بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وسلم تسليما.
الحمد لله الذي علمنا ما لم نكن نعلم، وفضلنا على كثيرٍ من خلقه وقدم، وجعلنا ممن بقتدى به ويؤتم، وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وسلم.
قال أبو محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي ﵀: لما فرغت من الكلام في إصلاح الخلل الواقع في كتاب الجمل، أردت أن أتبع ذلك الكلام في إعراب أبياته ومعانيها، وما يحضرني من أسماء قائليها.
وغرضى أن أصل بكل بيت منها ما يتصل به ليكون أبين لغرض قائله ومذهبه.
ولم يمنعني من الكلام في إعرابها ومعانيها ما تقدمني من كلام غيري فيها، فربما كان لكلام غيري مزية على ماسواه، وزيادة فضلٍ لمن وقف عليه ورواه.
وأنا أسأل الله عونًا على ما أبديه، إنه ولي الفضل ومسديه، لا رب سواه، ولا معبود حاشاه.
أنشد أبو القاسم ﵀ في باب النعت:
لاَ يَبْعَدَنْ قَوْمي الَّذين هُمُ ... سُمُّ الْعُدَاةِ وآفةُ الْجُزْرِ
النَّازِلينَ بِكُلِ مُعْتَرَكٍ ... والطَّيِّبُونَ مَعَاقِدَ اْلأَزرِ
هذا الشعر لخرنق بنت هفان القيسمية، وهي أخت طرفة ابن العبد المالكي لأمه، من شعر رثت به زوجها بشر، ابن عمرو، بن مرثد، ومن قتل معه من بنيه وقومه، وكان غزا بني أسد بن خزيمة، هو وعمرو، بن عبد الله، بن الأشل، وكانا متساندين: بشر على بني مالك، وبني عتاب بن ضبيعة، وعمرو على بني رهم.
ومعنى التساند والمساندة: أن يخرج كل رجلٍ منهم على حدته، ليس لهم أمير يجمعهم، فأغارا على بني أسد، فتقدمتهم بنو أسد إلى عقبة يقال لها: قلاب، فقتل بشر بن عمرو وبنوه، وفر عمرو بن عبد الله بن الأشل فسمى ذلك اليوم: يوم قلاب.
وخرنق: من الأسماء المنقولة من الأنواع إلى العلمية؛ لأن الخرنق في اللغة ولد الأرنب، وهو للذكر والأنثى، والخرنق أيضًا: مصنعة الماء وهو نحو الصهريج.
وأما هفان: فاسم مرتجل غير منقول، وهو مشتق من الهفيف، وهو السرعة والخفة، ويقال له: هفان بفتح الهاء وكسرها ومعنى لا يبعدن: لا يهلكن، وهو دعاء خرج بلفظ النهى، وإن كان ليس بنهى، كما يخرج الدعاء بلفظ الأمر، وليس بأمر، إذا قلت: اللهم اغفر لزيد.
وبطل إعراب الفعل لدخول النون الخفيفة فيه، لأنها ترد المستقبل مبنيًا على السكون، من حيث أنها تمنعه من دخول العوامل عليه، ويجرى بالفتح للواحد المذكر، وبالكسر للواحدة المؤنثة، وبالضم لجماعة المذكرين، وحركته لالتقاء الساكنين على مذهب سيبويه.
يقال: بعد الرجل يبعد، على مثال: علم يعلم، إذا هلك، قال الله تعالى: " ألا بعدًا لمدين كما بعدت ثمود ". فإذا أردت البعد الذي هو ضد القرب قلت: بعد يبعد، على مثال: ظرف يظرف.
والمصدر الذي يراد به الهلاك: بعدًا بفتح الباء والعين، والمصدر الذي يراد به ضد القرب: بعدًا، على مثال ضده، الذي هو قرب، وربما استعملوا البعد في الهلاك، لتداخل معنييهما.
فإن قال قائل: كيف دعت لقومها بأن لا يهلكوا، وهم قد هلكوا؟! فالجواب: أن العرب قد جرت على عادتها باستعمال هذه اللفظة في الدعاء للميت، ولهم في ذلك غرضان: أحدهما: أنهم يريدون بذلك استعظام موت الرجل الجليل، وكأنهم لا يصدقون بموته، وقد بين هذا المعنى زهير بن أبي سلمى بقوله:
يقولون: حِصْن ثم تأْبى نفوسهم ... وكيف بِحِصْن والجبالُ جُنوحُ!
ولم تلفظ الموتى القبورُ ولم تَزَلْ ... نجومُ السَّماءِ والأديمُ صحيحُ!
أراد أنهم يقولون: مات حصن، ثم يستعظمون أن ينطقوا بذلك، ويقولون: كيف يجوز أن يموت والجبال لم تنسف، والنجوم لم تنكدر، والقبور لم تخرج موتاها، وجرم العالم صحيح، لم يحدث فيه حادث؟!! فهذا أحد الغرضين.
والغرض الثاني: أنهم يريدون الدعاء له بأن يبقى ذكره، ولا يذهب؛ لأن بقاء ذكر الإنسان بعد موته بمنزلة حياته؛ ألا ترى إلى قول الشاعر:
فأثنوا علينا لا أَبا لأَبيكم ... بأفعالنا إِنَّ الثناء هو الخلدُ
وقال آخر وهو التميمي يرثي يزيد بن يزيد الشيباني:
فإنْ تَكُ أفْنَتْهُ اللَّيالي فأوْشَكَتْ ... فإنّ له ذكرًا سَيُفْنِي اللَّيَاليَا!
وقال أبو الطيب المتنبي، في هذا المعنى فأحسن كل الإحسان:
1 / 1
ذِكْرُ الفَتَى عُمْرُهُ الثَّاني وَحاجَتُه ... ما فَاتَهُ، وفُضُولُ العيشِ أَشْغَالُ
وقد بين مالك بن الريب ما في هذا المعنى من المحال حين قال:
يقولُونَ: لاَتَبْعَدْ وهم يَدفِنُونَنِي ... وأينَ مكانُ البعدِ إلاّ مَكانيا
وقولها: سم العداة وآفة الجزر: أرادت أنهم كانوا في حياتهم سما لأعدائهم؛ لأنهم كانوا يهلكونهم، وآفة لإبلهم؛ لأنهم كانوا ينحرونها لأضيافهم.
والجزر جمع جزور، وهي الناقة التي تتخذ للنحر.
ويقال: سم وسم بضم السين وفتحها، وزعم الطوسي أنه يقال: سم بكسر السين.
فإن قيل: فكيف قالت: الذين هم، وإنما يتأتى هذا لمن هو موجود؟ وإنما كان ينبغي أن تقول كما قال الآخر:
كانوا على الأعداء نارًا محرقًا ... ولقومهم حِرْمًا من الأحرام؟
فالجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: أن العرب قد تضمر كان اتكالا على فهم السامع، إذا كان في اللفظ دليل عليها، كقوله تعالى: " واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان "، قال الكسائي: أراد ما كانت تتلوا.
وقال الراعي:
أزمانَ قَوْمي والجماعة كالَّذي ... مَنَعَ الرِّحالَةَ أنْ تميل مَمِيلًا
أراد: كان أزمان قومي.
والوجه الثاني: أنها لما دعت لهم ببقاء الذكر، بعد موتهم، صاروا كالموجودين، وكانوا موصوفين بما كانوا يفعلونه.
وقد يجوز أن تكون دعت بقولها لا يبعدن لمن بقي من قومها، أي: لا أبعد الله من بقي من قومي كبعد من مضى منهم، ويقوى هذا قولها بعد هذا البيت:
قومٌ إذا ركبوا سمعتَ لهم ... لَغَطًا من التَّأْيِيه والزَّجْرِ
إن يشْربوا يَهبوا، وإن يَذَروا ... يتواعظوا عن منْطق الهُجْرِ
والخالطين نَحِيتَهم بنُضَارهمْ ... وذَوى الغَني منهم بِذي الفقْرِ
هذا ثنائي ما بَقيتُ لَهُمْ ... فإذا هَلكْتُ أَجنَّني قَبْرِي
ويقوى قول من قال: إنها دعت لمن مات منهم بقولها في هذا الشعر:
لاَقُوا غَدَاةَ قُلابَ حَتْفَهُمُ ... سَوْقَ العَتِير يُساق لِلْعَتْرِ
والعداة: حمع عادٍ، وهو العدو بعينه، ولا يجوز أن يكون جمع عدو؛ لأن فعولا لا يجمع على فعلة، وقد حكى أبو زيد: لا أشمت الله عاديك أي عدوك.
والنزول في الحرب: على ضربين: أحدهما: أول الحرب، وهو أن ينزلوا عن إبلهم ويركبوا خيلهم.
والثاني: في آخرها، وهو أن ينزلوا عن خيلهم، ويقاتلوا على أقدامهم، إذا كان القتال في موضع وعر ضيق، لا مجال فيه للخيل، وربما اعتنق الرجل صاحبه، فسقطا جميعًا إلى الأرض، وهذا هو النزول الذي أراده مهلهل بقوله:
لَمْ يُطيقوا أنْ ينْزِلوا وَنزَلْنا ... وأخو الحرْب مَنْ أطاقَ النُّزولا
وهو الذي أراد عنترة بقوله:
فيهم أخو ثِقَةٍ يُضَاربُ نازلًا ... بالْمَشْرَفيِّ وفارس لم ينْزِل!
والمعترك: موضع القتال، ويقال له: معرك أيضًا، وهو مشتق عن عركت الرحى الحب، إذا طحنته، أرادوا: أنه يطحن من فيه كما تطحن الرحى ما جعل فيها، ولذلك سموه: رحى، قال عنترة:
دارت على القوم رحى طحون
وقد بين ذلك زهير بقوله:
فتعرككم عرْك الرَّحى بثفالها ... وتلقح كشافا ثم تحمل فتفطم
وإذا وصفوا الرجل بطهارة الإزار وطيبة، فهي إشارة وكناية عن عفة الفرج، تريد: أنهم لا يعقدون مآزرهم على فروج زانية! وكذلك طهارة الذيل.
وإذا وصفوا بطهارة الكم أو الردن وهو الكم بعينه أرادوا أنه لا يخون ولا يسرق.! فإذا وصفوه بطهارة الجيب: أرادوا: أن قلبه لا ينطوي على غش ولا مكروه.! وقد يكنون عن عفة الفرج بطيب الحجزة، كما قال النابغة:
رِقاقُ النِّعال طَيِّبٌ حُجُزَاتُهم ... يُحَيَّونَ بالرَّيْحَانِ يوم السَّباسِبِ
والباء في قولها: بكل معترك، بمعنى في، كما يقال: زيد بالبصرة، وفي البصرة.
ومعاقد الأزر: منصو. على التشبيه بالمفعول به، والكوفيون يجيزون نصبها على التمييز، لأن التمييز عندهم يكون نكرة ومعرفة، ويجوز الانفصال في المعرفة، ولا يجوز عند البصريين إلا أن يكون نكرة.
واللغط واللغط بتسكين الغين وفتحها: اللجبة، والأصوات المختلطة.
1 / 2
والتأييه: الدعاء، يقال: أيهت بالرجل، إذا دعوته، وأيهت رس، وفي الحديث أن ملك الموت سئل: كيف تقبض الأرواح؟ فقال: أأيه بها كما يؤيه بالخيل فتجئ إلي.
والهجر: الكلام القبيح، بضم الهاء فإذا فتح فهو الهذيان.
والنضار: الخالص النسب، والنحيت: ضده.
والعتير: ما يذبح للأصنام، والعتر الذبح للأصنام بفتح العين والعتر بالكسر المذبوح نفسه.
وقولها: فإذا هلكت أجنني قبري: كلام لا فائدة فيه على ظاهره، والمعنى: فإذا هلكت قام عذري في تركي الثناء عليهم لهلاكي، فهو مما وضع السبب فيه موضع المسبب، وهو كثير في الكلام.
وأنشد أبو القاسم، في باب البدل:
وَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْن؛ رِجْلٍ صحيحةٍ ... ورِجْلٍ رَمَى فيها الزَّمانُ فشلَّتِ
هذا البيت: لكثير عزة، وهو: كثير بن عبد الرحمن بن الأسود بن عامر بن عويمر الخزاعي، ويكنى: أبا صخر.
وكان رافضيًا أحمق، فلما حضرته الوفاة قال:
بَرئْتُ إلى الإله منَ ابن أرْوَى ... ومنْ دين الخوارج أجمعينا
ومنْ عمر برئْتُ ومنْ عَتيقٍ ... غداةَ دُعِي أميرَ المؤمنينا
ثم خرجت نفسه، كأنها حصاة وقعت في ماء.! وابن أروى: هو عثمان بن عفان ﵁.
وكثير: تصغير كثير، وهو من الأسماء المنقولة عن الصفات. والكثير يستعمل في كلام العرب على معنيين: أحدهما: يراد به ضد القليل من قلة العدد.
والآخر: يراد به العزيز الجليل، يقال: كثرت بك، أي: اعتززت بك، والمرء كثير بأخيه من هذا، وإياء أراد العباس بن مرداس في قوله:
فإنْ أَكُ في شِراركمُ قليلًا ... فإني في خِياركُم كَثِيرُ
ونسب كثير إلى عزة، لشدة وجده بها وكلفه، واشتهاره بمحبتها. وصغر؛ لأنه كان حقيرًا، شديد القصر، وكان إذا دخل على عبد الملك بن مروان، يقول له: طأطئ رأسك لئلا يؤذيك السقف! ولذلك قال فيه الحزين يهجوه:
لقد علقت رب الذباب كثيرا ... أساود لا يطنينه وأراقم
قصيرُ القميصِ فاحِشٌ عِند بيْته ... يعضّ القُرادُ باسْتِهِ وهو قائم
وأما تشبيهه نفسه بذي رجلين؛ رجل صحيحه، ورجل شلاء، ففيه لأصحاب المعاني قولان: قيل: أراد أنها عاهدته وواثقته ألا تتحول عليه، فثبت هو على عهده، ولم تثبت.! وقيل: إنما تمنى أن تضيع قلوصه، فيجد سبيلا إلى بقائه عندها، فيكون من بقائه عندها كذي رجل صحيحه، ويكون من ذهاب قلوصه الحاملة له، وانقطاعه من سفره كذي رجل شلاء.! وكلا المعنيين صحيح.
