المقالة الأولى
<1> سئلت عما عندي من الاحتجاج على مخالفينا واهل الأديان ثم على الخوارج الذين يخالفون الجمهور تذكرت ما قد سمعته من حجج الحبر الذي كان عند ملك الخزر الداخل في دين اليهود منذ أربع مائة سنة على ما شهد وجاء في كتاب التواريخ انه تكرر عليه رؤيا كان ملاكا يخاطبه ويقول له إن نيتك مرضية عند الله لكن عملك غير مرضي وكان يجتهد جدا في التعبد في دين الخزر حتى أنه كان يخدم خدمة الهيكل والقرابين بنفسه بنية صافية خالصة. فكلما اجتهد في تلك الأعمال جاء الملاك في الليل يقول له نيتك مرضية وعملك غير مرضي فسبب له ذلك البحث عن الأديان والنحل وتهود آخرا هو وجمهور الخزر.
وكان من حجج الحبر ما أقنعني وطابق اعتقادي فرأيت أن أثبت ذلك الاحتجاج كما وقع והמשכילים יבינו (=والفاهمون يفهمون).
قيل إن ملك الخزر لما رأى في رؤياه أن نيته مرضية عند الله وعمله غير مرضي وأمره في النوم أن يطلب المرضى عند الله سأل فيلسوفا عن معتقده.
فقال له الفيلسوف: ليس عند الله رضى ولا بغض. لأنه تعالى منزه عن الإرادات والأغراض. لأن الغرض يدل على نقصان المغرض. وان تمام غرضه كمال له، ومهما لم يتم فهو نقصان. وكذلك هو منزه عند الفلاسفة عن علم الجزئيات. لان متغيرة مع الأحيان. وليس في علم الله تغير فهو لا يدريك، فضلا عن أن يدري نيتك وأعمالك، فضلا عن أن يسمع صلاتك ويرى حركاتك. نعم وإن قالت الفلاسفة أنه خلقك فعلى المجاز، لأنه علة العلل في خلقة كل مخلوق لا لأنه مقصود من قبله. نعم ولا خلق قط إنسانا لأن العالم قديم لم يزل ينشأ الإنسان من إنسان قبله تتركب فيه صور وخلق وأخلاق من أبيه وأمه وقرابته وكيفيات الأهوية والبلدان والأغذية والمياه، مع قوى الأفلاك والدراري والبروج بالنسب الحاصلة منها، والكل راجع إلى السبب الأول لا عن غرض له، لكن فيض فاض عنه سبب ثان، ثم ثوالث وروابع، وتلازمت الأسباب والمسببات وتسلسلت كما تراها وتلازمها قديم، كما أن السبب الأول قديم لا أول له، فلكل شخص من أشخاص الدنيا أسباب بها يتم. فشخص تكاملت أسبابه فجاء كاملا، وشخص نقصت أسبابه فجاء ناقصا كالحبشي الذي لم يهيأ لأكثر من قبول صورة الإنسان والنطق على أنقص ما يمكن. فالفيلسوف الذي تهيأت له استعدادات يقبل بها الفضائل الخلقية والخلقية والعلمية والعملية ولم ينقصه شيء من الكمال. لكن هذه الكمالات بالقوة يحتاج في إخراجها إلى الفعل إلى التعليم والتأديب فتظهر الهيئات على ما هيئت له من كمال ونقصان وتوسطات إلى ما لا نهاية له، فالكمال يتصل به من النمط الإلهي نور يسمى العقل الفعال يتصل به عقله المنفعل اتصال اتحاد حتى يرى الشخص أنه هو ذلك العقل الفعال لا تغاير بينهما وتصير آلاته أعني أعضاء ذلك الشخص لا تتصرف إلا في أكمل الأعمال وفي أوفق الأوقات وعلى أفضل الحالات وكأنها آلات للعقل الفعال لا للعقل الهيولاني المنفعل الذي كان من قبل يصرفها فكان يصيب مرة ويخطأ مرات. وهذا يصيب دائما. وهذا الدرجة الغاية القصوى المرجوة للإنسان الكامل بعد أن تصير نفسه مطهرة من الشكوك محصلة للعلوم على حقائقها فتصير كأنها ملك فتصير بأدون رتبه من الملكوتية المفارقة للأجساد وهي رتبه العقل الفعال وهو ملك رتبته دون الملك الموكل بفلك القمر وهي عقول مجرده عن المواد قديمة مع السبب الأول لا تخاف الفناء أبدا، فتصير نفس الإنسان الكامل وذلك العقل شيئا واحدا فلا يبالي بفناء جسده وآلاته إذ قد صار وذلك شيئا واحدا وطابت نفسه في الحياة إذ صار في زمرة هرمس واسقلابيوس وسقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس بل هو وهم وكل من كان في درجتهم والعقل الفعال شيء واحد. فهذا الذي يكنى عنه برضا الله على سبيل اللغز أو التقريب فاتبعه واتبع العلم بحقائق الأمور ليصير عقلك فعلا لا منفعلا وألزم أعدل الطرق في الأخلاق والأعمال لأنه معونة في تصور الحق ولزوم التعلم والتشبه بذلك العقل الفعال ويتبع هذا القنوع والخضوع والخشوع وكل خلق فاضل مع التعظيم للسبب الأول لا ليهبك رضاه ولا ليزيل عنك سخطه بل للتشبه للعقل الفعال في إيثار الحق ووصف كل شيء بما يجب له واعتقاده على ما هو عليه. فهذا من صفات العقل فإذ صرت بهذه الصفة من الاعتقاد لا تبالي بأي شرع تشرعت أو تدينت وعظمت وبأي قول وبأي لسان وبأي أعمال أو اخترع لنفسك دينا لمعنى التخشع والتعظيم والتسبيح ولتدبير أخلاقك وتدبير منزلك ومدينتك إن كنت مقبولا منهم أو تدين بالنواميس العقلية المؤلفة للفلاسفة واجعل قصدك وغرضك صفاء نفسك وبالجملة فأطلب صفاء القلب بأي وجه أمكنك بعد تحصيل كليات العلوم على حقائقها فتصادف مطلوبك أعني الاتصال بذلك الروحاني أعني العقل الفعال وربما أنبأك وأمرك بعلم غيب من منامات صادقه وخيالات مصيبة.
