الْحُدُود فِي الْأُصُولِ
تأليف
القَاضِي أبي الْوَلِيد سُلَيْمَان بن خَلَف بن سَعد بن أَيُّوب الْبَاجِيّ الذَّهَبِيّ الْمَالِكِي
الْمُتَوفَّى سنة ٤٧٤ هـ
1 / 89
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
أما ترجمة المصنّف أبي الوليد الباجي المتوفّى سنة ٤٧٤ هـ، فتقدمت في كتاب الإشارة، ولقد استعنّا بفضل الواحد الأحد الفرد الصمد في تحقيق هذا الكتاب على نسخة مكتبة الأسكوريال - مدريد، تحت رقم [١٥١٤/ ٤] وتقع في [٢٢/ ق] ويوجد بها خرم بمقدار سطر تقريبًا نبّهنا عليه في الهامش.
وليعذرنا طَلَبَة العلم على هذا الجهد القليل الضعيف الحقير.
طالب العلم/ محمد فارس
1 / 91
ل /أ / الورقة الأولى نسخة الأسكوريال
1 / 93
اللوحة الأخيرة من نسخة الأسكوريال
1 / 94
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى اللَّه على محمد وعلى آله وسلم
قال القاضي أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي ﵁:
الحد: هو اللفظ الجامع المانع (١).
معنى الحدّ ما يتميز به المحدود ويشتمل على جميعه، وذلك يقتضي أنه يمنع مشاركته لغيره في الخروج عن الحدّ، ومشاركة غيره له في تناول الحدّ له.
وأصل الحدّ في كلام العرب المنع. قال اللَّه ﵎ ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا﴾ [البقرة: الآية ٢٢٩]. ومنه سُمِّي السجَّان حدَّادًا لمنعه من يُسجن من الخروج والتصرف.
فلما كان في الحدّ ما قدمناه من المنع، صحّ أن يوصف بالحدّ. وهذه العبارة من قولنا "اللفظ الجامع المانع" يتناول الحدَّ وحدَّ الحدِّ وحدَّ حدِّ الحدِّ إلى ما لا نهاية له؛ لأن اسم الحد واقع على جميعها.
العلم: معرفة المعلوم على ما هو به (٢).
لو اقتصرنا من هذا اللفظ على قولنا "العلم المعرفة" لأجزى ذلك، ولم ينتقض طردًا ولا عكسًا، لكنَّا زدنا باقي الألفاظ على وجه البيان لمخالفه من خالف في ذلك.
وقد ترد ألفاظ الحد لدفع النقض، وترد للبيان في موضع الخلاف. وإنما قلنا "المعلوم" ليدخل تحته المعلوم المعدوم والموجود. ولا يصح أن يقال "إنه معرفة الشيء على ما هو به" على قولنا إن المعدوم ليس بشيء، لأن ذلك كان يخرج المعلوم المعدوم عما حددناه، ويوجب ذلك بطلان الحد لقولنا وقول أكثر الأمة إن المعدوم يصح أن يعلم.
_________
(١) التعريفات ص ٧٣.
(٢) التعريفات ص ١٣٥.
1 / 95
بل نعلم ذلك من أنفسنا ضرورة إن علومنا تتعلق بما عُدم من غزوة بدر واحد، وظهور النبي ﷺ وكثير من الصحابة ﵃ ممن وقع لنا العلم به من جهة الخبر المتواتر.
وإنما قلنا "على ما هو به" ولم نقل على صفته، لأن ما يحتمل الصفة لا يكون إلا موجودًا، فكان ذلك أَيضًا يخرج المعدوم عن أن يكون معلومًا.
وإنما قلنا "معرفة المعلوم على ما هو به" ولم نقل اعتقاده على ما هو به، لأن الاعتقاد ليس بعلم، ولا من جنسه، ولذلك نجد كثيرًا من أهل الكفر والضلال يعتقدون الشيء على خلاف ما هو عليه من الإلحاد والاتحاد والتثليث، وليس شيء من ذلك يعلم، لأن العلم لا يتعلق بالمعلوم إلا على ما هو به، والاعتقاد يتعلق بالمُعْتَقَدِ على ما هو به وعلى ضد ذلك وخلافه. واللَّه أعلم.
العلم الضروري: ما لزم نفس المخلوق لزومًا لا يمكنه الانفكاك منه ولا الخروج عنه.
وصفُ هذا العلم بأنه ضروري معناه أنه يوجد بالعالِمِ دون اختياره ولا قصده.
ويوصف الإنسان بأنه مضطر إلى الشيء على وجهين:
أحدهما: أن يوجد به دون قصده. كما يوجد به العمى والخرس والصحة والمرض وسائر المعاني الموجودة به وليست بموقوفة على اختياره وقصده.
والثاني: ما يوجد به بقصده، وإن لم يكن مختارًا له، من قولهم اضطر فلان إلى أكل الميتة وإلى تكفف الناس. وإن كان الأكل إنما يوجد به بقصده.
ووصفنا للعلم بأنه "ضروري" من القسم الأول، لأن وجوده بالعالِمِ ليس بموقوف على قصده.