أما المعنى الأول فكقول النجاشي:
وكنْتُ كذي رجلين رجل صحيحة ... ورجل رماها صاحب الحدثان
فأما الَّتي صَحَّت فأَزْد شَنوءة ... وأما الَّتي شلَّت فأزد عُمان
ويدل عليه أيضًا قول كثير:
وكنَّا سلكنا في صَعُود من الهوى ... فلما تَوَافَيْنا ثَبَتُّ وزلَّتِ
وأما الذين قالوا: إنه داخل في التّمنِّي؛ فإنما قالوا ذلك؛ لأن قبله:
فليتَ قلُوصي عند عزَّة قُيِّدَتْ ... بحَبْلٍ ضعيفٍ عُزَّ منها فَضَلَّتِ
وغُودِرِ في الحَيِّ المقيمين رَحْلُها ... وكان لهُ باغٍ سِوَايَ فَبَلَّتِ
فتقديره عندهم: فليت قلوصي عند عزة قيدت، وليتني كنت.............
وقوله: رمى فيها الزمان: جملة في موضع الصفة لرجل، وأراد: رمى فيها الزمان الداء والشلل، فحذف المفعول.
ويروى: رجل صحيحة، ورجل ... بالرفع، وذلك أن تقديره: هما رجل صحيحة ورجل ... فيكون خبر مبتدأ مضمر، وإن شئت كان التقدير: إحداهما رجل صحيحه، والأخرى رجل........ فيكون الكلام جملتين وفي التقدير الأول يكون الكلام جملة واحدة.
وإن شئت كان التقدير: منهما رجل صحيحة، ومنهما رجل.... فيكون كل واحد منهما مبتدأ، ويكون الكلام أيضًا جملتين.
وأنشد أبو القاسم في هذا الباب:
لقدْ كانَ في حَوْلٍ ثَوَاءٍ ثَوَيْتُهُ ... تُقَضَّى لُباناتٌ وَيَسْأمُ سائِمُ
البيت: لأعشي بكر بن وائل، واسمه: ميمون بن قيس بن جندل، ويكنى: أبا بصير، ويسمى قيس أبوه: قتيل الجوع؛ لأنه دخل غارًا يستظل به من الحر، فوقعت صخرة على فم الغار، فمات فيه جوعا.! ففي ذلك يقول جهنام يهجوه:
1 / 3
أبوك قتيل الجوع قيس بن جندل ... وخالك عبد من خماعة راضع
وميمون:: اسم منقول من الصفة إلى العلمية.
وقيس، وجندل منقولان أيضًا من الأنواع، والقيس: الشدة والقيس: الصنم، والقيس: القياس.
وروى قوم: ثويته بضم التاء، والوجه فتحها على الخطاب؛ لأن قبله:
هريرةَ ودِّعها، وإنْ لام لائمٌ ... غداةَ غدٍ، أم أنتَ للبَين واجم
والثواء: الإقامة، يقال: ثوى الرجل وأثوى.
يقول: ودع هريرة، وإن لامك اللائم في مفارقتها، فقد أقمت عندها حولًا، ومن أقام مع محبوبته عامًا فقد شفى غرامه، وسئم مقامه، ولكنك لمفارقتك إياها واجم، على المقام معها عازم.! والواجم: الحزين الكئيب.
واللبانات: الحاجات، واحدها: لبانة.
والسأم: الملل.
وثواء: بدل من حول، وثويته جملة لها موضع من الإعراب؛ لأنها في مكان الصفة لثواء، وهي صفة جرت على غير من هي له، ولو صيرتها اسمًا، لقلت: ثاويه أنت، فانفصل الضمير المتصل؛ وبرز ويجب أن يكون في هذه الجملة ضميران عائدان: إلى الثواء من صفته وعائد إلى الحول من بدله؛ لأن حكم الصفة: أن يعود منها عائد إلى موصوفها، وحكم بدل الاشتمال، وبدل البعض من الكل: أن يكون في كل واحد منهما ضمير، يعود إلى المبدل منه؛ فالهاء في ثويته تعود إلى الثواء، والعائد إلى الحول مقدر كأنه قال: ثواء ثويته فيه.
ونظير هذه المسألة من مسائل النحو: نفعني عبد الله علم أفادنيه، أي أفادنيه هو، فالهاء في أفادنيه عائدة إلى علم، وهو المضمر عائد إلى عبد الله.
وقد قال بعض من شرح أبيات الجمل من شراح عصرنا: إن الهاء من ثويته يجوز أن تعود إلى الثواء، ويجوز أن تعود على الحول.
وذلك خطأ، لأنه إذا أعاد هاء ثويته على الحول، بقى الموصوف لم يعد إليه من الجملة التي هي صفة عائد.
وإذا جعلها عائدة على ثواء بقى المبدل منه لم يعد إليه من المبدل عائد، فلا بد من تقدير ضمير آخر كما قلنا.
ومن روى: تقضي، وجعله مصدرًا مضافًا إلى لبانات جاز أن يكون اسم كان، وخبرها في المجرور، وجاز أن يضمر في كان الأمر والشأن، ويرفع تقضى لبانات بالابتداء، والخبر في المجرور قبله والجملة خبر كان.
ويلزم في هذه الرواية: أن تنصب ويسأم، بإضمار أن ليصير مصدرًا، وتعطفه على تقضى، كأنه قال: تقضى لبانات، وسآمة سائم، إذ لا يصح عطف فعل على اسم.
ونظيره من مسائل النحو قولك: يعجبني ضرب زيدٍ ويغضب، ومثله قول ميسون بنت بجدل:
للبس عباءة وتَقَرُّ عيني ... أحبُّ إليّ من لُبس الشُّفُوفِ
تقديره: للبس عباءة وقرارة عيني.
ووزن تقضي من الفعل: تفعل، كسرت الضاد منه لتصح الياء، كما كسرت النون من التمني، واللام من التسلي.
ومن روى: تقضى لبانات، ورفع اللبانات، وجعل تقضى فعلا لما لم يسم فاعله، ومفعوله لبانات، ورفع ويسأم عطفًا عليه، ولزم أن يضمر في كان الأمر والشأن على كل حال.
وأنشد أبو القاسم، في باب: أقسام الأفعال في التعدي:
أَمرْتُكَ الخَيرَ فافعل ما أُمرت به ... فقد تركتُكَ ذا مال وذا نَشبِ
هذا البيت: وقع في كتاب سيبويه منسوبًا إلى عمرو بن معديكرب، وذكر الهجري في نوادره: أنه لأعشى طرود.
وعمرو اسم منقول من الأنواع إلى العلمية. وللعمر أربعة معان: العمر: البقاء، ومنه قيل: لعمر الله، إنما هو قسم ببقائه ﷿. والعمر: ما بين الأسنان من اللحم.
والعمر: القرط.
والعمر: طرف الكم، وجاء في الحديث: لا بأس أن يسجد الرجل على عمريه.
وأما معديكرب: فقال أبو العباس أحمد بن يحيى: معناه: عداه الكرب، أي تجاوزه، حكى ذلك أبو الفتح بن جني، عن أبي علي الفارسي.
ويكنى عمرو: أبا ثور، وزعم بعضهم: أنه يكنى: أبا ريحانة، ببنت كانت له، وفيها يقول:
أمِنْ رَيْحانَةَ الدَّاعي السميع ... يؤرقني وأصحابي هجوع
وهذا غلط؛ إنما ريحانة أخته، وهي أم دريد بن الصمة.
ويروى: ذا نشب بشين معجمة وكذا رواه أصحاب سيبويه في كتابه، ولم يختلفوا فيه، ورواه الهجري بسين غير معجمة، فمن رواه بسين غير معجمة فله أن يقول: إن قوله: ذا مال قد أغنى عن ذكر النشب.
ومن رواه بالشين المعجمة، فله أن يحتج بأشياء، منها: اتفاق رواة كتاب سيبويه فيه على الشين.
1 / 4
ومنها: أن العرب قد تأتي بالإسمين ومعناهما واحد، كقول الشاعر:
أَلاَ حَبَّذَا هند، وأرض بها هندٌ ... وهند أَتَى مِنْ دونها النأي والبعدُ
والنأي: هو البعد بعينه.
ومنها: أن العرب أكثر ما تستعمل النشب في الأشياء الثابتة التي لا براح لها، كالدور والضياع، وأكثر ما يوقعون المال على ما لبس بثابت كالدنانير والدراهم والحيوان، وربما أوقعوا المال على جميع ما يملكه الإنسان، وهو الصحيح، لقوله تعالى: " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " وهذا لا يخص شيئًا دون شيء.
وبعد هذا البيت:
فاتْرُكْ خلائقَ قوم لا خَلاَق لهم ... واعمد لأخلاق أهل الفضل والأدب
قد نِلتَ مَجْدًا فحاذر أنْ تدنِّسهُ ... أبٌ كريم وجدٌّ غيرُ مُؤْتَشب
المؤتشب: الذي نسبه غير خالص، يقال: أشب البيت وائتشب إذا اشتبك.
وأنشد أبو القاسم، في باب اشتغال الفعل عن المفعول بضميره:
أَصْبحتُ لا أَحمِلُ السِّلاَحَ ولاَ ... أَملكُ رَأَسَ البعيرِ إِنْ نَفرَا
والذِّئبُ أَخشاهُ إنْ مررْتُ بِهِ ... وَحدِي وأَخشى الرِّياحَ والمطرَا
هذان البيتان: للربيع بن ضبع الفزاري من بني فزارة وهو من المعمرين، وهو القائل:
إذا عاش الفتى مائتينِ عامًا ... فقد ذهبَ المسرَّة والفتاء
والربيع، وضبع وفزارة: من الأسماء المنقولة عن الأجناس والأنواع إلى العلمية.
أما الربيع: فيكون الفصل المعروف، من فصول السنة، والربيع: المطر، والربيع العشب النابت عنه، والربيع السافية تكون بين الكلأ.
والضبع: صنف من السباع، يقال للأنثى منه: ضبع، وللذكر: ضبعان، والضبع: السنة المجدبة، شبهت بالضبع، وفي الحديث: أن رجلا قال: يا رسول الله، أكلتنا الضبع.
وقال العباس بن مرداس:
أبَا خُراشةَ أَمَّا أَنتَ ذا نَفرٍ ... فإن قوْمي لَم تأكلهمُ الضبع
وأما الفزَارَةَ: فهي الأنثى من النمر، والهدبس: الذكر منها، والفزر: ولدها إن كان ذكرًا، والفزرة: الأنثى، قال الشاعر:
ولقد رأيتُ فزارةً وهَدَبَّسًا ... والفِزْرُ يَتبع فزره كالضَّيون
وقوله: لا أحمل السلاح، ولا أملك.... جملتان في موضع نصب على خبر أصبح إن جعلتها ناقصة، أو في موضع الحال إن جعلتها التامة، المستغنية عن الحبر، كأنه قال: أصبحت غير حامل السلاح، ولا مالك رأس البعير أن يفر مني.! ويجوز في الذئب الرفع والنصب؛ فالرفع على الابتداء، والنصب بإضمار فعل؛ كأنه قال: وأخشى الذئب أخشاه، والاختيار النصب؛ لأن البيت الذي قبله مصدر بفعل، فيختار أن يضمر للذئب فعل، ليعطف ما عمل فيه الفعل على ما عمل فيه الفعل، طلبًا لتشاكل الألفاظ.
ويجوز أن تكون هذه الجملة معطوفة على الجملة الكبرى، وهي: أصبحت لا أحمل ...
ويجوز أن تكون هذه الجملة معطوفة على الجملة الصغرى وهي: لا أحمل السلاح.
والجملة الكبرى: هي كل جملة لا موضع لها من الإعراب.
والجملة الصغرى. هي كل جملة لها موضع من الأعراب.
لأن كل جملة يقدر في موضعها المفرد فلها موضع من الإعراب، وكل جملة لا يقدر في محلها المفرد فلا محل لها من الإعراب، والكبرى كقولك: زيد أبوه منطلق، فهذه الجملة كلها تسمى: كبرى، وأما قولك: أبوه منطلق، فتسمى: صغرى؛ لأنها في موضع خبر المبتدأ، وهي جزء من الجملة الكبرى.
وقد تكون الجملة صغرى وكبرى، على وجهين مختلفين؛ كقولك: زيد أبوه غلامه منطلق، فهذه الجملة كبرى، وقولك: غلامه منطلق صغرى؛ لأنها خبر عن الأب، وقولك: أبوه غلامه منطلق صغرى بالإضافة إلى زيد، وكبرى بالإضافة إلى الغلام.
وقوله: وحدي: في موضع نصب على الحال، كأنه قال: إن مررت به متوحدًا.
وقوله: إن نفرا، وإن مررت به: شرطان لم يأت بعدهما جواب لهما؛ لأن ما قبلهما من الكلام قد سد مسد الجواب، فهو بمنزلة قولك: أنا أشكرك إن أحسنت إلي.
