119

إن حب أوديسيوس للقصة الجيدة التي تتنافي مع الحقيقة، وهو ما يحاول عن طريق الدهاء أن يخفيه ويزيله، يجعله محبوبا لدى أثينا. فهما مثل عاشقين لم يلتقيا منذ أمد بعيد. يذكر أوديسيوس أنه لم يرها طوال المدة التي كان فيها ضائعا في عرض البحر. تساعده أثينا في إخفاء الكنز، ولكن لا يؤتى على ذكره ثانية أبدا. وتتنبأ بموت الخطاب العتاة الشرسين. (14) «أوديسيوس وراعي الخنازير» (الكتاب 14)

ثمة بضع سمات لافتة للانتباه في قصائد هوميروس، ومنها وتيرته الهادئة غير المتعجلة. فبعد الكثير من الضيافة الأرستقراطية، يمكث أوديسيوس الآن مدة قصيرة مع راعي الخنازير البسيط إيومايوس، الذي يخاطبه هوميروس خطابا مباشرا ودودا بقوله «يا راعي الخنازير العزيز» (في «الإلياذة» يتوجه بالخطاب أيضا إلى باتروكلوس بهذه الطريقة). إن إيومايوس هو النظير الأخلاقي والبنائي للفياشيين والنقيض المباشر لمخلوقات السايكلوب. سيرس، هي الأخرى، كانت راعية خنازير! وقفت كلاب ذهبية أمام بيت ألكينوس، مثلما تهاجم هنا كلاب ضارية أوديسيوس وتكاد تفتك به. يصف هوميروس بواقعية ثاقبة منزل إيومايوس وزرائب الخنازير التي بناها، مستعينا بهذا النوع من اللغة المعتاد في «الإلياذة» الذي نجده في التشبيهات.

لا يملك إيومايوس إلا القليل - بسبب جشع الخطاب! - ولكنه عن طيب خاطر يضيف ضيفه حسب الإرشادات الواضحة لحسن الضيافة. يحتاج أوديسيوس إلى عباءة حتى تغطي ثيابه البالية، ويتنبأ بأن أوديسيوس سوف يصل في نفس اليوم (كونه يخفي عن راعي خنازيره أنه هو أوديسيوس). في مقابل تنبئه، يتوقع من إيومايوس أن يعطيه عباءة، ويقول أوديسيوس لإيومايوس إنه لن يأخذها إن كان تنبؤه غير صادق. المشهد ساخر جدا؛ لأن أوديسيوس، حتى في تلك اللحظة، يجلس أمام إيومايوس. فعباءة من إيومايوس تماثل ذهبا من الفياشيين. وقد لمسنا سابقا المفارقة التي تنبع من التنكر عندما تنقل أوديسيوس متخفيا وسط الفياشيين، وتسود الفكرة باقي القصيدة، بل إنها تعتبر موتيفتها المحورية.

ولإثبات أن أوديسيوس قريب (لذا من الأفضل لإيومايوس أن يتأهب للتنازل عن العباءة)، يحكي أوديسيوس حكاية كريتية ثانية، هي بمثابة إعادة تشكيل للقصة التي سمعناها في مأدبة الفياشيين. وكما حكى آنذاك أنه شن هجوما على شعب السيكون في منطقة تراقيا، نجده الآن يروي أنه شن هجوما على مصر، كان له نفس العواقب الكارثية . وكما أعطاه الفياشيون ثروة، كذلك يجمع ثروة في مصر. وكما أوصله الفياشيون إلى إيثاكا ، الآن يحمله الفياشيون عنوة إلى هناك، قاصدين بيعه كعبد. بيد أن صاعقة أصابت قاربهم، مثلما حدث لأوديسيوس ورجاله عندما غادروا جزيرة ماشية الشمس. وكما ركب على عارضة قعر السفينة في القصة الأولى، يركب في هذه القصة على صاري مركب، ويهبط إلى ثيسبروتيا على بر اليونان الرئيسي المواجه لجزيرة إيثاكا. يزعم أوديسيوس أنه ترك ثروته في ثيسبروتيا ومضى إلى كاهن منطقة دودونا، في نفس الوقت الذي كان فيه أوديسيوس يتلمس من تيريسياس أنباء عن عودته إلى الوطن. ظن أوديسيوس أن الفياشيين خانوه حالما استيقظ على جزيرة إيثاكا، والآن يخونه أهل ثيسبروتيا، الذين وكل إليهم أمر إيصال أوديسيوس إلى جزيرة دوليتشيوم، ويخططون لبيعه كعبد. فيهرب بأعجوبة. تخفي الحكاية الملفقة ببراعة الحكاية «الحقيقية»، ولكن مجددا نجد أن الحكاية الحقيقية هي الحكاية «الخيالية»، وأن الحكاية الملفقة هي «الواقعية».