وقلنا في الحد "ما لزم نفس المخلوق" احترازًا من علم الباري تعالى، فإنَّه ليس بضرورة.
والعلم الضروري يقع من ستة أوجه: الحواس الخمس. وهي حاسة البصر وحاسة السمع وحاسة الشم وحاسة الذوق وحاسة اللمس.
والحاسة على الحقيقة التي يتعلق بها وقوع هذا العلم إنما هو المعنى الموجود بهذه الأجسام دون الأجساد.
1 / 96
والبصر يختص بمعنى تدرك به الأجسام والألوان والأكوان، وهي الحركة والسكون. وحاسة السمع تختص بإدراك الأصوات. وحاسة الشم تختص بإدراك الروائح. وحاسة الذوق تختص بإدراك الطعوم. ولكل واحد من هذه المعاني اختصاص بعضو من الأعضاء، وأما حاسة اللمس فموجودة لكل عضو فيه حياة، وتختص بإدراك الحرارة والرطوبة واليبوسة. وعند بعض العلماء بالصلابة والرخاوة. وهذا كله يجري العادة، وقد يصح مع خرق العادات وجود تعلق كل معنى من تلك المعاني بغير ما شاهد تعلقه به الآن.
وقد يقع العلم الضروري بالخبر المتواتر. وله اختصاص بالسمع بحسب ما تقدّم.
ويقع العلم الضروري ابتداءً من غير إدراك حاسة من الحواس. كعلم الإنسان بصحته وسقمه وفرحه وحزنه وغير ذلك من أحواله، وعلمه بأن الاثنين أكثر من الواحد، وأن الضدين لا يجتمعان وغير ذلك من المعاني.
والعلم النظري: ما احتاج إلى تقدم النظر والاستدلال ووقع عقيبه بغير فصل.
قولنا "نظري" يقتضي اختصاصه بالنظر والاستدلال، وأنه لا يوجد إلا به. وفي ذلك احتراز من العلم الضروري، لأنه لا يحتاج إلى تقدم نظر واستدلال، واحتراز من علم الباري ﵎، فإنه لا يحتاج إلى نظر واستدلال.
وقولنا "ووقع عقيبه بغير فصل" على قول القاضي أبي بكر في قوله إن العلم النظري إنما يقع بعد كمال النظر والاستدلال.
وذهب الشيخ أبو عبد اللَّه بن مجاهد إلى خلاف ذلك، أو أنه يقع مع النظر والاستدلال، وأنه كما وقع جزء من النظر وقع جزء من العلم حتى يكمل النظر، فيكمل بكماله العلم.
والاعتقال: تيقن المعتقد من غير علم.
ومعنى ذلك أن يتيقن بغير العلم. لأن العلم يتضمن التيقن، ومن علم شيئًا تيقنه، وقد يتيقن المتيقن بغير علم، وهذا هو الاعتقاد.
والذي يتميز به اليقين من العلم أن المعتقد يتيقن الشيء وهو على خلاف ما يعتقده، ومحال أن يعلم الشيء، ولا يكون على ما يعلمه.
1 / 97
وقد قال مالك ﵀: إن لغو اليمين هو أن يحلف الرجل على الشيء يتيقنه وهو على خلاف ما حلف عليه.
إنما أوردت هذا القول عن مالك ليبين أن ما ذكرته في اليقين أمر شائع في السلف والخلف.
ولذلك ينقسم الاعتقاد إلى قسمين: صحيح وفاسد. فمن اعتقد الشيء على ما هو به، فاعتقاده صحيح. ومن اعتقد الشيء على ما ليس به، فاعتقاده فاسد، واعتقاده ذلك جهل. ولذلك حددنا الجهل بأنه اعتقاد المعتقد على ما ليس به. واللَّه أعلم.
ويصح أن نريد بقولنا "تيقن المعتقد من غير علم" أنه تيقن ليس من متضمن العلم ولا سببه. والاعتقاد عند القائل بهذا القول أحد أضداد العلم كالشك والظن لأنه إذا كان اليقين من مقتضى العلم خرج عن أن يكون اعتقادًا، وكان علمًا. فهذا عُرْيَ عن ذلك صار اعتقادًا. فمحال اجتماع العلم والاعتقاد لكونهما ضدين خلافيين. واللَّه أعلم.
والجهل: اعتقاد المُعْتَقَد على ما ليس به.
قولنا "اعتقاد المعتقد على ما ليس به" صحيح، لأن الجاهل معتقد لما يعتقده من الموجودات على غير ما هي عليه. ولو اعتقدها على ما هي عليه لم يكن عند كثير من العلماء موصوفًا بالجهل، وإن لم يكن عالمًا بها.
إنما قلنا "على ما ليس به" ولم نقل "على خلاف ما هو عليه" لأن المعدوم لا يوصف بأنه خلافٌ لشيء ولا غيرٌ له. فلو قلنا: على خلاف ما هو عليه، أو على غير ما هو عليه لخرج الجهل بالمعدوم عن أن يكون جهلًا، وذلك يبطل الحد ويوجب فساده.