ومعنى الشعر: أنه لشدة كبره قد ضعفت قواه عن حمل السلاح إلى الحرب، وصار في حال لا يقدر على تصريف البعير إذا ركبه، ويخاف الذئب أن يعدو عليه، ويتأذى بالريح إذا هبت، والأمطار إذا نزلت، وهذا نظير قوله في شعر آخر:
إذا كانَ الشِّتَاءُ فادفئوني ... فإنَّ الشيخ يَهْدمه الشتاءُ
1 / 5
وأَمَّا حينَ يذهب كلُّ قَرٍّ ... فسِرْ بالٌ رقيق أو رداءُ
وهذا نحو قول العرب في أمثالها: قد كنت وما أخشى الذئب، وكنت وما يقاد بي البعير.!! وظاهر قول الربيع مخالف لقول بعض المعمرين:
أعَارَ أبو زيد يمنى سلاحَه ... وبَعْضُ سِلاَح الدَّهر للِمرء كالمُ
وكنْتُ إذا ما أَنْكر الكلب أهله ... أُخَتَّا، وحين الكلب يقظان نائم
لأن الربيع نفى عن نفسه حمل السلاح لكبر سنه، وهذا الثاني يصف أنه كبر، فصار يحمل سلاح أبي زيد! وأراد الربيع: أنه لا يقدر على حمل السلاح إلى الحرب! وأما سلاح أبي زيد الذي وصف هذا أنه يحمله فهو: العصا الذي يتوكأ عليها الشيخ، وأبو زيد: كنية الدهر، ويكنى أيضًا: أبا سعد، ويقال: إن أبا سعد كنية الهرم، وهذا المعنى هو الذي أراده الإصبع العدواني بقوله: أما ترى شكتي: رمح أبي سعد فقد أحمل السلاح معًا وروت الرواة: أن الربيع بن ضبع هذا عاش حتى أدرك الإسلام، وأنه قدم الشام على معاوية بن أبي سفيان، ومعه حفيد له، فدخل حفيده على معاوية، فقال معاوية له: أقعد يا شيخ! فقال: وكيف يقعد من جده بالباب؟! فقال معاوية: لملك من ولد الربيع بن ضبع؟ فقال: أجل، فأمره بالدخول، فلما دخل سأله معاوية عن سنه؟ فقال:
أَقفرُ مِنْ مية الجريبُ إلى الزْ ... زُجَّين إلاّ الظباء والبقرَا
كأنها دُرَّةٌ مُنَعَّمةٌ ... من نِسْوةٍ كُنَّ قَبْلها دُرَرا
أصبح مِنِّي الشبابُ مبتكرا ... إنْ يَنْأ عنِّي فقدْ ثَوىَ عُصُرَا
فارقنا قبل أنْ نفارقه ... لمَّا قضى مِنْ جِماعنا وطرا
هأنذا أملُّ الحياةَ وقدْ ... أدركَ سنِّي ومَوْلِدي حُجرا
أَبَا امْرِئ القيس هل سمعت به ... هيْهات هيهات طال ذا عُمسُر
أَصحْبْتُ لا أَحمْلُ السلاحَ وَلا ... أَمْهلكُ رأسَ البَعير إنْ نَفرَا
والذِّئْبَ أخشاه إنْ مررتُ به ... وحدي وأخْشى الرِّياح والمطرا
مِنْ بعد ما قُوَّةٍ أُسَرُّ بها ... أصْبحتُ شَيْخًا أُعالج الكِبرَا
فقرأ معاوية ﵀: " ومن نعمره ننكسه في الخلق " وأنشد أبو القاسم: في باب الحروف التي ترفع الأسم وتنصب الخبر:
فَمَا كَانَ قَيْسٌ هُلكُهُ هُلْكُ وَاحِدٍ ... ولكنَّهُ بنْيانُ قَوْمٍ تَهَدَّمًا
هذا البيت: لعبدة بن الطيب، وهو من بني عبد شمس ابن كعب بن سعد بن زيد مناة من تميم.
وعبدة: تأنيث عبد، وهو منقول من الصفات الجارية مجرى الأسماء.
والطبيب: الحاذق بالأشياء، الماهر بها، وفيه قال علقمة ابن عبدة:
فإنْ تسْألوني بالنِّساءِ فإِّننِي ... بَصيرٌ بأدْواءِ النِّساءِ طبيبٌ
وعبدة هذا، ساكن الباء، وأما عبده أبو علقمة، فهو متحرك الباء، وقد قيد هذا عبدة بن الطبيب بقوله في نفسه:
يتباشرون بأن عَبْدة مقبل ... كلاّ وَمنْ جَمعَ الحجيج إلى منى
وهذا البيت: من شعر رثي به قيس بن عاصم المنقري، سيد بني منقر، وقبله:
عَليْكَ سلامُ اللهِ قَيْسَ بْن عَاصِم ... ورحْمتُه ما شَاء أنْ يَتَّرَحما
تَحيَّةَ من غادَرتْه غَرَضَ الرَّدى ... إذَا زَارَ عَنْ شَحط بِلادكَ سلّما
والهاء في قوله: ولكنه: تعود على الهلك، والمعنى: ولكن هلكه انهدام بنيان قوم تهدما، أي انهدم بيت عزهم وبنيان ههنا: مصدر استعمل استعمال الأسماء، وأراد به المبنى نفسه، لأن البنيان الذي يراد به المصدر، لا يوصف بالانهدام، وفي الحديث: من هدم بنيان الله فهو ملعون.
أي: قتل نفسًا مسلمة لم تستوجب القتل.
وقوله: ما شاء أن يترحما، تقدر ما ههنا مع الفعل بتأويل المصدر، والمصدر ناب مناب ظرف، كأنه قال: مشيئة الترحم ومعناه: مدة مشيئته، وهو سبحانه يشاء برحمته من رحم أبدًا.
وتحية: مصدر مؤكد، لأن قوله: عليك سلام الله قد أفاد معنى التحتية، فهو بمنزلة قوله تعالى: " كتاب الله عليكم "، وكقول زهير:
تَعلَّمنْ ها لَعمرُ اللهِ ذا قَسمًا ... فاقدِرْ بِذَرْعِكَ وانظر أينَ تَنسلك
1 / 6
وقوله: غرض الردى: منصوب على الحال، وإن كان مضافًا إلى المعرفة، لأن معناه كمعنى الصفة، أي مقصود الردى، وإضافته مقدرة بالانفصال، كأنه قال: غرضًا للردى، أي مقصودًا له.
وقوله: إذا زار عن شحط بلادك سلما: يحتمل أن يكون بدلا من غرض الردى، فيكون للجملة موضع من الإعراب، ويحتمل أن يكون بدلا من الهاء في غادرته، فلا يكون للجملة موضع، كما أن الصفة لا موضع لها.
وأنشد أبو القاسم في هذا الباب:
كأنَّ سَبَيئَةً مِنْ بَيْتِ رَأْسٍ ... يكون مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاءٌ
هذا البيت: لحسان بن ثابت، بن المنذر، بن حرام الأنصاري، ويكنى: أبا الوليد.
واسمه مرتجل، غير منقول، ولكنه مشتق من الحسن، فيكون وزنه: فعالًا مصروفًا.
ويجوز أن يكون مشتقًا من الحس، فيكون وزنه: فعلان، غير مصروف؛ للزيادة التي في آخره، والمعرفة.
والأقيس فيه: ألا يصرف، لأن حسان لم يصرف اسمه في قوله:
ما هاجَ حَسَّانَ رُسُومُ المقامِ ... ومظعنُ الحيِّ ومَبنَى الخيامِ
وأما ثابت، والمنذر، وحرام فأسماء منقولة غير مرتجلة. فثابت، والمنذر: وصف من الأسماء المنقولة عن الصفات: وأما حرام: فيجوز أن يكون منقولًا من قولهم: رجل حرام، أي محرم، فيكون من الأسماء المنقولة عن الصفات، ويجوز أن يكون منقولا من الحرام الذي هو ضد الحلال، فيكون منقولا إلى الأسماء عن الصفات، على أنه قد وصف به، فيكون قد قيل: شيء حرام، والحرام أيضًا: اسم للنمل.
والسبيئة: الخمر المشتراة، يقال: سبأت الخمر بالهمز إذا اشتريتها، وهي فعيلة بمعنى مفعولة، قال ابن هرمة:
غالية قَرْقَفٌ معتّقة ... يغلُو بأيدي التجار مَسبؤها
وأراد بالرأس: رئيس الخمارين، وخصه بالذكر لأن خمره أعتق من خمر غيره.
وقال أبو العباس المبرد: بيت رأس موضع.
ويروى: كأن سلافةً، والسلافة: أول ما يسيل من الخمر، وقيل: هي ما يسيل من العنب من غير عصر، ويدل على هذا قول الشاعر:
من عَتِيق الكُرُومِ جاءتْ سُلاَفًا ... لم يطأْها برجله العَّصار
أراد: جاءت العصار سلافًا لم يطأها برجله.! وفي قوله: يكون مزاجها عسل وماء أربعة أقوال: قيل: هو على وجه الضرورة، وعلى ذلك أنشده سيبويه.
وقيل: أراد مزاجًا لها، فأراد بالإضافة الانفصال فأخبر فيه بنكرة عن نكرة.
وقيل: نصب مزاجها على الظرف الساد مسد الخبر، لا على الخبر نفسه، كأنه قال: يكون مستقرًا في مزاجها.
وقيل: إنما جاز ذلك؛ لأن العسل والماء نوعان، والأنواع تشبه النكرات، وقولك: أكلت العسل، وأكلت عسلًا، وشربت الماء، وشربت ماءً سواء؛ لأنه قد علم أنك لم تأكل جميع نوع العسل، ولم تشرب جميع نوع الماء.
وإنما كان كذلك؛ لأن الأنواع والأجناس ليس لأجزائيهما أسماء تخصها من حيث هي أجزاء، وإنما يعبر عن كل جزء من الجنس باسم الجنس وعن كل جزء من النوع باسم النوع يقال لكل جزء من الماء: ماء، ولكل جزء من العسل: عسل.
وكان أبو عثمان المازني يروي: يكون مزاجها بالرفع ويجعله اسم كان وينصب عسلًا خبرها، ويرفع ماء بفعل مضمر دل عليه المزاج كأنه قال: ومازجها ماء.
وقوله: من بيت في موضع نصب على الصفة لسبيئة، ويكون مزاجها في موضع الصفة لها أيضًا، كأنه قال: سبيئة مشتراةً من بيت رأس كائنًا مزاجها عسل وماء، وأما خبر كأن الذي وقع عليه التشبه فهو في بيتٍ آخر بعد هذا وهو قوله:
على أنيابها أو طَعمَ غَضِّ ... من التُّفاح هَصَّره الجَناءُ
وقد جرت عادة النحويين أن يجعلوا كأن للتشيبه حيث وقعت وليس ذلك بصحيح، وإنما يكون تشبيهًا محضًا إذا وقع في الخبر اسم يمثل به اسمها، ويكون الخبر أرفع من الاسم، أو أحط منه كقولك: كأن زيدًا ملك، أو كأن زيدًا حمار.
وأما إذا كان خبرها فعلًا، أو ظرفًا، أو مجرورًا، أو صفة من صفات أسمائها، فإنها يدخلها حينئذ معنى الظن والحسبان، كقولك: كأن زيدًا قائم، أو كأن زيدًا في الدار، فلست تشبه زيدًا بشيء هاهنا، إنما تظن أنه قائم وأنه في الدار، وكذلك قول الشاعر:
وداوَيتُها حتَّى شَقتْ حَبشية ... كأن عليها سندسًا وسُدُوسًا
ولها أيضًا معانٍ أخر ليس هذا موضع ذكرها.
وأنشد أبو القاسم في هذا الباب:
1 / 7
قِفِي قبلَ التفرُّقِ يا ضُباعَا ... ولا يَكُ موقفٌ مِنكِ الوَدَاعَا
هذا البيت: للقطامي، واسمه: عمير بن شييم.
وعمير اسم منقول؛ إن شئت جعلته تصغير عمرو، وهو القرط ويكون الحياة، ويكون طرف الكم، ويكون ما بين الأسنان من اللحم.
وإن شئت جعلته تصغير قولهم: رجل عمرو وهو الكثير الاعتمار، وإن شئت كان مصغرًا مرخمًا من عامر، أو عمار، أو معمر كزهير من أزهر.
وأما شييم بضم الشين وكسرها فمنقول من تصغير أشيم مرخم، وهو الذي به شامة.
والقطامى منقول من الصقر، لأن الصقر يقال له: قطامى، وقطامى بضم القاف وفتحها، وهو مشتق من القطم وهو شهوة اللحم، وشهوة النكاح، يقال: فحل قطم، إذا هاج للضراب، وهو لقب غلب عليه لقوله:
يَصُكّهنَّ جانبًا فَجَانِبا ... صَلّ القطامِيُّ القَطَا القَواربا
والشاهد في البيت رفع الموقف وهو نكرة، ونصب الوداع وهو معرفة وسهل ذلك؛ لأن اسم كان وخبرها لشيء واحد، وأن قوله: منك في موضع رفع على الصفة لموقف، كأنه قال: موقف كائن منك، والنكرة إذا وصفت قويت بالصفة، وقربت من المعرفة، فلما قومت النكرة بالصفة، وكان تعريف الألف واللام ضعيفًا ليس له قوة غيره من التعريف صار الوداع وموقف كأنهما قد تكافآ.
وقد روى: ولا يك موقفي بالإضافة، وهذا لا نظر فيه.
وضباعة التي شبب بها هي: ضباعة بنت زفر بن الحارث الكلابي، وهو الذي مدحه بهذا الشعر، ولذلك قال بعد هذا البيت:
قفي فادى أسيرك إن قومي ... وقومَكِ لاَ أَرَى لَهمُ اْجتماعَا
وَكيفَ تجامع مع ما استَحَلاّ ... من الحُرَمِ العظامِ وما أَضاعَا
ألم أخبركِ أن حِبالَ قَيسٍ ... وتَغلبَ قد تَبايَنتْ انقطاعَا
ويقال: وداع بفتح الواو ووداع بكسرها، وكان الوداع بكسر الواو مصدر وادعت وداعًا، وكان الوداع بالفتح هو الاسم.
وأنشد في هذا الباب:
فلست لأنيّ ولكن لمِلْكٍ ... تنْزّل من جوّ السماء يصوب
هذا البيت لعلقمة بن عبدة، يروى له في آخر شعره الذي أوله:
طحا بك قلب في الحسانِ طَروب ... بُعيد الشباب عصرَ حَان مشيب
وذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى أنه لرجل من عبد القيس.
