما قاتلوا معهم متخفين.
2
هذا بينما هناك رواية أخرى تؤكد أن من أشعل أوار الحرب بين كنانة وخزاعة هم الخزاعيون وليس الكنانيين، وذلك فيما رواه البلاذري في قوله: «سمع رجل من خزاعة، وكانوا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في عهده وعقده، رجلا من كنانة، وكانوا في عهد قريش وذمتها، يهجو رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فوثب عليه وشجه، فاقتتلت خزاعة وكنانة، وأعانت قريش بني كنانة وخرج وجوههم يقاتلون متنكرين.»
3
وسواء كان الأمر هكذا، أو كذلك، ولو سلمنا بأن كنانة كانت البادئة، وأخذنا بقصة الرجل الخزاعي المفئود، فإن الموقف قد تصاعد بموته؛ فخرجت خزاعة في أربعين راكبا وراء سيدهم عمرو بن سالم، من فخذ كعب الخزاعي، ليقدموا على النبي في يثرب، وهو جالس في مسجده بين أصحابه، ليقف عمرو بن سالم يقص الحدث شعرا تحريضيا طالبا نصرة النبي في قصيدة طويلة جاء في بعضها:
يا رب إني ناشد محمدا
حلف أبيه وأبينا الأتلدا
قد كنتم ولدا وكنا والدا
ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصرا أعتدا
وادع عباد الله يأتوا مددا
وينصت سيد الخلق للرجل حتى ينتهي من قصيدته الشاكية المستنصرة، ليقف النبي وسط الناس، ويجيبه بهدوء ما قبل العاصفة:
نصرت يا عمرو بن سالم.
4
ثم يلتفت إلى الناس، معلنا مناصرته بني كعب من خزاعة قائلا:
لا نصرت إن لم أنصر بني كعب مما أنصر به نفسي.
ثم يتطلع إلى سحابة مارة، ويشير إليها مرددا:
إن هذا السحاب ليستهل بنصر بني كعب.
ويروي لنا ابن سعد مجرى الحدث وراء الأحداث وهي تتسارع في قوله:
وبعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى من حوله من العرب، أسلم، وغفار، ومزينة، وجهينة، وأشجع، وسليم، فمنهم من وافاه بالمدينة، ومنهم من لحقه بالطريق، فكان المسلمون في غزوة الفتح عشرة آلاف. ونادى منادي رسول الله: من أحب أن يفطر فليفطر، ومن أحب أن يصوم فليصم.
5
ومع إفاقتها، تعلم قريش بما يجري، فتأخذها الرعدة، وترسل زعيمها وحامل لوائها أبا سفيان صخر بن حرب إلى زعيم يثرب؛ لإيقاف الأمر، وإعلان أن قريشا لا دخل لها بثأر كنانة، وأن قريشا على عهدها باقية، وببنود صحيفة الحديبية مستمسكة. ولا تعلم قريش إلا ما حدث بين كنانة وخزاعة، ولا يعلم أبو سفيان أن وفد خزاعة قد ذهب إلى المدينة يستنصرها، لكنه يلقى ركبهم عائدا من المدينة، وينكرون عليه قدومهم من هناك ويرحلون إلى ديارهم، لكن روث بهائمهم يفضحهم بالحق، بما فيه من نوى بلح يثرب؛ فيعلم أبو سفيان أن الأمر قد عظم، فيحث خطاه مسرعا، مقررا أنه سيمد العهد ويوطد العقد بين محمد وقريش.
ويدخل أبو سفيان يثرب، ويختار بيت ابنته أم حبيبة، التي تزوجها النبي بعد عودتها من مهاجرها بالحبشة، ويذهب ليجلس على فراش النبي فتطويه عنه، فيقول: يا بنية، ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني؟ فترد على أبيها: بل هو فراش رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأنت رجل مشرك نجس، ولم أحب أن تجلس على فراش رسول الله
صلى الله عليه وسلم . فيبغت الرجل من رد ابنته عليه ليقول لها: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر.
ويتركها ويخرج إلى مجلس النبي، ويجلس أمامه، ويكلمه، ويكلمه، ويشرح، ويفصل في بنود العقد، ويعتذر، ويعتذر، ويطلب إبقاء الحديبية، بل وتمديدها، ويظل الرجل يتكلم والنبي صامت لا يرد عليه بشيء، ويكتشف الرجل أنه وحده فقط الذي يتكلم والكل ينظر إليه بصمت مخيف ومريب؛ فيقوم زعيم قريش يجرجر كرامته إلى بيت أبي بكر، ينتظره ثم يكلمه، ليتوسط لدى النبي، لكن أبا بكر يرد ببساطة: ما أنا بفاعل. فيتركه ويلهث إلى عمر بن الخطاب، لكن ليرد عليه عمر بحدة وانفعال: أأنا أشفع لكم إلى رسول الله؟ والله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به ...» ولا يدري الرجل أين يذهب، فيتذكر عليا، فيركض إلى داره ليجد معه فاطمة وولدها الحسن صبي يدب بين يديها، ليقول لعلي:
يا علي، إنك أمس القوم رحما، وإني قد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائبا، فاشفع لي عند رسول الله. فيقول له:
ويحك يا أبا سفيان! والله لقد عزم رسول الله على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه.
وهنا يلتفت الزعيم المذعور إلى فاطمة، مشيرا إلى طفلها يائسا:
يا ابنة محمد، هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟
ولا تبذل فاطمة جهدا كبيرا لتكتشف أن الرجل يهذي فترد عليه:
والله ما بلغ ابني ذاك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله.
ويسقط في يد الرجل بعد أن سقط إعياء ليتوجه بالكلام قانطا إلى علي قائلا: «يا أبا الحسن، إني أرى الأمور قد اشتدت علي فانصحني.» ولا يجد علي ما يقول سوى: «والله ما أعلم لك شيئا يغني عنك شيئا.» ثم يذكره بمكانته قائلا: «إنك سيد بني كنانة، قم فأجر بين الناس ثم الحق بأرضك.» ويسأله أبو سفيان: «أوترى ذلك مغنيا عني شيئا؟» فيرد علي: «لا والله ما أظنه، لكني لا أجد لك غير ذلك.» وينهض أبو سفيان يلملم كرامة كنانة المبعثرة ليدخل المسجد ويقف وسط الناس ينادي والعيون تتشظى لهبا حوله: «أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس.» وحتى لا يسمع ما يكره يخرج مسرعا إلى بعيره ميمما شطر مكة.
6
وما إن يغادر أبو سفيان باب المسجد، حتى ينهض الرسول رافعا يديه إلى السماء مخاطبا ربه والناس تسمع:
اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها.
ويتحول نحو الناس يأمرهم بالجهاز إلى مكة، ويركب على رأس عشرة آلاف مقاتل ينزل بهم مر الظهران، «وقد عميت الأخبار عن قريش، فلم يأتهم خبر عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ولا يدرون ما هو فاعل». هذا بينما كان العباس قد أخذ أهله وخرج من مكة متجها للمدينة، ليفاجأ بغتة بهذا الجيش الهائل، وعلى رأسه ابن أخيه فيردد قائلا:
واصباح قريش!
والله لئن دخل رسول الله مكة عنوة،
قبل أن يستأمنوه،
إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر.
وينضم العباس إلى ابن أخيه، ويحكى أنه أخذ بغلة النبي البيضاء، وخرج يجوس بها ليلا حول الجيش قرب مكة؛ عساه يجد لمكة مخرجا، فيسمع اثنين يتحاوران، يعرف في صوتيهما أبا سفيان وبديل بن ورقاء؛ إذ يقول أبو سفيان: ما رأيت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا. فيقول بديل: هذه والله خزاعة قد خمشتها الحرب. فيرد أبو سفيان: خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.
وهنا ينادي العباس أبا سفيان، ويلتقي العباس بالزعيم المأخوذ بذعره، ليسرع إليه بالخبر: «ويحك يا أبا سفيان، هذا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في الناس، واصباح قريش والله.» فيرد أبو سفيان: «فما الحيلة فداك أبي وأمي.» فيقول له العباس: «والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله فأستأمنه لك.»
ويأخذ العباس أبا سفيان ردفه على بغلة رسول الله وسط نيران الكتائب نحو خيمة النبي، ليراه عمر بن الخطاب فيهرع إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، فدعني لأضرب عنقه.» لكن يقتحم العباس الخيمة مسرعا قائلا: «يا رسول الله إني قد أجرته.» وهنا يقول النبي: «اذهب به يا عباس إلى رحلك فإذا أصبحت فأتني به.»
7
وهكذا ينزل أبو سفيان في ضيافة العباس، ضيافة هي إلى الأسر أقرب، وعند الصباح يخرج به العباس، فيرى الناس قد وقفوا صفوفا منتظمة، فيذعر الرجل ويظنها لحظة الهجوم على بلده، فيقول للعباس: «يا أبا الفضل، ما للناس؟ أؤمروا في بشيء؟» فيرد العباس: «لا، لكنهم قاموا إلى الصلاة.»
وينظر أبو سفيان لذلك الانتظام العظيم، والانضباط الشديد، عشرة آلاف مقاتل خلف الزعيم، يكبر فيكبرون، يركع فيركعون، يتلو فينصتون، يرفع فيرفعون، فيصاب سيد مكة بالبهتة، ويقول:
ما رأيت كاليوم طاعة!
قوم جمعهم من ها هنا وها هنا،
ولا فارس الأكارم،
ولا الروم ذات القرون،
بأطوع منهم له.
8
لم يدرك الرجل حتى الآن وهو في فهمه القبلي يرفل متخلفا، أن هناك أمرا أعظم من القبيلة قد جمع الناس من ها هنا وها هنا، وتوجه مع العباس بعد الصلاة ليراه النبي فيفاجئه بالسؤال:
ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟
يقينا يعلم أبو سفيان ذلك، وكذلك سائر قريش يعلمون يقينا، أن لا إله إلا الله، وقد شهدت لهم الآيات القرآنية بذلك العلم، فالله لا إله سواه، لكن هناك الأرباب الأدنى درجة من الإله، تلك التي تشفع للناس عند الله؛ ومن ثم كانت إجابة أبي سفيان:
بأبي أنت وأمي!
ما أحلمك، وأكرمك، وأوصلك!
والله لقد ظننت أنه لو كان مع الله إله غيره،
لقد أغنى عني شيئا بعد.
وهنا ينتقل النبي إلى الشق الثاني من السؤال، وهو الشق الذي لا شك سيشق على أبي سفيان، فيقول له:
ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟
فتأخذ الرجل أنفة الصدق العربي في التعبير عن الدواخل ليرد قائلا:
بأبي أنت وأمي!
ما أحلمك، وأكرمك، وأوصلك!
أما هذه،
والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئا.
لم يكن الرجل بعالم أن إجابته غير موفقة بالمرة، وأن الأمور قد تغيرت، حتى أساليب التعامل العربية؛ لأن صراحته هنا لن تكون سوى مدخل له إلى المثوى الأخير، فيسرع العباس ينبه الرجل بقوله:
ويحك!
أسلم واشهد أن لا إله إلا الله،
وأن محمدا رسول الله،
قبل أن تضرب عنقك.
وعلى الفور يقولها زعيم قريش، ويسلم الرجل،
9
ثم يقول متلعثما محاولا إظهار تمسكه بدينه وبهيبته:
وكيف أفعل بالعزى؟
ليسمعه عمر بن الخطاب بجوار الخيمة، فيرد عليه بصوت عال ساخرا ضاحكا ليسمعه:
نخرأ عليها.
فيقول أبو سفيان: «ويحك يا عمر إنك لرجل فاحش، دعني مع ابن عمي فإياه أكلم.»
10
ومرة أخرى يتدخل العباس يقول للنبي
صلى الله عليه وسلم : «يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا.»
كان الأمر إذن مقضيا، وانتهى أمر زعامة مكة قبل دخولها ، حتى إن العباس رأى أن يجعل لزعيم قريش شيئا بعدما لم يبق له شيء.
ويرى النبي أنه لا بأس من شيء لأبي سفيان، فيقول: «نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.»
ومن ثم خرج أبو سفيان يحمل عن السيد الجديد رسالة حاسمة قاطعة، هي أوامر بحظر التجول عند دخول الجيش الإسلامي مكة، وقبل أن يهبط مكة، همس النبي لعمه العباس: «يا عباس، احبسه بمضيق الوادي عن خطم الجبل، حتى تمر به جنود الله فيراها.» ويأمر النبي باستعراض القوة. وبينما العباس مع أبي سفيان عند مضيق الوادي، يروي لنا:
مرت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة قال: يا عباس، من هذه؟ فأقول: سليم. فيقول: ما لي وسليم. فيقول: يا عباس، من هؤلاء؟ فأقول: مزينة. فيقول: ما لي ولمزينة. حتى نفدت القبائل ...
ومر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في كتيبته الخضراء، وإنما قيل لها الخضراء؛ لكثرة الحديد وظهوره فيها ... منها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، فقال: سبحان الله يا عباس، من هؤلاء؟ قلت: هذا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في المهاجرين والأنصار.
قال:
ما لأحد بهؤلاء من قبل ولا طاقة.
والله يا أبا الفضل،
لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما.
قلت: يا أبا سفيان، إنها النبوة. قال: فنعم إذن.
قلت: النجاء إلى قومك.
11
وهنا نجد شباب قريش وقد أخذتهم الحمية، بينما يقسم النبي جيشه أربعة ألوية كبرى ليدخل مكة، ونقرأ الخبر عند أبي هريرة وهو يحكي:
فبعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم
الزبير على إحدى المجنبتين، وبعث خالدا على المجنبة الأخرى، وبعث أبا عبيدة على الجسر، وأخذوا بطن الوادي، ورسول الله
صلى الله عليه وسلم
في كتيبته، وقد وبشت قريش أوباشها ... فنظر فرآني، فقال: يا أبا هريرة. فقلت: لبيك يا رسول الله. قال: اهتف بالأنصار ولا يأتيني إلا أنصاري. فهتفت بهم فجاءوا فأطافوا برسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فقال: أترون إلى أوباش قريش وأتباعهم؟ ثم قال بيديه ، إحداهما فوق الأخرى: احصدوهم حصدا حتى توافوني بالصفا. فقال أبو هريرة: فانطلقنا فما يشاء واحد منا إلا أن يقتل منهم ما شاء، وما أحد منهم يوجه إلينا منهم شيئا. فقال أبو سفيان:
أبيحت خضراء قريش،
ولا قريش بعد اليوم.
12
ويهرع أبو سفيان بالفزع إلى مكة يصرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. فقامت إليه هند بنت عتبة، فأخذت بشاربه فقالت: اقتلوا الحميت الدسم الأحمس، قبح من طليعة قوم. قال: ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم، فقد جاءكم بما لا قبل لكم به؛ فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. قالوا: قاتلك الله، وما تغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق بابه عليه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد.
13
وبدأ حظر التجول في أم القرى، بعد أن رأى سيد قريش ما رأى، وأراده النبي أن يرى، ثم كيف جمع الأنصار تحديدا أمامه، أهل الحرب والدم والحلقة، أعداء قريش وفدائيي الإسلام ورجاله؛ ليستبيح بهم مكة، حيث ثروات الملأ التي تربو على مئات الملايين، وفيها كان الغيد الحسان اللائي يرفلن في النعيم؛ ومن ثم تصور سعد بن عبادة أن ما صنعه الرسول من استعراض للقوة والعنف أمام أبي سفيان أمر نهايته استباحة مكة، فخرج يحمل راية القيادة أمام الجيش، ويحمل معها مشاعر كل يثربي إزاء مكة، هاتفا: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة.
ويسمعه المهاجرون فيهرعون بالبلاغ إلى النبي، ومعهم ضرار بن الخطاب شاعرا يفصح عن المشاعر قائلا:
يا نبي الهدى إليك لجا حي
قريش ولات حين لجاء
حين ضاقت عليهم سعة الأر
ض وعاداهم إله السماء
والتقت حلقتا البطان على القو
م ونودوا بالصيلم الصلعاء
إن سعدا يريد قاصمة الظه
ر بأهل الحجون والبطحاء
خزرجي لو يستطيع من الغي
ظ رمانا بالنسر والعواء
فلئن أقحم اللواء ونادى
يا حماة اللواء أهل اللواء
لتكونن بالبطاح قريش
فقعة القاع في أكف الإماء
14
وهنا ينادي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
سعدا ليأخذ منه الراية، ويعطيها لأكثر المهاجرين رأفة ورحمة ليدخل بها مكة، لعلي بن أبي طالب، وخلف علي دخل الجيش في رسالة طمأنة واضحة لمن ينظرون من خلف فرج الأبواب يتطلعون ويرجفون؛ لتتجرأ النساء فقط فيكشفن عن أنفسهن، ويفتحن الأبواب ويقفن في دلع على شارع الموكب العظيم، يحملن أباريق الخمر يضربن بها وجوه خيل الفتح في دعوة واضحة تعلن استسلام النساء للفاتحين عن رضا. ويلخص ابن الأثير ما روته كتب الأخبار بشأن ذلك الاستقبال الحريمي في قوله:
قام نساء مشركات في وجوههن، يلطمن وجوه الخيل بالخمر، وقد نشرن شعورهن، فرآهن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وإلى جنبه أبو بكر، فتبسم رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وقال: يا أبا بكر كيف قال حسان؟
15
لينطلق حسان مستجيبا يصف المشهد شعرا يقول:
تظل جيادنا متمطرات
يلطمهن بالخمر النساء
فإما تعرضوا عنا اعتمرنا
وكان الفتح وانكشف الغطاء
وقال الله قد سيرت جندا
هم الأنصار عرضتها اللقاء
ألا أبلغ أبا سفيان عني
مغلغلة فقد برح الخفاء
بأن سيوفنا تركتك عبدا
وعبد الدار سادتها الإماء
16
ولم يعترض الجيش أحد إلا النساء المرحبات، واللهم إلا مجنبة خالد بن الوليد، الذي لقيه بعض المتحمسين من شباب قريش في جمع عند الخندمة، فقتل منهم ثمانية عشر وفر البقية، وعلم النبي فقال: ألم أنه عن القتال؟ فأجابه مجيب: خالد قوتل فقاتل. فقال: قضاء الله خير. ومن المسلمين لم يقتل غير رجلين خطأ لسريانهما في أماكن محظورة وقت حظر التجول، هما كرز بن جابر الفهري، وخالد الأشقر الخزاعي.