لا يزال إيومايوس لا يصدق الغريب، أن السيد سوف يعود عما قريب، وفي تلك الحالة يتوجب عليه أن يعطي عباءة للغريب. يحكي أوديسيوس حكاية رمزية أنه ذات مرة عند طروادة لم يستطع أحد إلا أوديسيوس أن يجلب له عباءة عن طريق الحيلة. وحتى الآن يحاول أوديسيوس أن يجلب عباءة للغريب/أوديسيوس عبر الحيلة بالتظاهر بأنه شخص آخر. يقتنع إيومايوس الرقيق الجانب بالمغزى الأخلاقي من الحكاية ويوافق على ضرورة حصول المتسول على عباءة، ولكنه للأسف ليس لديه عباءة إضافية. عندما يعود تليماك، عندئذ يمكنه أن يجلب له عباءة. وهكذا يحسن العبد وفادة السيد وبضيافته الكريمة يبرز بجلاء الجرأة اللاأخلاقية لأفراد الطبقة الأرستقراطية الذين يتمتعون بالحرية ويضربون عرض الحائط بالعفة ويفرضون حصارا على منزل أوديسيوس. (15) «عودة تليماك» (15، 1-300؛ و493-557)، و«قصة العبد إيومايوس» (15، 301-492)

في تلك الأثناء، في إسبرطة، تخطر أثينا، التي تحرك الأحداث من وراء الستار، تليماك بالخطر المحدق به جراء فخ نصبه الخطاب وتحذره من أن أمه على وشك الزواج من أحدهم والاستيلاء على ما يخصه. إن بينيلوبي في الحبكتين المتوازيتين بينيلوبي/أوديسيوس/تليماك وكلتمنسترا/أجاممنون/أوريستيس هي الزوجة الطيبة والمخلصة، بيد أن ثمة تلميحات متكررة عن ضعفها والخطر الكبير الذي قد تلحقه بمسألة إعادة تشكيل النظام؛ لقد حذر شبح أجاممنون في السابق أوديسيوس بشأن العودة للبيت جهارا نهارا، خشية أن يقع في فخ من صنع بينيلوبي.

بينما يوشك تليماك على ركوب السفينة، يظهر ثيوكليمينوس المتنبئ الغامض، سليل ميلامبوس، الذي أسس عائلة من المتنبئين البارزين. نسمع عن أسلاف ثيوكليمينوس في استطراد مثير للاهتمام، ولكن لماذا يقدم هوميروس شخصية جديدة فجأة؟ اعتقد البعض أن «ثيوكليمينوس» في صيغة أخرى للقصيدة كان هو أوديسيوس متخفيا. فدوره الوحيد هو أن يتنبأ فيما بعد بهلاك الخطاب، إلا أن هذا الدور بالغ الأهمية؛ فقد تلقى كل من بوليفيموس وسيرس نبوءات بأن أوديسيوس سوف يتغلب عليهما، ومن ثم يجب على الخطاب أن يعرفوا، عن طريق التكهن، بهلاكهم المحدق. أيضا تلفت الواقعة الانتباه إلى نضوج تليماك المكتسب حديثا، الذي ارتحل للخارج حتى يصبح رجلا. فثيوكليمينوس خطر، باعتباره شخصا ارتكب جريمة قتل، ولكن تليماك بحيثيته الجديدة لا يتردد في جلبه إلى متن السفينة.

في تلك الأثناء، في إيثاكا، يحكي إيومايوس قصة عجيبة عن نفسه؛ فهو أمير مثل أوديسيوس، وأبوه ملك جزيرة تدعى سوريا، وهو مكان معروف، مثل فياشيا، بما يعمه من السلام وبسطة العيش، وتقع في مكان ناء، شمال أورتيجيا، جزيرة كاليبسو الأسطورية. الفياشيون غدارون، هذا أمر مؤكد، وكذلك النساء، وأكثر النساء غدرا هي امرأة فياشية. كانت تلك المرأة تخدم في قصر ملك جزيرة سوريا، ولكن عندما أغواها تاجر فياشي، خطفت الأمير وسرقت معه أقداحا ثمينة من المائدة. يشبه إيومايوس أوديسيوس من ناحية كونه أميرا هبط إلى وضع اجتماعي متدن، ولكن القصة تشبه قصة باريس وهيلين. فهيلين، هي الأخرى، خانت أسرتها التي تعيش معها، وسرقت آنية المائدة، وهربت مع عشيقها، جالبة التعاسة للجميع. (16) «التعرف بين أوديسيوس وتليماك» (الكتاب 16)

في الوقت الذي يبحث فيه أوديسيوس عن داره، يبحث تليماك عن أبيه، الذي افترق عنه زمنا طويلا. إن بحث الابن عن أبيه هو موضوع أدبي ذو صدى عميق؛ إذ استخدمه يسوع لإعطاء مثل عن العلاقة بين الرب والإنسان. ومن ثم فالتقاء الأب والابن يمثل نقطة التحول الثانية في الحبكة، التي منها تنساب بقية القصة، ومنها يأتي الانتقام العادل من الخطاب وإعادة إرساء النظام في المنزل وفي المملكة.

استجابة لحث أثينا له، يشق تليماك طريقه إلى كوخ إيومايوس. ومن سخرية القدر أن أباه، الذي سافر بعيدا ليجده، يجلس أمامه في الديار، دون أن يتعرف عليه تليماك. عندما يسمع أوديسيوس مجددا بشأن الحال في المنزل، يقول: «أتمنى لو أنني كنت أوديسيوس»:

Page inconnue