وعلقمة، وعبدة مفتوح الباء اسمان منقولان؛ أما علقمة فالواحدة من العلقم، ويقال: طعام فيه علقمة، أي مرارة.
وأما العبدة فصلاءة الطيب، والعبدة أيضًا: أجمة الأسد، والعبدة الأنفة، يقال: عبد من الشيء يعبد عبدًا وعبدة إذا أنف منه.
واللام في قوله لإنسىٍ متعلقة بمحذوف، وكذلك في قوله: لملك، وكلاهما له موضع من الإعراب؛ لأن اللام الأولى وقعت موقع خبر ليس فهي متعلقة بالخبر الذي نابت منابه، أي فلست ابنًا لأنسى واللام الثانية التي في لملكٍ وقعت موقع خبر مبتدأ كأنه قال: ولكن أنت للملك.
وقوله: تنزل من جو ... جملة في موضع الصفة لملك ويصوب جملة في موضع الحال من الضمير في تنزل، ويجوز أن تكون في موضع صفة ثانية لملك، ومعنى يصوب: يقصد إلى الأرض.
وأراد لملأكٍ فجاء به على الأصل، لأن ملكًا تخفيف ملأك، نقلت حركة همزته إلى لامه، كما قالوا في يسأل: يسل، وشمل، في شمال، قال الشاعر:
ثَوَى مَالِكٌ بِديارِ العدوّ ... تُسْفِيَ عليهِ رِيَاحُ الشَّمَل
واختلف في وزن ملأك؛ فقال أكثر أهل التصريف وزنه: معفل مقلوب من مألك، واستدلوا على ذلك بقول العرب: ألك، إذا أرسل، وقولهم للرسالة: ألوكٍ وألوكة، قال لبيد:
وغلام أرسلتْه أُمُّهُ ... بألوكٍ فبذلنا مَا سَأَل
وأنشد أبو بكر ابن دريد:
فَمَن مُبلغٌ فِتيانَ قَومِي أَلوكَةً ... تأتي من أقيال من كان كافرا
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: وزنه مفعل وهو مشتق من لأك إذا أرسل، فلا قلب فيه على هذا.
وقد يمكن أن يكون لأك مقلوبًا من ألك، وقد كان ابن كيسان يزعم أن ملكًا مشتق من ملك يملك، وأن الهمزة في ملأك زائدة كزيادتها في شمأل.
فوزن ملائكة على قول من جعله مقلوبا: معافلة، مقلوبًا من مآلكة ووزنها على قول أبي عبيد: مفاعلة، غير مقلوبة.
ووزنها على قول ابن كيسان: فعائلة وأنشد أبو القاسم في هذا الباب:
1 / 8
إذا كانَ الشِّتَاءُ فَأَدْفِئَوني ... فَإنَّ الشَّيْخَ يَهْدِمُه الشِّتاءُ
هذا البيت للربيع ضبع الفزاري، وقد ذكرناه فيما تقدم، وهذا البيت من شعر يمدح فيه بنيه وكنانته، ويذكر برهم له، وهو قوله:
أَلاَ أَبِلغْ بَنِيَّ بَنِي رَبِيعٍ ... فَأَنذَالُ البَنِينِ لَكمْ فِدَاءُ
بِأنِّي قد كَبِرْت ورَقَّ جِلدِي ... فَلاَ شَغَلتْكم عَنِّي النِّساءُ
وإنَّ كَنائِتي نساءُ صِدْقٍ ... وَمَا أَلَّى بَنِيَّ وَلاَ أَساءُوا
إذَا كانَ الشِّتَاءُ فَأَدْفِئُونِي ... فَإنَّ الشَّيخَ يَهدِمِهُ الشِّتاءُ
وأَمَّا حِينَ يَذْهبُ كلُّ قَرٍّ ... فَسِربَالٌ رَقيقٌ أوْ رِدَاءُ
إذَا عَاشَ الفتَى مَائتينِ عَامًا ... فَقد ذَهَبَ المسرَّةُ والفَتَاءُ
الأنذال الخساس، واحدهم نذل، ومعنى أللى: قصر في برئ يقال: ألا ألوًا، فإذا كثرت الفعل قلت أللى يؤلى تأليةً، قال زهير:
سَعى بَعدهم قومٌ لكَي يُدركوهمفَلم يَفعلوا ولم يُليموا ولَمْ يَأْلوًا والقر: البرد، والفتى مقصور: واحد الفتيان، والفتاء ممدود: فتوة السن، يقال: فتى بين الفتوة، ويروى المروءة، واللذاذة.
والتخيل: التكبر، وعجب المرء بنفسه.
ويروى: يهرمه.
وأنشد أبو القاسم في هذا الباب:
فَكيفَ إذا مَرَرْتَ بِدَارِ قوْمٍ ... وَجيرَانٍ لَناَ كانُوا كَرَامِ
هذا البيت: للفرزدق، واسمه همام بن غالب، وقال ابن قتيبة: هميم بن غالب، ويكنى أبا فراس.
واختلف كلام ابن قتيبة في تلقيبه بالفرزدق: فقال في أدب الكتاب: الفرزدق: قطع العجين، واحدها فرزدقة، وهو لقب له؛ لأنه كان جهم الوجه.! وقال في كتاب طبقات الشعراء: إنما لقب بالفرزذق لغلظه وقصره، شبه بالفتيتة التي تشربها النساء، وهي الفرزدقة.
والقول الأول أصح؛ لأنه كان أصابه جدري في وجهه، ثم برئ منه، فبقى وجهه جهمًا مبغضًا.
ويروى أن رجلًا قال له: يا أبا فراس، كأن وجهك أحراح مجموعة.! فقال: تأمل، هل ترى فيه حرح أمك؟! وهذا البيت من قصيدة يمدح بها: سليمان بن عبد الملك بن مروان، ويهجو جرير بن الخطفي.
وقيل هذا البيت:
هل أَنْتُم عَائِجُونَ بِنَا لَعَنًاّ ... نَرَى العَرَصات أَو أَثَرَ الخِيامِ
أُكَفْكِفُ عبرة العينين مِنِّي ... وما بعدَ المَدَامِعِ مِنْ مَلاَمِ
لعنا: لغة في لعلنا، يقال: لعلك، ولغنك - بغين معجمة ونون - ولأنك، ورعنك، وعلك، وأنك، ولو أنك كل ذلك بمعنى واحد.
ويروى: أنه أنشد سليمان هذه القصيدة، فلما بلغ إلى قوله فيها:
ثَلاثٌ واثنتان فَهُنَّ خَمْس ... وَسادِسةٌ تميل إلى شِمامِي
دُفِعْنَ إلي لم يَطمثهنّ قبلي ... وهنَّ أَصحَّ من بيض النَّعاَمِ
فَبِتْنَ بِجانِبِيَّ مَصرَّعاتٍ ... وبتُّ أَفضُّ أَغلاَقَ الخِتاَمِ
كأَنّ مَغالِقَ الرَّمان فيه ... وَجمرَ غضًى قَعدْن عليه حَامِ
قال سليمان: أقررت عندي بالزنا وأنا إمام، ولابد من إقامة الحد عليك.! فقال الفرزدق: ومن أين أوجبته علي يا أمير المؤمنين؟ فقال: يقول الله ﷿: " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ".
فقال الفرزدق: إن كتاب الله ﷿ يدرأ عني الحد، يقول الله ﵎: " والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون " وإنما قلت ما لم أفعل! فتبسم سليمان، وقال: أولى لك.!! وسلك أبو القاسم في بيت الفرزدق مسلك الخليل وسيبويه، فجعل كان فيه زائدة.
وكان أبو العباس المبرد يرد ذلك، ويقول: الواو في كانوا اسم كان، ولنا خبرها، كأنه قال: وجيران كرام كانوا لنا.
وتابع أبا العباس على ذلك جماعة من النحويين، وقالوا: كيف تلغ كان في هذا البيت، والضمير قد اتصل بها؟! وهذا الذي قالوه لا يلزم؛ لأن ظننت تلغى عن العمل مع اتصال الضمير بها في نحو قولك: زبد منطلق ظننت.
وقد ذكرنا في الكتاب الأول ما احتج به أبو علي الفارسي وابن جنى للخليل، فأغنى ذلك عن إعادته ههنا.
1 / 9
فموضع لنا خفض على مذهب الخليل، لأنها في موضع الصفة لجيران، وهو في موضع نصب على مذهب أبي العباس؛ لأنه في موضع خبر كان.
وأنشد أبو القاسم في هذا الباب:
إِذَا مِتُّ كانَ الناسُ صِنفانِ شامتٌ ... وآخر مُثْنٍ بالذِي كنت أَصْنَعُ
هذا البيت للعجير السلولي، ينسب إلى بني سلول، وهو حي من أحياء العرب.
وعجير: اسم منقول، ويحتمل أن يكون تصغير عجر، من قولهم: عجر عنقه، إذا لواها، ويحتمل أن يكون مصغرًا مرخمًا من أعجر وهو الناتئ السرة.
وأما سلول: فاسم مرتجل غير منقول.
ويروى: مِت ومُت بكسر الميم وضمها.
ويروى: صنفان وصنفين ونصفين فمن رفع أضمر في كان الأمر والشأن، والناس صنفان: مبتدأ وخبر، في موضع خبر كان ومن نصب جعل الناس اسم كان، وصنفين خبرها، ولا شاهد فيه على هذه الرواية.
وشامت، وآخر: مرتفعان على خبر مبتدأ مضمر، كأنه فسر الصنفين، فقال: هما شامت، وآخر مثن، ويجوز أن يرفع شامت على البدل من الصنفين.
ويجوز أن يكون التقدير: أحدهما شامت، والآخر مثن.
وبعد هذا البيت:
ولكِنْ ستبْكينِي خطوبٌ ومجلسٌ ... وشُعثٌ أُهينوا في المجالس جُوَّع
ومستلحم قد صكَّه القوم صكَّةً ... بعيد الموالي نيل ما كان يجمع
رددت له ما فرط الفَيْل بالضحى ... وبالأمس حتى آبَنا وهو أضلع
وما كان أن كان ابن عمِّي ولا أخي ... ولكن متى ما أملك الضُّرَّ أَنْفَعُ
وأنشد أبو القاسم في هذا الباب:
هِيَ الشِّفاءُ لِدَأبي لو ظَفِرْتُ بها ... وليسَ منها شِفاءُ الدَّاءِ مَبْذُول
هذا البيت لهشام أخي ذي الرمة.
وهو اسم مرتجل، مشتق من قولهم هشمت الشيء إذا كسرته.
وذكر أبو الفتح: أنه اسم منقول من مصدر هاشمت.
ويجوز أن تكون ليس في هذا البيت هي العاملة، فيضمر فيها الأمر والشأن، وتجعل الجملة في موضع خبرها، ويجوز أن تكون بمنزلة ما لا يعمل شيئًا، وهي لغة لبعض العرب.
ويجوز في لو أن تكون هي التي تدل على امتناع الشيء لامتناع غيره، والجواب محذوف، كأنه قال: لو ظفرت بها لاشتفيت، فأغنى ما تقدم من ذكر الشفاء عن إعادة ذكره، كما نقول: أنا أشكرك إن أحسنت إلي؛ فتغني الجملة عن جواب الشرط.
ويجوز أن تكون لو هي التي يراد بها معنى التمني، كأنه قال: ياليتني ظفرت بها.
والباء في قوله: بها متعلقة بظفرت، ومن في قوله منها متعلقة بمبذول، فلا موضع لها لتعلقها بظاهر، وبعد هذا البيت:
تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت ... كأنَّه مُنْهَلٌ بالرَّاح مَعْلولُ
ومعنى تجلو: تكشف وتظهر، والعوارض: الضواحك، والظلم: الماء الجاري على الأسنان، والمنهل: الذي سقي سقية أولى، والمعلول: الذي سقي سقية ثانية، والراح: الخمر.
ويروى هذا البيت لكعب بن زهير، ويروى لهشام.
وأنشد أبو القاسم في باب الحروف التي تنصب الأسماء، وترفع الأخبار:
مُعاوِيَ إِنَّنَا بَشَرٌ فأسْجِحْ ... فَلَسْنا بِالجبالِ ولا الْحَدِيدَا
هذا البيت لعقيبة الأسدي، فيما ذكره سيبويه.
وعقيبة: اسم منقول، ويحتمل أن يكون تصغير عقبة، وهي الثنية الصغيرة، الصعبة المصعد.
ويحتمل أن يكون تصغير عقبة - مثل ظلمة - وهي بقية من المرق واللحم ونحو ذلك في القدر المستعار، أو تصغير عقبة في الركوب، أو تصغير عقبة القمر، وهي عودته تقال بكسر العين وضمها، قال الشاعر:
لاتَطْعم الغِسْلَ والأدهانِ لِمَّتهُ ... ولا الذَّرِيرَةَ إِلا عُقْبة القَمَرِ
ويروى عقبة القمر بالضم.
وقال الكميت في عقبة القدر:
وحارَدَتِ النُّكْدُ الجِلادُ وَلَمْ يَكُنْ ... لعُقبة قِدْرِ المسْتعيريِن معقِبُ
وأسد اسم منقول أيضًا يحتمل أن يكون منقولًا من، اسم السبع، ويحتمل أن يكون مصدر: أسد الرجل بأسد، إذا شجع وفعل فعل الأسد.
ويروى هذا البيت أيضًا لعبد الله بن الزبير الأسدي.
والزبير - أيضًا - اسم منقول؛ لأن الزبير: طين الحمأة، والزبير: البئر المطوية بالحجارة، والزبير: الكتاب المكتوب، وأنشد ابن جني:
كمَا زان المهَّرقَ والزُّبيْرا
والزبير: الداهية، والزبير: الإهانة والزبير: المزجور المهان يقال: زبرت الرجل إذا زجرته.