والشك: تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر (١).
والظن: تجويز أمرين فما زاد لأحدهما مزية على سائرها (٢).
الظن في كلام العرب على قسمين:
_________
(١) التعريفات ص ١١٣.
(٢) التعريفات ص ١٢٥.
1 / 98
أحدهما: أن يكون بمعنى العلم. من قوله تعالى: ﴿نِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (٢٠)﴾ [الحاقة: الآية ٢٠]. وقول الشاعر:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ... سُراتهم بالفارسي المصرد
والضرب الثاني: ليس بمعنى العلم، ولكنه من باب التجويز. وللمظنون مزية على سائر الوجوه التي يتعلق بها التجويز وهذا الجنس هو الذي حددناه
وأما القسم الأول فقد دخل في باب العلم.
ولا يصح الظن ولا الشك في أمر لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا، وإنما يصح فيما يحتمل وجهين وأكثر من ذلك. فإن قوي تجويز أحد الوجوه التي يتعلق بها التجويز كان ظنًّا، وإن استوت كان شكًّا.
والظن في نفسه يختلف، فيقوى تارة ويضعف أخرى ما لم يبلغ حد مساواة هذا الوجه لغيره من الوجوه، فيخرج بذلك عن أن يكون ظنًّا.
والسهو: الذهول.
معنى السهو أن لا يكون الساهي ذاكرًا لما نسي. وهو على قسمين:
أحدهما: أن يتقدمه ذكر ثم يعدم الذكره فهذا يصح أن يسمى سهوًا ويصح أن يسمى نسيانًا.
والقسم الثاني: لا يتقدمه ذكره فهذا لا يصح أن يوصف بالنسيان، وإنما يوصف بالسهو والذهول.
والعقل: العلم الضروري الذي يقع ابتداءً ويعم العقلاء.
فلا يلزمنا على هذا معرفة الإنسان بحال نفسه من صحته وسقمه وفرحه وحزنه، لأن ذلك لا يقع ابتداءً، ولولا وجود ذلك به ما علمه.
وليس كذلك علمنا بأن الاثنين أكثر من الواحد وأن الضدين لا يجتمعان، فإن ذلك يعلمه العاقل من غير حدوث شيء ولا وقوعه ولا إدراك حاسة ولا سماع خبر.
وليس كذلك العلم الواقع عن إدراك الحواس، فإنه لا يقع إلا بإدراك الحواس، وكذلك علم الإنسان بصحته وسقمه، فإنه لا يقع ابتداءً، وإنما يقع بعد أن يوجد ذلك به.
1 / 99
وقاله القاضي أبو بكر إنه يقع ابتداءً، فقد قرن به ما بين هذا، فقال إنه يقع ابتداءً من غير إدراك حاسة، ولم يقل إنه يقع ابتداءً على الإطلاق، وإنما قال إنه لا يحتاج في العلم به إلى إدراك حاسة من الحواس المتقدم ذكرها (١). واللَّه أعلم.
ووجه آخر، وهو أن معرفة الإنسان بمرضه وصحته لا يعم العقلاء، وإنما يختص بذلك من وجد به، وكذلك مخبر أخبار التواتر لا يعم العقلاء وإنما يقع العلم به لمن سمع بذلك الخبر دون غيره على الوجه الذي يقع به العلم. واللَّه أعلم.
وقال القاضي أبو بكر: حد العقل بعض العلوم الضرورية. وكان الشيخ أبو عبد اللَّه بن مجاهد يذهب في حده إلى أنه "مادة تعرف بها حقائق الأشياء" وأنكره أكثر شيويخنا البغداديين، لأنه إن كان أراد بقوله "مادة" أنه من جنس الأجسام والجواهر على ما يذهب إليه الفلاسفة من أنه جوهر بسيط فغير صحيح، لأن الأحكام لا تثبت بالأجسام ولا بالجواهر، ولا تكون عللًا لها، ولذلك لم يكن المتحرك متحركًا بجسم ولا جوهر، ولا الأبيض أبيض ولا الأسود أسود ولا العالم عالمًا ولا الجاهل جاهلًا، وإنما تثبت الأحكام بالأعراض التي هي علل لثبوتها.
وإن كان أراد بقوله "مادة" أنه عرض من الأعراض، فينتقض بالعلم الذي تعلم به حقائق الأشياء، فإنَّه ليس من العقل بسبيل، لأن الحيوان يعلم كثيرًا من الأشياء، فيعلم ما يتقوت به فيقصده، وما لا يتقوت به ويضره فيجتنبه، ويعلم زجر من يزجره فيزدجر، ولا يوصف لذلك أنه عاقل. فوجب أن يكون ما يختص به من يُسمى عاقلًا ويوصف بذلك في لسان العرب وهو الإنسان.
فإذا كان العقل مما يختص به الإنسان من العلوم، فقد قال القاضي أبو بكر بأنه ما يُعلم به أن الاثنين أكثر من الواحد، وأن الضدين لا يجتمعان وهذا يختص بمعرفته الإنسان الذي يختص بالوصف بالعقل دون الحيوان الذي لا يوصف بذلك. وهذا الذي قاله القاضي أبو بكر في هذه المسألة وذهب إليه كثير من شيوخنا.