17
ودلف النبي إلى البيت، وأرسل بلالا إلى عثمان بن طلحة ليأتيه بمفتاح الكعبة؛ ذلك المفتاح التاريخي الذي انتقل عبر القرون من أياد إلى أيادي فوق دماء كثيرة، لينتهي إلى سليل البيت الهاشمي. ويمسك النبي بالمفتاح رمز السيادة جميعا، ويفتح باب الكعبة ليصلي بداخلها ركعتين، ثم يخرج فيقف على الباب آخذا بعضادتيه وقد لبط الناس حوله، فيخطب فيهم قائلا:
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده.
ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى، فهو موضوع تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا ففيه الدية مغلظة مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها.
يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء. الناس من آدم وآدم من تراب.
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ... (وقرأ الآية كلها).
يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل فيكم؟
ويأتيه الرد:
خيرا، أخ كريم، وابن أخ كريم.
رد ما كان جوابه إلا:
اذهبوا فأنتم الطلقاء.
ويدعو النبي عثمان بن طلحة، فيدفع إليه مفتاح الكعبة وهو يقول: «خذوها يا بني طلحة تالدة خالدة لا ينزعها منكم أحد إلا ظالم.» بينما لا شك كان عثمان بن طلحة يتذكر أيام كان محمد مهيضا ضعيفا في بداية دعوته بمكة، عندما أراد أن يدخل محمد الكعبة مع الملأ القرشي من السادة ليطالع ما بداخلها، فمنعه عثمان بن طلحة ورده ردا غليظا، ونال منه. ولا شك يتذكر الآن وهو يستلم المفتاح من محمد
صلى الله عليه وسلم
بعد أن أصبح سيد السادة، ما سبق وقاله له محمد يومذاك: «يا عثمان، لعلك سترى هذا المفتاح بيدي يوما، أضعه حيث شئت.» ولا شك أيضا أنه لم يزل ذاكرا بقية الحوار عندما أجابه: «لقد هلكت قريش يومئذ وذلت.» فرد علي النبي: «بل عمرت وعزت يومئذ.»
18
وقد أثبتت الأيام صدق كل كلمة قالها سيد الخلق.
ثم ينادي النبي عمه العباس بن عبد المطلب؛ ليقيمه كما كان على منصب السقاية قائلا: «أعطيتكم ما ترزأكم ولا ترزءونها.» ثم يبعث إلى تميم بن أسد الخزاعي ويأمره بتجديد أنصاب الكعبة، ثم يأمر بلالا بالصعود فوق سطح الكعبة عند الظهر؛ ليرفع شعار دولة الإسلام مؤذنا به، بينما يردد النبي: «لا تغزى قريش بعد هذا اليوم إلى يوم القيامة.» وكانت بنت أبي الحكم تردد قولا آخر وهي تسمع الأذان، فتقول: «أما الصلاة فسنؤديها ، ولكن والله ما تحب قلوبنا من قتل الأحبة.»
19
وبعدها خرج النبي إلى ساحة الكعبة، يطوف على الأصنام يشير إليها بقضيب في يده وهو يقول جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا. ويؤكد ابن هشام عن ابن إسحاق أنه ما أشار إلى صنم إلا وقع لساعته على وجهه أو قفاه، لكن ابن كثير لم يعجبه ذلك، ورأى في سقوط الأصنام بمجرد الإشارة تزيدا ورواية ضعيفة.
20
وبعدها يدخل النبي إلى قبة بنوها له، وهناك يصدر أوامره بقتل نفر سماهم بالاسم، حتى لو وجدوا متعلقين بأستار الكعبة؛ منهم جاريتان كانتا تتغنيان بهجاء النبي، فقتلت واحدة واستؤمن للأخرى من النبي فعفا عنها. وسارة وهي جارية كانت تؤذيه بمكة قبل الهجرة وقد استؤمن لها بدورها. والحويرث بن نقيد وهبار بن الأسود وهما اللذان نخسا بعير زينب بنت الرسول فسقطت عنه وألقت جنينها. وعبد الله بن خطل الذي أسلم فأرسله النبي يجمع الصدقات فقتل عبده وعاد إلى مكة مشركا، وقد قتله سعيد بن حريث. ومقيس بن صبابة الذي ذهب إلى يثرب مسلما، ثم قتل أنصاريا ثأرا لأخيه ثم عاد إلى قريش مشركا، وقد قتله نميلة بن عبد الله. وعكرمة بن أبي جهل، وقد جاءت به امرأته للنبي فاستأمنته له.
21
كذلك صدر الأمر النبوي بقتل الشاعر عبد الله بن الزبعرى السهمي؛ لأنه كان ممن يهجو النبي بشعره، وقد هرب مع هبيرة المخزومي زوج أم هانئ بنت أبي طالب إلى نجران، وهناك أقام هبيرة مشركا حتى مات، وعاد ابن الزبعرى إلى النبي معتذرا متحببا بقصائد المديح، فعفا عنه. كما صدر الأمر بقتل وحشي الحبشي لقتله حمزة بن عبد المطلب عم النبي في أحد، لكنه جاء للنبي معتذرا مسلما فقبل منه، كذلك قبل النبي اعتذار حويطب بن عبد العزى، وهند بنت عتبة زوجة أبي سفيان.
22
وممن صدر بحقهم حكم الموت كان شقيق عثمان بن عفان من الرضاعة، عبد الله بن أبي سرح؛ لأنه كان قد أسلم، واشتغل بكتابة الوحي للنبي، ثم ارتد إلى مكة مشركا، وقد جاء به عثمان إلى النبي يستأمنه، وهو ما جاء عند ابن كثير راويا: «فلما جاء ليستأمن له صمت عنه الرسول طويلا، ثم قال: نعم. فلما انصرف مع عثمان قال الرسول لمن حوله: أما كان فيكم رجل رشيد، يقوم إلى هذا - حين رآني قد صمت - فيقتله؟! فقالوا: يا رسول الله، هلا أومأت إلينا؟ فقال: إن النبي لا يقتل بالإشارة.»
23
وتقول رواية أخرى بذات الخصوص إن واحدا من الأنصار كان قد نذر أن يقتل ابن أبي سرح نقمة عليه، فلما جاء به عثمان وكان الأنصاري حاضرا، وبعدما خرج عثمان وأخوه قال النبي للأنصاري: «هلا وفيت بنذرك؟ فقال: يا رسول الله، وضعت يدي على قائم السيف أنتظر منك أن تومئ لي فأقتله. فقال النبي: ليس لنبي أن يومئ.»
24
ووسط زخم الأحداث، وبين الحشد المتجمع حول قبة النبي
صلى الله عليه وسلم
جاء أبو بكر بشقيقته، التي كانت قد خرجت على باب بيتها حين دخول جيش الفتح إلى مكة مع النسوة اللائي خرجن يستقبلن جيش الفتح، فتلقاها رجل وخطف من رقبتها طوقها الذهبي، وأمسك أبو بكر بيد شقيقته ينادي جند الله: «أنشدكم الله والإسلام طوق أختي.» فلم يجبه أحد، فقال لأخته: «أي أخية، احتسبي طوقك، إن الأمانة في الناس اليوم لقليل.»
25
وتنتهز خزاعة الموقف فتعدو على هذيل، فتقتل رجلا منها بثأر قديم، وهنا يغضب سيد الخلق ويقف ينادي في الناس:
يا أيها الناس
إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام من حرام إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الأخر أن يسفك فيها دماء ولا يعضد فيها شجرا، لم تحل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد يكون بعدي، ولم تحلل لي إلا هذه الساعة؛ غضبا على أهلها، ثم رجعت كحرمتها بالأمس؛ فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فمن قال لكم إن رسول الله قاتل فيها فقولوا إن الله قد أحلها لرسول الله ولم يحلها لكم. يا معشر خزاعة، ارفعوا أيديكم عن القتل، لقد كثر القتل.
26
وهكذا، وقفت الأنصار دهشة، كما وقفت قريش أيضا مأخوذة؛ فالنبي يكف أيدي الأنصار عن مكة، ويكف أيدي الناس عن بعضهم البعض، ويعلن حرمة البيت إلى نهاية الدهور، ويطلق أهل مكة دون شروط، ويمارس طقوس قريش الدينية بتمامها، حتى تجديد الأنصاب، واحترام الحجر الأسود وتقديسه؛ لتتساءل الأنصار متوجسة بالهواجس عما سيئول إليه الأمر، وهل من الممكن للنبي بعد أن تحرك رحمة لبلده أن يمكث فيها بين أهله؟ لكن ليأتيها الجواب من رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «معاذ الله، إني عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم والممات مماتكم.» فأقبلوا إليه يبكون ويقولون: «والله ما قلنا الذي قلنا، إلا للضن بالله ورسوله.»
27
وبعدها يصعد النبي إلى الصفا، لتقف مكة في طابور طويل، رجالها ونساءها، يمرون أمامه ليلقي كل منهم صيغة الاعتراف والرضوخ ومبايعة الرسول عليهم سيدا أو رسولا، بينما يجلس عمر بن الخطاب أسفل مجلسه «يأخذ على الناس السمع والطاعة لله ولرسوله.»
28
سرايا خالد بن الوليد
اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد.
النبي
صلى الله عليه وسلم
بفتح مكة، انتهت الشفاعات، إحدى ركائز العقائد العربية والقرشية، وتم تدمير تماثيل الأرباب الوسيطة جميعا؛ تلك التي كانت قائمة في فناء الكعبة، تتوسط لدى إله السماء لمن هم في الأرض من عباده، وسقط عمود أساسي من أعمدة الوثنية المكية المرتبطة بالكعبة وبالتجارة، حيث كانت تلك الأرباب أربابا للقبائل الضاربة في بطن شبه الجزيرة، استضافتها الكعبة المكية جذبا لأتباعها نحو المركز التجاري المكي؛ لمزيد من الرواج التجاري، وإثباتا لسيادة الإله المكي الأعلى السماوي على بقية الأرباب، بما يحمل ضمنيا التسييد القرشي على بقية القبائل؛ ومن ثم سقطت الوساطات ودمرت الشفاعات بتدمير تلك التماثيل، الذي جاء تدميرا للرموز القبلية المتعددة وصهر تلك القبائل جميعا في منظومة الأمة الواحدة، عبر العبادة المباشرة لإله واحد لا يقبل وساطة من أحد إلا بإذنه، وقد أذن بذلك لصفيه النبي القرشي كشفيع أوحد، لتنتقل حالة التشتت القبلي الساعي نحو التوحيد بتماثيل متجاورة في الكعبة، إلى توحيد كامل بصهر جميع الشفاعات في شخص سيد أوحد من قريش هو النبي عليه الصلاة والسلام؛ لتضمن قريش بذلك سيادة أعظم، فينوب عنها جميعا سيد الخلق سيدا للعرب وشفيعا أوحد للإله الأوحد في الدولة المتوحدة الموحدة.
وإعمالا لذلك انطلقت سرايا المسلمين لتدمير هياكل الأرباب الوسيطة في محيط الجزيرة، وبين تلك السرايا كانت سرية خالد بن الوليد لتدمير العزى وبيتها في ناحية نخلة؛ ذلك الصنم الذي اجتمعت حوله قريش وكنانة ومضر؛ ليفكك بذلك هذا التحالف القبلي السابق بين تلك القبائل ويصهرها في منظومة الدولة.
وتروي لنا كتبنا الإخبارية أن خالدا انتهى إلى العزى فهدمها وقطع سمراتها الثلاث وكسر ما لحق بها من رموز مقدسة، ورجع إلى النبي، لكن لتتدخل تلك الروايات مرة أخرى تحاول التأكيد على ما كان وراء العزى من قوة غيبية، لكنها قوة مخيفة شيطانية؛ فتسوق رواية تحكي أنه بعد عودة خالد إلى النبي سأله النبي
صلى الله عليه وسلم : ما رأيت؟ فيرد أنه لم ير شيئا، فيأمره النبي بالعودة مرة أخرى إلى العزى. ولا نتفهم السبب إلا باستمرار الرواية وهي تؤكد أن النبي كان يعلم أن العزى ليست مجرد حجر وأشجار، حيث يعود خالد إلى المكان فتخرج إليه امرأة سوداء ناشرة شعرها تولول، فيعلوها خالد بالسيف وهو ينادي: يا عزى كفرانك لا سبحانك، إني رأيت الله قد أهانك. ويقتل خالد تلك الربة أو تلك الشيطانة فينكشف له ما في البيت المقدس من مال مخبوء، فيعود به إلى النبي، ليعقب الرسول قائلا: تلك العزى ولا تعبد بعد أبدا.
1
ويعود النبي فيرسل خالدا في سرية أخرى، ترتبط أحداثها بمبدأ «الإسلام وقاء» وأهميته والتأكيد عليه، حيث سيعلن النبي تبرؤه من خالد بن الوليد وشكواه إلى الله؛ لكسره تلك القاعدة الأساس في بناء الدولة، حيث خرج خالد برجاله المقاتلين، بعضهم من المسلمين الأوائل، وبعضهم من الطلقاء والأعراب اللاحقين بالدولة طمعا في المغانم أو الأمن، ليهبط على مياه بني جذيمة، وإعمالا لمبدأ «الإسلام وقاء» يؤكد ابن كثير المعنى ذلك في قوله: «بعث عليه السلام خالد بن الوليد بعد الفتح إلى بني جذيمة ... بعثه داعيا ولم يبعثه مقاتلا، ومعه قبائل من العرب.»
2
ويروي الطبري أن بني جذيمة ما إن رأوا خالدا حتى أخذوا السلاح، فناداهم خالد:
ضعوا السلاح؛
فإن الناس قد أسلموا.
3
وهو النداء الذي يحمل معنى السلام بالإسلام، وما يستدعي الشعور بالأمان ووضع السلاح. ويعلمنا ابن سيد الناس من جهته أن جذيمة قد أسلمت بالفعل سلفا قبل أن يصلها خالد برجاله، وهو ما يتضح في الحوار الذي ساقه بين خالد وبينهم حيث يقول لهم خالد: «ما أنتم؟» قالوا: «مسلمون قد صلينا وصدقنا بمحمد وبنينا المساجد في ساحاتنا وأذنا فيها.» قال: «فما بال السلاح عليكم؟» قالوا: «بيننا وبين قوم من العرب عداوة فخفنا أن تكونوا هم فأخذنا السلاح.» قال: «فضعوا السلاح.» فوضعوه، فقال لهم: «استأسروا.» فاستأسر القوم، فأمر بعضهم فكتف بعضا وفرقهم في أصحابه.
4
وتطفر هنا إشارة لا تفوت قارئا مدققا، حيث تجمع كتب الأخبار أن بني جذيمة عندما رأوا خالد بن الوليد، صرخ أحدهم واسمه «جحدم» صرخة الفزع ينادي قومه محذرا الاستجابة لخالد:
يا بني جذيمة، إنه خالد،
والله ما بعد وضع السلاح إلا الإسار،
وما بعد الإسار إلا ضرب الأعناق،
والله لا أضع سلاحي أبدا.
فأخذه رجال من قومه فقالوا: يا جحدم، إن الناس قد أسلموا، ووضعت الحرب وأمن الناس. فلم يزالوا به حتى نزعوا سلاحه، ووضع القوم سلاحهم.
5
لكن يبدو أن «جحدما» هذا كان ذا وعي نافذ، لا يطمئن ولا ينسى، فهو لم ينس أبدا ذلك الأمر الذي دعاه للفزع عندما رأى خالدا، ويبدو أنه الأمر الذي لم يغرب عن بال خالد لحظة منذ خرج لبني جذيمة؛ ذلك الأمر الذي يشرح لنا ابن هشام أمره، عما كان بين بعض قريش وبعض جذيمة قبل الدعوة الإسلامية إذ يقول: «وكان الفاكه بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وعوف بن عبد مناف بن الحارث بن زهرة، وعفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، قد خرجوا تجارا إلى اليمن ... فلما أقبلوا حملوا مال رجل من بني جذيمة بن عامر - كان قد هلك باليمن - إلى ورثته، فادعاه رجل منهم يقال له خالد بن هشام، ولقيهم بأرض جذيمة قبل أن يصلوا إلى أهل الميت، فأبوا عليه، فقاتلهم بمن معه من قومه على المال ليأخذوه، وقاتلوه، فقتل عوف بن عوف، والفاكه بن المغيرة، فهمت قريش بغزو جذيمة، فقالت بنو جذيمة: ما كان مصاب أصحابكم عن ملأ منا، إنما عدا عليهم قوم بجهالة فأصابوهم ولم نعلم، فنحن نعقل لكم ما كان لكم قبلنا من دم أو مال. فقبلت قريش ذلك ووضعوا الحرب.»
6
هكذا أدرك جحدم أن لخالد ثأرا عند بني جذيمة، بعمه الفاكه بن المغيرة، ولم يثق الرجل في أن الإسلام قد غير شأن خالد، بينما رأت بقية جذيمة أنه يجب الوثوق برسول رسول الله، بعد أن أسلم الناس وأمنوا الحرب، وطرحوا ما كان من شأن الجاهلية وراءهم، فأمنوا لخالد وأطاعوه موقنين من السلامة في النهاية، لكن ظن جحدم كان هو الظن الصادق، فقد أمر خالد رجاله أن يقتل كل منهم أسيره.
وانقسم الصحابة فريقين حول أمر خالد، حيث رفض المسلمون الأوائل تنفيذ أمر القائد، بل وأطلقوا ما كان بأيديهم من أسرى، أما بقية العربان وطلقاء قريش فقد نفذوا الأمر على الفور، واستحر القتل بليغا في الأسرى.
وفي مقتلة مسلمي جذيمة حادثة أوردتها كتب السير تحمل قصة حب رائعة، رواها الرواة عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، إذ يقول: «وأدركنا الظعن - النساء - فأخذناهن، فإذا فيهم غلام وضيء الوجه به صفرة كالمنهوك، فربطناه بحبل وقدمناه لنقتله.» فقال لنا: «هل لكم في خير؟» قلنا: «ما هو؟» قال: «تدركون بي الظعن في أسفل الوادي ثم تقتلونني.» قلنا: «نفعل.» فعارضنا الظعن، فلما كان بحيث يسمعن الصوت نادى بأعلى صوته: «اسلمي حبيش على فقد العيش.» فأقبلت جارية بيضاء حسناء وقالت: «وأنت فاسلم على كثرة الأعداء وشدة البلاء.» قال: «سلام عليك دهرا وإن بقيت عصرا.» قالت: «وأنت سلام عليك عشرا وشفعا تترى وثلاثا وترا.» فقال:
إن يقتلوني يا حبيش فلم يدع
هواك لهم مني سوى غلة الصدر
فأنت التي أخليت لحمي من دمي
وعظمي، وأسلبت الدموع على نحري
فقالت له:
ونحن بكينا من فراقك مرة
وأخرى، وواسيناك في العسر واليسر
وأنت فلم تبعد فنعم فتى الهوى
جميل العفاف والمودة في ستر
ليجيبها الحبيب المفارق:
فلا ذنب لي قد قلت إذ نحن جيرة
أثيبي بود قبل إحدى الصفائق
أثيبي بود قبل أن تشحط النوى
وينأى الأمير بالحبيب المفارق
فقدموه فضربوا عنقه.