1 / 10
وهذا البيت أنشده سيبويه ولا الحديدا، بالنصب، كما أنشده أبو القاسم، ورد ذلك عليه.
وقيل الشعر مخفوض القوافي، وهو:
مُعَاويَ إنّنا بَشرُ فأسّجِح ... فَلسنَا بالجبالِ ولا الحديدِ
أكلتُمْ أَرْضَنَا فجردتُموهَا ... فَهلْ مِن قائمٍ أو حَصِيدِ
أترجونَ الخلودَ إذَا هَلكْنا ... وليسَ لنَا ولا لكَ مِن خُلودِ
فَهبنَا أُمةً هلكت ضياعًا ... يزيدُ أميرها وأبو يزيدِ
ذروا خَونَ الإمامة واستقيموا ... وتقديم. الأراذل والعبيد
وزعم من احتج لسيبويه: أن هذا البيت من شعر منسوب لعبد الله ابن الزبير الأسدي، ويقال: إنه للكميت بن معروف الأسدي يقول فيه:
رَمَى الحدثانُ نسوةَ آل عمرٍو ... بمقدار سمَدنَ له سُمودا
فردَّ شُعورهنَّ السُّود بيضَا ... ورَدُّ وُجُوهنَّ البيض سُودَا
أديروها بني حَرب عليكم ... ولا تَرمُوا بها الغرضَ البعيدا
وليس ينكر أن يكون البيت من الشعرين جميعًا؛ لأن الشعراء قد يستعير بعضهم كلام، وربما أخذ البيت بعينه ولم يغير كقول الفرزدق:
ترىَ النَّاس ما سِرنا يَسيرون خَلفَنَا ... وإنْ نحن أَومأْنا إلى النّاس وَقَّفُوا
فإن هذا البيت لجميل بن عبد الله، انتحله الفرزدق.
وقال قيس بن الخطيم:
إذَا قَصُرت أَسيافُنا كان وَصلُها ... خُطَانا إلى أعدائنا فنضاربِ
والقصيدة محفوضة القوافي، قال الأخنس بن شهاب اليشكري:
وإنْ قَصُرتْ أَسْيافُنا كان وَصْلهَا ... خطانا إلى أعدائنا فنضاربُ
والقصيدة مرفوعة القوافي: وقال امرؤ القيس؛ في قصيدة بائية:
لمنْ الدِّيارَ تَعِّفتْ مُذْ حِقَبْ ... فجنوب الفرْد أقْوَت فالخرِبْ
دَارُ حَيِّ بدِّلت مِنْ بعدهم ... ساكنَ الْوحشِ وللدَّهرُ عقب
عقَّب الدَّهر بهم فانتجعوا ... أَكلَ الدَّهرُ عَليهم وشرِبْ
وأخذ النابغة الجعدي نصف البيت الثالث، وعكسه في قصيدة لامية فقال:
سألتني جارتي عن أُسرتي ... وإذَا ما عَيَّ ذو الُّلبِّ سَأَلْ
سألتني عَن أُناسٍ هَلكوا ... شَرِبَ الدّهرُ عليهم وَأَكلْ
وأنشده أبو العباس المبرد في الكامل على ما في شعر امرئ القيس ونسبه إلى النابغة الجعدي، وذلك غلط.
وربما كرر الشاعر بيتًا واحدًا، من شعره، في قصيدتين مختلفتي القوافي كقول الحصين بن الحمام المري:
ولما رأيت الودّ ليسَ بنافعي ... وإن كان يَومًا ذَا كِوَاكبَ مُظْلِما
صَبَرنا وكانَ الصّبرُ منا سَجِيّةً ... بأسيافنا يَقطعنَ كفَّا ومِعْصَما
يَفلقنَ هامًا مِن أُناسٍ أَعزَّةٍ ... عَلينَا وَهُمْ كانَوا أُعقَّ وأَظْلَمَا
ثم قال في قصيدة أخرى:
ولما رأيت الودّ ليس بنافعي ... وإن كان يومًا ذا كوكب أشهبا
صبرنا وكان الصبر منا سجية ... بأسيافنا يقطعن هامًا ومنكبا
يفلقن هامًا من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعقّ وأَخْرَبَاَ
وفي شعر أبي الطيب المتنبي أبيات شعر كثيرة انتحلها ولم يغير فيها إلا شيئًا يسيرًا، كقوله:
كأنّ كلّ سؤال في مسامعه ... قميصُ يوسفَ في أجفانِ يَعقوبَ
فإن هذا البيت منقول من قول الحصين:
كأنّ كل سؤالٍ في مسامعه ... قميصُ يوسفَ في أجفانِ والده
وكقوله:
ومن نَكدِ الدُّنيا عَلى الحُرِّ أن يَرَى ... عَدُوًّا لَهُ مَا مِن صَدَاقَتهِ بُدُّ
فإن هذا البيت منقول من قول إسحاق الموصلي:
ومِن نَكدِ الدُّنيا على الحُرِّ أَنْ يَرَى ... عَدُوًَّا فَيهوَى أن يُقالَ: صَدِيقُ
فإذا كان أمر الشعر على هذه الصفة، لم ينكر أن يكون قوله: مُعاوِيَ إننا بَشرٌ فاسْجِح......قد وقع في شعرين مختلفين لعقيبة الأسدي، أو يكون قد وقع في شعر لعقيبة، مخفوض القوافي، وشعر لابن الزبير منصوب القوافي.
وأنشد أبو القاسم في باب حروف الخفض:
1 / 11
فَقلتُ للرّكبِ لَمَّا أن عَلاَ بِهمُ ... مِن عَن يَمينِ الحُبَيَّا نَظرَةٌ قَبَلُ
هذا البيت للقطامي، وقد ذكرنا اسمه وبعده:
ألمحةً من سَنَا بَرقٍ رأى بَصري ... أَم وَجهَ عاليةٍ اخْتالتْ به الكِلَلُ
يُهدِي لَناَ كلَّمَا كانت عَلاَوَتُنا ... ريحَ الخُزَامىَ جَرَى فيها الندَى الخضِل
الحُبَيَّا: موضع بالشام، وهو من الأسماء التي جاءت مُصغرة، ولا تكبير لها.
ومعنى نظرة قبل: أي نظرة لم يتقدمها نظر، يقال: رأيت الهلال قبلًا، أي لم يره أحد قبلي.
والركب جمع راكب، عند الأخفش، وهو عند سيبويه: اسم الجمع، وليس بجمع.
ويروى: علا بهم وعلت بهم: أي جعلتهم يعلون، ويستشرفون للنظر إلى عاليه، وهو بمنزلة قولهم: أعليتهم، لأن الباء والهمزة يتعاقبان على نقل الأفعال كقولك: ذهبت بهم، وأذهبتهم.
وسنا البرق ضوؤه.
ومعنى اختالت تبخترت، والكلل الستور، واحدتها كلة أراد أن وجه عالية: ظهر لهم من وراء الستر، فجعلوا ينظرون إليه عجبًا.
ومن روى: بها رد الضمير إلى عالية.
ومن روى به رد الضمير على الوجه، وإذا أنث الضمير كانت الجملة في موضع الحال من عالية، وإذا ذكر: كانت حالًا من الوجه.
وكلما كانت علاوتنا أي: في مكان عال تصيبه الريح، يقال: قعد فلان على علاوة الريح، أي في موضع مشرف تصيبه الريح، وقعد في منقلبها، أي في موضع منخفض، لا تناله الريح.
والخضل: الكثير البلل، يقال أخضل الماء ثوبي، إذا بله.
وصير عن اسمًا فأدخل عليها حرف الجر.
وفي هذا البيت شاهد على أن: عن اسم، وشاهد على أن على فعل.
وأنشد أبو القاسم في هذا البيت:
غَدَتْ منْ عليْهِ بعدَ ما تمَّ ظِمؤها ... تصل وَعنْ قَيضٍ ببيْدَاءَ مجْهلِ
هذا البيت: لِمُزاحِم بن الحارث العقيلي.
ومزاحم والحارث اسمان منقولان عن الصفات إلى العلمية، ويكنى الكبش إذا كان له قرنان عظيمان: أبا مزاحم، ويسمى الشقحطب وقبله:
أَذلِكَ أمْ كدْرَّية ظَلَّ فرْخها ... لَقًى بشرَوْرَى كاليتيم الْمعيَّل
أراد بالكدرية: قطاه في لونها كدورة، والقطا نوعان: كدري، وجوني، الكدري: أغبر اللون، والجوني: أسود اللون، وقد ذكره زهير في قوله:
جَونِية كحصاة القِسْم مَرتعُها ... بالسِّيِّ ما بِنبت القفعاءُ والحسَكُ
واللَّقى: المطروح الذي لا يلتفت إليه: وشرورى: موضع وشبهه في إنفراده، وسوء حاله باليتيم.
والمعيل الفقير.
قال الأصمعي: وإنما قال لقى بشر ورى لأن القطا لا تبض إلا في الأرض في مفاحص ونقر، ولا تعشش في الشجر.
وغدت من عليه بعد ما تم أراد: أنها أقامت مع فرخها حتى احتاجت إلى ورود الماء، وعطشت فطارت تطلب الماء عند تمام ظمئها.
والظمء: مدة صبرها عن الماء، وهو ما بين الشرب، إلى الشرب، ويروى بعد ما تم خمسها، وهو ورود الماء في كل خمسة أيام ولم يرد أنها تصبر عن الماء خمسة أيام؛ وإنما ذلك للإبل لا للطير ولكنه ضربه مثلا، هذا قول أبي حاتم، ولهذا كانت رواية من روى ظمؤها أحسن وأصح معنى.
وقال الأصمعي: قوله: من عليه؛ يريد من فوق الفرخ.
قال أبو عبيدة: ومعناه غدت من عند فرخها.
وقال يعقوب - في أبيات المعاني - بعد ما تم ظمؤها أي أنها كانت تشرب في كل ثلاثة أيام، أو أربعة مرة، فلما جاء ذلك الوقت طارت.
قال أبو حاتم: وقلت للأصمعي: كيف قال: غدت من عليه، والقطاة إنما تذهب إلى الماء ليلًا، لا غدوة؟ فقال: لم يرد الغدوة، وإنما هذا مثل للتعجيل، والعرب لقول: بكر إلي العشية ولا بكور هناك، وأنشد أبو زيد:
بكرت تلُو مسكَ بعدَ وْهن في النَّدى ... بَسلٌ عليك مَلاَمتي وعِتابي
وعلى هذا تناوله بيت النابغة الذبياني:
تحيدُ عن أَسْتَنٍ سودٌ أسَافِله ... مَشىَ الأمَاءِ الغَوادِي تحمِلُ الحزما
وقال أبو حاتم: ومعنى تصل تصوت أحشاؤها من العطش واليبس، والصليل: صوت الشيء اليابس، يقال: جاءت الإبل تصل عطشًا.
وقال غيره: أراد أنها تصوت في طيرانها.
والقيض: قشر البيض الأعلى.
ويروى بزيزاء مجهل بإضافة الزيزاء إلى المجهل، وبكسر الزاي.
1 / 12
ويروى بزيزاء مجهل بفتح الهمزة، فيكون مجهل بهذه الرواية صفة لزيزاء ولم يجز البصريون ذلك؛ فألف فعلاء المكسورة الفاء لا يكون عندهم إلا للالحاق، وكذلك فعلاء المضمومة الفاء، وإنما تكون الهمزة للتأنيث عندهم في فعلاء المفتوحة الفاء نحو: حمراء وصفراء.
واحتج الكوفيون بقول الله ﷿: " من طور سيناء " في قراءة من كسر السين، فقال البصريون: ليس امتناعها من الصرف من أجل أنها للتأنيث؛ إنما ذلك من أجل أنها ذهب بها إلى الأرض، أو البقعة: والزيزاء: الغليظ من الأرض، والمجهل: القفر الذي ليس فيه أعلام يهتدى بها.
ويروى ببيداء وهي الفلاة التي تبيد من يسلكها أي تهلكه، وألفها للتأنيث في قول الفريقين.
وقوله ظل فرخها جملة لها موضع من الإعراب؛ لأنها في موضع الصفة للكدرية.
والباء في قوله: بشروري بمعنى في، والكاف في موضع الحال من الضمير في لقى، أو في موضع الصفة للقى، ومن متعلقة بغدت فلا موضع لها لتعلقها بظاهر وما مع تم بتقدير مصدر كأنه مخفوض ببعد قال: بعد تمام.
وتصل: في موضع نصب على الحال: وقوله: أذلك: إشارة إلى ظليم ذكره قبل ذلك في قوله:
قَطَعتُ بشوشاةٍ كأنّ قُتَودَها ... على خَاضِبٍ يَعلُو الأماعِزَ هيكل
والشوشاة الناقة الخفيفة، والقتود: عيدان الرحل، والخاضب من النعام الذي أكل الربيع فاحمرت ظنبوباه، وأطراف ريشة، فهو حينئذ أقوى ما يكون.
والأماعز: الأماكن الكثيرة الحجارة: والهيكل: الضخم الخلق.
وأنشد أبو القاسم في باب: حتى
فياعجبا حَتَّى كُلَيبٌ تَسُبُّنِي ... كأَنَّ أَبَاهَا نْهَشْل ومُجَاشِعُ
وهذا البيت للفرزدق، وقد ذكرنا اسمه فيما تقدم.
ويروى: فياعجبًا بالتنوين، ويا عجبا بغير تنوين.
فمن نونه فله وجهان: أحدهما: أن يكون منادي منكورًا.
والثاني: أن يكون مصدرًا، والمنادي محذوف، كأنه قال: يا قومي اعجبوا عجبًا.
