قبل موته يخبر دولون آسريه عن ريسوس ملك الثراسيين، الوافد حديثا ومعه خيول أصيلة ورجال كثيرون، ويتسلل الثنائي الذي لا يكل إلى الصفوف، ومثل أبطال لعبة فيديو يجهزان على واحد تلو الآخر. فبينما يتولى ديوميديس عملية القتل، يسحب أوديسيوس جانبا الجثث ليمهد سبيلا للخيول التي يسرقانها، والتي قد تحجم عن السير فوق الجثث البشرية! ثم يقتلان ريسوس نفسه، ويأخذان الخيول الأصيلة وبمهارة ويعودان إلى المعسكر معتلين صهوتها وبداخلهما نشوة الانتصار، وهي الإشارة الوحيدة في القصائد إلى الركوب على صهوة الخيل.
تنسجم الأحداث في «الدولونيا» مع قدر التعطش للدماء الذي يمارس في أكثر أحداث الحرب. ومثل هذا السلوك بالضبط كان النشاط الرئيسي للقبائل الهندية الأمريكية المقاتلة في السهول الشمالية إبان القرن التاسع عشر، من التسلل إلى معسكر للعدو، وقتل بعض الأعداء أثناء نومهم، وسرقة الخيول، وقتل الأسرى، ثم الانصراف ممتطين ظهور الخيل دون سرج. وحمل رجال القبائل أولئك أيضا الأقواس والسهام أسلحة رئيسية لهم، مثلما يحمل أوديسيوس قوسا وسهاما هنا، وإن كان لا يستخدمها على الإطلاق. وفي الواقع لم يعرف ديوميديس وأوديسيوس أي شيء عن نوايا العدو، ولكن لا يبدو أن أحدا يعير ذلك اهتماما.
يعترض نقاد «الدولونيا» على سلوكيات قطع الرقاب التي تتضمنها، ولكن هذا النوع من النقد هو نقد غير تاريخي. أو أنهم يرون أن الكتاب خارج عن سياق «الإلياذة»، بل مجرد مطاردة مثيرة عبر الظلال فوق تلال من الجثث وأن كسر شوكة عدو غافل هو أمر سيبرر نفسه بنفسه. ولا نندهش أن نجد الآخيين في الصباح التالي مستعدين للهجوم. (13) «جرح القادة» (11، 1-595)
وهذا بالضبط ما حدث؛ إذ عندما يبدأ القتال في اليوم التالي، يصف هوميروس في تفصيل ممتع مهارات أجاممنون القتالية الفذة، عدو آخيل اللدود، الذي كان آخيل قد دعاه جبانا و«امرأة». هذه هي فرصتنا لنرى أجاممنون، الذي يزعم أنه «أفضل الآخيين»، في غمار معركة حربية. بادئ ذي بدء يسلح أجاممنون نفسه (11، 15-46)، في واحد من أكثر نماذج مشاهد هوميروس النمطية عن التسلح تفصيلا، عدا مشهد تسلح آخيل الذي يأتي لاحقا (19، 369-391). عندما يتسلح محارب، فإنه يرتدي أو يخلع القطع نفسها بالترتيب ذاته. يرتدي أجاممنون أولا درع الساق، ثم قطعا فضية للكاحل، ثم الدرع الواقي للصدر، وهو هدية من قبرص مزين بلفائف من اللازورد، والذهب، والقصدير ومرصع بحليات لازوردية على شكل حيات، ثم يضع حول كتفيه سيفه، ويرفع درعه «الذي يحمي الرجل على الجانبين» (11، 32)، المزين بدوائر من البرونز، ونقوش بارزة من القصدير، ورأس الجورجونة. ثم يأخذ خوذته ذات القرنين والمزينة بعرف من شعر الخيل ، وأخيرا، رمحين.
شكل 4-1: «الدولونيا»، على مزهرية أتيكية، يرجع تاريخها إلى حوالي سنة 410 قبل الميلاد. المشهد يحدث في غابة. أوديسيوس إلى اليسار، يرتدي قبعة مسافر مخروطية ويمسك بخنجر، ويمسك بتلابيب دولون بيده اليسرى بينما إلى اليمين نجد ديوميديس، مرتديا خوذة، يحتضن رمحا، يمسك به من الناحية الأخرى. يحمل دولون قوسا وجعبة سهام ويلبس قبعة وعباءة من جلود الحيوانات. حقوق النشر محفوظة للمتحف البريطاني (
F 157 ).
مدججا بالسلاح والدروع، يسحق أجاممنون الطرواديين سحقا في «لحظة امتياز» بديعة. ويصل الأمر إلى درجة أن زيوس يثني هيكتور عن الاقتراب من أجاممنون، الذي من الجلي أنه في مجده، إلى أن يصاب أجاممنون، ويعده زيوس أنه عندئذ سوف يتحول التفوق إليه. وعلى مدار 200 بيت لاحقة يظل أجاممنون يجتز الرءوس، إلى أن يصاب أخيرا بجرح يؤلمه مثل الألم الوخزي الذي تشعر به المرأة عند المخاض.
عندئذ يأتي دور هيكتور في القتل. في بيان المعمعة، يستخدم هوميروس أداة لدفع المستمع إلى التركيز عندما ينقل زمام القيادة إلى شخصية أخرى، ويطرح لغزا بلاغيا على المستمع؛ إذ يتساءل قائلا: «من كان أول القتلى؟» لنحصل حينها على قائمة طويلة.
أصيب أجاممنون، والآن يأتي دور ديوميديس، الذي يضربه باريس بسهم. فيقول ديوميديس متبرما إن الرجال الحقيقيين يقاتلون بالرماح (وهو أمر فوق طاقة باريس)، ولكنه يصاب «بالفعل» ويتدخل أوديسيوس ليكون له ساترا. يمر أوديسيوس «بلحظة امتياز» محدودة، ويسقط طرواديون كثيرون قبل أن يصاب هو الآخر. والآن يأتي دور أياس الأعظم شأنا، الذي يقتل المزيد من الطرواديين، ولكنه يدفع هو الآخر إلى التراجع.
إن هوميروس آخذ في التجهيز لنقطة التحول الثانية في الحبكة، وهي موت باتروكلوس، تلك التي سوف تعيد آخيل إلى القتال وتوجه القصة إلى موضع انحلال عقدتها المتمثل في مقتل هيكتور وافتداء جثته؛ إذ يؤدي جرح الأبطال أجاممنون، وديوميديس، وأوديسيوس وتراجع أياس إلى جعل هذا التحول في الأحداث حتميا. (14) «خطة نيستور» (11، 596-848)
Page inconnue