أصاب باريس ماخاون، طبيب الجيش، ويحمل نيستور الحكيم الرجل الجريح بعيدا في عربته. ويراهما آخيل بينما يشرئب بعنقه ويراقب من مؤخر سفينته، متلهفا معرفة أخبار سير المعركة. فيبعث بباتروكلوس لمعرفة من جرح. كان باتروكلوس حتى ذلك الحين في خلفية الأحداث، ولكنه في هذه اللحظة يتحدث للمرة الأولى وسرعان ما يصبح محطا للأنظار.
يود نيستور أن يحسن وفادة باتروكلوس ويبرز كأسا متوارثة، وهي «كأس نيستور» الشهيرة. كما رأينا سابقا (راجع حديثنا عن كأس نيستور في نهاية الفصل الأول)، تشير كأس من جزيرة إسكيا في خليج نابولي، منقوش عليها«هذه هي كأس نيستور ...»، إلى وجود نص أقدم من «الإلياذة»، إن كانت الكأس تفصيلة من بنات أفكار هوميروس وليس عنصرا تقليديا متوارثا في نظم الشعر الشفاهي. على الرغم من أن باتروكلوس يتوق للعودة إلى خيمته، ما إن يرى أن ماخاون هو الذي جرح، فإن نيستور يبقيه بأن يروي له مآثره القتالية عندما كان شابا في شمال غرب شبه جزيرة بيلوبونيز. والسبب وراء قتله لرجل يسمى إيتيمونيوس في غارة لسرقة الماشية في عمل انتقامي موجه ضد أوجياس ملك إيليس (الذي قتله هرقل [هيراكليس] حسب تراث شعبي لاحق). ويصف له الحرب التي أعقبت ذلك. يعتقد الكثيرون أن هذا النوع من القصص المحلية، مثل قصة نيستور، تولد عن أحداث حقيقية، حفظها المنشدون الملحميون، وأن هوميروس، بطريقة أو بأخرى، سمع القصائد تنشد في غرب شبه جزيرة بيلوبونيز.
إن نيستور ثرثار ولكنه واضع للخطط، فيقترح أن يلبس باتروكلوس درع آخيل ليجعل الطرواديين يظنون أن آخيل قد عاد. وهذا من شأنه تخفيف العبء ورفع المعاناة عن الآخيين، المتدهور وضعهم في القتال تدهورا كبيرا. ومن خطة نيستور يأتي كرب لا يخمد يصيب آخيل ودافع جديد لغضبه الهائل. (15) «المعركة عند الجدار» (الكتاب 12)
وصف هوميروس سابقا بناء جدار غامض لحماية السفن (مع أنهم تدبروا أمرهم لتسع سنين من دون جدار)، والآن يستعين باللغة الأسطورية للفيضان العالمي ليعلل اختفاء الجدار في نهاية المطاف:
عندما لقي أشجع الطرواديين جميعا حتفهم، ومات كثير من الأرجوسيين وبقي بعضهم، ونهبت مدينة بريام ودمرت في السنة العاشرة، ورجع الأرجوسيون في سفنهم إلى أرض أجدادهم الحبيبة، عندئذ تشاور بوسيدون وأبولو بشأن تدمير الجدار، مستعينين بقوة جميع الأنهار التي تجري من جبل إيدا إلى البحر. (الإلياذة، 12، 13-18)
إن رؤية هوميروس هي رؤية مستقبلية لوقته الحاضر الذي يسترجع من خلاله الأحداث التي يصفها في هذه اللحظة. ليس ثمة شك بشأن النهاية التي سوف تئول إليها الحرب، فلا حيرة ولا ترقب في أذهان المستمعين. إن تدمير الجدار يرمز إلى الفاصل بين الماضي البطولي وزمن هوميروس المعاصر، ولكن لغة الطوفان العظيم، الذي يكتسح كل شيء أمامه، قد تعود إلى قصة يرجع أصلها إلى بلاد ما بين النهرين عن الطوفان الذي أغرق العالم. لا يمكن لأي يوناني أن يكون قد مر بتجربة مباشرة مع مثل هذه الفيضانات الكارثية، ولعلنا في هذه الفقرة نلمح العناصر العريقة في القدم في قصائد هوميروس.
عندما يتخذ باتروكلوس سبيله عائدا إلى خيمة آخيل، يشدد هوميروس على الخطر المحيق بالسفن ويصعد من الاحتياج الماس إلى تنفيذ مخطط نيستور لإرسال آخيل بديلا. إن هيكتور يهاجم الجدار فعليا، والكتاب الثاني عشر بأسره مخصص لهذه المعركة المهمة والضخمة. ونعرف الآن أن ثمة خندقا به أوتاد خطرة مثبتة فيه يجثم أمام الجدار، الذي يشتمل على بوابات عديدة. وخوفا من الخندق، يترجل الطرواديون على أقدامهم، وينقسمون إلى ست فرق، ويتحضرون للهجوم في الوقت الذي يهرع فيه الآخيون إلى الداخل.
إن لغة هوميروس في هذه السلسلة الطويلة لمشاهد المعركة، التي تؤدي إلى نصر مؤقت لهيكتور، مستمدة من الموضوع التقليدي المتعلق بنهب وتدمير مدينة، وفي بعض الصيغ من موضوع نهب وتدمير طروادة. بل إن هوميروس يشير في إحدى المرات إلى الجدار بكونه «حجريا» تضطرم فيه النيران (12، 177-178)، على الرغم من أن الجدار ليس حجريا ولا النيران مضطرمة فيه. ونجد أن التصوير على مدار الكتاب الثاني عشر يتمحور حول نهب وتدمير مدينة، وليس حول الاستيلاء على جدار دفاعي:
سعوا، معتمدين على بأسهم، لتحطيم جدار الآخيين العظيم. فهدموا أبراج التحصينات وأسقطوا شرفات الجدار الدفاعية ونزعوا الدعامات التي كان الآخيون قد وضعوها في البداية في الأرض تدعيما للجدار، فحاولوا سحبها وإخراجها، وكانوا يأملون أن يحطموا جدار الآخيين. ومع ذلك لم يفسح لهم الدانانيون السبيل، وإنما سيجوا شرفات الجدار الدفاعية بجلود الثيران وتحصنوا بها واستمروا يقذفون على الأعداء، بينما كانوا يقتربون من الجدار. (الإلياذة، 12، 256-264)
ويثبت فأل مخيف لنسر يهاجم ثعبانا لا يزال حيا أن نصر الطرواديين سيكون مؤقتا، ولكن هيكتور يرفض الفأل بغضب شديد؛ فمثل هذا الهوس متوقع من رجل مصيره الهلاك (12، 195-250).
Page inconnue