7
فجاءت فجعلت ترشفه حتى ماتت عليه.
8
ونعلم من رواية ابن كثير أن الشاب لم يكن من بني جذيمة المسلمين، لكنه جار لهم لحق بهم عشقا وهياما في بنتهم حبيش؛ ومن ثم ربما كان من المشركين، حيث يقول ابن كثير إن الشاب عندما قبض عليه رجال خالد قال لهم: «إني لست منهم، إني عشقت امرأة فلحقتها، فدعوني أنظر إليها نظرة ثم اصنعوا بي ما بدا لكم.» فإذا امرأة أدماء طويلة، فقال لها: «اسلمي حبيش قبل نفاد العيش» ... فقالت: «نعم فديتك.» فقدموه فضربوا عنقه، فجاءت المرأة فوقعت عليه فشهقت شهقة أو شهقتين ثم ماتت، فلما قدموا على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أخبروه بالخبر، فقال: «أما كان فيكم رجل رحيم؟»
9
وكان أول المحتجين على فعل خالد بمسلمي جذيمة ذلك الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف، وهو ابن عوف بن عوف، الذي عدت عليه جذيمة في الجاهلية وقتلته مع عم خالد الفاكه بن المغيرة، فقام عبد الرحمن بن عوف ينتهر خالدا يقول له غاضبا: «لقد عملت بأمر الجاهلية في الإسلام.» فأراد خالد أن يشرك الصحابي الأول في الجريمة الشنيعة، ويلبسه جميلا غير جميل بقوله له: «إنما ثأر لأبيك.» لكن ليرد عليه عبد الرحمن بن عوف مكذبا محتجا فاضحا:
كذبت؛
فلقد قتلت قاتل أبي،
لكنك ثأرت بعمك الفاكه بن المغيرة.
10
وأخذ المسلمون يتلاومون في أمر قتلى مسلمي جذيمة المستسلمين لأمان الإسلام، حتى بلغ الأمر رسول الله بليغا، فانتفض رافعا يديه حتى رأى الناس ما تحت إبطيه وهو يهتف بأعلى صوته أمام الكعبة، ليبلغ الجميع أن الإسلام ينبغي أن يكون وقاء لأهله ، مرددا من المرات ثلاث صارخات:
اللهم إني أبرأ إليك،
مما صنع خالد بن الوليد.
11
ثم أردف هتافه الملتاع الغاضب الحزين بديات القتلى يرسلها إلى جذيمة حتى ترضى، وحتى ترى العرب ذلك واضحا، لكن ابن كثير يلحظ الموقف بعين فاحصة واعية فيقول إنه رغم قتل خالد لعدد كبير من مسلمي جذيمة، وأنه «قتل طائفة كثيرة منهم وأسر بقيتهم، وقتل أكثر الأسرى أيضا، فمع هذا لم يعزله رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بل استمر به أميرا ... لهذا لم يعزله أبو بكر في خلافته حين قتل مالك بن نويرة أيام الردة، وتأول عليه ما تأول حين ضرب عنقه واصطفى امرأته أم تميم، فقال له عمر بن الخطاب اعزله فإن في سيفه رهقا. فقال له الصديق لا أغمد سيفا سله الله على المشركين.»
12
وبالطبع - وفي المعنى المضمر - حتى لو ذبح حسب مزاجه وثاراته الكثير من المسلمين الأبرياء.
غزوة هوازن
يغفر الله لرسول الله، يعطي قريشا ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم.
الأنصار
لم تدرك هوازن تلك القبيلة الكبرى، ولا ثقيف التي لا تقل عنها شأنا، أن الأمر يسير إلى نتائجه التاريخية، ولا أدركت كلتاهما أن وحدة العرب في جزيرتهم قد انعقدت في صفحات الزمن بعد فتح الفتوح، والاستيلاء على أم القرى، ولم تدرك القبيلتان أن غزوات الجاهلية في سبيلها إلى زوال؛ حيث يحكي لنا ابن الأثير ذكر غزوة هوازن في وادي أوطاس بجبال حنين، فيقول: «وكانت في شوال، وسببها أنه لما سمعت هوازن بما فتح الله على رسوله من مكة، جمعها مالك بن عوف النصري، من بني نصر بن معاوية بن بكر، وكانوا مشفقين من أن يغزوهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بعد فتح مكة، وقالوا: لا مانع له من غزونا، والرأي أن نغزوه قبل أن يغزونا، واجتمع إليه أهل ثقيف.»
1
أما الطبري فيعلمنا أن هوازن وثقيف قد جمعوا جموعهم عندما سمعوا بمسير جيش يثرب نحو مكة، ظنا منهم أنه يريدهم هم.
2
وقد ذهب البلاذري مذهب ابن الأثير في قوله: «وكانت أشراف هوازن بن منصور وغيرهم من قيس قد تجمعوا مشفقين من أن يغزوهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وقالوا: قد فرغ لنا فلا ناهية له دوننا والرأي أن نغزوه.»
3
وعلم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بالرعب الذي أخذ هوازن، ودفعها دفعا لتخرج في حلف مع ثقيف، يتقدمها رجالها، قد أخذوا معهم نساءهم وأموالهم وأطفالهم، بتقرير فدائي من مالك بن عوف ملكهم وسيدهم؛ حتى يجد كل رجل منهم في نفسه الغيرة والحمية للقتال دون عرضه وماله، فكان وجود المال والنساء والعيال وراء الرجال دافعا للاستماتة القتالية من وجهة نظر قائدهم مالك بن عوف، طالبا بذلك روحا فدائية ونصرا لا يشك فيه.
وخرج النبي برجاله من مكة غازيا لهوازن، لكنه ترك لأهل مكة، ولفرعها الأموي تحديدا طمأنة واضحة، تبليغا بمكانتهم ودورهم في الدولة، فاستخلف على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس الأموي، وكان عمره إذ ذاك قريبا من عشرين سنة؛
4
منبها بذلك إلى دور الجيل القرشي المقبل، ومطمئنا لتجار مكة وسادتها على نظامها الاقتصادي والتجاري، بل والديني الذي أفرزه ظرفها التاريخي، وهو ما تؤكده رواية ابن الأثير حيث يقول إن عتاب الأموي قد حج بالناس هذا العام، «وحج الناس تلك السنة على ما كانت العرب تحج.»
5
وبينما تتحرك كتائب الإيمان نحو أوطاس حنين في اثني عشر ألف مقاتل، منهم جيش الفتح وكان عشرة آلاف، وقد انضم إليه ألفان من الطلقاء، يقول النبي وهو على رأس ركبه العظيم، تهتز تحته أرض البوادي تسمع العربان:
لن نغلب اليوم من قلة!
6
وكانت كلمة الرسول
صلى الله عليه وسلم
معبرة تماما عن واقع موضوعي واضح فصيح، فمهما كانت قوة هوازن وثقيف، فلن تقاس عدا على جند الله الذين يمثلون أكبر جيش عرفته الجزيرة من عربها، ولم يعد الأمر بحاجة في تلك الجولة لاستدعاء ملأ السماء المقاتل ولا تعبئة للملائكة، ونادى النبي في رجاله هاتفا:
من قتل قتيلا فله سلبه.
7
وجاءه رجل من عيونه المتقدمين يحمل أخبار العدو يقول: «يا رسول الله، إني انطلقت من بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، فإذا بهوازن عن بكرة أبيها بظعنهم وبنعمهم وشائهم قد اجتمعوا إلى حنين.» فتبسم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وقال:
تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله.
8
لكن على طريق هوازن، يظهر بين ذلك الجمع من جند الإيمان كثير من سوء الفهم للإسلام وأهدافه، خاصة بين أولئك الذين احتشدوا معه على حداثة عهد بالإسلام من العربان والطلقاء، حيث يمرون بشجرة مقدسة لعرب الجاهلية اسمها ذات أنواط، وعندما يرونها يقولون للنبي
صلى الله عليه وسلم : «يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط.» وكانت ذات أنواط قد بلغت رتبة الربوبية في الجاهلية؛ ومن ثم لم يدرك هؤلاء مغزى التوحيد القومي والتوحيد الألوهي الذي لا يقبل شراكة، وهم من لا شك ينطبق عليهم قول الآيات الكريمة:
قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا (الحجرات: 14)؛ لذلك كان رد رسول الله عليهم المستنكر: «الله أكبر، هذا كما قال قوم موسى لموسى: اجعل لنا آلهة كما لهم آلهة. لتركبن سنن من كان قبلكم.»
9
هذا بينما كان مالك بن عوف قد عزم من جانبه على نصر إن حدث غير تاريخ الجزيرة والعالم، فاستفاد من دروس غزوة بدر الكبرى، حين كان المسلمون قلة أمام كثرة، وعلم الأسباب ودرس الخطط، ليفعل ما سبق وفعله المسلمون أوانها؛ فسبق جيش المسلمين برجاله إلى مواقع متميزة اختارها بجبال حنين المرتفعة والتي تنحدر إلى قعر فسيح يسمى أوطاس، ووزع رجاله في مواقع مختارة بعناية، وهيأه ما بين رام وفارس وراجل ودارع، ووضع خلفهم نساءهم وأطفالهم وبعيرهم وشياههم وأموالهم، وهو يعلم من جانب آخر حال ذلك الجيش الهائل وما فيه من ثغرات، أهمها أولئك الذين دخلوا الإسلام كرها، وأطلق عليهم المسلمون الأوائل اسما يليق بهم، أسموهم الطلقاء.
ونسمع من الصحابي جابر تصوير المشهد الأول للغزوة وهو يقول:
فلما استقبلنا وادي حنين، انحدرنا في واد أجوف حطوط، إنما ننحدر فيه انحدارا، في عماية الصبح، وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي فكمنوا لنا في شعابه ومضايقه، قد تهيئوا وأعدوا، فوالله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدت علينا شدة رجل واحد، فانهزم الناس أجمعون لا يلوى أحد على أحد.
10
الآن ينهزم جيش دولة النبي وهو الكثير أمام فئة قليلة؟! الآن وبعد ذلك المشوار الطويل الكبير العظيم، وبعد أن قاربت الدولة الكبرى على القيام في جبين التاريخ، وبعد كل تلك المعاناة والتجارب والهزائم والانتصارات، وبعد كل تلك الدماء وذلك العمر الذي انقضى، والدولة الكبرى من التحقيق قاب قوسين أو أدنى، وبعد كل ذلك التواصل بين الأرض والسماء، وكل الآيات التي تتحدث عن الاستشهاد وعن الجنة وعن النار؛ تفر الكثرة أمام القلة، ويتبعثر الاثنا عشر ألف مقاتل منهزمين يحاولون الصعود من أوطاس إلى حنين، والصعود ليس كالهبوط، فيه الذعر وفيه الكبوات، فيه سهام تئز ورماح تطارد، لا أحد يلتفت إلى أحد، ولا حتى إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وهو يرى المشروع برمته يتزلزل زلزالا عنيفا، ليقف مكانه ثابتا؛ فالآن بعد كل تلك الحياة الحافلة بزخم الأحداث الكبرى، إما حياة تصل إلى مبتغاها أو لا حياة، ويصمد القائد العظيم وحده ويهرب المؤمنون فرارا من الموت، ولا يبقى من القضية كلها والشعارات جميعا عن جنة الشهداء ونار الكافرين، سوى رابطة الدم وحدها، فيجتمع حول بغلة الرسول أهل بيته فقط من بني عبد المطلب وأبي طالب، ثمانية فقط من الاثني عشر ألفا وقفوا ترسا واحدا في حلقة حول ابن أخيهم، بينما النبي يهتف في رجاله المؤمنين:
11
أين أيها الناس؟!
هلم إلي،
أنا رسول الله،
أنا رسول الله،
أنا محمد بن عبد الله.
ويعقب ابن كثير على النداء النبوي:
ولا شيء!
وركبت الإبل بعضها بعضا.
أو:
وانكفأ الناس منهزمين،
لا يقبل أحد على أحد.
12
ووسط الغبار الثائر تحت خطو الهاربين وسنابك خيولهم، يلمح أحد الفارين عمر بن الخطاب فيسأله: «ما شأن الناس؟» ليجيبه عمر معبرا عن مدى اللوعة واليأس: «أمر الله!»
13
وانتحى أبو سفيان مع رفقة له من رجال مكة الطلقاء، مكانا آمنا يطالعون مشهد الارتداد والنكوص لجند المسلمين الفزعين، ليفصح لسانه عن مكنون صدره، فيهتف معبرا عن فرحه العظيم:
لا تنتهي هزيمتهم دون البحر.
أما كلدة بن الحنبل، الذي خرج من مكة مع النبي وهو على شركه، وكان يظن أن ما حققه محمد إنما بفضل السحر، فقط علا صوته وهو يعلن سعادته جهيرة بما يرى ويصرخ:
ألا بطل السحر اليوم!
لكن ليرد عليه أخوه لأمه صفوان بن أمية، أحد كبار أشراف مكة، معبرا عن قبليته العميقة وعصبيته المتجذرة لأهله، يقول: «اسكت فض الله فاك، فوالله لئن يربني رجل من قريش، أحب إلى من أن يربيني رجل من هوازن.»
14
ويقول ابن كثير: «اعتزل أبو سفيان وصفوان وحكيم بن حزام وراءهم ينظرون لمن تكون الدائرة.»
15
فيمر عليهم رجل من قريش ينادي صفوان بن أمية: «أبشر بهزيمة محمد وأصحابه، فوالله لا يجتبرونها أبدا.» ليرد صفوان مكررا معبرا عن أسفه مما يسمع من بني قريش: «تبشرني بظهور الأعراب؟ فوالله لرب من قريش أحب إلي من رب من الأعراب.» وهي ذات المشاعر العشائرية التي عبر عنها لسان مصعب بن شيبة، عندما سئل بعدها عن خروجه مع رسول الله إلى هوازن، حيث يقول: «والله ما أخرجني إسلام ولا معرفة به، ولكني أبيت أن تظهر هوازن على قريش.»
16
أما النبي الذي وقف يشاهد هذا الانهيار، فقد نظر إلى السماء وهو يهتف بربها:
اللهم إنك إن تشاء،
لا تعبد في الأرض بعد اليوم.
17
وكان لا بد من عمل سريع، وتصرف حاسم، فينظر الرسول إلى حامل راية هوازن، يرفع الراية ويمسك برمح طويل لا يحمله إلا رجل شديد المراس، يقتحم الناس بفرسه ووراءه رجال هوازن وثقيف، وهنا يرفع النبي إصبعه مشيرا إلى حامل الراية، ويتبع علي بن أبي طالب الإشارة ليهوي بسيفه على عقب الفرس، فيسقط فيقتله فتسقط الراية ... وترتبك هوازن.
ثم يجول المصطفى بعينيه يبحث بين الهاربين عن خئولته من أهل الدم والحرب والحلقة اليثاربة، ثم يهتف بعمه العباس فجأة، بينما هو واقف يمسك بزمام بغلة الرسول دلدل:
يا عباس،
ناد: يا معشر الأنصار،
يا أصحاب الشجرة.
كان النداء نداء رحم وخئولة، وتذكيرا بعهد البيعة حتى الموت تحت الشجرة، وتنبيها إلى عقد العربي وجواره المعقود بين الأنصار والنبي في العقبة، واستشرافا لشهامة النجدة والمروءة، واستنفارا للنخوة العربية، ويستمر العباس ينادي والنبي يلقنه:
يا أصحاب البيعة يوم الحديبية،
الله الله!
الكرة على نبيكم،
يا أنصار الله،
يا أنصار رسول الله،
يا بني الخزرج،
يا أصحاب سورة البقرة،
يا أصحاب السمرة.
18
نداء لمس الحواشي وهز ما بين الجوانح ولجت به الخئولة في تعبير العباس بن عبد المطلب وهو يقول:
فوالله لكأنما عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا:
يا لبيكاه!
يا لبيكاه!
19
ويمضي العباس، الشاهد على عقد العقبة مع الأنصار، الذين تكفلوا بحماية النبي بعهد وعقد عربي، ليصف لنا المشهد الثاني للمعركة الكبرى، لينظر إلى الأنصار ويقول شاهدا على التزامهم عهدهم ووفائهم رحمهم:
فيذهب الرجل منهم يريد أن يثني بعيره فلا يقدر على ذلك، فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه، ويأخذ سيفه وترسه، ثم يقتحم عن بعيره، فيخلي سبيله في الناس، ثم يؤم الصوت حتى ينتهي إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة رجل استقبلوا الناس فاقتتلوا، فكانت الدعوى أول ما كانت: يا للأنصار. ثم جعلت أخيرا: يا للخزرج.
20
وصمد المسلمون، وبدأ الفارون في العودة والتكاثر، وعاد السيف الإسلامي يشتد مرة أخرى ليعمل عمله في هوازن وثقيف لينتحي النبي يمينا وحوله آل بيته الهاشمي، ويقول من معتلاه: الآن حمي الوطيس.
وبلاغة المصطفى هنا ظاهرة في تعقيبه على دورة الدائرة على هوازن في وادي أوطاس، وقوله الآن حمى الوطيس. والوطيس في شرح السهيلي هي نقرة في حجر توقد حوله النار فيطبخ به اللحم، ويعقب بأنها من الكلم التي لم يسبق النبي إليها أحد.
21
ومع صمود الأنصار عاد الجيش المنهزم ليحط على عدوه ليستحر القتل حتى قال ابن سعد: «فأمر رسول الله أن يقتل من قدر عليه، فحنق المسلمون عليهم يقتلونهم حتى قتلوا الذرية، فبلغ رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ذلك، فنهى عن قتل الذرية.»
22
وما هي إلا سويعات حتى جمع المسلمون من الأسرى ما يربو على ستة آلاف نسمة أعمهم نساء وأطفال تركهم رجالهم وهربوا أو قتلوا،
23
ووقف المسلمون يحصون غنائمهم التي وصلت أربعة وعشرين ألف بعير، وأكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية من الفضة.