وأما ما حُدّ به العقل بأنه "بعض العلوم الضرورية" فعندي أنه ينتقض بخبر أخبار التواتر وما يدرك بالحواس من العلوم، فإنه بعض العلوم الضرورية، ومع ذلك فإنه
_________
(١) انظر التمهيد للباقلاني ص ٣٧.
1 / 100
ليس بعقل. وأيضًا فإن هذا ليس بطريق للتحديد، لأن التحديد إنما يراد به تفسير المحدود وتبيينه، وقولنا "عقل" أبين وأكثر تمييزًا مما ليس بعقل من قولنا "بعض العلوم الضرورية" فإنه لا يفهم من لفظ الحد ولا يتميز به من غيره، ولذلك لا يجوز أن يقال في حد الجوهر إنه بعض المحدثات.
فصل: ومحله القلب. هذا الذي ذهب إليه مالك ﵁، وهو قول أهل السنة من المتكلمين.
وقال أبو حنيفة: محله الرأس. وبه قالت المعتزلة.
وتتعلق به مسألة من الفقه، وذلك أن من شج رجلًا موضحة، فذهب عقله، لزمه عند مالك دية العقل وأرش الموضحة، لأنه إنما أتلف عليه منفعة ليست في عضو الشجة، فتكون الشجة تبعًا لها.
وقال أبو حنيفة: إنما عليه دية العقل فقط، لأنه لما شج رأسه وأتلف عليه العقل الذي هو منفعة في العضو المشجوج دخل أرش الشجة في الدية.
والصحيح ما قاله مالك ﵀، والدليل على ذلك قوله تعالى: ﴿فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾ [الحج: الآية ٤٦]، فوصف القلوب بأنها يعقل بها، فلولا أن العقل موجود بها لما وصفت بذلك حقيقة، كما لا توصف الأذن بأنه يُرى بها ولا يُصغي بها. وأيضًا فإنه قال ﴿قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا﴾ [الحج: الآية ٤٦] فأضاف منفعة كل عضو إليه كما فعل في الأذن. وكما قال تعالى: ﴿أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا﴾ [الأعراف: الآية ١٩٥] فأضاف إلى كل عضو المنفعة المخصوصة به، فثبت بذلك أن العقل منفعة القلب ومختص به.
والفقه: معرفة الأحكام الشرعية.
ذهب مشايخنا إلى أن حد الفقه معرفة أحكام المكلفين، ونُقض لهم هذا الحد بأن من الفقه معرفة أحكام من ليس بمكلف من بني آدم وسائر الحيوان.
وجاوب القاضي أبو بكر عن ذلك بأن قال: إن هذا النقض لا يلزم، لأن المكلفين هم المطلوبون بها، وذلك معنى إضافتنا إليهم، ولا يصح على هذا أن يكون حكم لغير مكلف.
1 / 101
وهذا الجواب وإن كان فيه بعض التخلص مما ألزمه الخصم على وجه الجدل، فإن إضافته الأحكام إلى من تتعلق به ممن جنى أو جُني عليه أظهر من تعلقها بمن يحكم في ذلك.
ولذلك يقال حكم جناية فلان وحكم ما جُني على فلان، وحكم ما أفسدت في المواشي. فثبت حكم الجناية بوجودها وإن لم يحكم به حاكم.
والتحرّز من هذا واجب لو تساوى إضافة الحكم إلى من حكم به وإضافته إلى من وجد منه أو وجد به، فكيف إذا كانت إضافته إلى من وجد منه أو وجد به أظهر.
ووجه ثانٍ: وهو أنه لو كان هذا على ما جاوب به لوجب أن يجزئه من هذا الحد قوله "معرفة الأحكام" إذ لا يصح على ما جاوب به أن يضاف حكم إلى غير مكلف. فلم تزد إضافة الأحكام إلى المكلفين إلا إلباسًا.
وعندي أن ما حددته به أسلم من الاعتراض، وهو قولنا "معرفة الأحكام الشرعية" احترازًا من الأحكام العقلية التي لا توصف في عادة المتخاطبين وعرفهم بأنها من الفقه، وإن كان معنى الفقه الفهم. تقول: فهمت ما قال فلان وفقهته. ومن فهم ما قال له قائل من الأحكام الشرعية العقلية صَحَّ بأن يوصف بأنه فقه عنه، وأنه فقيه بذلك. لكن عرف المخاطب قصر ذلك على نوع من العلم، ولذلك لا يوصف العالم بالعربية والحساب والهندسة ولغات العرب وغير ذلك من أنواع العلم بأنه فقيه وإن كنا لا نشك أنه لم يكن عالمًا حتى فقهها وفهمها.
أصول الفقه: ما انبنت عليه معرفة الأحكام الشرعية.
