المقالة الثالثة
<1> قال الحبر: صفة المتعبد عندنا ليس بمنقطع عن الدنيا كي لا يصير كلا عليها وتصير كلا عليه، فيبغض حياته التي هي من نعم الله عليه ويمتن بها عليه كقوله את מספר ימיך אמלא، بل يحب الدنيا وطول العمر، لأنها تكسبه الآخرة، وكل ما زاد حسنة رقي درجة في الآخرة، نعم أنه يود لو يصير في رتبة חנוך الذي قيل فيه ויתהלך חנוך، أو رتبة אליהו ليتفرغ حتى يتفرد لصحبة الملائكة فلا يتسوحش في الوحدة والخلوة، بل هي أنسه. ويستوحش في الملأ لفقده مشاهدة ملكوت السماء التي تغنيه عن الأكل والشرب. فلمثل هؤلاء يحق بالتفرد التام، بل يتمنون الموت إذ قد بلغوا النهاية التي ليس بعدها درجة ترجي زيادتها. وللعلماء المتفلسفة حب في التفرد لتصفو أفكارهم لينتجوا من قياساتهم نتائج حق، حتى يحصل لهم اليقين في ما تبقى عليهم من الشكوك. ويريدون مع هذا لقاء تلاميذ يدعونهم إلى البحث والتذكر كمن ولع بجمع المال، فهو يكره الاشتغال إلا مع من يتاجره فيربح معه. وهذه درجة سقراط ومن أشبهه. وهؤلاء أفراد لا مطمع في درجتهم اليوم. نعم إن بحضرة الשכינה في الأرض المقدسة في الأمة المهيأة للنبوة كان خلق يتزهدون ويسكنون القفار مجتمعين مع من شاكلهم لا متفردين بالجملة، بل يتعاونون على علوم الشريعة وأعمالها المقربة إلى تلك الدرجة بקדושה وبטהרה وهم בני הנביאים وأما في هذا الزمان وهذا المكان وهذا الخلق ואין חזון נפרץ، مع قلة العلم المكتسب وعدم ذلك العلم المطبوع. من حصل نفسه في الانقطاع بالزهادة فقد حصل نفسه في عذاب ومرض نفسي وجسمي فيرى عليه تذلل الأمراض فيظن أنه تذلل بالخشوع والخضوع ويحصل مسجونا يكفر بالحياة ملالا لسجنه وآلامه، لا التذاذا بالتفرد. وكيف لا؟ وهو لم يتصل بنور إلهي يأنس إليه كالأنباء، ولا حصل علوما ما تفي بأشغاله وتلذيذه بقية عمره كالفلاسفة. وهب أنه ورع خير محب في مناجاة ربه في الخلوة والقيام والتضرع والتحنن ما عساه أن يحفظ من الתחנונים والבקשות وهذه المبتدعات إنما لها لذة أيام مهما تطرأ، وكل ما تكررت على اللسان لم تنفعل لها النفس، ولا وجد لها شجا وتحنينا، فيبقى الليل والنهار ونفسه تطلبه بقواها التي طبعت عليها من النظر والسمع والكلام والتصرف والأكل والشرب والنكاح والربح في الأموال والإصلاح على الأهل ومشاركه، الضعفاء ومعاونة الشريعة بالمال إذا رأى اختلالا، أليس يبقى منتشبا نادما على ما ربط نفسه إليه، فيزيد بندامته بعدا من الأمر الإلهي الذي رام قربه.
<2> قال الخزري: فلتصف لي أعمال خيركم الآن.
<3> قال الحبر: إن الخير هو المحافظ على مدينته، يقسط ويقدر على أهلها أرزاقهم وجميع حاجتهم، ويعدل فيهم بحيث لا يغبن أحدهم ولا يعطيه فوق حقه الذي يستحقه، ثم يجدهم في وقت حاجته إليهم مطيعين سريعي الإجابة لدعوته يأمرهم فيأتمرون وينهيهم وينتهون.
<4> قال الخزري: عن خير سألتك لا عن رئيس.