24
أمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أن يتم حبسها في الجعرانة حتى ينظر في أمر توزيعها على أفراد الجيش المنتصر.
هذا بينما كانت أم سليم تعبر عن مشاعر السخط على الخونة في الجيش والطلقاء من قريش، الذين فروا والذين شمتوا والذين فرحوا والذين وقفوا ينتظرون تحديد موقفهم بتحديد العلامات المبشرة لمن ستكون الكرة، فتقول للنبي: «يا رسول الله، اقتل من بعدها الطلقاء الذين انهزموا بك.» فقال: «إن الله قد كفى وأحسن يا أم سليم.»
25
وفاضت مشاعر حسان بن ثابت الأنصاري ضد الطلقاء، فقال في كلدة بن الحنبل الذي كان يهتف: «ألا بطل السحر اليوم»:
رأيت سوادا من بعيد فراعني
أبو حنبل ينزو على أم حنبل
كأن الذي ينزو به فوق بطنها
ذراع قلوص من نتاج ابن عزهل
26
حصار الطائف
والله لنحن أذل من العبيد.
عيينة بن حصن
الطائف، مدينة الثقفيين الكبرى التي بلغت شوطا عظيما في التمدين، كانت المدينة التي لا تقل شأنا عن مكة، ونافست يثرب طويلا على صدارة الموقع الثاني بعد مكة، وربما سعت مثلما سعت يثرب لتحوز المركز الأول، مستمدة ذلك من قوة أدت إليها عوامل عدة؛ فهي من أعدل مناطق الجزيرة مناخا وأكثرها خصوبة وزرعا، إضافة إلى موقعها الذي يقف على طريق التجارة بين مكة واليمن، طريق رحلة الشتاء؛ وهو الأمر الذي جعلها في حسابات الرسول
صلى الله عليه وسلم
عندما كان بمكة يبحث عن مدينة تحقق مشروعه العظيم، تقع في الموقع الأول، فزارها داعيا لكنهم ردوه ردا سفيها، فيمم وجهه بعد ذلك نحو الأخوال في يثرب، بعد أن فقد الأمل في فهم سراة ثقيف وأشرافها لأبعاد ذلك المشروع الهائل.
وعندما نتذكر عدد رجالها المقاتلين، يجب أن نوقن من وجود صراع على النفوذ بينها وبين قريش، التي كانت تتطلع إلى مد نفوذها إلى الطائف لحل مشكلة وضعها في المعادلة التجارية، لوجودها على الخط التجاري لرحلة الشتاء؛ وقد تمكن بعض أثرياء قريش بالفعل من شراء بعض الأماكن الخصبة بين الثقفيين، وتتابعوا يستحوذون على أراضيها الخصبة، وهو ما نجده واضحا عند ابن حبيب.
1
وطبيعي أن تحاول ثقيف الاستقلال الاقتصادي؛ وهو ما أدى إلى تنافس جعل أهل الطائف يستجلبون قوافل التجارة إليهم، بجعل مدينتهم ذات المناخ المتميز، مركزا للتجارة والتجار، ووصل الأمر إلى حد وقوع الحرب بين الفريقين فيما يعرف بحرب الفجار، وغني عن الذكر أنها سميت كذلك لأنها نشبت إبان الأشهر الحرم، والتي أرادت ثقيف ضرب حرمتها لضرب التجارة القرشية.
2
ويبدو أن قريشا قد اضطرت إلى لون من المصالحة باقتسام المنافع المشتركة، بعدما جد ظرف جديد لصالح الطائف، تمثل في استيلاء الفرس على اليمن؛ وهو ما أدى بإرسال كسرى وملوك الحيرة قوافلهم التجارية إلى اليمن عبر الطائف دون المرور على مكة. ويمكن للعين الفاحصة أن تتلمس أسباب حرب الفجار، حيث شجعت قريش عن عمد حليفا قبليا لها ليهاجم قافلة للنعمان ملك الحيرة، ويغلق طريق الحيرة إلى اليمن عبر الطائف.
ومن جانبها وجدت الطائف نفسها مضطرة إلى السلام مع قريش، بالنظر إلى ظرفها الداخلي، حيث نشب الصراع بين عشائرها، وهو المعلوم بشأن بني عوف مقابل بني مالك، بينما اتجهت قريش إلى مد نفوذها الاقتصادي داخل الطائف بشراء أراضيها، وإقراض رؤسائها ما يريدون من أموال؛ لينتهي القرشيون إلى السيطرة على السوق الداخلية للطائف، بل وحولوا مدينة الطائف إلى سوق الحجاز المركزي. وبالمقابل كانت ثقيف بحاجة لتصريف منتجاتها الزراعية في مكة، فاعترفت بالأمر الواقع، وبصدارة مكة وبالتحالف مع قريش لعدم إهدار المصالح، فكانا يقتسمان النفوذ تقريبا عند ظهور الإسلام؛ حيث سيطرت قريش على طريق الإيلاف الشامي، وتركت للطائف طريق الشتاء، وانتقل الصراع إلى تحالف واختلاط ومصاهرات ومشاركة في رءوس الأموال.
وعندما نتذكر أن ثقيف هي التي كانت دليل جيش أبرهة الحبشي نحو مكة عام الفيل،
3
يمكن أن نفهم فورا موقف ثقيف المتصلب عندما ذهبها محمد داعيا، ثم موقفها المتصلب من النبي ومن قريش بعد سقوط مكة واستسلام سادتها للنبي، حيث اكتشفت أن مصيرها الخضوع التام لسيادة قريش إن غزاها النبي؛ ومن ثم قامت تحالف هوازن لتكوين جبهة تحاول إنقاذ مصالحها من ذلك التهديد الهائل، وخاضت حربها اليائسة ضد جيش المسلمين، بينما كان النبي على الطرف الآخر يسعى إلى هذه المعركة سعيا، حيث كان قراره بحفظ مكة قريته وأهله من السبي؛ ومن ثم لم يغنم جنده شيئا يعوضهم عن فتحها، حيث لم يغنموا شيئا على الإطلاق؛
4
ومن ثم كان توجيه المسلمين نحو هوازن وثقيف اللتين كانتا قد تهيأتا بدورهما للمعركة الانتحارية.
5
وبالهزيمة، تراجعت ثقيف إلى الطائف، ومعها من انضم إليها من هوازن، حيث حصونهم القوية وميرتهم وزادهم الكثير،
6
وهنا أمر النبي بالمسير فورا إلى الطائف ليضرب الحصار على حصونها.
ولما كانت ثقيف قد ترفلت في النعيم، ولا تقل ثرواتها عن ثروات المكيين، واقتنى سادتها الثمين من مقتنيات الذهب والفضة، وحلوا نساءهم بالجوهر على أنواعه؛ فقد انسلت خولة بنت حكيم بن أمية زوجة عثمان لتقترب من النبي وهم يوجهون نحو الطائف تقول له:
يا رسول الله، أعطني إن فتح الله عليكم الطائف، حلى بادية بنت غيلان، أو حلى الفارعة بنت عقيل.
7
هذا بينما كان المخنث «هيت» مولى فاختة بنت عمرو خالة النبي، يقول لعبد الله بن أمية:
إن فتح الله عليكم الطائف، فسل رسول الله أن ينفلك بادية بنت غيلان؛ فإنها هيفاء شموع نجلاء، إن تكلمت تغنت، وإن قامت تثنت، وإن مشت ارتجت، وإن قعدت تبنت، تقبل بأربع وتدبر بثمان، بثغر كالأقحوان، بين رجليها كالقعب المكفأ.
8
وكان «هيت» يدخل على نساء النبي ويذهب إلى بيوته، والرسول لا يظن أن له شيئا مما للرجال، وأنه لا يفطن إلى شيء من أمر النساء مما يفطن إليه الرجال، ولا يرى أن له في ذلك إربا. فلما سمعه يقول ما قال لعبد الله بن أمية قال: «لا أرى هذا الخبيث يفطن لما أسمع.» ثم قال لنسائه: «لا يدخلن عليكن.» فحجب عن بيت الرسول.
9
لكنه في رواية السهيلي قال لهيت: «قاتلك الله، لقد أمعنت النظر.» ثم قال: «لا يدخلن هؤلاء عليكن.» ثم نفاه إلى روضة خاخ، فقيل إنه يموت جوعا، فأذن له أن يدخل المدينة كل جمعة يسأل الناس.
10
وصيغة الجمع في قول رسول الله «لا يدخلن هؤلاء عليكن» تشير إلى آخرين مخنثين عاشوا في مدينة الرسول مثلما كان حال «هيت» وهو ما يفيدنا به السهيلي في شرحه لأمر مخنثي المدينة حيث يقول إن المخنثين المعلومين كانوا أربعة يحملون أسماء تليق بهم؛ فهم «هيت» و«هرم» و«ماتع» و«أن»، ووصفهم بقوله: «كان تأنيثهم لينا في القول، وخضابا في الأيدي والأرجل كخضاب النساء، ولعبا كلعبهن، وربما لعب بعضهم بالكرج، وفي مراسيل أبي داود أن عمر رضي الله عنه رأي لاعبا يلعب بالكرج، فقال: لولا أني رأيت هذا يلعب به على عهد النبي
صلى الله عليه وسلم
لنفيته من المدينة.»
11
وبالوصول إلى الطائف أمر النبي بقصر مالك بن عوف المتطرف فأحرق،
12
ويقول البيهقي إنه نصب عليهم المنجنيق أربعين يوما، فكان أول من رمي بالمنجنيق والدبابات والضبور في الإسلام، لكن ثقيف المستميتة تمكنت من صد دبابات المسلمين، بإلقاء الحديد المحمى بالنار عليها وعلى من فيها من فوق الأسوار، وهنا أمر النبي بقطع كرومهم الهائلة الموجودة خارج حصونهم لتدميرهم معنويا،
13
فنادوه من على الأسوار: «لا تفسدوا الأموال فإنها لنا أو لكم.»
14
فرد عليهم بنداء آخر يسمع عبيدهم؛ أن من خرج إليه من عبيد ثقيف فهو حر، فخرج إليه هربا بعضهم، على رأسهم من أصبح بعد ذلك الصحابي الجليل أبا بكرة.
15
ولما طال الحصار جاء الأحمق الذي لم يعد مطاعا «عيينة بن حصن» زعيم غطفان الفزارية إلى النبي، والمفترض أنه قد أصبح مسلما، فطلب منه الإذن ليذهب إلى ثقيف في حصونها، يدعوهم إلى الاستسلام والإسلام، لكنه عندما وصلهم أفصح عن لسان حال الزعماء الذين خضعوا راغمين، فقال لهم :
بأبي أنتم، تمسكوا بمكانكم، والله لنحن أذل من العبيد، وأقسم بالله لئن حدث به حدث لتملكن العرب عزة ومنعة، فتمسكوا بحصونكم، وإياكم أن تعطوا بأيديكم، ولا يتكاثرن عليكم قطع الشجر.
16
وطال الحصار، وعلم النبي أن الأمر سيطول أكثر، وأن ثقيف تمتنع في حصونها ولديها من الزاد وفرة، فاستشار نوفل بن معاوية الدؤلي، فقال له: يا رسول الله، ثعلب في جحر؛ إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك.»
17
فاستدعى النبي أبا بكر وقال له: «يا أبا بكر، إني رأيت أني أهديت لي قعبة مملوءة زبدا، فنقرها ديك، فهراق ما فيها.» فقال أبو بكر: «ما أظن أنك تدرك منهم يومك هذا ما تريد.» فقال رسول الله: «وأنا أرى ذلك.»
18
ومن ثم أذن في الناس برفع الحصار والعودة إلى الجعرانة، حيث أسرى وسبايا وغنائم حنين.
وعندما سمع الزعيم الغطفاني عيينة بن حصن الفزاري نداء رفع الحصار عن ثقيف، هتف لفوره معبرا عن عظيم فرحه: «أجل والله مجدة كراما.» فقال له رجل من المسلمين: «قاتلك الله يا عيينة، أتمدح المشركين بالامتناع عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وقد جئت تنصره؟» فقال: «والله إني ما جئت لأقاتل ثقيفا معكم، ولكني أردت أن يفتح محمد الطائف فأصيب من ثقيف جارية أطؤها.»
19
أما ابن كثير فقد التمس تفسيرا تبريريا لرفع الحصار عن الطائف وذلك في قوله الباحث عن الحكمة وراء الحدث:
قلت: وكانت الحكمة الإلهية تقتضي أن يؤخر الفتح عامئذ، لئلا يستأصلوا قتلا؛ لأنه قد تقدم أنه عليه السلام لما كان خرج إلى الطائف فدعاهم إلى الله تعالى، وإلى أن يؤووه حتى يبلغ رسالة ربه عز وجل، وذلك بعد موت عمه أبي طالب، فردوا عليه قوله، وكذبوه، فرجع مهموما، فلم يستفق إلا عند قرن الثعالب، فإذا هو بغمامة فيها جبريل، فناداه ملك الجبال، فقال يا محمد إن ربك يقرأ عليك السلام، وقد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، فإن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بل أستأني بهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده وحده لا يشرك به شيئا. فناسب قول «بل أستأني بهم» ألا يفتح حصنهم لئلا يقتلوا عن آخرهم، وأن يؤخر الفتح ليقدموا بعد ذلك مسلمين في رمضان من العام المقبل.
20
وعاد النبي برجاله إلى الجعرانة، لتأتيه هناك امرأة من سبي هوازن، تزعم أنها أخته من الرضاعة، وأن اسمها الشيماء، فيسألها عن مؤيدات صدقها، فتكشف له بجسدها عن عضة كان قد عضها لها، فيتعرف الرسول
صلى الله عليه وسلم
على العلامة، فيبسط لها رداءه ويجلسها عليه، ويخيرها بين البقاء عنده محببة مكرمة، أو أن يعيدها إلى قومها ممتعة، فتقول له: «بل تمتعني وتردني إلى قومي ... فأسلمت، فأعطاها رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ثلاثة أعبد وجارية، ونعما وشاء، وسماها حذافة، وقال: الشيماء لقب.»
21
وتعلم هوازن بعودة النبي، وتدرك أن الإسلام هو الوقاء الأمثل، فتختار له تسعة ممن بقي من أشرافهم، ليعلنوا أمامه إسلام هوازن ويبايعوه على السمع والطاعة، ثم يفاتحوه في مصابهم قائلين: «يا رسول الله، إن فيمن أصبتم الأمهات والأخوات والعمات والخالات وهي مخازي الأقوام، ونرغب إلى الله وإليك يا رسول الله.» وكان رحيما جوادا كريما، فقال: «سأطلب لكم ذلك.» أما كيف؟ فقد سألهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟» فقالوا: «يا رسول الله، خيرتنا بين أموالنا وأحسابنا، بل ترد إلينا نساءنا وأبناءنا فهو أحب إلينا.» فقال: «إذا أنا صليت بالناس الظهر، قوموا وقولوا: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا. فسأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم.»
وفعل الهوازنيون بتوجيهات الرسول
صلى الله عليه وسلم ، ووافق جميع المسلمين اللهم إلا عيينة بن حصن مع غطفان وفزارة، والأقرع بن حابس التميمي ومعه تميم، وعباس بن مرداس زعيم سليم، إلا أنهم وافقوا جميعا في نهاية الأمر،
22
وعادت هوازن برجالها ونسائها وأطفالها مؤمنة مسلمة بعد كفران، لكن بعد أن ركبت رأسها فخسرت أموالها وشرف الكثير من نسائها.
ورغم نصر هوازن فإن الرسول القائد
صلى الله عليه وسلم
ما كان ليغفل عن نقطة ضعف قد تكون قاتلة في صفوف رجاله، حيث بينهم من دخل تحت سيادة الدولة وسيدها، من سادة ورءوس وأشراف كبار، كان أحدهم لا يقبل برأس يعلو رأسه، فدخلوا على مضض مرغمين، يتحينون فرص النكوص، وعبروا في أكثر من موقف عن مكنون صدورهم. أما الأخطر فهو ما يمكن أن يسببوه للدولة من مشاكل، ربما أدت لنكسات وهزائم، وهو الأمر الذي يمكن استنتاجه ببعض الظن؛ فمن المحتمل أن يكون ما حدث في المشهد الأول لوقعة حنين ترتيبا مقصودا من الطلقاء، من قريش ومن القبائل الكبرى كفزارة وسليم وتميم، فيهرب فرسانهم أمام هوازن؛ لإيقاع الارتباك بين جنود المسلمين وصفوفه، الذي يمكن لأفراده أن يهربوا بدورهم بغريزة القطيع. وهو أمر محتمل تماما إذا أخذنا بالاعتبار حجم الجيش الإسلامي وعدد أفراد هوازن المقاتلين، وهو ما يزداد تأكيدا إذا تذكرنا أن الكرة عادت على هوازن فقط بمئة أنصاري من بين الاثني عشر ألفا، أخوال الرسول وناصروه في كل موقع بخئولة حقة وإيمان صادق، ولولا صمود الأنصار في الوقعة لكانت النتائج مختلفة تماما، ولربما تغير وجه التاريخ برمته. كان وعى القائد النفاذ يستدعى حلا سريعا لرتق تلك الثغرات في الولاء للدولة، فقام يوزع الأعطيات الهائلة من مغانم الهوازنيين الذين أسلموا على كبار الرءوس والهامات الصلبة الثرية أصلا؛ ليفتح عيونهم على ما ينتظرهم وإشعارهم أن الإسلام لا ينتقص منهم ومن مكانتهم، بل يزيدهم ثراء على ثراء، ويفتح أمامهم أبواب الغنى الهائل على مصراعيه، إزاء الطموحات المتوثبة في الوعد النبوي بكنوز كسرى وقيصر؛ فأعطى أبا سفيان صخر بن حرب أربعين أوقية من الفضة، ومائة من الإبل، فلم يقنع السيد القرشي وطلب لابنه يزيد، فأعطاه مثلما أعطى أباه، فطلب لابنه معاوية فأعطاه مثلهما. كما أعطى حكيم بن حزام مائة من الإبل، فسأله مثلها فأعطاه، وأعطى الحارث بن كلدة مائة من الإبل، كذلك لأسيد بن جارية والحارث بن هشام وصفوان بن أمية وقيس بن عدي وسهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن ومالك بن عوف، وكلهم سادة قومهم وأشرافهم وأثرياؤهم، لكل منهم مائة من الإبل. وأعطى لسيد من السادة هو عباس بن مرداس زعيم سليم أربعين من الإبل، فسخط سخطا شديدا، وقام يعبر عن واقع ما يحدث من سيادة وتسييد بقوله:
فأصبح نهبي ونهب العبي
د بين عيينة والأقرع
وما كنت دون امرئ منهما
ومن تضع اليوم لا يرفع
فقال النبي: اذهبوا فاقطعوا عني لسانه. فظلوا يعطونه حتى رضي، ثم وزع الإبل خمسين خمسين على من هم أدنى في السيادة درجة،
23
كل ذلك والأنصار تقف مشدوهة تتطلع.