يريد أن أصول الفقه غير الفقه، لأن الشيء لا ينبني على نفسه، وإنما ينبني على سواه مما يكون أصلًا له، ويكون هو مستنبطًا ومأخوذًا منه، ومتوصلًا إليه بذلك الأصل.
وذلك أنه معرفة أحكام الأوامر والنواهي والعموم والخصوص والاستثناء والمجمل والمفصل وسائر أنواع الخطاب والنسخ والإجماع والقياس وأنواعه وضروبه وما يعترض به على كل شيء من ذلك وما يجاوب به عن كل نوع من الاعتراضات فيه، وتمييز صحيح ذلك من سقيمة مما يتوصل به إلى استنباط الأحكام من الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وإلحاق المسكوت عنه بالمنطوق بحكمه.
1 / 102
فكانت هذه المعاني أصولًا للأحكام الشرعية، لأنه لا طريق إلى استنباطها ومعرفة صحيحها من سقيمها إلا بعد المعرفة لما وصفنا بأنه أصل لها.
والدليل: هو الدلالة على البرهان. وهو الحجة والسلطان.
والدليل في الحقيقة هو فعل الدال، ولذلك يقال: استدل بأثر اللصوص عليهم، وإن كان اللصوص لم يقصدوا الدلالة على أنفسهم.
ومن أصحابنا من قال: إن الدليل إنما يستعمل فيما يؤدي إلى العلم. وأما ما يؤدي إلى غلبة الظن فهو أمارة.
وهذا تنويعٌ قُصِدَ به المبالغة، فلم يوصل إلى الحقيقة، لا سيما على قول القاضي أبي بكر "أن كل مجتهد مصيب" لأن المستدل بالدليل المؤدي إلى غلبة الظن قد توصل به إلى العلم والقطع. لأن القياس والمستدل بخبر الآحاد إذا عمل به فقد علم أنه عمل ما أمره به ربه وافترضه عليه، لأن الذي كُلِّف هو الاجتهاد في بلوغ غلبة الظن، وهو متيقن وجود ذلك منه.
وكذلك على قول شيوخنا "إن الحق في واحد" فإن الفرض إنما يتعلق بالاجتهاد إلى غلبة الظن، فإذا وُجِدَ ذلك منه، فقد عُلم قطعا وقوع ذلك منه وأداؤه لفرضه. ولو قلب هذا القول على مقسمه لما كان له طريق إلى إثبات ما اختار منه.
وحدّ الدليل: ما صح أن يرشد إلى المطلوب الغائب عن الحواس (١).
[ومعنى ذلك أن الدليل الذي يصح أن يستدل به ويسترشد ويتوصل به إلى المطلوب، وإن لم يكن استدلالٌ، ولا توَصَّلَ به أحد. ولو كان الباري جل وعلا خلق جمادًا ولم يخلق من يستدل به على أن له محدثًا لكان دليلًا على ذلك، وإن لم يستدل به أحد. فالدليل دليل لنفسه: وإن لم يُستدل به.
فلو قلنا: "إن الدليل ما أرشد إلى المطلوب" لخرج الدليل الذي لم يَسْتَدلَ به أحد عن أن يكون دليلًا محدودًا بذلك الحد.
وقد ذكر القاضي أبو بكر في بعض مصنفاته أن الدليل "هو المرشد إلى المطلوب على وجه التجوز". واللَّه أعلم].
والدال: هو الناصب للدليل.
_________
(١) انظر التمهيد ص ٣٩.
1 / 103
معنى ذلك أنه هو الذي يفعل فعلًا يُستدل به على ما هو دليل عليه. وقد يكون هذا فيمن قصد الدلالة بذلك الفعل وفيمن لم يقصد ذلك، كاللصوص يُستدل على مكانهم بآثارهم. فيسمى فاعل ذلك الأثر دالًا في الحقيقة. فقد يوصل بالفعل من لم يوجد باختياره. فيقال لمن يعلم على ضرورة عالم. واللَّه أعلم وأحكم.
والمستدل: هو الطالب للدليل (١).
المستدل في الحقيقة هو الذي يطلب ما يستدل به على ما يريد الوصول إليه. كما يستدل به المكلف بالمحدثات على محدثها، ويستدل بالأدلة الشرعية على الأحكام التي جعلت أدلة عليها.
وقد سمّى الفقهاء المحتج بالدليل مستدلًا، ولعلهم أرادوا بذلك أنه محتج به الآن، وقد تقدم استدلاله به على الحكم الذي توصل به إليه، ويحتج الآن به على ثبوته.
والمستدل عليه: هو الحكم. وقد يقع على السائل أيضًا.
حقيقة المستَدَلّ عليه هو الحكم، لأن المستدل إنما يستدل بالأدلة على الأحكام، وإنما يصح هذا بإسناده إلى عرف المخاطبين الفقهاء. فقد يستدل بأثر الإنسان على مكانه، وليس ذلك بحكم. ولكن ليس هذا من الأدلة التي يريد الفقهاء تحديدها وتمييزها مما ليست بأدلة.
بل الأدلة عندهم في عرف تخاطبهم ما اشتمل عليه هذا الحد مما يوصف بأنه أدلة عندهم.