ومن لم ينونه فله وجهان أيضًا: أحدهما - وهو الأجود: - أن يكون منادي مضافًا، على لغة من يقول: يا غلاما أقبل. كأنه قال: يا عجبا احضر؛ فهذا من أوقاتك: والآخر: أن يريد: فياعجباه، وأكثر ما تستعمل هذه الزيادة في الندبة، وقد استعمل في غير ذلك، نحو ما أنشده بعضهم:
يا مرحباه بحمار تاجية ... إذا أتى قربته للسانية
وقال آخر:
يا مرحباه بحمار عفراء ... إذا أتى قرَّبته لما يَشاء
من الحشيش والشعير والماء
وقوله: حتى كليب تسبني كلام خرج مخرج الاستحقار منه لكليب، لأن حتى تستعمل في الاستحقار للشيء واستعظامه، فلم تعمل حتى في اللفظ شيئًا، لأنها لا تعمل في ألفاظ الجمل، إنما تعمل في مواضعها: وفي الكلام محذوف، كأنه قال: أتسبني الناس، حتى كليب تسبني؟! وأجاز الكوفيون خفض كليب على الغاية، ويكون تسبني تأكيدًا، كما تقول: ضربت القوم حتى زيدٍ ضربته، فتخفض زيد وتجعل ضربت تأكيدًا مستغنيًا عنه، ومعناه: حتى كليب هذه حالها من السب والشتم، والسب - بكسر السين - الذي يسابك.
وقيل البيت:
أخذنا بآفاق السماء عليكمُ ... لنا قمراها والنجوم والطوالع
تَنحَّ عنْ البطحاء إنّ قديمها ... لنا والجبال الراسيات الفوارع
وكنا إذا الجبَار صعَّر خدَّهُ ... ضربناه حتى تستقيم الأخادِع
قال المفضل: أراد بالقمرين: محمد، وإبراهيم - صلى الله عليهما - وأراد بالنجوم: الخلفاء المهتدين.
وأنشد أبو القاسم في هذا الباب:
سَرَيتُ بهم حَتىَّ تكلّ غزاتُهم ... وحَتَّى الجيادُ ما يُقدْنَ بِأرسَانِ
هذا البيت: من مشهور شعر امرئ القيس.
والقيس الشدة، كذا قال علي بن حمزة البصري، وأنشد:
وأَنْتَ على الأعداء قيْسُ ونجدةُ ... وللطَّارق العافي هشام ونوفَلُ
وقال غيره: القيس: اسم صنم نسب إليه، ولهذا كان الأصمعي بكره أن يقول: امرؤ القيس، وكان يروى: عقرت بعيري يا امرأ الله فانزل، ويكنى: أبا وهب، وأبا الحارث.
وذكر بعض اللغويين: أن اسمه. جندح، وامرؤ القيس. لقب له. والجندح: كثيب أصفر من النقي، والجندح: الرملة الطيبة. والسرى. سير الليل.
ومعنى ما يقدن بأرسان أنها قد أعيت فلا تحتاج أن تقاد، ونحو قول الآخر:
1 / 13
مِن الكلاَل لا يَذْقنَ عودًا ... لا عَقْلا تبغى ولا قيودًا
والباء متعلقة بسريت، فهي الباء التي تعاقب همزة النقل نحو قولك: ذهبت به، وأذهبته.
وتكل مطيهم جملة في موضع خفض بحتى، وتقديرها تقدير المصدر الساد مسد الظرف، وكأنه قال: إلى حين كلال مطيهم، هذا في رواية من نصب تكل، ونصبه من وجهين مختلفين: أحدهما: بحتى، والثاني: بأن مضمرة.
ورفعه أيضًا على وجهين: أحدهما: أن تقدره بالماضي، والثاني: أن تكون بمعنى الحال.
وأما من رفع تكل فليست الجملة محفوضة الموضع، ولكنها معطوفة، على سريت كأنه قال: سريت بهم حتى كلت مطيهم، وهي حال محكية بعد زمان وقوعها؛ فلذلك تقدر بالفعل الماضي، كأنه قال: سريت بهم حتى صاروا في هذه الحال، والحال تحكى بعد وقوعها كقولك: رأيت زيدًا أمس، وهو راكب، فقولك: وهو راكب حال بالإضافة إلى وقت إخبارك.
وقوله: ما يقدن بأرسان: جملة في موضع رفع، على خبر المبتدأ كأنه قال: حتى الجياد غير مقوداتٍ أو غير مقودة. والباء في قوله: بأرسان متعلقة بيقدن، فلا موضع لها لتعلقها بظاهر.
وأنشد أبو القاسم في هذا الباب:
ألقى الصحيفةَ كي يُخَفِّفَ رحْلَه ... والزَّاد حتى نَعْلِهِ ألقاها
هذا البيت: ينسبه الناس إلى المتلمس، ولم يقع في ديوان شعره، وإنما هو لابن مروان النحوي، قاله في قصة المتلمس، حين فر من عمرو بن هند حكى ذلك أبو الحسن الأخفش، عن عيسى بن عمر.
فيما ذكره أبو علي الفارسي، وبعده:
ومضَى يظنُّ برِيدَ عمرو خَلفه ... خوفًا وفارَق أرضَه وقلاَها
وإنما قال وفارق أرضه وقلاها لقول المتلمس:
حَنَّتْ إلى النخْلة القُصْوَى فقلت لها ... بسْل عليك ألاَ تلك الدهاريس
أُمِّي شآميَّةً إذ لا عِراقَ لنا ... قوم نوُّدهم إذْ قَومُنا شُوس
لن تَسْلكي سُبُلَ البُوباة منجدةً ... ما عاش عمرو ولا ما عاش قابوس
وكان المتلمس قد هجا عمرو بن هند بشعره الذي أوله:
قولي لعمرو بن هند غير متَّئبة ... يا أخنس الأنْف والأضراس كالعدس
ملك النَّهار، وأمّا الليل مُومسة ... ماء الرِّجال على فخذيك كالقرَسِ
وكان طرفة قد هجاه أيضًا بشعره الذي أوله:
فليتَ لَنا مَكانَ الملكِ عَمرو ... رَغوثًا حوْل قُبتنا تدُور
فاتصل ذلك بعمرو بن هند، ولم يظهر لهما شيئًا من التغير، ثم مدحاه بعد ذلك، فكتب لكل واحد منهما كتابًا، إلى عامله بالحيرة، وأمره فيه بقتلهما إذا وصلا، وأوهمهما أنه كتب لهما بصلة، إلى الحيرة، قال المتلمس لطرفة: كل واحد منا قد هجا الملك، فلو أراد أن يعطينا لأعطانا، ولم يكتب لنا إلى الحيرة، فهلم فلندفع كتبنا إلى من يقرؤها، فإن كان فيها خير دخلنا الحيرة، وإن كان فيها شر فررنا قبل أن يعلم بمكاننا.! فقال طرفة: ما كنت لأفتح كتاب الملك! فقال المتلمس والله لأفتحن كتابي، ولأعلمن ما فيه، ولا أكون كمن يحمل حتفه بيده، فنظر المتلمس: إلى غلام قد خرج من الحيرة، فقال له: أتقرأ يا غلام؟.
قال: نعم.
فقال: هلم فاقرأ هذا الكتاب! فلما نظر إليه الغلام، قال ثكلت المتلمس أمه! فقال لطرفة: افتح كتابك، فما فيه إلا مثل كتابي! فقال: إن كان اجترأ عليك فلم يكن ليجترئ علي، ويوغر صدور قومي بقتلي! فألقى المتلمس صحيفته في نهر الحيرة، وفر إلى الشام وقال:
وألقيتها بالثَّنيِ من جنب كافِرٍ ... كذلك أقْنو كلَّ قِطٍّ مضللِ
رضيتُ لها بالماء لمَّا رأَيتُها ... يحول بها التَّيار في كل جدوَلِ
ولحق طرفة فقتل، ولحق المتلمس بالشام، وهجا عمرا بشعره الذي يقول فيه:
ملك يلاعب أمَّه وقطِينَها ... رخوُ المفاصل، أَيْره كالمِروَدِ
بالبابِ يرصدُ كلّ طالبِ حاجةٍ ... فإذا خلا، فالمرء غير مسدَّد!
وإذا حللْتُ ودون أرضي عادة ... فابرق بأرضِكَ ما بدا لك وارْعَد
روى ألقى الحقيبة وهي الخرج، يحمل فيه الرجل متاعه ونحوه.
1 / 14
ويروى: ألقى الحشية وهي ما يركب عليه الراكب: ومن روى: حتى نعله بالرفع، فالهاء في ألقاها يعود على النعل، لا غير، ومن نصب النعل أو خفضها، جاز أن يكون الضمير في ألقاها عائدًا على النعل وجاز أن يكون عائدًا على الصحيفة، ويكون في البيت تقديم وتأخير، كأنه قال: ألقى الصحيفة ألقاها، كي يخفف رحله، والزاد حتى نعله.
والرحل للناقة كالسرج للفرس.
وأنشد أبو القاسم في باب: القسم.
فخالفْ فَلاَ والله تَهْبِط تَلْعَةً ... من الأَرض إِلاَّ أَنتَ للذلِّ عارفُ
هذا البيت: ينسبه قوم إلى مزاحم العقيلي، ولم أجده في ديوان شعره، وأظن أن الذي نسبه إليه توهم أنه من قصيدته التي أولها:
أشاقَتكَ بالعرِينِ دارٌ تأبَّدتْ ... من الْحيِّ واشْتدتْ عَليها العواصف
وليس هذا البيت من هذه القصيدة، ولا فيها معنى يليق بهذا البيت.! ومعنى هذا البيت: أن السائر في بلاد العرب، في غير الأشهر الحرم إن لم يكن له مجير يجيره، ومعاقد يعاقده: سلب في كل موضع، وربما قتل، فكان الرجل الغريب يستجير بسيد الحي، فيكتب له على سهم أو غيره: فلان جاري، أو يصحبه من يسير معه، حتى يخرج من طاعته فيستجير بسيد حي آخر، فلا يزال يفعل ذلك بكل مكان مر به حتى يلحق بحيه، ولذلك قال الأعشي في رجل خرج في شهر حرامٍ، ثم هم الشهر بالانفصال وهو لم يصل إلى أهله، فاعتصم برجل أجاره وحماه، فقال له الرفاد:
فقبلك ما أَوْفى الرّفاد لجاره ... فأنجاهُ مما كان يَخشى ويَرهَبُ
تَداركه في مُنصِل اْلآلِ بَعدما ... مضى غير دَأْدَاءِ، وقد كاد يَعطبُ
والمحالفة: المعاقدة، والمصالحة، وأصلها: أن يحلف كل رجل من الرجلين لصاحبه ألا يغدر به.
والتَّلعة ههنا: المكان المنخفض من الأرض، وقد يكون المرتفع من الأرض، وبيت طرفة يحتمل الأمرين جميعًا وهو قوله:
ولست بِحلاَّل التّلاع مخافةً ... ولكن متى يَسترفِد القومُ أَرْفد
ويروى لبيتةٍ.
فمن جعل التلاع في هذا البيت المرتفعة، فمعناه أنه لا ينزل المواضع المرتفعة، مخافة أن يغار عليه، ويقوي هذا المعنى رواية من روى: لبيتةٍ ومن جعلها الموضع المنخفض كان معناه: أنه لا ينزل المواضع الخفية فارًا من قصد الأضياف إليه؛ لأن اللئيم يخفى مكانه ويقصر سمك بيته لئلا يقصد.
ويؤيد هذا المعنى الثاني قوله: ولكن متى يسترفد القوم أرفد.
وقوله: فلا والله تهبط أراد: فلا والله لا تهبط، فأوقع لا في غير موضعها، كما قال الأعشى:
أَحَلَّ له الشَّيبُ أَثقالَهُ ... وما اغترَّهُ الشَّيبُ ألاّ اغْترَارَا
أراد: وما اغْترارًا إلا الشيبُ.
ويمكن أن يكون لما ذكر لا الأولى، أغناه ذلك عن أن يعيدها ثانية.
وقوله: من الأرض إن جعلت من متعلقة يتهبط فلا موضع لها، لتعلقها بظاهر، وإن جعلتها متعلقة بمحذوف فلها موضع، وهي في موضع الصفة لتلعة.
وقوله: إلا أنت للذل عارف: جملة لها موضع من الإعراب لأنها في موضع الحال من الضمير في تهبط.
وأنشد أبو القاسم في هذا الباب:
تَاللهِ يَبقى عَلى الأَيام ذُو حَيَدٍ ... بمشمخِرِّ به الظَّيَّان والآسُ
هذا البيت: يروى لمالك بن خالد الخناعي، كذا في كتاب سيبويه.
وقال أبو جعفر أحمد بن عبيد: أنشدني أبو نصر هذا الشعر لأبي ذؤيب الهذلي، قال: وأبو عمرو يروي هذا الشعر للفضل بن عباس عتبة بن أبي لهب.
ويروى: تالله ولله، وكلاهما قسم فيه معنى التعجب.
ويعني بقوله: ذو حيد الوعل والحيد الروغان والفرار، كذا رواه أبو العباس محمد بن يزيد، ويروى ذو حيد بكسر الحاء، وقال: هو جمع حيدة، بمنزلة: حيضة وحيض.
وكذا رواه أبو سعيد السكري في أشعار الهذليين.
وقيل: هو اعوجاج في قرن الوعل.
والمشمخر: الجبل العالي، والظيان ياسمين البر، والآس: الريحان وقيل الآس: أثر النحل إذا مرت فسقط منها نقط من العسل، حكاه الشيباني.
وقيل: زرق النحل على الصفا.
وقيل: باقي الرماد على الأثافي.
وقال صاحب كتاب العين: الآس شيء من العسل.
والباء في قوله بمشمخر متعلق بكائن، أي كائن بمشمخر.
1 / 15
والباء في قوله: به الظيان لها موضع أيضًا، وهي في موضع الصفة لمشمخر كأنه قال: كائن به الظيان، أو مستقر به الظيان، والظيان على هذا فاعل بالاستقرار، ويجوز أن يكون الظيان مرفوعًا بالابتداء وبه خبره، فيكون الباء على هذا في موضع رفع، وهي في الوجه الأول في موضع خفض، وتتعلق في الوجهين معًا بمحذوف.
