ما هي أول المصادر الخارجية التي تورد ذكر هوميروس، أو تلمح إلى وجوده بأي طريقة أخرى؟ هيرودوت، كما طالعنا، يذكر هوميروس مرات عدة ويقتبس أحد عشر بيتا من أبياته. وهو أيضا أول من تكلم عن «الرابسوديين»، فيما يتصل بواقعة حدثت في مدينة سيكيون (في شبه جزيرة بيلوبونيز الشمالية) حوالي عام 570 قبل الميلاد. لم يكن الأداء الرابسودي نظما شفاهيا حيا، ولكنه كان معتمدا على حفظ نص محدد مكتوب (إن كان ذلك ما يعنيه هيرودوت)، والجلي أنه في أوائل القرن السادس قبل الميلاد كان الإلقاء بالاستعانة بالنصوص المكتوبة يحل محل التقليد الشفاهي.
قبل هيرودوت بجيل، عمد زينوفانيس (حوالي 560-478 قبل الميلاد)، ذلك الفيلسوف المتمرد على المعتقدات السائدة، المؤمن بالوحدانية القادم من كولوفون، وهي مستعمرة يونانية على ساحل آسيا الصغرى، إلى استنكار وثنية هوميروس اللاأخلاقية بقوله: «لقد نسب هوميروس وهيسيود كل ما هو مخز وشائن في عالم البشر، من سرقة وزنا وتحايل، إلى الآلهة» (شذرة 10 ترقيم ديلز-كرانز)، مبرهنا بقوله على الدور البارز لهوميروس في الثقافة اليونانية منذ القرن السادس قبل الميلاد، وهو تأثير يصل إلى حد أن زينوفانيس يرى أنه ينبغي مقاومته. مما لا شك فيه أن نصوصا كاملة «للإلياذة» و«الأوديسة» كانت موجودة في القرن السادس قبل الميلاد، عندما وضع هيبارخوس، ابن الحاكم الأثيني بيسيستراتوس (605؟-527 قبل الميلاد)، نظاما ثابتا لعرض الأحداث الواردة في القصائد في مهرجان عموم أثينا، ذاك الاحتفال الوطني الأثيني الذي جرى تعديله (لا يزال في هذا الشأن مزيد من التفاصيل سنتناولها لاحقا).
فيما يبدو أن «الترنيمة الهوميرية إلى أبولو»، التي ربما تكون في صورتها الراهنة إعادة صياغة لنصوص قصيدتين أقدم مجهولتي المؤلف أمليتا على النساخ، قد أديت على جزيرة ديلوس في عام 522 قبل الميلاد، برعاية بوليكراتس، طاغية ساموس الشهير. تحكي الترنيمة الطويلة ذات الخمسمائة والخمسة والأربعين بيتا، وهو ما يقارب طول كتاب من كتب ملحمتي هوميروس، أولا، الأساطير المتعلقة بميلاد أبولو على جزيرة ديلوس، ثم بعد ذلك تأسيس عبادة أبولو في منطقة دلفي. وتزعم الترنيمة أنها من نظم «الرجل الكفيف من جزيرة خيوس»، وهو ما يقصد به تماما الإشارة إلى هوميروس. كان مصدر أسطورة إصابة هوميروس بالعمى هو الشاعر الأعمى ديمودوكوس في «الأوديسة». إن الزمن التاريخي لهذه «الترنيمة» متأخر جدا عن زمن هوميروس مما لا يصح معه نسبتها إليه، ولكن زعمها المتفاخر يبرهن مجددا على مكانة هوميروس السامية في القرن السادس قبل الميلاد.
ويبدو أن الشاعر بالغ القدم كالينوس من أفسوس في آسيا الصغرى هو أول من ذكر هوميروس بالاسم، إن كنا نصدق كلمات باوسنياس (القرن الثاني الميلادي) من أنه «كان لدى سكان مدينة ثيفا (طيبة) قصائد بشأن هذا الموضوع [حرب السبعة ضد طيبة]، وأنه عندما انتهى كالينوس إلى الحديث عن هذه القصائد، نسبها إلى هوميروس». عاش كالينوس في أواسط القرن السابع قبل الميلاد. لا بد وأن باوسنياس يشير إلى «ثيبايس»، وهي قصيدة غير متيقن من مؤلفها، وهي مفقودة في الوقت الحاضر (لعلها «كانت» من تأليف هوميروس). عاش كالينوس بعد 150 عاما فقط من تاريخ اختراع الأبجدية اليونانية حوالي عام 800 قبل الميلاد، وهي التقنية التي أتاحت وجود هوميروس والقصائد الهوميرية.