وقد يوصف المحتج عليه بأنه مُستدَلٌ عليه، لما تقدم من وصف المحتج بأنه مُستدِل. فإذا كان المحتج مستدلّا صح أن يوصف المحتج عليه بأنه مُستَدَل عليه.
والاستدلال: هو التفكر في حال المنظور فيه طلبّا للعلم بما هو نظر فيه أو لغلبة الظن إن كان مما طريقه غلبة الظن (١).
ومعنى ذلك أن الاستدلال هو الاهتداء بالدليل والاقتفاء لأثره حتى يوصل إلى الحكم.
_________
(١) انظر الإنصاف للقاضي أبو بكر ص ١٥.
1 / 104
والتفكر فيها قد يكون على وجوه، ولذلك خُصّ منها التفكر على وجه الطلب للعلم بالحكم المطلوب، أو لغلبة الظن في كثير من الأحكام التي ليس طريقها العلم كالأحكام الثابتة بأخبار الآحاد والقياس.
والبيان: الإيضاح (١).
ومعنى ذلك أن يوضح الآمر أو الناهي أو المخبر أو المجاوب عما يقصد إلى إيضاحه ويزيل اللبس عنه وسائر وجوه الاحتمال الذي يمنع تبيينه. من قولهم: وضح الصبح، ووضح الشيء، إذا ظهر وزال الحائل عنه.
والهداية: قد تكون بمعنى الإرشاد.
ومعنى ذلك أن الهداية تكون بمعنى التوفيق. قال اللَّه تعالى لنبيه ﷺ: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص: الآية ٥٦] يريد بذلك لا توفقه.
وأما إرشاده، فقد وجد منه ﷺ لمن أحب ولمن لم يحب.
وتكون الهداية أيضًا بمعنى الإرشاد. وقد جاء ذلك في قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ [فصلت: الآية ١٧]. معناه -واللَّه أعلم- أرشدناهم. ولو كان بمعنى قد وفقهم لوجد منهم الإيمان، ولما استحبوا العمى على الهدى.
ولما قصدنا بمعنى الهداية فيما ذكرناه الإرشاد لزم أن نتحرز من الهداية التي بمعنى التوفيق. وإن كنا قد خرجنا بما احترزنا به عن حكم الحدود على وجه التجوز. والعلم بأن مثل هذا لا يخفى على من أراد الحقيقة. واللَّه الموفق للصواب.
النص: ما رفع في بيانه إلى أبعد غاياته.
ومعنى ذلك أن يكون قد ورد اللفظ على غاية ما وضعت عليه الألفاظ من الوضوح والبيان.
وذلك أن لا يحتمل اللفظ إلا معنى واحدًا، لأنه إذا احتمل معنيين فأكثر لم تحصل له غاية البيان. بل قد قصر عن هذه الغاية.
وقد حدّه بعض أصحابنا بأنه اللفظ الذي لا يحتمل إلا معنى واحدًا وهو معنى ما أشرنا إليه.
_________
(١) تعريفات الشريف الجرجاني ص ٤١.
1 / 105
وقال بعض أصحابنا: إنه مأخوذ من النص في السير، وهو أرفع السير كما أن هذا أرفع المبيّن.
وقال بعضهم: إنه مأخوذ من منصة العروس التي توضع عليها العروس وتجلّى لتبدو لجميع الناس. سميت بذلك لأن ذلك أتم ما يمكن أن يُتناول به إظهارها وجلاؤها.
والظاهر: هو المعنى الذي يسبق إلى فهم السامع من المعاني التي يحتملها اللفظ.
ومعنى ذلك أن يكون اللفظ يحتمل معنيين فزائدًا، إلا أنه يكون في بعضها أظهر منه في سائرها، إما لعرف استعمال في لغة أو شرع أو صناعة.
ولأن اللفظ موضوع له، وقد يستعمل في غيره، فإذا ورد على السامع سبق إلى فهمه أن المراد به ما هو أظهر فيه.
ولا يدخل على هذا النص لقولنا "من المعاني التي يحتملها اللفظ" لأن النص ليس له غير معنى واحد. وبذلك يتميز من الظاهر.
والعموم: استغراق ما تناوله اللفظ.
ومعنى ذلك أن يكون اللفظ يتناول جنسًا أو جماعة أو صفات أو غير ذلك مما يعمه لفظ، ويقتضي ذلك اللفظ استيعاب ما يصح أن يتناوله ويقع عليه.
فإن معنى العموم حمل ذلك اللفظ على جميع ما يصح أن يقع عليه ويتناوله. كقولك: الرجال للذي يصح تناوله لكل من يقع عليه اسم رجل.
فمعنى العموم حمله على كل ما يصح أن يتناوله اللفظ إلا أن يخصصه دليل يخرج به بعض ما تناوله.
والخصوص: إفراد بعض الجملة بالذكر. وقد يكون إخراج بعض ما تناوله العموم عن حكمه. ولفظ التخصيص فيه أبين.