ولا شك أنها تذكرت وتذاكرت مواقفها من البدء حتى المنتهى، ودماء بعضهم لم تجف بعد على ثرى أوطاس بحنين، ثم تتذكر خروجها مع النبي في غزواته وطلوعها على العرب في سرايا، وقتل من يأمر الرسول بقتله من بينهم أو من بين أحلافهم، ثم لا شك يتذكرون يوم أحد، عندما فر الناس من حوله بخاصة المهاجرون، وكيف صمدوا للمشركين يصدونهم عن رسول الله، وكيف ضن النبي بطلحة عندما كان يهرب إلى معتلى الصخرة، ويقول ألا أحد لهؤلاء. فيكر أنصاري عليهم يمنعهم عن النبي فيموت شهيدا، ثم يصعد النبي ومعه طلحة، فيقول النبي ألا أحد لهؤلاء. فيقول طلحة أنا لهم يا رسول الله. فيقول كما أنت يا طلحة. فينزل لهم رجل من الأنصار حتى يموت شهيدا.
لا شك أيضا يذكر الأنصار بيعة العقبة وعقدها، ويوم الهجرة عندما أتاهم النبي مهيضا لاجئا مع رجاله، فأعطوهم دورهم وشاركوهم قوتهم بل ونساءهم.
ولا شك أيضا أن الحاضر قائم بكل تفاصيله، وأنه لولاهم عندما عطفوا عطفتهم على هوازن، ما بقي من الأمر شيء. وهنا تعلوا الأصوات، ويكثر اللغط، ويقول قائلهم:
نحن أصحاب كل مواطن وكل شدة ثم آثر قوما علينا وقسم فيهم قسما لم يقسمه لنا، وما نراه فعل ذلك إلا وهو يريد الإقامة بين ظهرانيهم.
ويقول آخر:
يغفر الله لرسول الله، يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم.
ويزيد ثالث:
أما من قاتله فيعطيه، وأما من لا يقاتله فلا يعطيه.
هذا بينما بدأ الاحتجاج، وأخذ الناس يكثرون في الكلام، حتى قيل للرسول ما لا يصح من كلمات شديدة الاحتجاج، فهذا أبو موسى يروي: «كنت عند النبي
صلى الله عليه وسلم
وهو نازل بالجعرانة بين مكة والمدينة ومعه بلال، فأتى رسول الله أعرابي فقال: ألا تنجز لي ما وعدتني؟
فقال له: أبشر.
فقال الأعرابي: لقد أكثرت علي من أبشر؟
بينما يقف رجل آخر على رأسه ويقول له: يا محمد، اعدل.
ليرد النبي: ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل؟
فيجاوبه ذو الخويصرة من بني تميم غاضبا: لقد رأيت يا محمد ما صنعت.
فيسأله: وكيف رأيت؟
فيرد بصراحة العربي: لم أرك عدلت.
فهم به عمر يقول: «يا رسول الله، ألا أقوم إليه فأضرب عنقه؟» لكن ليرد عليه النبي:
صلى الله عليه وسلم «دعه؛ إن له أصحابا.»
بينما كان آخر يردد بين القوم:
إن هذه القسمة ما عدل فيها،
وما أريد بها وجه الله.
فيذهب رجل بالكلام إلى النبي، فيتغير وجهه حتى يصير شديد الحمرة، ليهتف بالناس: فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟
24
وينتحي الأنصار جانبا وهم يرون أوباش القبائل يحيطون بالنبي في جمهرة عظيمة، تطالبه بوقف الأعطيات، يقولون له: يا رسول الله، اقسم علينا فيئنا من الإبل والغنم. والنبي يتراجع بين الأصوات الغاضبة، حتى يلجئوه إلى شجرة يعلق بها رداءه ويتراجع فتخلع الشجرة عنه رداءه فيصيح بهم: أيها الناس، ردوا على ردائي. أيها الناس، والله لو كان لكم بعدد شجر تهامة نعما لقسمته عليكم.
25
ثم يأمر زيد بن ثابت بإحصاء ما تبقى ثم توزيعها على الناس بالعدل، فكانت سهامهم لكن رجل أربعة من الإبل وأربعون من الشياه.
26
هذا بينما وقف حسان بن ثابت أمام الأنصار ينشد عتابه على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قائلا برقة مشاعر الخئولة:
زادت هموم فماء العين منحدر
سحا إذا حفلته عبرة درر
وأت الرسول فقل يا خير مؤتمن
للمؤمنين إذا ما عدد البشر
علام تدعى سليم وهي نازحة
قدام قوم هم آووا وهم نصروا
سماهم الله أنصارا بنصرهم
دين الهدى وعوان الحرب تستعر
وسارعوا في سبيل الله واعترفوا
للنائبات وما خاموا وما ضجروا
والناس ألب علينا منك ليس لنا
إلا السيوف وأطراف القنا وزر
فما ونينا وما خمنا وما خبروا
منا عثارا وكل الناس قد عثروا
27
وهنا ينادي المنادي بالأنصار وحدهم ليجتمعوا في قبة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ليقف فيهم خطيبا يقول:
يا معشر الأنصار، ما قالة بلغتني عنكم؟ وجدة وجدتموهما على أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالا فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله؟ وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟
قالوا: بلى، الله ورسوله أمن وأفضل.
قال: أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم وصدقتم؛ أتيتنا مكذبا فصدقناك، وطريدا فأويناك، وعائلا فآسيناك. أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا، تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟
ألا ترضون يا معشر الأنصار أن تذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعون برسول الله إلى رحالكم؟
فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار.
فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله قسمة وحظا.
28
ثم يختتم الوحي أحداث حنين بقوله الصادق:
لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين * ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين * ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم (التوبة: 25-27).
أحداث ومعجزات
مع الكثرة العددية لجيش المسلمين إزاء هوازن وثقيف، عبر لسان النبي
صلى الله عليه وسلم
عن واقع الحال عندما قال: «لن نغلب اليوم من قلة»، وصادق عليه قول الوحي
إذ أعجبتكم كثرتكم . وهو الإعجاب الذي ما كان ممكنا أن يحدث لولا مقارنة المسلمين عددهم بعدد عدوهم، وهو ما يجافي تمام المجافاة روايات جاءت بكتبنا الإخبارية تؤكد أن عدد مقاتلي هوازن بلغ عشرين ألف مقاتل، وهو الأمر الذي يتناقض تناقضا صارخا مع عودة الكرة عليهم بمئة مقاتل أنصاري، ثم انكسارهم بعد ذلك أمام جيش المسلمين. ويبدو لنا أن قصة العشرين ألف هوازني كانت لونا من المبالغة، لجأت إليه كتبنا الإخبارية في محاولة لتبرير الهزيمة التي لحقت بالمسلمين في بداية المعركة، ناهيك عن كوننا نعلم أن أقصى تعبئة تمكنت القبائل من حشدها في الخندق لم تتجاوز العشرة آلاف مقاتل. ولا ننسى بالطبع أن جيش دولة يثرب الإسلامية الذي ضم معظم محاربي القبائل الكبرى بما فيها قريش، لم يبلغ - رغم عمر الدعوة الطويل حتى هوازن - سوى اثني عشر ألف مقاتل، وإن كان يمكن بحسبة بسيطة تقدير عدد رجال هوازن قياسا على عدد أسراهم من نساء وأطفال وبعض القلة من الرجال، حيث بلغ عددهم ستة آلاف، وبفرض هرب بعض النساء والأطفال دون الألفين، فإن عدد الرجال المقاتلين لا يمكن أن يتجاوز الأربعة أو الخمسة آلاف بأي حال من الأحوال.
ولم يكن ثمة حديث عن تدخل الملأ السماوي إزاء تلك الكثرة المزعومة في جند هوازن، ولم يبدأ حديث الملائكة إلا بعد انهزام المسلمين الذين ولوا الأدبار، ثم عادوا بنصرة الأنصار أخوال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى القتال حتى حققوا نصرهم العظيم، فقط عند هذه الفجوة يبدأ حديث الملأ السماوي وروايات المعجزات الملغزة.
ومع ما جاءت به الآيات الكريمة
وأنزل جنودا لم تروها
فتح الباب لحديث المعجزات، ورغم القرار الواضح في الآيات عن رب العالمين الصادق صدق كماله بأنهم لم يروها، فقد قرر البعض التطوع بالشهادة أنهم رأوها، لتأكيد وجود الملأ الأعلى منذ بدء المعركة وقبل هزيمة المسلمين، ومن تلك الشهادات رواية تقول:
إن مالك بن عوف النصري بعث عيونا من رجاله فأتوه وقد تفرقت أوصالهم، فقال: ويلكم ما شأنكم؟ قالوا: رأينا رجالا بيضا على خيل بلق، فوالله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى.
29
ثم نموذج آخر مجهل المصدر بدوره، لا نعرف أصحابه في رواية تقول عند هزيمة المسلمين وثبات الرسول وآل بيته المطلبي والطالبي:
عمن شهد حنينا كافرا قال: لما التقينا نحن ورسول الله
صلى الله عليه وسلم ، لم يقوموا لنا حلب شاة، فجئنا نهش سيوفنا بين يدي رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا غشيناه فإذا بيننا وبينه رجال حسان الوجوه، فقالوا شاهت الوجوه فارجعوا. فهزمنا من ذلك الكلام.
30
ومثيل تلك المحاولة لقتل رسول الله يأتي الحديث منسوبا إلى شيبة بن عثمان العبدري، الذي خرج من قريش مع رسول الله إلى هوازن يريد أن يغتاله في زحمة القتال، فيقول ابن كثير راويا على لسان شيبة:
لما رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يوم حنين قد عري، ذكرت أبي وعمي وقتل حمزة إياهما، فقلت اليوم أدرك ثأري من رسول الله
صلى الله عليه وسلم ... ثم جئته من خلفه فلم يبق إلا أن أساوره سورة بالسيف، إذ رفع شواظ من نار بيني وبينه كأنه برق، فخفت أن يمحشني.
31
هذا بينما يروي البلاذري الرواية ذاتها، لكن من منطق آخر، حيث يقول:
وكان شيبة بن عثمان العبدري شديدا على المسلمين، وكان ممن أومن، فسار إلى هوازن طمعا في أن يصيب من النبي
صلى الله عليه وسلم ، قال: فدنوت منه، فإذا أهله محيطون به، ورآني فقال يا شيب إلي. فدنوت منه فمسح على صدري ودعا لي فأذهب الله كل غل فيه، وملأه إيمانا وصار أحب الناس إلي.
32
أما ذلك الراوي الذي كان طوال الوقت مغرما بالنمل، يرى فيه صورة الملائكة، فيروي لنا على لسان جبير بن مطعم قوله:
إنا لمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يوم حنين، والناس يقتتلون، إذا نظرت مثل البجاد الأسود يهوي من السماء حتى وقع بيننا وبين القوم، فإذا نمل منثور وقد ملأ الوادي، فلم يكن إلا هزيمة القوم، فما كنا نشك أنها الملائكة.
33
أما السهيلي فشرح لنا اختيار النمل تحديدا لتتلبسه الملائكة فيقول:
ورآهم جبير على صورة النمل المبثوث، إشعارا بكثرة عددها؛ إذ النمل لا يستطاع عدها، مع أن النملة يضرب بها المثل في القوة، فيقال: أقوى من نملة. أنها تحمل ما هو أكبر من جرمها بأضعاف، وقد قال رجل لبعض الملوك: قوتك قوة نملة. فأنكر عليه. فقال: ليس في الحيوان ما يحمل ما هو أكبر منه إلا النملة.
34
أما ابن سعد فيخالف الآيات وعلم الله الصادق، فيؤكد رؤية الملائكة، وأن سيماءهم يوم حنين كانت عمائم حمرا قد أرخوها بين أكتافهم.
35
ويعود هنا حديث الحصيات المباركات مرة أخرى في رواية يوردها ابن كثير تقول:
فنظر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم، فقال: الآن حمي الوطيس. ثم أخذ حصيات فرمى بهن في وجوه الكفار ثم قال: انهزموا ورب محمد ... ما بقي أحد إلا امتلأت عيناه وفمه بالتراب، وسمعنا صلصلة من السماء كمر الحديد على الطست الحديد، فهزمهم الله عز وجل، ثم أقبل على المشركين فرمى بها في وجوههم وقال: ارجعوا، شاهت الوجوه. فما أحد يلقى أخاه إلا وهو يشكو قذى في عينيه.
36
وبين حديث المعجزات يأتي حديث آخر عن أحداث وقعت بعد هزيمة هوازن، وأسر رجالها وسبي نسائها، وفيهن أخوات النبي وعماته وخالاته وأمهاته من الرضاع، وذلك قبل إعادتهن إلى ذويهن بعد صلح هوازن وإسلامها، فيروي أبو سعيد الخدري قوله:
أصبنا نساء من سبي أوطاس، ولهن أزواج، فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج، فسألنا النبي
صلى الله عليه وسلم ، فنزلت الآية هذه:
والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ، فاستحللنا بها فروجهن ... وقد استدل جماعة من السلف على إباحة الأمة المشركة بهذا الحدث في سبايا أوطاس.
37
وبالفعل استحر إتيان نساء هوازن حرورا، ثم أعيدت النساء إلى أهلهن بعد أن أسلمت هوازن بنسائها، ليروي البيهقي واقعة طريفة تحكي:
إن عثمان كان قد أصاب جارية، خطبت إلى ابن عم لها كان زوجها، وكان ساقطا لا خير فيه، فلما ردت السبايا، ساقها فقدم بها المدينة في زمان عمر أو عثمان، فلقيها عثمان، فأعطاها شيئا بما كان أصاب منها، فلما رأى عثمان زوجها قال لها: ويحك، هذا كان أحب إليك مني ؟ قالت: نعم، زوجي وابن عمي .
38
حكاية تحاول تبخيس شأن رجال هوازن «ساقطا لا خير فيه»، الذين كانوا أزواجا لنساء أتاهم المسلمون في غزوة حنين، ونكحوهن بقوانين السبي العربية التليدة.
الباب الرابع
قيام دولة العرب الموحدة
البراءة
إنما محمد أذن من حدثه شيئا صدقه.
نبتل بن الحارث
الآن وقد تم إخضاع خيبر تماما لسلطان الدولة وتحجيمها إلى الأبد، وبعد فتح أم القرى وخضوع سادة العرب أهل الله القرشيين لدولة يثرب، وبعدما أصبحت هوازن مثلا، فسلبت أموالها، ونكحت نساؤها، وأسلمت جميعا راغمة لسلطان الدولة، وبعد أن كمنت ثقيف كثعلب في حجر، وبعد ما خرج عليها سيدها مالك بعدما تألفه الرسول بالعطايا، فأحكم عليها الحصار، يقطع عليها الطريق ويستولي على قوافلها، وبعدما تضخم حجم الجيش الإسلامي وضم أشاوس القبائل الحجازية جميعا؛ عادت كنوز قيصر تنادي العرب، ففي صبيحة يوم من أيام رجب من سنة تسع، أعلن منادي النبي في الناس التجهز لغزو الروم.
ويحكي راوي السيرة ابن هشام فيقول:
ثم أقام رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بالمدينة ما بين ذي الحجة إلى رجب، ثم أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم ... وذلك في زمان عسرة من الناس وشدة من الحر وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذي هم عليه. وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قلما يخرج في غزوة إلا كنى عنها، وأخبر أنه يريد غير الوجه الذي يصمد له، إلا ما كان من غزوة تبوك فإنه بينها للناس؛ لبعد الشقة وشدة الزمان وكثرة العدو الذي يصمد له، ليتأهب الناس لذلك أهبته، فأمر الناس بالجهاز، وأخبرهم أنه يريد الروم.
1
ورغم كل تلك الانتصارات الساحقة، ورغم تفكيك الروابط القديمة بين القبائل المتحالفة وإدخالها جميعا في حلف الدولة، وما أدى إليه ذلك من إضعاف شديد لصوت المعارضة التي أطلق عليه اصطلاح «النفاق»، بعدما تقلمت أظافرهم تماما؛ تعود الأخبار تخبرنا بأن النفاق قد عاد إلى الظهور عندما دعا النبي إلى غزو الروم، فقام المنافقون يثبطون همم الناس، ويجتمعون في بيت سويلم عند جاسوم يقولون بعضهم لبعض: «لا تنفروا في الحر.»
ويقول ابن هشام إن هذا التباطؤ والتراجع عن الخروج إلى الروم كان «شكا في الحق وإرجافا برسول الله
صلى الله عليه وسلم »، ولكن لأن الظروف قد تغيرت، ولم يعد بإمكان أحد أن يتطاول مرة أخرى على الرسول، فقد أخذوا بالاجتماع سرا لبحث شئونهم، فكان أن أرسل النبي
صلى الله عليه وسلم
إليهم طلحة بن عبد الله في نفر من أصحابه، فحرق عليهم البيت وهم فيه،
2
ثم جاء الوحي يقول:
وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون * فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون (التوبة: 81-82). أما النبي فقد كان يحدث أصحابه بينما البيت يحرق على المجتمعين فيه: «في أصحابي اثنا عشر منافقا، منهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط.»
3
وأحيانا ما كان المسلمون يأتون النبي يستأذنونه في عدم الخروج إلى وقعة، لظروف خاصة ببعضهم فيأذن لهم، فلما جاءه بعضهم هذه المرة، تدخل الله بنفسه ولم يقبل عذرهم بل وجه لهم اتهامات مباشرة بالكذب، ثم نصح رسوله بألا يعذرهم ولا يقبلهم في جيشه حتى لا يؤثروا في جنده الذين يميلون إليهم ويستمعون لرأيهم، فقال تعالى عز من قائل:
لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون * عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين * لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين * إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون * ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين * لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين (التوبة: 42-47).