<5> قال الحبر: الخير هو من كان ريسا مطاعا على حواسه وقواه النفسانية والبدنية وسوسها السياسة المدنية كما قيل ומושל ברוחו מלוכד עיר وهو المهيا للرياسة لأنه لو رأس مدينة لعدل فيها كما عدل في بدنه ونفسه، فقمع القوى الشهوانية ومنعها عن الانهمال بعد انصافها واعطائها ما يسد خللها بالطعام القصد والشراب القصد والاسحمام وأسبابه بقصد أيضا، وقمع أيضا القوى الغضبية الطالبة لظهور الغلبة، بعد انصافها وإعطائها حظا في الغلبة النافعة من مناظرات العلوم والآراء وزجر أهل الشر وأعطى الحواس حظها فيما يعود نفعه عليه، فيصرف اليدين والقدمين واللسان في الأمر الضروري وفي الاختيار الأنفع. وكذلك السمع والبصر والحس المشترك تابع لهما. ثم التخيل والوهم والفكر والذكر، ثم القوة الإرادية المصرفة لجميع هذا وهي مصرفة خادمة لاختيار العقل، ولا يدع أحدا من هذه الأعضاء والقوى أن ينهمل في ما يخصه وحده، فيبخس الباقية.
ولما قضى حاجة كل واحدة منها وأعطى الطبيعية ما يكفيها من السكون والنوم، والحيوانية ما يقوتها من اليقظة والحركة في أعمال الدنيا، دعا حينئذ جماعته كالريس المطاع يدعو عسكره المطيع إلى ما يعينه على الإتصال بالرتبة التي فوقها، أعني الرتبة الإلهية التي فوق الرتبة العقلية، فيرتب جماعته وينظمها يحاكي ترتيب משה רבינו ע"ה جماعته حول הר סיני، ويوصي القوة الإرادية أن تكون قابلة مطيعة لما يرد من عنده من أمر، فتمتثله من حينها، فتصرف القوى والأعضاء على ما يأمر دون خلاف، ويوصيها إلا تلتفت إلى شياطين الوهمية والمتخيلة، ولا تقبلهما ولا تصدقهما حتى تشار العقل، فإن جوز ما عندهما قبلته، وإلا عصتهما، فتقبل الإرادية ذلك منه تصمم على امتثاله، فتسدد آلات الفكر وتخلية من كل ما تقدم من الأفكار الدنيائية وتكلف المتخيلة إحضار أبهج الصور الموجودات عندها بمعونة الذكر لتحاكي به الأمر الإلهي المطلوب مثل מעמד הר סיני، وמעמד אברהם وיצחק בהר מוריה ومثل משכן משה ע"ה وסדר העבודה وحلول الכבוד في البيت، وغير ذلك كثير ويأمر الحافظة أن تودع ذلك ولا تنساع ويزجر الوهمية وشياطينها من تشويش الحق وتشكيكه، ويزجر الغضبية الشهوانية عن تمييل الإرادية وتحريفها وإشغالها بما عندهما من غضب وشهوة.
وبعد هذه التوطئة تنهض القوة الإرادية جميع الأعضاء المتصرفة لها بنشاط وحرص وفرح، فتقف في وقت وقوف من غير كسل، وتسجد عند ما يأمرها بالسجود، وتقعد حين القعود، وتشخص الأعين شخوص العبد إلى مولاه، وتقف اليدان عن عبثهما ولا تجتمع الواحدة بالأخرى. وتستوي القدمان للوقوف، وتقف جميع الأعضاء كالباهتة الخائفة لطاعتها لسائسها، لا يهمها إن بها الما أو كلالا، ويكون اللسان مطابقا للفكر إلا يفضل عنه، ولا ينطق في صلاته على سبيل الاعتياد والملكة كالزرزور والببغاء، بل مع كل كلمة فكرة ورؤية فيها، فيصير وقته ذاك لباب زمانه وثمرته، وتصير سائر أوقاته كالطرق الموصلة إلى ذلك، يتمنى قربه إذ فيه يتشبه بالروحانيين ويبعد عن البهيميين، فصارت ثمرة يومه وليلته تلك الثلاثة أوقات الصلاة، وثمرة الأسبوع يوم السبت، إذ كان موقوفا