<2> قال له الخزري: إن كلامك لمقنع لكنه غير مطابق لطلبتي لأني أعلم من نفسي أني صافي النفس مسدد الأعمال نحو رضا الرب لكن كان جوابي أن هذا العمل ليس بمرضي وإن كانت النية مرضية فلا شك أن ثم عملا ما مرضيا بذاته لا بحسب الظنون، وإلا فإن النصراني والمسلم اللذين اقتسما المعمورة يتقاتلان وكل واحد منهما قد أصفى نيته لله وترهب وتزهد وصام وصلى ومضى مصمما لقتل صاحبه، وهو يعتقد أن في قتله أعظم حسنه وتقرب إلى الله فيقتتلان وكل واحد منهما يعتقد أن مسيره إلى الجنة والفردوس. وتصديقهما محال عند العقل.
<3> قال الفيلسوف: ليس في دين الفلاسفة قتل واحد من هؤلاء، إذ يومون العقل.
<4> قال الخزري: وأي حيرة عند الفلاسفة أعظم من اعتقادهم الحدث، وأن العالم خلق في ستة أيام، وأن السبب الأول يكلم شخصا من الناس، فضلا عن ذلك التنزيه الذي تنزهه الفلاسفة عن معرفة الجزئيات ومع هذا ينبغي على أعمال الفلاسفة وعلومهم وتحقيقهم واجتهادهم أن تكون النبوة مشهورة فيهم شائعة بينهم لاتصالهم بالروحانيات، وأن يوصف عنهم غرائب ومعجزات وكرامات، ولقد نرى المنامات الصادقة لمن لم يعن بالعلم، ولا بإصفاء نفسه. ونجد ضد ذلك فيمن رامه. فدل أن للأمر الإلهي وللنفوس سرا سوى ما ذكرته يا فيلسوف. ثم قال الخزري في نفسه، أسأل النصارى والمسلمين فإن أحد العملين هو لا شك المرضي. وأما اليهود فكفى ما ظهر من ذلتهم وقلتهم ومقت الجميع لهم.
فدعا بعالم من علماء النصارى، فسأله عن علمه وعمله.
فقال له: أنا مؤمن بالحدث للمخلوقات وبالقدم لخالق تعالى وأنه خلق العالم بأسره في ستة أيام وأن جميع الناطقين من ذرية آدم، ثم ذرية نوح، وإليه ينتسبون كلهم. وأن لله عناية بالخلق واتصالا بالناطقين، وسخطا ورضا ورحمة وكلاما وظهورا وتجليا لأنبيائه وأوليائه وحلولا فيما بين من يرضاه من الجماهير، والجملة فكل ما جاء في التوراة وفي آثار بني إسرائيل التي لا مدفع في صدقها لشهرتها ودوامها وعلانيتها في الجماهير العظام. وفي آخرياتها وعاقبة لهم تجسمت اللاهوتية وصارت جنينا في بطن عذراء من أشراف نساء بني إسرائيل وولدته ناسوتي الظاهر ألاهوتي الباطن، نبيا مرسلا في ظاهره إلها مرسلا في باطنه، وهو المسيح المسمى عندنا بابن الله، وهو الأب وهو الإبن وهو روح القدس، فنحن موحدون حقيقة وإن ظهر على لساننا التثليث نؤمن به وبحلوله في بني إسرائيل إجلالا لهم ما لم يزل الأمر الإلهي يتصل بهم، حتى عصى جمهورهم هذا المسيح وصلبوه، فصار السخط مستمرا على جمهورهم، والرضا على الأفراد التابعين للمسيح. ثم على الأمم التابعين لأولئك الأفراد ونحن منهم، وإن لم نكن من ذرية إسرائيل فنحن أولى بأن نتسمى بني إسرائيل لاتباعنا المسيح وأصحابه من بني إسرائيل اثنا عشر مقام الأسباط، ثم جملة من بني إسرائيل تابعت لأولئك الاثنا عشر، صاروا كالخميرة لأمة النصارى واستحقوا درجة بني إسرائيل، وصار لنا الظفر والانتشار في البلاد، وجميع الأمم مدعوون إلى هذا الدين مكلفون العمل به من تعظيم المسيح وتعظيم صليبه الذي صلب عليه وما أشبهه وحكاه. وأحكامنا وسيرنا فمن وصايا شمعون الحواري، وقوانين مأخوذة من التوراة التي نقرأها ولا مدفع في حقيقتها وأنها من عند الله. وقد قيل في الإنجيل عن المسيح ما جئت لأنقص شريعة من شرائع موسى، بل جئت لأعضدها ولأزيدها.
Page inconnue