وهكذا، وبينما ينفق أصحاب اليقين أموالهم لتأمين ميرة المجاهدين لذلك الطريق الطويل، مثل عثمان بن عفان الذي تبرع بألف دينار،
4
كان هناك آخرون يشكون في جدوى تلك الغزوة، ويشكون في نصر العرب على جيوش قيصر، فشكوا في الحق بتعبير ابن هشام، ويشرح ابن إسحاق الآيات السوالف فيقول:
وكان الذين استأذنوه من ذوي الشرف، فيما بلغني؛ منهم عبد الله بن أبي بن سلول، والجد بن قيس، وكانوا أشرافا في قومهم، فثبطهم الله لعلمه بهم أن يخرجوا معه فيفسدوا عليه جنده، وكان في جنده أهل محبة لهم، وطاعة فيما يدعونهم إليه، لشرفهم فيهم.
5
أما الوحي فقد استمر شارحا لموقف هؤلاء فاضحا لهم، حيث أبان بصدق الله تعالى أنهم ما تراجعوا إلا نقمة لأنهم لم يحصلوا على أموال وعطايا كالتي أعطاها النبي للمؤلفة قلوبهم، حيث يقول:
ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون (التوبة: 58).
وقد وضح موقف هؤلاء المنافقين، فيما ورد عنهم من أخبار تشير إلى جبنهم عن ملاقاة الروم بني الأصفر وتخوفهم ذلك، عندما رأوا النبي يقود جنده ميمما شطر الروم فوقفوا يقولون لبعضهم: «أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا؟ والله لكأنا بكم غدا مقرنين في الحبال إرجافا وترهيبا للمؤمنين.» فلما علموا أن قالتهم قد بلغت النبي هرع وديعة بن ثابت بهم يمسك بناقة الرسول يعتذر قائلا: «يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب.» فأنزل الله:
ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب .
6
وهو الأمر الذي يشير إلى تضاؤل شأن المعارضة إلى حد الرهبة والرعب والاعتذار بما لا يليق برجال الحرب وأسنان الشرف.
وخرجت جحافل المسلمين في ثلاثين ألف مقاتل وعشرة آلاف فرس حتى وصلت مشارف بادية الشام لتحاصر تبوك، فيخرج يوحنا بن رؤبة المنوب على أيلة من القيصر ليصالح الرسول على دفع الجزية، ويتبعه أهل جرباء وأذرح، ويكتب لهم النبي كتابا بذلك، ثم أرسل خالد بن الوليد إلى دومة فأتاه بأكيدر الكندي فصالحه بدوره على الجزية، واكتفى من سفره الشاق بذلك وأخذ قراره بالعودة إلى يثرب، حيث تأكد أن هرقل عظيم الروم قد جمع جموعه في حمص.
7
ونعلم مع ذلك أنه مع ترك المنافقين المعلومين بيثرب، فقد وجد بين من خرجوا للجهاد منافقين جددا، حيث يروي ابن إسحاق عن محمود بن لبيد أنه أصابهم عطش في الحجر، فدعا النبي ربه فأرسل سحابة أمطرتهم ماء، وهنا يقول محمود بن لبيد:
لقد أخبرني رجال من قومي عن رجل من المنافقين معروف نفاقه كان يسير مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حيث سار، فلما كان من أمر الناس بالحجر ما كان، ودعا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حين دعا، فأرسل الله سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس، قالوا: أقبلنا عليه نقول ويحك؛ هل بعد هذا شيء؟ قال: سحابة مارة.
8
لكن ليجد المنافقون في عودة النبي دون لقاء الروم، أو حتى تجاوز تبوك نحو الشمال، مجالا للخوض. وهنا يعلمنا البيهقي السبب وراء خروج النبي إلى الروم، وأنها كانت مؤامرة يهودية لا يشير إلى أطرافها ولا أسمائهم ولا من هم، وأن الله قد أنقذه من تلك المؤامرة، وذلك في قوله: «ما روي في سبب خروج النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى تبوك وسبب رجوعه إن صح الخبر فيه ... أن اليهود أتوا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يوما، فقالوا: يا أبا القاسم، إن كنت صادقا أنك نبي، فالحق بالشام؛ فإن الشام أرض المحشر وأرض الأنبياء. فصدق ما قالوا، فغزا غزوة تبوك لا يريد إلا الشام، فلما بلغ تبوك أنزل الله عز وجل آيات من سورة بني إسرائيل بعدما ختمت السورة:
وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا
إلى قوله:
تحويلا (الإسراء: 76-77)، فأمره الله عز وجل بالرجوع إلى المدينة، وقال: فيها محياك ومماتك ومنها تبعث.»
9
ومن هنا يمكن فهم الحقيقة وراء مسجد ضرار وما دار حوله من أحداث، كانت مساجد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فيما بين المدينة إلى تبوك معلومة مسماة، ويعددها ابن هشام فيقول إنها كانت كالتالي: «مسجد بتبوك ومسجد بذات الخطمي ومسجد بآلاء ومسجد بطرف البطراء من ذنب كواكب ومسجد بالشق - شق تارا - ومسجد بثينة حدران ومسجد بذات الزراب ومسجد بالأخضر ومسجد بذي الحيفة ومسجد بصدر حوحنى ومسجد بالحجر ومسجد بالصعيد ومسجد بالوادي - اليوم وادي القرى - ومسجد الرقعة من الشقة - شقة بني غدرة - ومسجد بذي المروة ومسجد بالفيفا ومسجد بذي خشب.»
10
وبالمثل، لكن داخل يثرب، أقام بعض المسلمين مسجدا وجاءوا النبي عندما كان يتجهز لغزو الروم كما سلف، فقالوا: «يا رسول الله، إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه.» وكان جواب النبي وعدا جميلا يقول: «إني على جناح سفر وحال شغل، ولو قدمنا إن شاء الله لأتيناكم فصلينا لكم فيه.»
11
لكن مع تواتر النفاق في هذه المرحلة جاء النبي الخبر أن أصحاب ذلك المسجد هم من المنافقين، ونفهم من الروايات أنهم من الأوس تحديدا، حيث يفيدنا الثعلبي النيسابوري أنهم بنوه ليستقبلوا فيه أخطر زعمائهم الذي غادر المدينة مخاصما للرسول «أبو عامر بن النعمان بن صيفي» المعروف باسم الراهب، لكن النبي أسماه بالفاسق، حيث كان أبو عامر قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح واعتنق الحنيفية، ولما التقى بالنبي اختلف معه حول صحيح الحنيفية، فغادر المدينة مغاضبا له، ثم تفيدنا المصادر أنه قبل غزو النبي للروم بقليل أرسل أبو عامر لأهله وهو أوسي، وقال لهم: «أعدوا العدة والسلاح وابنوا لي مسجدا، فإني ذاهب إلى قيصر وآت بجند لنخرج محمدا وأصحابه من المدينة.» ويزعم الثعلبي أنه كانت قد نزلت فيه آيات تقول:
واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا .
12
ويحكي لنا البيهقي ما حدث بشأن ذلك المسجد الذي وعد النبي أصحابه بافتتاحه لإيواء المحتاجين، فيقول: «إن النبي
صلى الله عليه وسلم
أقبل من تبوك حتى نزل بذي أوان بينه وبين المدينة ساعة من نهار ... فدعا مالك بن الدخشم ومعن بن عدي ... فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدماه، واحرقاه. فخرجا سريعا حتى دخلاه وفيه أهله فحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه.»
13
لقد باتت السياسة إزاء المنافقين قد أخذت شكلها العنيف الرادع كما هو واضح .
وقد جاء الوحي يعقب على إحراق المسجد في آيات كريمة صريحة تقول:
والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون * لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين * أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين * لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم (التوبة: 107-110).
وبحرق مسجد ضرار يعود النفاق إلى الانكماش مرة أخرى، ولا يجد المنافقون كل مرة سوى أن يتجهوا إلى سيد المدينة وسيد الخلق يحلفون بالله أنهم ما أرادوا ما وصله من حديث لكنهم أرادوا خيرا وحسنا، أو أنهم ما قالوا ما سمع، أو يقسمون بأغلظ الأيمان أنهم إنما كانوا هازلين، وأدركوا أن جهاز الدولة الرقابي قد دخل بيوتهم وتصنت أحاديثهم وعلم أسرارهم، حتى قال نبتل بن الحارث أخو بني عمرو بن عوف:
إنما محمد أذن،
من حدثه شيئا صدقه.
14
لكن ليتدخل الوحي مرة أخرى شارحا موضحا مبينا:
ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم (التوبة: 61).
ولكن، ووسط تلك الأحداث التي كدرت صفو الرسول ومدينته، يأتي حدث جديد، يضيف للدولة رصيدا، يفرح له الرسول والمؤمنون، حيث يحكي ابن كثير:
أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لما ارتحل عن ثقيف، سئل أن يدعو عليهم، فدعا لهم بالهداية، وقد تقدم أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حين أسلم مالك بن عوف النصري، أنعم عليه وأعطاه وجعله أميرا على من قومه، فكان يغزو بلاد ثقيف ويضيق عليهم حتى ألجأهم إلى الدخول في الإسلام، وتقدم أيضا فيما رواه أبو داود عن صخر بن العيلة الأحمس، أنه لم يزل بثقيف حتى أنزلهم من حصونهم على حكم رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فأقبل بهم إلى المدينة النبوية ... ثم إنهم ائتمروا بينهم ورأوا أنه لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب وقد بايعوا وأسلموا ... ثم أجمعوا أن يرسلوا رجلا منهم هو عبد ياليل بن عمرو بن عمير ... ومعه بضعة عشر رجلا.
15
وكان فرح المغيرة بن شعبة الثقفي عظيما لما التقى وفدهم على أبواب المدينة، فأخذهم ليعلمهم بروتوكول الدولة، وكيف يدخلون على رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وكيف يؤدون له التحية، لكنهم عندما دخلوا على الرسول لم يفعلوا سوى فعل العربان، وحيوه تحيتهم الجاهلية الاعتيادية، وأمر النبي فضربت لهم قبة في مسجده تكريما لهم، وجلس النبي في مجلسه على مسافة يسمع منهم ويقولون له، وكان يسعى بينهم خالد بن سعيد بن العاص، ولما قدم لهم طعاما رفضوا تناوله توجسا وخيفة، إلا بعد أن أكل منه خالد بن سعيد، ولما انتهت المفاوضات كتب خالد بينهم الكتاب.
وإبان المفاوضات حاولوا تأجيل هدم اللات فلم يرض الرسول إطلاقا، بل أعلمهم أنه سيرسل معهم أبا سفيان صخر بن حرب، وولدهم المغيرة بن شعبة ليهدماها، ثم سألوه أن يسقط عنهم الصلاة.
لم يدرك الثقفيون أن واجبات الصلاة الخمس تمرين سريع للتأمل، تتضمن ترديدا لآيات القرآن حتى تعتاده آذانهم، ثم إنها تحوي الشهادة للرسول بالنبوة في كل مرة، وتعود الملتزم بها الانتظام في نظام صفوف صارم. كل ما رأوه فيها إرغاما لأنفهم العربية المتأبية المتكبرة على السجود، ولم يدركوا أنها كانت إخضاعا لسلوكهم اليومي لمؤسسة دقيقة مرتبة تخرج بهم عن عشوائية القبلية وتشظيها، إلى المنظومة الموحدة، ولم يقبل النبي أي تفاوض بشأن الصلاة، وأجاب بحسم: «لا خير في دين لا صلاة فيه.» فكان ردهم المختزل الذي يبدو على مضض: «سنؤتيكها.» أبدا لم يقولوا سنؤتيها لله تعالى، بل استمروا ليقولوا بجرأة شديدة: «سنؤتيكها وإن كانت دناءة.» ثم أصروا ألا يكونوا كبقية الأعراب؛ فهم أهل مدن وحضارة وأنفة وكبرياء، واشترطوا على النبي أنهم لن يدفعوا الضرائب (الصدقة)، ولن يشتركوا في معاركه (الجهاد)، فوافقهم، ثم قال بعد ذلك للمسلمين: «سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا.»
16
واستأذن الثقفيون النبي أن يسبقوا رسله المزمع ذهابهم معهم لهدم اللات، «فلما جاءوا قومهم تلقوهم، فسألوهم ما وراءكم؟ فأظهروا الحزن، وأنهم إنما جاءوا من عند رجل فظ غليظ قد ظهر بالسيف، يحكم بما يريد وقد دوخ العرب ... فألقى الله في قلوبهم الرعب فرجعوا وأنابوا.»
17
ولحق بهم ولدهم المغيرة ومعه أبو سفيان وهدموا اللات وأخذوا ما بها من جوهر وحلى وذهب وفضة.
18
بينما كان النبي قد أمر على ثقيف عثمان بن أبي العاص أميرا منوبا من قبله، وكان أحدثهم سنا.
19
ويمر من الشهور ثلاثة، رمضان وشوال وذو القعدة، ويأتي موسم الحج، لكن الموسم هذه المرة لم يكن كالمرات السوالف، حيث كان لا بد أن تشرف الدولة بنفسها عليه، فبعث رسول الله أبا بكر أميرا منوبا من قبله على حج سنة تسع للهجرة ليقيم للناس حجهم.
ويفاجئ الأمر قريشا، فحتى سيادة الحج والكعبة قد ذهبت إلى دولة يثرب. نعم إن أبا بكر قرشي، لكن معنى أن يأتيها من يثرب أميرا على الحج، هو معنى يسلب قريشا وضعها السيادي الباقي في إقامة الشعائر الدينية للعربان، وهنا تعترض قريش هاتفة: «إنا أهل الحرم وسقاة الحاج وعمار هذا البيت، فلا أحد أفضل منا.» لكن ليأتيهم الرد:
إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر .
20
لقد بات المطلب الآن بعد انصرام عام على فتح مكة، إسلام الجميع دون مواربة، حيث أكدت كتب السير أن «الناس من أهل الشرك كانوا على منازلهم من حجهم.»
ثم تأتي الضربة القاصمة في نقض النبي
صلى الله عليه وسلم
لما كان بينه وبين المشركين من عهد ينص على «ألا يصد عن البيت أحد جاءه، ولا يخاف أحد في الشهر الحرام، وكان ذلك عهدا عاما بينه وبين الناس من أهل الشرك»؛ لضمان استمرار التجارة وسيولتها، وقد جاء ذلك النقض عندما أرسل النبي
صلى الله عليه وسلم ، علي بن أبي طالب ليلحق بأبي بكر، ومعه أوامر الوحي في الآيات المعروفة باسم «براءة» وقال له: «اخرج بهذه القصة من صدر براءة، وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى؛ أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عهد فهو إلى مدته ... وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذن فيهم، ليرجع كل قوم إلى مأمنهم أو بلادهم، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة.»
21
وكان أبرز نصوص وثيقة براءة يقول:
إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا (التوبة: 28).
كان معنى ذلك خراب ديار قريش إلى آخر الدهر، فمعنى ذلك توقف التجارة ودمار الأسواق، وزاد الأمر نكاية ما جاء مع سورة براءة من أمر إلهي بإلغاء العمل بنظام النسيء، وكان النسيء تحريكا للأشهر الحرم القمرية، لتدور مع الأشهر الشمسية، حتى تتوافق رحلتا التجارة مع موعد المحاصيل والرياح الموسمية في بحر الهند، وهي الرياح والمحاصيل التي تسير وفق المجريات الشمسية (الزمن الميلادي)، وجاءت الآيات تؤكد:
إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله (التوبة: 37).
وهكذا تم تثبيت الأشهر القمرية جميعا، وهو ما قال المسعودي بشأنه شارحا: «عندما ظهر الإسلام، كانت الأشهر الحرام قد عادت إلى بدئها على ما كانت عليه في أصلها، وذلك قول النبي
صلى الله عليه وسلم : ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض.»
22
نعم، كان تثبيت الأشهر الحرم وسلخها عن المصالح المادية ارتفاعا بها وتكريما لها وتوقيرا؛ لجعلها رمزا لوحدة البيت الجامع للعرب المتوحدين في الدولة الواحدة، لكنه كان ضربا واضحا للتجارة والأسواق، بل وتراجعا بالعرب جميعا عن مركز دولي متميز حققوه من ذلك النظام التجاري الديني، فأمسكوا بعنان تجارة العالم، وبدأت قريش تشك فعلا في أهداف الدولة الجديدة، وصورت لها أحلامها المريضة أن المقصود دمار فعلي، وانتقام مما سبق وقدمت أيديها، وتقف تقول:
لتقطعن عنا الأسواق، فلتهلكن التجارة، وليذهبن ما كنا نصيب فيها من المرافق.
23
لكن لتفاجأ بسوء ظنها، وتبدأ في رؤية ما ينتظرها حقا، عندما يرد عليها الوحي الكريم:
وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم (التوبة: 28).
أما كيف سيتحقق ذلك وهم يريدونه مكاسب عينية ملموسة، تعوضهم عن خراب تجارتهم وبوار أموالهم؟ فهو ما يشرحه ابن هشام مؤيدا بآي الله الكريم، في قوله:
وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله ؛ أي من وجه غير ذلك ...
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ... من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ؛ أي ففي هذا عوض عما تخوفتم من قطع الأسواق، فعوضهم الله بما قطع عنهم من أعناق أهل الكتاب من الجزية.
24
ماذا تقصد الآيات؟ إن أهل الكتاب في الجزيرة قد انتهى أمرهم إلى الذبح أو الجلاء أو الجزية، فأي أهل كتاب؟! وهنا توجهت الأنظار بعيدا، إن الآيات تطلب منهم تعويض خسائرهم هناك؛ فعند الإمبراطوريتين كنوز عظيمة، وهنا تفهم قريش سر كل ذلك التضيق، لقد بات عليهم التحول عن التجارة إلى القتال، لقد بدأ المستقبل الجديد يفرش ظله على الواقع فيزيح القديم، وجاءت الآيات تؤكد الجهاد كبديل أفضل من التجارة، وتوجه أنظارهم نحو الشمال.
لقد جاءت القرارات الأخيرة لتخل تماما بنظام التجارة العظمى التي كانت قريش تشرف على إدارتها، ومع إسلام العرب وتتالي ذلك الإسلام بعد أشهر في وفود تشهر إسلامها، جعل هناك استحالة في تقديم آفاق غنائم جديدة داخل جزيرة العرب. لقد آن أوان تحقق الوعد المغلظ بالأيمان الذي أطلقه النبي في مكة عندما كان مهيضا:
والذي نفسي بيده لتملكن كنوز كسرى وقيصر.