تأتي هيلين بعقار قوي على الرغم من أن الكتيبات تدعو هوميروس شاعرا أيونيا، عاش وعمل في آسيا الصغرى، فإن التحليلات التي أجريت حديثا للدلائل النصية والتاريخية تحدد نشاطه في جزيرة عوبية المديدة التي تعانق الساحل الشرقي لبر اليونان الرئيسي (خريطة 2). وثمة سمات اصطلاحية معينة تتصف بها لهجته قد تسمها بأنها «غرب أيونية» والتي يتكلم بها العوبيون (سكان جزيرة عوبية)، في مقابل اللهجة «شرق الأيونية» لساحل آسيا الصغرى. كان سكان جزيرة عوبية هم أكثر المجتمعات اليونانية تقدما وثراء إبان العصور المظلمة (أو الحديدية) اليونانية حوالي 1150-800 قبل الميلاد، في الفترة بين انهيار العصر البرونزي واختراع الأبجدية اليونانية. وحسب اكتشافات أثرية حديثة في ليفكاندي، وهو الاسم الحديث لمستوطنة قديمة عند طرف سهل ليلانتين المتنازع عليه بقوة (خريطة 2)، كان العوبيون هم اليونانيين الوحيدين من بر اليونان الرئيسي الذين حافظوا على التواصل، على نحو مباشر أو عبر وسطاء، مع قبرص وساحل الشام وحتى مصر أثناء العصور المظلمة. فداخل بناء هائل طويل ضيق له بروز مزخرف عند أحد أطرافه، بني حوالي عام 1000 قبل الميلاد، وليس له مثيل في أي مكان في اليونان، عثر علماء التنقيب الأثري على مقبرة محرقة محارب نادرة، بالإضافة إلى ذبائح خيول وحلى ذهبية في مقبرة دفن قريبة لامرأة. لسنا على يقين من وظيفة هذا المبنى الفريد، ولكن في إطار مثل هذا بالضبط، لو كان هذا المبنى هو منزل الحاكم الكبير، فلنا أن نتخيل المنشدين الملحميين وهم يمارسون عملهم في هذا العصر الذي لم يكن قد عرف القراءة والكتابة.
خريطة 2: اليونان، بحر إيجه، وغرب آسيا الصغرى.
كان العوبيون أقدم وأكثر المستعمرين اليونانيين عدوانية، و«الأوديسة» هي عبارة عن قصيدة مصممة بحيث تلائم خبرتهم التاريخية في منطقة غرب البحر المتوسط في حقبة تحاكي حقبة «الغرب المتوحش» الأمريكي ولكن في أواخر القرن التاسع ومطلع القرن الثامن قبل الميلاد، العصر الذي بين كل آية وأخرى فيه يوجد آية تنسب إلى هوميروس (شكل
1-8 ).
شكل 1-8: إناء أتيكي عميق من الحقبة الهندسية المتأخرة، حوالي 730-720 قبل الميلاد، صنع في نفس زمن أقدم الكتابات الأبجدية اليونانية «الطويلة» (أي أكثر من بضعة أحرف) التي وصلت إلينا. صفان من المجدفين الجالسين على جانبي القارب (يظهر الصفان بعضهما فوق بعض حسبما كان متعارفا)، وفي أيديهم مجاديف. في قوارب كتلك جدف العوبيون وصولا إلى إيطاليا في أوائل القرن الثامن قبل الميلاد أو قبل ذلك. عند مؤخرة القارب، المعلق عليها دفتا توجيه، رجل ممسك بامرأة من خصرها بالوضع ذاته الذي نراه في مشاهد العرس؛ من الواضح أن المشهد يمثل اختطافا، ولكننا لا يمكننا التيقن من أنه مستوحى من قصة بعينها، كاختطاف هيلين مثلا. حقوق النشر محفوظة لأمناء المتحف البريطاني.
بحلول الربع الثاني من القرن الثامن قبل الميلاد كان للعوبيين مراكز ثابتة في جنوب إيطاليا، ومن ضمنها مركز في مستعمرة كوماي على خليج نابولي، التي هبط منها إنياس بطل ملحمة فيرجيل إلى العالم السفلي؛ إذ كانت كوماي أول مستعمرة يونانية على البر الرئيسي لإيطاليا. وفي نفس الوقت احتفظ العوبيون بمراكز ثابتة في شمال سوريا بالقرب من مصب نهر العاصي (في تركيا الحالية) غير بعيد من أوغاريت مركز التجارة في العصر البرونزي (في سوريا الحالية )، وموطن تقاليد الثقافة والكتابة السامية الغربية. يبدو أن أقدم شاهد على كتابة الأبجدية اليونانية هو جزء من اسم، وهو
Page inconnue