وقوله: على الأيام في موضع الحال من ذي حيد؛ أي لا يبقى ذو حيد والأيام متعاقبة عليه، وأراد: على تعاقب الأيام، أو على مرور الأيام، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، وقبل هذا البيت:
يَا مَيُّ إن تفقِدي قومًا وَلدْتِّهِم ... أو تُخْلِسيهم فإنَّ الدَّهر خلاَّسُ
عَمرو وعبد مناف والّدِي عهدت ... ببطن مكة آبِي الضَّيم عبَّاسٌ
ويروى: ببطن عرعر، كذا رواه أبو سعيد السيرافي، وأبو علي الفارسي.
وأنشد أبو القاسم في هذا البيت:
فقْلتُ يمينَ اللهِ أَبرحُ قَاعِدًا ... وَلوْ قطَعُوا رَأسِي لَدَيك وأَوْصالي
هذا البيت: من مشهور شعر امرئ القيس، وقد ذكرنا اسمه وكنيته فيما تقدم.
والأوصال الأعضاء، واحدتها وصل.
ومعنى: لديك: عندك.
وأبرح: أزال.
وجواب لو محذوف لتقدم ما أغنى عنه، كأنه قال: ولو قطعوا رأسي ما برحت! وأنشد أبو القاسم في هذا الباب:
فقَالَ فريق القوم لمَّا نَشَدْتُهم ... نَعم، وفريق. لَيْمُن الله مَا نَدرِي
هذا البيت: لنصيب، وكان عبدًا أسود، لرجل من أهل وادي القرى فكاتب على نفسه، ومدح عبد العزيز بن مروان، فاشترى ولاءه.
ويكنى: أبا محجن، وزعم ابن قتيبة أن كنيته: أبا الحجناء، وأنشد لكثير يهجوه:
رَأيت أبا الحجْنَاءِ في النَّاس جائزا ... ولَون أبي الحجنَاءِ لَون البهائم
تراه على ما لاَحَه من سَوَادِه ... وإن كان مظلومًا له وَجه ظالمِ
ونصيب اسم منقول، يحتمل أن يكون تصغير نصب وهو حجر كانوا يذبحون عليه ما يقربون للأصنام، قال الله تعالى: ".. وما ذبح على النصب ".
ويحتمل أن يكون تصغير نصب وهو التعب، أو تصغير نصب مفتوح النون ساكن الصاد - وهو ما نصب - فعبد من دون الله قال الله تعالى: " كأنهم إلى نصب يوفضون ".
ويحتمل أن يكون تصغير نصاب، أو نصيب، ويكون مصغرًا. مرخمًا.
وروى الأصفهاني بسند أخبر به أبو بكر بن دريد، قال: لقيت يومًا نصيبًا بباب هشام بن عبد الملك، فقلت له: يا أبا محجن، لم سميت نصيبًا؟ ألقولك في شعرك: عاينها النصب؟! فقال: لا، ولكني ولدت عند أهل بيت من ودان، فقال سيدي: ائتونا به ننظر إليه، فقال: إنه لمنصب الخلق، فسميت النصب ثم اشتراني عبد العزيز بن مروان فأعتقني.
فهذا الخبر يقتضى أن يكون تصغير: منصب، وهو المشرف في استواء، ورخم فحذفت زوائدة، كما أنك لو صغرت محمدا ورخمته لقلت: حميد.
وأما المحجن: فعصا معقفة الطرف، يقال لها: القسقاسة وصحفتها العامة فقالت: الكسكاسة.
والحجناة: تأنيث الأحجن، وجمع الأحجن: حجن، قال النابغة:
خطاطيف حجن في حبال منيفةٍ ... تمد بها أيدٍ إليك نوازع
وهو المعوج المعتف.
والشعر الذي فيه هذا البيت من أجود شعره، وهو قوله فيها:
أَلاَ يا عُقَابَ الوَكْرِ وكْرِ ضريَّةٍ ... سُقيتَ الغوادي من عُقابٍ ومن وَكر
تَمرّ اللّيالي والشُّهور ولا أَرَى ... مُرورَ الليالي منْسِياتي ابنةَ العمْرِ
تقول: صِلينا واهجرينا، وقد تَرَى ... إذا هَجرت أن لا وصال مع الهجْرِ
فلم أرْضَ ما قالتْ ولم أبد سُخْطَةً ... وضاق بما جَمْجَمتُ من حبها صدرِي
ظلِلْت بذي ودَّانَ أنشد بَكْرَتِي ... ومالي عليها من قَلُوص ولا بكْرِ
وما أَنْشُدُ الرُّعيانَ إلاّ تَعِلّةً ... لواضحة الأنياب طَيّبة النشْر
فقال لي الرُّعيانُ: لِمْ تَلْتَبِسْ بنا؟ ... فقلت: بلى، قد كنتُ منها على ذكرِ!
وقد ذكرن لي بالكئيب مؤالفا ... قِلاصَ عَدِيّ، أو قلاصَ بني وَبْر
فقال فريق القوم لَماَّ نشدُّنهم: ... نعمْ، وفريق لَيمْنُ الله ما ندرِي
1 / 16
أَمَا والذي حجَّ الملبُّون بيتَهُ ... وعلمَّ أيَّامَ الذبائح والنَّحْرِ
لقد زادني للغَمْر حُبًّا وأهلِهليالٍ أقامتهن ليلى على الغمْر
فهل يأثُمَنِّي الله في أنْ ذكرتها ... وعَّللْت أصحابي بها ليلة النَّفْر
وسكَّنْتُ ما بي من ملال ومن كَرَى ... وما بالمطايا من جُنُوحٍ ومن فَتْرِ
وأنشد أبو القاسم في هذا الباب:
رَضِيَعيْ لِبَانِ ثَدْيِ أمٍّ تَحالفًا ... بأسْحَم دَاجٍ عَوْضُ لاَ نَتَفرَّقُ
هذا البيت: لأعشى بكر، وقد ذكرنا اسمه فيما تقدم.
وهو من شعر يمدح به المحلق بن جشم، الكلابي، واسمه عبد العزيز وسمي المحلق؛ لأن بعيرا عضه في وجهه، فصار فيه كالحلقة.
وقيل: بل كوى نفسه بكية تشبه الحلقة.
وكان خامل الذكر ل اصيت له، وكان له بنات لا يخطبهن أحد: رغبةً عنهن، فمر به الأعشى، فنحر له ناقة، لم يكن له غيرها، وأطعمه وسقاه، فلما أصبح الأعشى قال له: ألك حاجة؟ قال: نعم! - تشيد ذكرى، فلعلني أشهر، ويرغب في بناتي، فنهض الأعشى إلى عكاظ وأنشد هذه القصيدة، فلم يمس حتى خطبت إليه جميع بناته!! وقبل هذا البيت:
لَعَمْرِي لَقْد لاَحَتْ عيونٌ كَثيرةٌ ... إلى ضوء نار باليَفَاع تَحرَّقُ
تشب لمقْرُرَيْن يصْطَليَانِها ... وباتَ على النّار النّدى والمحلَّقُ
ترى الجودَ يجري ظاهرًا فوق وجهه ... كما زَانَ مْتنَ الهندوانيّ روَنقُ
وإنما ذكر النار والمحالفة؛ لأنهم كانوا يتحالفون على النار، وجعل الندى والمحلق كأخوين رضعا لبانًا واحدًا، من ثدي أم واحدة؛ مبالغة في وصفه بالكرم، وذكر أنهما تحالفا وتعاقدا ألا يفترقا أبدًا، كما قال الآخر:
وإنّ خَلِيليْك السّماحةَ والنَّدى ... مقيمان بالمعروف ما دمتَ تُوجَدُ
وعوض ضم كان لبكر بن وائل، وقيل: هو اسم من أسماء الدهر، وزعم المازني: أنه يضم ويفتح ويكسر، وأصله: أن ما كان من أسماء الدهر أن يكون ظرفًا، كقولهم: لا آتيك عوض العائضين، كما يقال: دهر الداهرين، ثم كثر حتى أجراه مجرى أدوات القسم.
وفي قوله: بأسحم داج سبعة أقوال: ١ - قيل: هو الرماد، وكانوا يحلفون به كما يحلفون بالنار، قال الشاعر:
حلفتُ بالملح والرَّماد والنَّار ... وبالله نُسْلِمُ الحَلقَة
حتى يَظلّ الجوادُ مُنْعَفِرًا ... ويخْضِب النَّبلُ غُرَّة الدَّرَقة
٢ - وقيل: أراد الليل.
٣ - وقيل: أراد الرحم.
٤ - وقيل: أراد الدم؛ لنهم كانوا يغمسون أيديهم فيه إذا تحالفوا، حكى هذه الأقوال الأربعة يعقوب.
٥ - وقال غيره: يعني حلمة الثدي.
٦ - وقيل: يعني زق الخمر.
٧ - وقيل: يعني دماء الذبائح التي كانت تذبح للأصنام.
وجعله أسحم لأنه إذا يبس اسود، وهذا نحو قول النابغة:
وَمَا هُريق على الأَنْصَابِ مِنْ جَسَدٍ.
وأبعد هذه الأقوال؛ قول من قال: إنه أراد الرماد؛ لأن الرماد لا يوصف بأنه أسحم ولا داج وإنما يوصف بأنه أزرق.
وأما الدم فقد وصفه الطرماح بالسواد في قوله يصف ثورًا
فبات يقاسي ليل أَنْقد دائبا ... ويحدُرُ بالقفِّ اختلاف العُجَاهنِ
كطوف مُتلى حجة بين غبغبٍ ... وَقرٍّ مسود من النُّسكِ فاتِنِ
وقوله: تشب: أي توقد، والمقرور الذي أصابه القر، وهو البرد وخصه، لأنه يشعل النار لشدة حاجته إليها.
ومعنى لاحت نظرت وتشوفت إلى هذه النار، حكى الفراء: لحت الشئ إذا نظرته، وأنشد:
وأحمر من ضرب دار الملوك ... تَلُوحُ على وَجهه جعفرا
بالتاء على الخطاب - وقال معناه تنظر على وجهه جعفرا.
وجعل النار في يفاع، لأنه أشهر لها، ولأنها إذا كانت في يفاع - وهو الموضع المرتفع - أصابتها الرياح فاشتعلت.
وأما الإعراب: فإن قوله: رضيعي ينصب على أربعة أوجه: - إن شئت كان حالا، وقوله: على النار خبر بات: - وإن شئت جعلت رضيعي خبر بات وعلى النار في موضع الحال.
- وإن شئت كانا خبرين.
- وإن شئت نصبت رضيعي على المدح
1 / 17
- وإن شئت جعلت الرضيع بمعنى الراضع كقولهم: قدير بمعنى قادر، وعليم بمعنى عالم، فيكون متعديا إلى مفعول واحد، وإن شئت جعلته بمعنى مرضع كقولهم: رب عقيد بمعنى معقد فيتعدى إلى مفعولين.
ومن خفض ثدي أم جعله بدلا من لفظ اللبان، ومن نصبه أبدله من موضعه، لأنه في موضع نصب، ولا بد من تقدير مضاف محذوف في كلا الوجهين كأنه قال: رضيعي لبان ثدي أم.
ويجوز أن يكون ثدي مفعولا سقط منه حرف الجر كأنه قال: رضيعي لبانٍ من ثدي أم.
وقوله: عوض لا نفترق من جعل عوض اسم ضمٍ جاز في إعرابه ثلاثة أوجه: أحدهما أن يكون مبتدأ محذوف الخبر، كأنه قال: عوض قسما الذي يقسم به. ويجوز أن يكون في موضع نصب على أن يقدر فيه حرف الجر وتحذفه كقولك: يمين الله لأفعلن.
ويجوز أن يكون في موضع خفض، على إضمار حرف القسم، وهو أضعف الوجوه.
ومن اعتقد هذا لزمه أن يجعل الباء في قوله: بأسحم بمعنى في ويعني بالأسحم الليل، أو الرحم.
ولا يجوز أن يكون الباء في هذا الموضع للقسم، لأن القسم لم يقع بالأسحم؛ إنما وقع بعوض الذي هو الضم: ومن جعل عوض من أسماء الدهر، ففيه وجهان: أحدهما أن يكون بدلا من أسحم، ويكون القول فيه كالقول في الوجه الأول: والوجه الثاني: أن يكون القسم بالأسحم، فتكون الباء فيه باء القسم، ويكون عوض ظرفًا، كأنه قال: لا نتفرق عوض، أي لا نتفرق طول دهرنا.
وقوله: لا نتفرق جاء جواب القسم، على حكاية لفظ المتحالفين الذين نطقا به عند التحالف، ولو جاء به على لفظ الإخبار عنهما لقال: لا يفترقان، كما تقول: حلف الزيدان لا يخرجان، إذا أخبرت عنهما، ولم تحك لفظهما، فإن حكيت لفظهما قلت: حلف الزيدان لا نخرج.
وأنشد أبو القاسم في باب اسم الفاعل:
بَدَا لِيَ أنِّي لَسْتُ مُدرِكَ مَا مَضى ... ولا سَابِقًا شَيئًا إِذَا كانَ جَاثِيا
وهذا البيت: يروي لزهير بن أبي سلمى، ويروي لصرمة الأنصاري، ويروي لابن رواحة الأنصاري.
وزهير: اسم منقول، ويحتمل أن يكون تصغير زهر، ويحتمل أن يكون تصغير أزهر وزاهر، فيكون مصغرًا مرخمًا.
أما سلمى: فاسم مرتجل غير منقول، مشتق من السلامة.
وصرمة منقول من الصرمة التي هي القطعة من الإبل - من عشرة إلى أربعين.
ورواحة مرتجل مشتق من الروح.
وقوله: أني لست مدرك ما مضى جملة في موضع رفع على فاعل بدا، كأنه قال: بدا لي امتناعي من إدراك ما مضى.
