فكل المعاني الجميلة التي أرادها الله لهذا البلد الحرام مجتمعة في كلمة الكعبة فهي البارزة الغير خافية وهي الناهده الغير جافية ، وهي مفصل الأرض ذات النجاح وعقدة اللقاء والانفراج وهي نقطة البداية للتكوير والانبعاج وهي مهد ونهد البسط والامتداد وهي معقد الشق والانشراق .وهي مركز الرتق والانفتاق وهي بكر الأرض (أول بيت وضع للناس) وهي مباركة وهدى للناس وهي قيام الناس ومثابة لأنها بارزة مشهورة رفيعة كاعبة. إن هذه الآثار والآيات الثاقبة ، وهي مهوى الناس قاطبة ، وهي مأمن لكل نفس راهبه ، وهي حاضرة في النفوس رغم أنها غائبة ، هذه بعض معاني الكعبة التي دلت عليها الكلمة ، ولها معاني تستظهر مع الأيام القادمة.
إذن أليس من الواضح أن تكون الكعبة في قوله تعالى (جعل الله الكعبة البيت الحرام) هو المنطقة الحرام ولهذا قال تعالى بعدها البيت الحرام فهو عطف بيان أو بدل وهذا يعني بلا شك أن الكعبة اسم للمنطقة الحرام كلها وليس للمبنى الصغير الذي تعرض للهدم والإصلاح والتصدع وللانزواء في مساحته وللتوسع كما حكاه لنا التاريخ وكما يعرف ذلك المتتبع.
أليس بعد هذا البيان أيها الأخوان نصل معكم إلى إن اسم الكعبة اسم له سعة وشأن ونصل إلى أن المعنى الأصح للكعبة هو اسم يطلق على كل المنطقة الحرام الواضحة الحدود والأركان المعلومة الشعائر والمكان .أرجو أن تقتنعوا بلا ريب ولا تردد بل بترحاب للمعنى الذي تجسد ، لعلي إلى هنا أصل بكم وقد أجهدتكم ولكنه جهد مفيد لي ولكم ، وإنه لجهد محبوب ، مشكور بإذن الله من ربكم ، فهو يحب من تدبر الآيات بإمعان ، وتذكر المعاني باطمئنان ، لقد اعتمد على القرآن ، الذي فيه البيان.ولعلي قبل الوداع أعود بكم إلى الدليل الواضح من القرآن على إرادة المعنى الجديد للكلمة فلقد قال الله عن الذي يقتل الصيد متعمدا وهو حرم قال (فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة) فهل الكعبة بالمعنى المعهود لدينا ، هي التي يبلغها الهدي وينحر فيها ، كلا بل الهدي يبلغ إلى منى ، وهو محل النسك المعهود لنا ، والمعروف لمن نحر قبلنا.وهذا يعني أن منى جزء من الكعبة ، وعليه فالكعبة هي كل المنطقة التي ببكة الحرام ، ولهذا جاءت مبينة بعدها بلا انفصام بقول الله العلام: (البيت الحرام)
ثم وصف الجميع بقوله قياما للناس ثم عطف على الجميع قوله : (والشهر الحرام والهدي والقلائد) ثم بين لنا أن ذلك بعلم منه لأنه العليم بكلما خلق وعليم بما حكم به وأن حكمه هو المعمول به فقال : (ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم) 97. ثم أكد أن العمل بالتحريم لهذه الكعبة والبيت الحرام أمر هام فقال (اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم) المائدة 98 ، فلنكن حريصين على اجتناب العقاب الشديد الأليم ، ولنحاول التعرض للغفران والرحمة من الغفور الرحيم ، ولنكن على علم أن الله يعلم الظاهر والمكتوم ، ويجازي كل عبد بما يعمله فالرسول قد بلغنا بما أرسله وعلينا أن نتبع ما بلغ (ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون) المائدة 99
وختاما أقول : وإذا كان معنى (الكعبة) كما عرفنا فإن من المؤكد لهذا المعنى في الأفهام هو أن هذا المقام المكعب البارز ، المبتكر الناهد ، المعروف المشهور ، لكل عابد ، هو مهوى القلوب ، إليه تنهد وتكعب أرحال ، واليه تشد وتكعب الأحمال ، وإليه ترد وتكعب الرجال ، وإليه تأتي كل ضامر يشوق من كل فج عميق ، ويحمل عليها الناس والثمرات بلا تعويق ، فالكعبة كعبة للناس في كل زمان ومكان ، إليها يكعبون ويبرزون ، وإليها ينهدون ويبهزون ، وإليها تقطع الفيافي والحزون ، وإلى مكعبها تتبارك الثمرات وتتواكب الرحلات ، وتتراكب السنوات ، وتتناكب الخطوات ، وتتحرك الأهواء والرغبات ، وتتشارك الجماعات والثبات ، وتتسامك الأحاد والزرافات ، فهي الكعبة التي لا تخفى على الأمم ، وتحفى عنها القدم ، وتحتفي بها الهمم ، وتحف بها القلوب ، وتخف إليها منذ القدم ، وستبقى هكذا إلى يوم تبدل الأرض غير الأرض ، وتخرج الذمم . بارك الله هذا المقام الأكرم ، وتبارك الله الذي جعلها كعبة ، وبهذا نسلم ، وقضى بأنها قيام للناس ومثابة وحرم ، وما حكم به وقضى فهو الحق لأنه بما في السموات والأرض يعلم ، ولأنه محيط علما بما يبدو وما يكتم ، وهو العليم بما يقضي ، والمحيط علما بكل شيء سماوي وأرضي ، ولقد فاز من لربه يرضي ولهداه يتبع باقتناع ، ولحكمه يسلم بحب بلا امتناع ، فالرسول قد بلغ و(ما على الرسول إلا البلاغ) وكل شيء سواه لغو وفراغ ، وكل حكم سوى حكم الله ضلال وظلام ، وكل قول سوى قول الله لباطل وحطام ، ألا إلى الله تصير الأمور ، وهو الرحيم الغفور.