وجانب آخر، يدركه الوعي النفاذ؛ أن الطريقة الوحيدة التي كان يمكن بها الحفاظ على وحدة القبائل، هي تقديم هدف مألوف لها، البحث الدائم عن الغنائم، وهو ما قامت عليه الدولة النبوية ذاتها حتى الآن، الهدف أصبح ذلك العالم المفتوح أمامهم على مصراعيه. لقد أصبح مطلوبا من العرب أن يتحولوا عن مجرد سادة تجارة العالم ؛ ليصبحوا سادة هذا العالم نفسه. أما بقية العربان الذين ارتبطوا بأسواق مكة، فقد باتوا يعانون من الخراب نفسه، لم يعد أمامهم سوى الانخراط في الدولة للحصول على نصيب من الغنائم المنتظرة. لقد جاءت وثيقة الوحي براءة؛ لتدفع الجميع دفعا إلى اعتناق الإسلام وإلى التوحيد وإلى التوجه خارج الجزيرة.
أما ختام المسك فكان موت رأس المعارضة والنفاق، عبد الله بن أبي بن سلول، الذي خفتت بعده أصوات المعارضة تماما.
عام الوفود
والله، لقد دعانا إلى عبادة شيء لوددت لو أنه عندي الآن فأرميه بالنبل حتى أقتله.
إربد بن مقيس
قال محمد بن إسحاق:
لما افتتح رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مكة وفرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف وبايعت؛ ضربت إليه وفود العرب من كل وجه.
قال ابن هشام:
حدثني أبو عبيدة أن ذلك في سنة تسع، وأنها كانت تسمى سنة الوفود.
قال ابن إسحاق:
وإنما كانت العرب تربص بإسلامها أمر هذا الحي من قريش؛ لأن قريشا كانوا إمام الناس وهاديتهم وأهل البيت والحرم، وصريح ولد إسماعيل بن إبراهيم، وقادة العرب لا ينكرون ذلك، وكانت قريش هي التي نصبت الحرب لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
وخلافه، فلما افتتحت مكة ودانت له قريش، ودوخها الإسلام، عرفت العرب أنهم لا طاقة لهم بحرب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ولا عداوته، فدخلوا في دين الله كما قال عز وجل أفواجا، يضربون إليه من كل وجه.
يقول الله تعالى لنبيه
صلى الله عليه وسلم :
إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا (سورة النصر).
1
هكذا ارتأت كتب السير الإسلامية والأخبار الأسباب الواضحة لقدوم الوفود العربية من بلاقع الجزيرة وفيافيها لتعلن لسيد العرب خضوعها، وكان الإعلان عن إغلاق مكة دون المشركين، وتوجيه العسكرية العربية نحو الباب المفتوح شمالا، مدعاة أخرى واضحة أوضحناها لقدوم تلك الوفود الكبرى. أما النبي بكرمه الذي يليق به، وعطاياه للوفود ما أفاء الله عليه، ومن خمسه المقرر وحيا، فكانت عاملا آخر ودافعا غير منكور في كتبنا الإخبارية لقدوم الوفود تعلن انضمامها لدولة الإسلام. وبين كل وفد كان ينتقي رجلا يتوسم فيه الشخصية القيادية والقادرة على فهم الأوضاع والمتسمة بالطاعة للسلطة النبوية، فيجعله أميرا من قبله على قومه. وللقرار بمنح الأعطيات وقطع الإقطاعات رواية أولى دفعت إلى سلوك ذلك الخط في تألف العربان، فيقول محمد بن إسحاق صاحب السيرة التأسيسية إن أول الوفود جاء بشموخ الأنف العربية وكان وفد القبيلة الكبرى تميم، وعلى رأسها عطارد بن حاجب بن زرارة، والأقرع بن حابس، والزبرقان بن بدر، والحتحات بن يزيد، أسماء جميعها ذات شرف ومنعة وسيادة في قومهم، وبصلف العربان دخلوا يثرب إلى مركزها الإداري مباشرة، إلى المسجد، فلم يجدوا سيد المدينة، فكان أن وقفوا ينادون الرسول من وراء حجراته:
اخرج إلينا يا محمد.
لم يتحضر بعد الفكر ولا اللسان، ولا أدرك العربان أن خطابهم مع السيد يجب ألا يكون كخطابهم لبعضهم البعض، وهو ما جاء من بعد تنبيها للوفود وتقريعا لأجلاف تميم في وحي يقول:
إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون * ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم (الحجرات: 4-5).
لكن تميم ما كانت لتفهم لغة التمدين بسرعة، وظل غرورها الأجلف يركب حسها الغليظ، وأنفتها تمنعها من إعلان الطاعة بهدوء ومباشرة، إنما جاءت تؤجل ذلك الإعلان ما أمكن، وتعلنه وهي عزيزة متعالية في وهمها، ويتمثل ذلك في قول الوفد التميمي لسيد الخلق: «يا محمد، جئناك نفاخرك فأذن لشاعرنا وخطيبنا.»
لم تفهم تلك العقول مدى التحولات الكبرى، وأدرك النبي مغزى كل تلك المناورة؛ إنها لا تريد الخضوع دون إثبات عزتها، وتبسم سيد الخلق، فرد بهدوء الواثق المطمئن: «لقد أذنت لخطيبكم فليقل.» ليقوم عطارد بن حاجب يعدد ممكنات تميم وعظمها يقول:
الحمد لله الذي له علينا الفضل والمن، وهو أهله، الذي جعلنا ملوكا، ووهب لنا أموالا عظاما نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعزة أهل المشرق وأكثره عددا وأيسره عدة، فمن مثلنا في الناس ؟ ألسنا برءوس الناس وأولي فضلهم ؟
فمن فاخرنا فليعدد مثلما عددنا، وإننا لو نشاء لأكثرنا الكلام، ولكن نخشى من الإكثار فيما أعطانا وإنا نعرف بذلك.
أقول هذا لأن تأتوا بمثل قولنا،
وأمر أفضل من أمرنا.
ويجلس عطارد يلبس أثواب التكبر الأنف، ويصبح المطلوب ردا مناسبا يكسر ذلك الكبرياء ويرغم تلك الأنوف، فلا يرد عليه النبي بنفسه؛ حتى لا يكسبه قيمة لا تليق به، إنما يشير إلى ثابت بن قيس بن الشماس الخزرجي، ويقول له: «قم يا ثابت فأجب الرجل.» ويقوم ثابت ليقول بهدوء هادر المعاني:
الحمد لله الذي السماوات والأرض خلقه، قضى فيهن أمره، ووسع كرسيه علمه، ولم يك شيء قط إلا من فضله،
ثم كان من قدره أن جعلنا ملوكا،
واصطفى من خيرته رسولا،
أكرمه نسبا، وأصدقه حديثا، وأفضله حسبا،
فأنزل عليه كتابا وائتمنه على خلقه،
فكان خيرة الله من العالمين،
ثم دعا الناس إلى الإيمان به، فآمن برسول الله المهاجرون من قومه، وذوي رحمه أكرم الناس أحسابا وأحسن وجوها وخير الناس فعالا.
وينتقل ثابت بن الخزرج، أصحاب الحرب والحلقة إلى موجة أعلى في خطابه ليردف مهددا منذرا متوعدا:
ثم كان أول الخلق إجابة واستجابة لله حين دعاه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
نحن!
فنحن أنصار الله ووزراء رسوله،
نقاتل الناس حتى يؤمنوا، فمن آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه، ومن كفر جاهدناه في الله أبدا، وكان قتله علينا يسيرا، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين والمؤمنات.
والسلام عليكم.
2
وتفهم تميم الرسالة، وتتهاوى العزة، لكن ليرأف بهم النبي الكريم
صلى الله عليه وسلم
فيقول ناقلا الحديث إلى مستوى آخر؛ تخفيفا عنهم وتهدئة لروعهم: «اقبلوا البشرى يا بني تميم.» لكن ليرد الذين تفاخروا منذ قليل بمالهم وعددهم: «يا رسول الله، لقد بشرتنا، فأعطنا.» وهكذا انتكس الرجال وارتكسوا عما قالوا، ووجدوا أنه إذا لم يكن من الطاعة بد، فليعودوا بمكاسب، ويستجيب الرسول، «فلما فرغ القوم أسلموا، وجوزهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فأحسن جوائزهم.»
3
أما بنو عبد القيس فأرسلوا وفدا عارفا أقدار الناس ، ومن أعلى من النبي قدرا؟ لذلك ما إن هبطوا عن ركائبهم حتى هرعوا يتسابقون إلى الرسول ليأخذوا بيده يقبلوها، فاستحقوا أن يصفهم النبي بقوله: «هم خير أهل المشرق.»
4
وتتوالى الوفود، ويقدم وفد أسد للمدينة ويقف حضرمي بن عامر رأس الوفد ليقول للنبي:
أتيناك نتدرع الليل البهيم،
في سنة شهباء،
ولم تبعث إلينا بعثا.
يريد أن يقول إنهم أتوه طوعا لا كرها، لترد عليهم الآيات
يمنون عليك أن أسلموا (الحجرات: 17).
ثم وفد عبس، ووفد فزارة، ووفد مرة «فأجازهم بعشر أواق، عشر أواق فضة»، ثم وفد ثعلبة وقد أجاز كل منهم بخمس أواق فضة ثم وفد محارب فأجازهم بدورهم بالعطايا، ثم وفد كلب، ووفد عقيل بن كعب الذين أقطعهم النبي أرض عقيق بني عقيل وفيها عيون ونخل وكتب لهم بذلك كتبا في أديم أحمر، ثم وفد جعدة، وأقطعهم الرسول
صلى الله عليه وسلم
ضيعة بالفلج وكتب لهم بذلك كتابا، ثم وفد قشير بن كعب «فأقطعه الرسول
صلى الله عليه وسلم
قطيعة وكتب له كتابا»، ثم وفد بني البكاء وقد أجازهم بدورهم فأحسن جوائزهم، ثم وفد كنانة ووفد أشجع ووفد باهلة ووفد هلال بن عامر، وربيعة عبد القيس وتغلب، وكانت تغلب نصارى جاءوا النبي يلبسون صلبان الذهب، فصالحوه، على أن يقرهم على دينهم فأقرهم، وأعطى المسلمين منهم عطايا.
5
أما وفد عامر بن صعصعة فقد جاء على رأسه عامر بن الطفيل وإربد بن مقيس. وعامر من القبائل الكبرى الشامخة، وما إن وقف عامر بن الطفيل أمام الرسول حتى دخل في المفاوضة مباشرة وبسرعة قائلا: «يا محمد، ما لي إن أسلمت؟» فقال: «لك ما للمسلمين وعليك ما على المسلمين.» قال: «أتجعل لي الأمر من بعدك؟» قال: «ليس ذاك ولا لقومك.» قال: «أفتعجل لي الوبر ولك المدر؟» قال: «لا، ولكني أجعل لك أعنة الخيل، فإنك امرؤ فارس.» وهو من رد على العربان الذين دعوه للإسلام:
والله لقد كنت آليت ألا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي، أفأتبع أنا عقب هذا الفتى من قريش؟
6
فيغضب عامر بن الطفيل ، ويخرجه الغضب عن جادة الصواب، فيهدر صارخا:
أوليست لي (أي الخيل)؟
إذن،
لأملأنها عليكم خيلا ورجالا.
7
وخرج مع رفيقه إربد ليتبعهم النبي بدعوته: «اللهم اكفنيهما.» وتحكي كتب السير أن الدعوة لحقتهم فمات عامر في الطريق، أما إربد فوصل قومه، فاستقبلوه يسألونه عما عند محمد وما انتهت إليه المحادثات، ليرد عليهم:
والله لقد دعانا إلى عبادة شيء لوددت لو أنه عندي الآن فأرميه بالنبل حتى أقتله. فخرج بعد مقالته بيوم أو يومين معه جمل ليبيعه فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما.
8
وتتتابع الوفود فتأتي شيبان وطي ونجيب وخولان وجعفي وصداء ومراد وزبيد وكندة والصدف وخشين وسعد هزيم وبلى وبهراء وعذرة وسلامان وجهينة وجرم والأزد والحارث بن كعب وحمدان وسعد العشيرة وعبس والداربين والرهاويين وغامد والنخع وبجيلة وخثعم وحضرموت وأزد عمان وغافق ويارق ودوس وثمالة والحدان وأسلم وجذام ومهرة وحمير ونجران وجيشان والسباع.
وهكذا استتمت جزيرة الجزيرة جميعا وأوعبت طاعتها أمام النبي الكريم، تؤكد أن التاريخ على وشك استكمال حلقته الانتقالية الكبرى؛ أن الوحدة العربية للجزيرة قد صارت واقعا وحقيقة، وأن الدولة المركزية قد تسنمت أمر العرب وحشدتهم على أيديولوجية واحدة موحدة.
لكن لم يمر عام الوفود دون مكدرات عكرت صفوه ونصره؛ فبين تلك الوفود جاء ذلك الوفد الغريب الشأن العجيب الأمر، وفد بني حنيفة من أهل اليمامة، وبين رجالهم رجل يبدو له شأن اسمه مسيلمة بن ثمامة، نزلوا دار بنت الحارث من الخزرج، واستلفت النظر وأوجست منه المدينة، وهم يرون وفده يحيط به، يسترونه بالبرد والثياب، وهو يسير إلى المسجد، ليقف أمام النبي وبيد النبي قضيب من عسيب النخل، ليقول للنبي رسالة برقية موجزة:
إن شئت،
خليت بينك وبين الأمر،
ثم جعلته لنا بعدك.
لكن ليرد سيد الخلق هادئا مستصغرا شأن ذلك المتكبر الكبير في قومه: «لو سألتني هذا القضيب ما أعطيتكه.»
9
فينصرف مسيلمة مع قومه، لتعلم المدينة أن الرجل كان في قومه نبيا، وأنه أعلن فيهم نبوته، وهذا سر سيرهم به متحوفا بالاحترام مستورا بالثياب، وإنه ما جاء يعلن ولاء بل جاء يتفاوض على تقسيم الأمر دولا بين محمد وبينه، حيث أعلن في أهله من حنيفة اليمامة أنه قد أشرك مع محمد في النبوة والحكم (الأمر)، وأخذ يرسل لهم آيات مسجوعة يزعمها وحيا، وشهد للنبي بالرسالة، لكنه أراد منه شهادة مماثلة، وقد وقفت وراءه حنيفة جميعا، وأرسل بعد عودته بلاده للنبي الصادق رسالة تقول:
من مسيلمة رسول الله،
إلى محمد رسول الله،
سلام عليك. أما بعد،
فإني قد أشركت في الأمر معك،
فإن لنا نصف الأرض،
ولقريش نصف الأرض،
ولكن قريشا قوم يعتدون.
وتصل الرسالة الآبقة بإفكها إلى رسول الله الأمين، فيرد عليه من فوره ببرقية موجزة صارمة المعاني هادئة الكلم تقول:
بسم الله الرحمن الرحيم.
من محمد رسول الله،
إلى مسيلمة الكذاب (!)،
السلام على من اتبع الهدى (!).
أما بعد،
فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده،
والعاقبة للمتقين.
10
وتسلم بلاد العرب وتدخل في طاعة الدولة الواحدة، ويرغب بعضها الآخر من الكتابيين في البقاء على دينهم على أن يخضعوا للدولة ويدفعوا الجزية، فيقبل النبي
صلى الله عليه وسلم
ذلك منهم، لتظل حنيفة وبلاد اليمامة وسط ذلك المحيط العربي المتوحد ترفض الانضواء، بل ويتضخم أمرها تحت زعامة سيدها المتنبئ مسيلمة الكذاب.
كانت سنة الوفود هي السنة التاسعة للهجرة، وكانت سنة قحط شديد، وهو دافع يضاف إلى مجموع الدوافع التي حثت الوفود تدفعها دفعا إلى يثرب، تطمع في حكمة قيادة يثرب إزاء الأزمة القاحطة النازلة بهم، لكن ذلك الظرف ذاته كان بدوره وراء الحركات الانشقاقية التي نشطت في ذات العام، يمثلها مسيلمة في اليمامة، والأسود العنسي في اليمن.
وقد وضح أن مسيلمة بن حبيب كان يطمح إلى مشروع اتحادي وليس وحدويا، فهو يطلب مشاركة حنيفة في أمر السيطرة على قبائل العرب، فلم يدرك مسيلمة أنه يسير عكس اتجاه السير الصحيح لخط التاريخ نحو توحد الجزيرة جميعا، كلا ولا فهم كيف يمكن أن تتوارى القبيلة داخل إطار الدولة؛ ومن هنا قام يطرح رؤية إقليمية ضيقة محدودة ، معبرة عن موقف قبلي يعاكس الحتمية وضرورتها، ومفصحة عن موقف قبلي إقليمي تجزيئي يريد أن يقلب وجهة التاريخ إلى القديم، وهنا بالتحديد كان مقتل الحركة جميعا بعد ذلك.
أما اليمن التي كانت تعاني بشدة من التسلط الفارسي على مقدراتها، فقد كانت إبان تطور أطوار الدعوة الإسلامية في واد آخر؛ كانت تخوض ثورة كبرى ضد باذان الفرس، ويظهر بين الثوار ضد الفرس ذلك الفارس الأسطوري «الأسود العنسي» الذي قاد تحالفات قبائل اليمن ليكتسح بهم نفوذ الفرس، ويتمكن من تصفية بيت باذان ودخول صنعاء والاستيلاء على اليمن، بل وطرد الفرس من اليمن وتطهيرها من العسكر الكسروي. وفي تلك اللحظة الحاسمة وصلت رسل النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى اليمن مع عماله عليها، لكن الثوار يتمسكون بإقليمية اليمن باعتبارها دولة قديمة عريقة، ذات تاريخ مستقل إقليمي له خصوصية، ليقول عبهلة بن كعب الذي لقب بالأسود العنسي لوفود يثرب وعمال الرسول المنوبين من قبله:
أيها المتوردون علينا، أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا، ووفروا ما جمعتم فنحن أولى به، وأنتم على ما أنتم عليه.
11
وقام عبهلة يدفع المأزق الإقليمي نحو مزيد من التعميق والجفاء، ليعود باليمن إلى عبادة الرحمن القديمة، رب السماء
12
العريق في حضارات الجنوب الحضرمي القحطاني، رافعا إياها كأيديولوجيا وطنية خالصة من فرز مجتمع اليمن وتاريخه، معارضا بها «الله» رب الشمال العدناني.