وقوله: لست مدرك ما مضى: جملة في محل رفع، على خبر أن كأنه قال: إني غير مدرك ما مضى.
ويجوز في سابق النصب بالعطف على مدرك، والرفع على إضمار مبتدأ والخفض على توهم الباء في مدرك، كأنه قال: لست بمدركٍ ولا سابقٍ، أجاز ذلك سيبويه.
ومن النحويين من لا يجيز الخفض، ومثله قول الأحوص:
مشائيمُ ليسُوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعبًا إلاَّ ببين غُرابُها
ويجوز أن تكون ما موصولة بمعنى الذي، ومضى صلة لها، ويجوز أن تكون اسمًا منكورًا، ومضى في موضع خفض على الصفة لها، كأنه قال: مدرك شيءٍ مضى - ويقوى ذلك ذكره الصفة بعد ذلك، فيكون بمنزلة قول الآخر:
رُبَّما تكّرَهُ النُّفوسُ من الأمْ ... رِ لَهُ فرْجةٌ كحَلِّ العِقالِ
وأنشد أبو القاسم في هذا الباب:
إنِّي بِحَبْلِكَ وَاصِلٌ حَبْلِي ... وبريشِ نَبْلِكَ رائشٌ نَبْلِي
هذا البيت: يروي لامرئ القيس بن حجر، ويروي لامرء القيس بن عائش، وكلاهما من كندة.
وعائش: اسم منقول من الصفة، وحجر اسم منقول من النوع؛ لن الحجر، والحجر - بالضم والكسر الحرام؛ قال الله تعالى: " ويقولون حجرًا محجورًا " أي: حرمًا محرمًا، وتقول العرب: حجرًا له وحجرا، أي دفعًا ومنعًا له، قال الراجز:
قالت وفيها حَيْدَةٌ وذُعْر ... عَوْذٌ بِرَبِّي منكم وحُجْر
ومعنى هذا البيت: أنه مثل مضروب للموافقة والمتابعة، يقول أصل حبلى بمن وصلت به حبلك من الأوداء، وأريش نبلي بمن رشته نبلك من الأعداء. وبعده:
مَا لَمْ أَجِدْكَ عَلى هُدَى أَثَرٍ ... يَقرُو مَقصَّكَ قائِفٌ قَبلي
وَخَلائِقي مَا قَد عَلمْتَ وَمَا ... نَبحَتْ كلابُك طَارقًا مِثلي
إِنِّي لأصْرِم مَنْ يُصارِمُنِي ... وأجِدُّ وصْلَ مَن ابتغى وصلي
1 / 18
وأنشد أبو القاسم في هذا الباب:
وكَمْ مالئٍ عينيهِ من شَيءٍ غَيرهِ ... إذَا رَاحَ نَحوَ الجمرة الْبيضُ كالدُّمَى
هذا البيت: لعمر بن أبي ربيعة، ويكنى أبا الخطاب.
وعمر معدود في الأسماء المرتجلة، وإن كان معدولًا عن عامر.
المعدود في الأسماء المنقولة من الصفات.
فإن قلت: رجل عمر، إذا كان كثير الاعتمار، وقالوا: عمرة الحج وجمعها عمر، فما الذي يمنع أن يكون منقولًا من أحدهما؟ قيل: يمنع من ذلك أنه لو كان منقولًا من أحدهما لانصرف.
وأما ربيعة فبيضة السلاح.
وهذا الشعر قاله عمر بن أبي ربيعة في بنت مروان بن الحكم، وكانت قد حجت وأحبت أن تراه، وخشيت أن يتغزل بها فيفضحها، فدست إليه امرأة ساقته في الليل معصوب العينين؛ لئلا يعلم إلى أين يحمل، فأخذ في يده شيئًا من حناء، فلما وصل إلى الخباء مس بتلك الحناء حاشية الخباء، فلما دخل أزيلت العصابة عن عينيه، وحادثته مدة من الليل، فلما حان انصرافه عصبت عيناه وحمل مقودًا إلى منزله، فلما أصبح قال لبعض غلمانه: اذهب فطف بين الأخبية، فإذا وجدت حناء على خباء، فسل لمن هو؟ فذهب الغلام، وعاد إليه، فأخبره: أنه خباء بنت مروان بن الحكم، ورأت هي أثر الحناء في حاشية الخباء، فعلمت أنه هو الذي فعل ذلك! فوجهت إليه ألف دينار، ورغبت إليه ألا يفضحها، فاشترى بهات عطرًا وبزًا وأهداه لها فأبت أن تقبله فقال: والله لئن لم تقبليه لأنهينه في الناس، فيكون أشهر للأمر، فقبلته! وقال في ذلك ولم يسمها:
وكمْ مِنْ قتيل لا يُباءُ به دَمُ ... ومن غَلِقٍ رهْنًا إذا ضَمَّه مِني!
وكَمْ مَالئِ عَيْنيْه من شيءِ غَيره ... إذا راح نحوَ الجمرةِ البيضُ كالدُّمَى!
يجرُّون أذيال المرُوطِ بأسْوقٍ ... خدَالٍ إذا وَلَّينَ أعْجازها رِوَى
أوَانِسُ يَسْلبْنَ الحليم فُؤَادَه ... فيا طولَ ما جُزْنَ ويا حُسنَ مجتلى
فلم أرَ كالتجمير مَنْظرَ نَاظِرٍ ... ولا كلَيالِي الحجِّ أقْلتْنَ ذَا هَوى
وقوله: لا يباء به دم، أي لا يؤخذ له قود، ويقال أبأت فلانًا بفلان، إذا قتلته به. ولا يكاد يستعمل إلا والثاني؛ كفوء للأول.
وقوله: ومن غلق رهنًا؛ منصوب على التمييز، أراد ومن رجل غلق رهنه، ثم نقل الضمير إلى الصفة فصار بمنزلة حسن وجهًا.
وأجاز أبو العباس محمد بن يزيد نصبه على الحال، وخفضه على البدل من غلق.
ومعنى غلق الرهن: أن يثبت عند المرتهن فلا يقدر على فكاكه.
ويروى البيض بالرفع، وهو المشهور.
وروى بعضهم البيض بالخفض على البدل من شيء كأنه قال: وكم مالئ عينيه من البيض كالدمى.
والمروط: أكسية من خز، وتكون من غيره.
والخدال الممتلئة، وكذلك الروى: جمع ريان وهو ممدود، وقصره للضرورة.
والمجتلى: المنظر، وهو مفتعل من قولك: اجتليت الشيء إذا نظرت إليه.
ومعنى أقلتن: أهلكن بالقاف، وتقديم اللام على التاء، والقلت الهلاك، ويروى أقتلن، أي عرضنه للقتل، بالقاف أيضًا وتقديم التاء على اللام، ويروى أفلتن بالفاء وتقديم اللام على التاء، أي خلصنه فانفلت، ولم يفتن بما رأى.
والتجمير من الجمار.
وأنشد أبو القاسم في هذا الباب:
هَلْ أنتَ باعثُ دينارٍ لِحاجَتِنَا ... أَوْ عَبْدَ ربٍّ أخا عَوْنِ بن مخْراقِ
هذا البيت: لا أعلم قائله ودينار هاهنا اسم رجل.
وقوله: أو عبد رب ينتصب بالعطف على موضع دينار، لأنه مخفوض اللفظ، منصوب في المعنى، ويجوز نصبه بإضمار، فعل كأنه قال: أو تبعث عبد رب، وهو الذي ذهب إليه أبو القاسم ﵀ ويجوز: أو عبد رب أخي - بالخفض.
وزعم عيسى بن عمر: أنه سمع العرب تنشده منصوبًا.
وأنشد أبو القاسم في هذا الباب:
الضَّاربون عُميرًا عن بُيوتهم ... بالتَّلِّ يومَ عُميْر ظالِمٌ عَادِي
هذا البيت: للقطامي، وقد ذكر اسمه فيما تقدم من شعره - وهو يمدح به زفر بن الحارث القيسي، وكان أسره ثم أطلقه، وقبله:
نُبِّئتُ قَيْسًا على الحُشَّاكِ قَدْ نَزلُوا ... مِنَّا بحيٍّ على الأضياف حُشَّادِ
فِي الْمجدِ والشَّرف العالي ذوي أمل ... وفي الحياة وفي الأموال زهاد
1 / 19
الحشاك: اسم ماء، وقيل: أرض، وقيل: الذين يحشدون في كرامة الضيف أي يختلطون، وأحدهم حاشد، وهو نحو قول الآخر:
المانعين من الخنا جاراتهم ... والحَاشدين على طعام النَّازل
وأراد ب عمير: عمير بن الحباب السلمي، وكانت تغلب قد قتلته.
والتل موضع كانت فيه وقيعة.
ويروى: الضاربين، والضاربون.
والعادي: المعتدي.
وأنشد أبو القاسم في هذا الباب:
الفارِجُو بابِ الأَميِرِ المُبْهمِ
هذا الرجز لرجل من بني ضبة.
والفارجون من باب الأمير: الفاتحوه، والمبهم: المغلق، يقال: فرجت الباب إذا فتحته، وأبهمته إذا أغلقته، وهذا يحتمل معنيين.
أحدهما: أن تريد أنهم يغلبون الملوك، ويلجون أبوابهم التي قد حصنوها، فيكون كقول الآخر:
حَمَّالُ ألْوِيةٍ شهَّادُ أنْدِيةٍ ... شَدَّادُ أوْهبة فتاح أسداد
والوجه الآخر: أن يريد أنهم أعزة أشراف، إذا وفدوا على الرؤساء لم يمنعوا من الدخول عليهم، فيكون مثل قول الآخر:
مِنَ النَّفَرِ الْبِيضِ الَّذِينَ إِذَا انْتَهواوَهابَ الرِّجالُ حَلْقةَ البابِ قَعْقَعُوا
وهو ضد ما قاله جرير، في هجائه للتيم، وهو قوله:
قوْم إِذا حَضر الملوكَ وُفُودُهم ... نُتِفَتْ شَوَارِبهم عَلى الأَبْوابِ
وأنشد أبو القاسم في هذا الباب:
الحافظو عَوْرَةَ العشِيرة لا ... يَأتِيهم مِنْ ورائنا وَكَفُ
هذا البيت: لقيس بن الخطيم الأنصاري.
وقيْس: اسم منقول وقد ذكرناه فيما تقدم.
الخطيم: من قولهم: خطمت البعير، فهو خطيم، ومخطوم، إذا جعلت في أنفه الخطام، وهو الزمام.
وإنما سمي بذلك؛ لأنه ضرب على أنفه، فبقي فيه أثر الضرب، وقبل هذا البيت.
أَبْلِغ بَنِي جَحْجَبي وقْوْمهُمْ الْ ... أَشْرافَ أنَّا وراءَهم أُنُفُ
وإنَّنا دُونَ ما يَسُومُهُم الْ ... أعداء من ضَيْمِ خُطَّةٍ نُكْفُ
العورة: المكان الذي يخاف منه العدو.
والوكف ههنا: العيب، ويروى نطف وهو نحو الوكف، والنطف - أيضًا - الربية والتهمة: يقول: نحن نحفظ عورة العشيرة فلا يأتيهم من ورائنا شيء يعابون به من تضييع ثغرهم وقلة رعايته.
هذا على رواية من روى: من ورائنا.
ومن روى: من ورائهم أخرج الضمير مخرج الغيبة على لفظ الألف واللام؛ لأن معنى الحافظوا عورة العشيرة: نحن الذين يحفظون، كما تقول: أنا الذي قام؛ فخرج الضمير مخرج الغيبة وإن كنت تعني نفسك، لأن معناه: أنا الرجل الذي قام، وقد يقولون: أنا الرجل الذي قمت، فعلى هذه - الرواية - رواية من روى: من ورائنا.
ومثل قول الآخر:
وأنا الّذي قتلتُ بكرًا بالقَنَا ... وتركت تغلب غير ذَاتِ سَنامِ
وأنشد أبو القاسم في هذا الباب:
يَا رُبَّ غَابِطِنا لَوْ كَانَ يَطلبُكُمْ ... لاَقَى مُبَاعَدَةً مِنْكُم وَحِرْمَانا
هذا البيت: لجرير بن عطية بن حذيفة، من بني كلب ابن يربوع.
وجرير من الأسماء المنقولة؛ لأن الجرير زمام البعير، قال الشاعر:
يرى في كف صاحبه حِلاه ... فَيعجبه ويُفْزعه الجرير
وسمي جريرًا: لأن أمه كانت ترى في نومها وهي حامل به أنها تلد جريرًا، فكان يلتوي على عنق رجلٍ فيخنقه، ثم في عنق آخر، حتى كاد يخنق عدةً من الناس، ففزعت من رؤياها، وقصتها على معبر، فقال لها: إن صدقت رؤياك ولدت ولدًا يكون بلاءً على الناس، فلما ولدته سمته جريرًا لما كانت رأت في النوم، فكان تأويل رؤياها أنه هاجى ثمانين شاعرًا، فغلبهم كلهم إلا الفرزدق!.
وعطية منقول من العطية، ويراد بها الهبة: وحذيفة منقول، تصغير حذفة، وهي الرمية بالعصا.
ويلقب حذيفة الخطفي بقوله:
يَرفَعنَ بالليل إذا ما أَسْدَفَا ... أعْناقَ جِنَانٍ وهامًا رُجَّفا
وعَنَقًا باقي الرسيم خَيطَفا
ويروى خطيفا، وهو السريع.
ويكنى جرير: أبا حرزة، بابن كان له، والحرزة: الفعلة من حرزت الشيء، إذا حرصته، والحرزة أيضًا: خيار المال، وفي الحديث: " لا تأخذوا من حررات أموال الناس شيئًا ".
والحرزة - أيضًا -: حموضة اللبن.
وقبل بيت جرير:
إنَّ العُيُونَ الَّتي في طَرْفها حَوَرٌ ... قَتلْنَنَا ثم لم يُحْيِينَ قتلاَنا
1 / 20