ومعنى ذلك أننا إذا قلنا إن اللفظ ورد عامًا، ثم ورد لفظ آخر يتناول بعض تلك الجملة وصف بأنه خاص.
مثل قوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: الآية ٥]. فإن هذا اللفظ عام في كل مشرك. فإذا ورد لفظ يتناول قتل اليهود والنصارى قيل هذا لفظ
1 / 106
خاص. بمعنى أنه مثل اقتلوا اليهود، يتناول الجملة التي استوعبها اللفظ العام. من قولهم خُصَّ فلان بكذا، بمعنى أنه أفرد به دون غيره ممن يشمله وإياه معنى أو معانٍ.
فإذا كان اللفظ الخاص حكمه حكم اللفظ العام على ما قدمناه قيل هذا لفظ خاص ولفظ عام وإذا كان حكم اللفظ الخاص يضاد حكم اللفظ العام بان أخرج من اللفظ بعض ما تناوله مثل قوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: الآية ٥] ثم يرد بعد هذا النهي عن قتل من أدّى الجزية، فإنه قد أخرج باللفظ الخاص بعض ما تناوله اللفظ العام، فيصح أن يقال في هذا إنه خصوص، بمعنى أن أهل الجزية خُصّوا بهذا. ولفظ التخصيص فيه أظهر وأكثر استعمالًا عند أهل الجدل.
ومعنى ذلك أن هذا خصّ اللفظ الأول فجعله خاصًّا فيمن لم يؤد الجزية بعد أن كان عامًّا فيهم وفي سواهم ويحتمل أن يكون معنى ذلك أنه خصّ من يقع عليه بحكم مخالف للذي ورد به اللفظ العام. واللَّه أعلم.
المجمل: ما لا يفهم المراد به من لفظه، ويفتقر في بيانه إلى غيره. معنى المجمل أن يكون اللفظ يتناول جملة المعنى دون تفصيله، وورد على صفة تقع تحتها صفات وأجناس متغايرة. ولذلك قيل في حدّه "إنه لا يفهم المراد به من لفظه" لوقوعه على أجناس متباينة مختلفة، فلا يمكن امتثال الأمر به إلا بعد بيانه، لأن المأمور لو أراد امتثال الأمر به لم يمكنه القصد إلى جنس مخصوص، لأن اللفظ المجمل لا يقتضيه ولا ينبئ عنه بمجرده، فلما كان هذا حكمه افتقر إلى معنى غيره يبينه ويوضح عن جنسه وقدره وصفاته وغير ذلك من أحكامه.
وذلك مثل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا﴾ [الإسراء: الآية ٣٣] فلفظة السلطان ههنا مجملة، لا يعلم المراد بها [من] جنس مخصوص من قتل أو دية أو حبس أو غير ذلك.
ومن ذلك قوله ﷺ: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللَّه فإذا قالوها عصموا مني أموالهم ودماءهم إلا بحقها (١). فلفظة الحق ههنا مجملة، لأنه لا يعلم جنس الحق ولا قدره. وقد عاد ذلك بالإجمال في قوله: "عصموا مني دماءهم وأموالهم" وإن كان اللفظ عامًّا معروف الجنس. لكنه لما استثني منه مجملٌ غير معلوم، صار ما بقي منه مجملًا غير معلوم.
_________
(١) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي، انظر كشف الخفا للعجلوني ١/ ١٩٤.
1 / 107
والمفسر: ما فهم المراد به من لفظه، ولم يفتقر في بيانه إلى غيره.
معنى ذلك أن لفظ التفسير يقتضي تبيين ما يَقْصِدُ إلى تفسيره قاصد بعد إجماله وإبهامه.
ويصح أن يوصف بذلك إذا كان وُضِعَ من البيان على موضوع يقتضي كونه مفسرًا. فإذا كان ذلك قائمًا قصدنا بالحد إلى بيان اللفظ الذي موضعه التفسير والتفصيل.
فإذا ورد اللفظ متناولًا لما تقصد العبارة [البيان] عنه من المعاني على وجه التفصيل والإيضاح، وبلغ من ذلك مبلغًا يُفهم المراد به من لفظه كان مفسرًا. وما كان هذا حكمه، لم يفتقر في بيانه إلى غيره واللَّه أعلم.
والمحكم: يستعمل في المفسر؛ ويستعمل في الذي لم ينسخ.
فإذا استعملناه في المفسر، فقد تقدم معناه، ويكون وصفنا له حينئذٍ بأنه محكم أنه قد أحكم تفسيره وإيضاحه ووضعه ونظمه على ما قصد به من الإيضاح.
وإذا قلنا إن معناه الذي لم ينسخ، فإن معناه الممنوع من النسخ. وقد قال مجاهد في قوله تعالى: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ﴾ [هود: الآية ١] أن معنى ذلك منعت من النسخ. وقد قيل إنه مأخوذ من حكمة اللجام التي تمنع الفرس من الجماح.
والمتشابه: هو المشكل الذي يحتاج في فهم المراد به إلى تفكر وتأمل.