أما النبي
صلى الله عليه وسلم
فقد وقف من تلك الحركات موقفا متأنيا يعتمد الصبر الهادئ؛ فاليمن قبائل كبرى عسكرية منظمة، كذلك اليمامة لم يكن أمرها بأقل شأنا، والإسلام بحاجة إلى قواته ورجاله من أجل الهدف الأعظم، من أجل ميراث الأنبياء السوالف في امتداد بوادي الجزيرة نحو الشمال؛ ومن هنا نفهم السر وراء استخدامه سياسة الإلهاء بالمراسلات مع تلك الزعامات القوية، لإطالة زمن حالة اللاحسم؛ ليتيح لعماله هناك فرصة الانقضاض من الداخل على تلك الزعامات مع من تابعهم من مسلمي تلك المناطق، وطال أمر تلك السياسة، ولم يتم القضاء على تلك الانشقاقات إلا بعد وفاة الرسول ولحوقه بالرفيق الأعلى، بعد أن أدى حجة الوداع، وترك الناس على الواضحة غير الملتبسة.
وفي تلك الحجة بدرت من النبي أقوال إلى شعوره بدنو أجله، «عن أبي الزبير عن جابر: أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وقف عند جمرة العقبة وقال لنا: خذوا عني مناسككم فلعلي لا أحج بعد عامي هذا»،
13
ثم ما كان من آيات تحمل روح الختام، من قبيل
إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا (سورة النصر).
الأيام الأخيرة للرسول العظيم
عن ابن طاووس عن أبيه أن الرسول
صلى الله عليه وسلم
قال:
نصرت بالرعب، وأعطيت الخزائن وخيرت بين أن أبقى حتى أرى ما يفتح على أمتي، وبين التعجيل،
فاخترت التعجيل.
14
كان الشعور بدنو الأجل يتصاعد ويعلو، والرسول الكريم تزيد به أوجاعه، لكن سيد الخلق يقاوم الأوجاع، ويستمر في سياسة الدولة، وفي صفر بعد حجة الوداع بشهرين، يؤذن في الناس بغزو القياصرة في بلاد الشام، ويؤمر على الناس أسامة بن زيد بن حارثة، ويأمر جميع المهاجرين الأوائل بأن يوعبوا مع أسامة باتجاه فلسطين، بما فيهم وزيراه أبو بكر وعمر، ويتجهز الناس صدعا بأمر رسولهم ونبيهم وقائدهم، لكن ليقف التاريخ في مواقفه الناقلة المحولة، لترهف السمع إلى الصحابة يسجلون في مسامع الرواة، أنه في أول شهر ربيع الأول يطلب النبي عبده أبا مويهبة؛ ليتحامل عليه ويأمره باصطحابه إلى مقابر أصحابه، الذين ماتوا في حروب إنشاء الدولة، ويذهب معه إلى البقيع متحاملا على نفسه؛ ليقف وسط المقابر يقول للموتى:
السلام عليكم يا أهل المقابر.
ليهنأ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى (؟!).
ويلتفت إلى أبي مويهبة يقول له:
إني قد أوتيت خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة.
ليقاطعه عبده المخلص:
بأبي أنت وأمي فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلافة.
لكن ليرد عليه المصطفى، لهفي عليه:
لا والله يا أبا مويهبة،
لقد اخترت لقاء ربي والجنة.
ثم يروي أبو مويهبة أنه وقف يستغفر لأهل المقابر، ثم عاد أدراجه ليبتدئ وجعه يظهر عليه ويلحظه الناس.
15
وهنا ننصت إلى أم المؤمنين الحميراء سيدة النساء عائشة بنت أبي بكر تقول:
رجع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من البقيع، فوجدني وأنا أجد صداعا في رأسي، وأنا أقول: وارأساه. فقال: بل أنا والله يا عائشة، وارأساه. قالت: ثم قال: ما ضرك لو مت قبلي، فقمت عليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك؟! قالت: قلت: والله لكأني بك لو فعلت ذلك، لرجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك. قالت: فتبسم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وتتام به وجعه وهو يدور على نسائه، حتى استعز به وهو في بيت ميمونة، فدعا نساءه فاستأذنهن في أن يمرض في بيتي، فأذن له ... فخرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يمشي بين رجلين من أهله أحدهما الفضل بن العباس ورجل آخر (تؤكد الروايات أن ذلك الرجل الذي أغفلت عائشة اسمه كان علي بن أبي طالب)، عاصبا رأسه، تخط قدماه، حتى دخل بيتي.
16
ورغم اشتداد الوجع، فقد لحظ سيد الخلق
صلى الله عليه وسلم
أن الناس يتلكئون في طاعة أوامره، في بعثة أسامة على رأس الجيش إلى الروم، فخرج من بيت عائشة إلى المسجد عاصبا رأسه، وصعد حتى جلس على المنبر ثم قال:
إن عبدا من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله.
وفهم أبو بكر المقصود فنشج بالبكاء يقول: بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا. فيسكته الرسول، ثم يقول مناديا:
أيها الناس، أنفذوا بعث أسامة، فلعمري لئن قلتم في إمارته، لقد قلتم في إمارة أبيه من قبل، وإنه لخليق للإمارة، كما كان أبوه خليقا بها.
وعاد إلى بيت عائشة، وخرج أسامة بالجيش حتى نزل بالجرف على بعد فرسخ واحد من المدينة، فضرب هناك عسكره، ليبلغهم أن الوجع قد اشتد بنبيهم، فتوقفوا هناك ينتظرون ما يسفر عنه الأمر.
17
وهنا ننقل، فقط مجرد نقل دون أي انحياز، من الشيخ شرف الدين الموسوي رؤيته لما يحدث في تلك الساعات الفاصلة من الزمان، فيقول بشأن أبي بكر وعمر وسائر القوم: «وقد تعلم أنهم إنما تثاقلوا عن السير أولا، وتخلفوا عن الجيش أخيرا؛ ليحكموا قواعد ساستهم، ويقيموا عمدها ترجيحا منهم لذلك على التعبد بالنص، حيث رأوه أولى بالمحافظة وأحق بالرعاية؛ إذ لا يفوت البعث بتثاقلهم عن السير، ولا بتخلف من تخلف منهم عن الجيش. أما الخلافة فإنها تنصرف عنهم لا محالة إذا انصرفوا إلى الغزوة قبل وفاته
صلى الله عليه وسلم
وكان - بأبي وأمي - أراد أن تخلو منهم العاصمة، فيصفوا الأمر من بعده لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب على سكن وطمأنينة، فإذا رجعوا وقد أبرم عهد الخلافة وأحكم لعلي عقدها، كانوا عن المنازعة والخلاف أبعد. وإنما أمر عليهم أسامة وهو ابن سبع عشرة سنة ليا لأعنة البعض، وردا لجماح أهل الجماح منهم، واحتياطا من الأمن في المستقبل من نزاع أهل التنافس لو أمر أحدهم كما لا يخفى، لكنهم فطنوا إلى ما دبر
صلى الله عليه وسلم
فطعنوا في تأمير أسامة، وتثاقلوا عن السير معه فلم يبرحوا من الجرف حتى لحق النبي بربه، فهموا حينئذ بإلغاء البعث وحل اللواء تارة، وبعزل أسامة تارة أخرى، ثم تخلف منهم عن الجيش وفي أولهم أبو بكر وعمر.»
ويحكي لنا ذلك الشيخ ما حدث والرسول بين الحياة والموت، عن عبد الله بن عبد الرحمن: «فتثاقل أسامة وتثاقل الجيش بتثاقله، وجعل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في مرضه يثقل ويخف، ويؤكد القول في تنفيذ ذلك البعث، حتى قال له أسامة: بأبي أنت وأمي؛ أتأذن لي أن أمكث أياما حتى يشفيك الله تعالى. فقال: اخرج وسر على بركة الله. فقال: يا رسول الله، إن أنا خرجت وأنت على هذه الحال، خرجت وفي قلبي قرحة. فقال: سر على النصر والعافية. فقال: يا رسول الله، إني أكره أن أسائل عنك الركبان. فقال: نفذ ما أمرتك به. ثم أغمي على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وقام أسامة فتجهز للخروج . فلما أفاق رسول الله
صلى الله عليه وسلم
سأل عن أسامة والبعث، فأخبر أنهم يتجهزون، فجعل يقول: أنفذوا بعث أسامة، لعن الله من تخلف عنه. وكرر ذلك، فخرج أسامة واللواء على رأسه والصحابة بين يديه، حتى إذا كان بالجرف نزل ومعه أبو بكر وعمر وأكثر المهاجرين، ومن الأنصار أسيد بن حضير وبشير بن سعد وغيرهم من الوجوه، فجاءه رسول أم أيمن يقول له: ادخل فإن رسول الله يموت. فقام من فوره فدخل المدينة واللواء معه، فجاء به حتى ركزه بباب رسول الله ورسول الله قد مات في تلك الساعة.»
18
ويستمر الشيخ شرف الدين في قراءته لتلك السويعات الفاصلة في تاريخ الدنيا، ليرى أن استبعاد أبي بكر وعمر لم يفلح، وعادا للمدينة والرسول في النزع الأخير ومعه علي بن أبي طالب، ليورد لنا ما أخرجه البخاري بسنده إلى عبيد الله بن عبد الله بن مسعود عن ابن عباس قال:
لما حضر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال النبي: هلم أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده. فقال عمر: إن النبي قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت فاختصموا؛ منهم من يقول قربوا يكتب لكم النبي كتابا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي قال لهم
صلى الله عليه وسلم
قوموا. - قال عبد الله بن مسعود - فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم.
لكن الشيخ يؤكد أن أصحاب السنن والأخبار، قد تصرفوا في قول عمر «إن النبي قد غلب عليه الوجع» فنقلوه بالمعنى؛ لأن لفظه الثابت: «إن النبي يهجر.» لكنهم هيئوا العبارة اتقاء لفظاعتها في حق سول الله.
19
وبعد ...
فقد حاولنا السعي وراء أعتاب سيد الخلق المصطفى
صلى الله عليه وسلم
وسيرته كما أخبرنا بها الواقع المدون في مصادره الموثوقة، نصطفي أهم الأحداث المتعلقة بحروب دولته التي أنشأها وأقامها لعرب الجزيرة، ليتغير بها وجه العالم، وتتسق وجهة التاريخ مع خط سيرها المنطقي. وجعلنا مادة الوثائق مادة للعلم بقواعده الصارمة دون تدخل عاطفي أو وجداني، بغرض القراءة الأقرب إلى واقع الأحداث، ولا نزعم أننا فعلنا سوى المحاولة القابلة للصواب لنحوز الأجرين، والقابلة أيضا للسقوط في خطأ الإنسان بكل ما له وما عليه، وهو الخطأ الذي سنحوز به على ثواب الأجر الواحد، لكن الذي لا مشاحة فيه أنه لا يصح أبدا أن نضع ذلك العبد الإنسان العظيم المصطفى ضمن عظماء العالم، كما يفعل البعض، فأين هؤلاء من ذلك الإنسان المتميز على العالمين، ولا جدال أنه بعد ما سردناه وقرأناه في عملنا هذا يجب أن نخفف من غلوائنا، ونتحفظ قليلا في إطلاق الصفات على قادة ورجال لم يصلوا أبدا إلى قامة ذلك السيد الرائع، الذي توافقت خطواته مع خطوات التاريخ، واتسقت رائعته العظمى عبر سيرها التطوري الهادئ لإقامة الدولة وتأسيس أيديولوجيتها، مع السنن الكونية، فكان عكس كل السابقين الذين حكي لنا عن كسرهم لقواعد الكون ونواميسه بالمعجزات والملغزات، ليثبتوا نبوتهم. لقد اتسق نبي الإسلام مع كل السنن الكونية دون خلل؛ فكان مؤسسا للعقل في النبوة وللنبوة في العقل، وخاتما للنبوات، وبادئا لدور الإنسان على الأرض، وصانعا لكرامة عربية جديدة.
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فداك أولادي وأموالي ونفسي. صلى الله عليك وسلم، وعليك صلاتي وسلامي، وتسليمي، ولك ولرب العالمين إسلامي.
المصادر1
(1)
القرآن الكريم. (2)
الكتاب المقدس. (3)
القاموس المحيط. (4)
المنجد. (5)
كتب الحديث الشريف: (أ)
البخاري. (ب)
أبو داود. (ج)
الترمذي. (د)
مسلم.
المصادر مرتبة «ألف باء» حسب اسم المؤلف (6)
ابن الأثير: الكامل في التاريخ، دار صادر، بيروت، 1965. (7)
أمين «أحمد»: فجر الإسلام، مكتبة النهضة العربية، ط14، القاهرة، 1987. (8)
ابن آدم: كتاب الخراج، دار المعرفة، بيروت، 1979، ص42. (9) «البجاوى» محمد، ومحمد أبو الفصل: أيام العرب في الإسلام، دار الحداثة، بيروت، 1983. (10)
الديار بكري: تاريخ الخميس، مؤسسة شعبان للنشر، بيروت، د.ت. (11)
البلاذري: أنساب الأشراف، تحقيق محمد حميد الله، دار المعارف، القاهرة، د.ت. (12)
البيهقي: دلائل النبوة ، تحقيق عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت ، 1988. (13)
ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم، دار المعرفة، بيروت، د.ت. (14)
الثعلبي النيسابوري: قصص الأنبياء المسمى عرائس المجالس، المكتبة القافية، بيروت، د.ت. (15)
الجاحظ: الرسائل، جمع ونشر حسن السندوبي، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، 1933. (16)
ابن حبيب: المحبر، تحقيق د. إيلزة شتينر، دار الآفاق الجديدة، بيروت، د.ت. (17)
ابن حبيب: المنمق في أخبار قريش، تحقيق خورشيد أحمد فاروق، دائرة المعارف العثمانية، حيدر أباد، الهند، ط، 1964. (18)
حميد الله «محمد»: مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، دار النفائس، بيروت، ط5، 1985. (19)
ابن حنبل: كتاب الزهد، دار الكتب العلمية، بيروت، 1978. (20)
ابن خلدون: المقدمة، دار الشعب، القاهرة، د.ت. (21)
ابن خياط «خليفة»: الطبقات، تحقيق أكرم العمري، مطبعة العاني، بغداد، ط1، 1967. (22)
دلو «برهان الدين»: مساهمة في إعادة كتابة التاريخ العربي الإسلامي، الفارابي، بيروت، 1985. (23)
الدينوري: الأخبار الطوال، تحقيق عبد المنعم عامر، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، القاهرة، ط1، 1960. (24)
زيعود «د. على»: قطاع البطولة والنرجسية في الذات العربية، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1982. (25)
سالم «د. سالم عبد العزيز»: دراسات في تاريخ العرب قبل الإسلام، دار النهضة، بيروت، 1970. (26)
ابن سعد: الطبقات الكبرى، دار التحرير للطباعة والنشر، القاهرة، د.ت. وطبعة دار صادر، تحقيق أوجين متنوح، بيروت، 1958. (27)
السقاف «أبكار»: نحو آفاق أوسع، الأنجلو المصرية، القاهرة، د.ت. (28)
ابن سلام: الأموال، تحقيق محمد حامد الفقي، دار الكتب المصرية، القاهرة 1353ه. (29)
السهيلي: الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية لابن هشام، دار المعرفة، بيروت، 1978. (30)
ابن سيد الناس: عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، تحقيق لجنة إحياء التراث العربي، دار الافاق الجديدة، بيروت، 1980. (31)
الشريف «أحمد إبراهيم»: مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول، دار الفكر العربي، القاهرة، د.ت. (32)
شلبي «د. أحمد»: السيرة النبوية العطرة، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ط12، 1987. (33)
الشهرستاني: الملل والنحل، تحقيق محمد سيد كيلاني، نشر البابي الحلبي، القاهرة، 1961. (34)
الشيباني: الاكتساب في الرزق المستطاب، تلخيص محمد بن سماحة، تحقيق محمد عرنوس، مطبعة الأنوار، القاهرة، 1938. (35)
الشيباني: شرح كتاب السير الكبير، تحقيق صلاح الدين المنجد، معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية ، القاهرة، 1972. (36)
صالح «أحمد عباس»: الصراع بين اليمين واليسار في الإسلام، مجلة الكاتب، القاهرة، 24 نوفمبر 1964. (37)
الأصفهاني: الأغاني، المكتبة الحيدرية، النجف، ط2، د.ت. (38)
الطائي «حاتم»: ديوانه، تحقيق وشرح كرم البستاني، مكتبة صادر، بيروت، د.ت. (39)
الطبري: تاريخ الرسل والملوك، دار المعارف، القاهرة، د.ت. (40)
ابن عبد الحكم: فتوح مصر وأخبارها، مكتبة المثنى، بغداد، د.ت. (41)
عبد الرحمن «عبد الهادي»: جذور القوة الإسلامية، دار الطليعة، بيروت، 1988. (42)
علي «جواد»: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، دار الحرية، بيروت، ط1، 1983. (43)
علي «جواد»: تاريخ العرب في الإسلام، دار الحرية، ط1، بيروت، 1983. (44)
ابن قتيبة: الشعر والشعراء، دار الثقافة، بيروت، 1969. (45)
ابن قتيبة: عيون الأخبار، دار الكتب العلمية، بيروت، ط، 1986. (46)
القمني «سيد محمود»: دور الحزب الهاشمي والعقيدة الحنفية في التمهيد لقيام دولة العرب الإسلامية، مجلة مصرية، القاهرة، العدد التاسع، أكتوبر 1986. (47)
القمني «سيد محمود»: الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية، دار سينا، القاهرة، 1990. (48)
القمني «سيد محمود»: حروب دولة الرسول (الجزء الأول: بدر وأحد)، دار سينا، القاهرة، 1993. (49)
ابن كثير: البداية والنهاية، دار الكتب العلمية، بيروت، ط4، 1988. (50)
الماوردي: الأحكام السلطانية والولايات الدينية، دار الكتب العلمية، بيروت، 1978. (51)
مدكور «د. إبراهيم بيومي»: في الفلسفة الإسلامية. (52)
المسعودي: مروج الذهب، تحقيق محيي عبد الحميد، المكتبة الإسلامية، بيروت، د.ت. (53)
مروة «حسين»: النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، دار الفارابي، بيروت، ط6، 1988. (54)
المقدسي: البدء والتاريخ، مكتبة المثنى، بغداد، 1916. (55)
الموسوي «عبد الحسين شرف الدين»: النص والاجتهاد، مؤسسة الأعلمى، كربلاء، العراق، 1966. (56)
ابن هشام: السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وآخرين، مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، ط2، 1955. (57)
الواقدي: كتاب المغازي، تحقيق مرسدن جونز، منشورات جامعة أكسفورد، لندن، 1966، وأيضا نشر مؤسسة الأعلامي، بيروت، د.ت. (58)
اليعقوبي: التاريخ، المكتبة الحيدرية، النجف، ط4، 1974. (59)
أبو يوسف: الخراج، دار المعرفة، بيروت، 1979.
Page inconnue