(المسجد الحرام)
إن المسجد الحرام كلمة وردت كثيرا في القرآن وهي في مفهوم المفسرين تعني المكان الذي يطوف فيه الناس ويسجدون وفيه يتعبدون ويجتمعون ، أو فلقد كانوا يعنون بالمسجد الحرام هذا المبنى الذي يحيط بالصحن المعد للطواف ، والذي يتوسطه المبنى الأصغر الذي بناه إبراهيم ورفع قواعده فهل هذا الفهم صحيح ، تعالوا نقرأ القرآن : يقول الله (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير) الإسراء 1 ، لنتأمل الآيات بإمعان ولنسأل أولا هل الإسراء تم من المسجد الحرام المتعارف عليه بيننا بأنه المبنى المعد للصلاة والطواف؟؟ إن الجواب على السؤال بلا شك يؤكد أن الإسراء تم من مكة أو من بيت من بيوت مكة ، لا من المسجد الذي للصلاة المعهودة ثم هل كان المبنى الذي كان يجتمع فيه القرشيون حول الأصنام مسجدا لله؟ وهل كان فيه صلاة؟؟ كلا. بل الله يقول (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية) الأنفال 35 إذن (المسجد الحرام) ليس المراد به إلا البلد الأمين بكامله ومحتواه ، ولا يقصد به إلا البيت الحرام بمعناه الذي عرفناه ، لقد أسري بالنبي من المنطقة التي هي مكة أو البلد المسمى بالمسجد الحرام ، قد تسألون ولماذا سمي بالمسجد الحرام ؟ وأنا أسأل هل وصف المسجد بأنه حرام يعني أن الحرم مقصور على المبنى؟؟ إذا كان المسجد هو المبنى فإن هذا يعني أن الحرم محدد به وهذا غير صحيح فالحرم هو البلد الكامل الشامل المناطق الحرام كلها ، التي يعرف الناس حدودها ، وبدايتها ونهايتها ، بلا لبس ولا خلاف ، وعليه فالمسجد المراد به كل المنطقة الحرام .
أما لماذا سمي مسجدا فهو لأنه محل للطاعة والخضوع والانقياد لله والخشوع والتزام سلوك معين معهود للناس مشروع ، فلا رفث فيه ولا فسوق ولا جدال ولا خصام ولا اعتداء ولا قتال ، بل سلام واطمئنان لكل مقيد وباد. ومن يرد فيه بإلحاد ، فأن العذاب له بالمرصاد ، وهكذا سمي البلد مسجدا ، ووصف بأنه الحرام ، لأنه هكذا محكوم فيه بالطاعة والالتزام وهو معهود للناس بشكل عام ، سواء من كفر وغادر الإسلام ، ومن استجاب بعد ذلك للإسلام ، فهو المسجد الحرام ، الذي حكمه معروف ، والتحريم فيه مألوف ، والقتل فيه مكفوف ، وهو بالاحترام محفوف ، فالمسجد الحرام هو البلد بكله ، والمسجد الحرام هو المنطقة الحرام الكاملة.
ثم هل هناك حين أسري بالنبي مسجد في القدس ، كلا بل كان هناك كنائس وأديره لليهود والنصارى ، فلماذا سمي إذن المسجد الأقصى؟ لأنه مقام عبادة وطاعة لله ، ومحط سلام واطمئنان ، فالسجود يعني الخضوع والاستسلام والمسجد يعني موطن التمسك بذلك والالتزام ، فهو المسجد الأقصى ، أي المكان أو البلد الذي يحترم فيه الناس بعضهم بعضا. ثم إذا كان المراد بالمسجد الأقصى هو الكنائس والأديرة والبيع النصرانية فلماذا وصف بالأقصى؟
إن الأقصى لا يوصف إلا بلد كامل أو مقام واسع الأرجاء أو منطقة يسكنها الناس ويعيشون في سلام شامل وعطاء
Page inconnue