للاتصال بالأمر الإلهي وعبادته בשמחה لا بخشوع كما تبين. وترتيب هذا من النفس تتكدر كل ما بعد وقت الصلاة عنها كما يرد عليها من اشغال الدنيا، لا سيما أن دعت الضرورة إلى صحبة صبيان ونساء وأشرار فيسمع ما يكدر صفاء نفسه من كلمات فاحشة وأعاني تطرب إليها النفس ولا يقدر على ملكها. وعند الصلاة يطهر نفسه مما سلف ويهييها للمستأنف، ثم لا يمر أسبوع على هذا الترتيب إلا وقت سيمت النفس والبدن وقد اجتمعت فضول مكدرة مع طول الأسبوع لا يمكن تطهيرها وتنظيفها إلا باتصال عبادة يوم مع راحة البدن، فيستوفي البدن في السبت ما فاته الستة أيام، ويستعد للمستأنف. والنفس أيضا تتذكر ما فاتها مع شغل البدن، وكأنها ذلك اليوم متعالجة متداوية من مرض متقدم ومستعدة بما يدفع عنها المرض في المستأنف، شبيها بما كان يفعل أيوب في كل أسبوع بأولاده كما قال אולי חטאו בני. ثم يستأنف العلاج الشهري الذي هو זמן כפרה לכל תולדותם، يعني תולדות החדשים، حوادث الأيام كقوله כי לא תדע מה ילד יום ثم يستأنف שלש רגלים، ثم يوم الصوم المعظم الذي فيه التبري عن خطأ سلف، ويستدرك فيه كل ما فاته في أيام الأسابيع الشهور، وتتبرأ النفس من الوساوس الوهمية والغضبية والشهوانية، وتتوب عن مساعدتها بتة فكرا أو فعلا. وإن لم تمكن التوبة عن الفكر لغلبة الخواطر عليها بما سلف لها من حفظ ما سمعت منذ الصبا من اشعار واخبار وغير ذلك تبرأت من الفعل، واعتذرت من الخواطر والتزمت ألا تذكرها باللسان فضلا عن أن تفعلها، وكما قيل זמותי בל יעבר פי. وصيامه ذلك اليوم صياما يقارب به التشبه بالملائكة، لأنه يقطعه بالخشوع والخضوع والوقوف والركوع والتسبيح والتهليل. وجميع قواه البدنية صائمة عن الأمور الطبيعية مشغولة بالشريعة كأنه ليس فيه طبع بهيمي. وكذلك يكون صوم فاضل متى صام، أن يصوم فيه البصر والسمع واللسان فلا يشغلها بغير ما يقرب إلى الله تعالى. وكذلك القوى الباطنة من خيال وفكر وغير ذلك، ويقترن بذلك الأعمال الصالحة.
<6> قال الخزري: الأعمال معلومة.
<7> قال الحبر: الأعمال السياسية والنواميس العقلية هي المعلومة. وأما الإلهية المزيدة على تلك لتحصل في ملة אל חי يدبرها فليست معلومة حتى تأتي من عنده مفسرة مفصلة. نعم ولا تلك السياسية العقلية وإن عرفت ذواتها فليس يعرف تقديرها. لأنا نعرف أن المواساة والمشاركة واجبة، ورياضة النفس بالصوم والخضوع واجب، والجبن قبيح، والإنهمال مع النساء قبيح، وإتيان بعض القرابة قبيح. وبر الوالدين واجب، وما أشبه ذلك. لكن تحديد ذلك وتقديره بحيث يصلح للكل فإنما هو لله تعالى. وأما الأعمال الإلهية فلا مجال فيها لعقولنا وليست مدفوعة عند العقل، لكن العقل مقلد فيها كما يقلد العليل بالطبيب في أدويته وتدابيره. ألا ترى الמילה ما أبعدها عن القياس، ولا مدخل لها في السياسة؟ وقد امتثلها אברהם على صعوبة الأمر عند الطبيعة وهو بن مائة عام، في نفسه وفي ولده. وصارت אות ברית ليتصل به وبنسله الأمر الإلهي، كما قال והקימותי את בריתי ביני ובינך ובין זרעך אחריך לדורותם לברית עולם להיות לך אלהים וגו'.
Page inconnue