ومعنى وصفنا له بأنه متشابه أن يحتمل معاني مختلفة يتشابه تعلقها باللفظ. ولذلك احتاج تمييز المراد منها باللفظ إلى فكر وتأمل يتميز به المراد من غيره.
والمطلق: هو اللفظ الواقع على صفات لم يقيد ببعضها.
ومعنى ذلك أن يرد اللفظ يتناول مذكورًا يصح وجوده على صفات متغايرة مختلفة، ولا يقيد بشيء منها.
مثل قوله تعالى في آية الظهار ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا﴾ [المجادلة: الآية ٣] فكذلك العتق في الظهار بلفظ الرقبة، والرقبة واقعة على صفات متغايرة من كفر وإيمان وذكورة وأنوثة وصغر وكبر وتمام ونقصان، ولم يقيدها بصفة تتميز بها مما يخالفها، فهذا الذي يسميه أهل الجدل المطلق.
والمقيد: هو اللفظ الواقع على صفات قد قُيّد ببعضها.
1 / 108
ومعنى ذلك أن يكون اللفظ الوارد يتناول المذكور الموجود على صفات متغايرة ويقيد ببعضها، فيتميز بذلك مما يخالفه في تلك الصفة.
وذلك مثل قوله تعالى في كفارة القتل: ﴿وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ [النساء: الآية ٩٢] فاسم الرقبة واقع على المؤمنة والكافرة، فلما قيده ههنا بالإيمان كان مقيدًا من هذا الوجه، وإن كان مطلقًا في غير ذلك من الصفات.
والتأويل: صرف الكلام عن ظاهره إلى وجه يحتمله.
ومعنى ذلك أن يكون الكلام يحتمل معنيين فزائدًا إلا أن أحدهما أظهر في ذلك اللفظ إما لوضع أو استعمال أو عرف. فإذا ورد وجب حمله على ظاهره إلا أن يرد دليل يصرفه عن ذلك الظاهر إلى بعض ما يحتمله. ويسمي أهل الجدل ذلك الصرف تأويلًا.
وذلك [كـ] قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: الآية ٢٢٨]. فلفظة "يتربصن" ظاهرها الخبر، ويحتمل أن يراد بها الأمر. فلو تُركنا والظاهر لحملناها على الخبر، إلا أنّا نجد من المطلقات من لا يتربصن، وخبر الباري ﵎ لا يصح أن يقع بخلاف مخبره، فثبت بذلك أن المراد به الأمر. واللَّه أعلم بالصواب.
والنسخ: إزالة الحكم الثابت بشرع متقدم بشرع متأخر عنه على وجه لولاه لكان ثابتًا.
معنى ذلك أن النسخ في كلام العرب قد يكون بمعنى الكتابة وليس هذا الذي نريده بهذا الحد. ويكون بمعنى الإزالة. من قولهم نسخت الشمس الظل، إذا أزالته. وهو معنى النسخ في الشرع، وهو أن يزال حكم من الأحكام بعد أن يثبت الأمر به.
فأما الحكم الوارد ابتداءً فلا يسمى عند أهل الجدل نسخًا، وكذلك إذا حظر معنى من المعاني مدة من الزمان مقدرة، فانقضت المدة وانقضى بانقضائها الحظر، لم يوصف ذلك بأنه نسخ، لأن ما تقدم من الحظر لم يُزل بتلك الإباحة التي خلفته، وإنما زال بانقضاء مدته، ولذلك قلنا إن النسخ "إزالة الحكم الثابت" يريد أنه باقٍ إلى حين الإزالة له، ولو كانت انقضت مدته لما وصف بأنه مزال.
وقولنا "بشرع متقدم بشرع متأخر عنه" احترازًا للحد واستيعابًا للمحدود، لأنا لو قلنا "إزالة الحكم الثابت بقول متقدم بقول متأخر عنه" على ما قاله كثير من شيوخنا
1 / 109
لخرج عن هذا الحد نسخ الأفعال بالأفعال ونسخ الأموال بالأفعال ونسخ الأفعال بالأقوال. فإذا علقنا ذلك بلفظه "الشرع" اشتملت على الأقوال والأفعال واستوعبت الحد.
وقلنا "بشرع متأخر عنه" لأن الناسخ من شرطه أن يتأخر عن المنسوخ، ولا يرد قبله ولا معه.
وقولنا "على وجه لولاه لكان ثابتًا" تبين لما تقدم من أن النسخ إنما يكون بإزالة الحكم الأول بالحكم الثاني لا بانقضاء مدته وورود ما يخالفه بعده.
دليل الخطاب: قصر حكم المنطوق به على ما تناوله، والحكم للمسكوت عنه بما خالفه.
ومعنى ذلك -عند القائلين به- أن يعلن الحكم على صفة موجودة في بعض الجنس، فيدل ذلك -عند القائلين به- أن حكم ما لم توجد فيه تلك الصفة مخالف لحكم ما وجدت فيه.
وذلك مثل ما روي عن النبي ﷺ أنه قال: "في سائمة الغنم الزكاة (١) " فدل ذلك عند القائلين بدليل الخطاب على أن ما ليس بسائمة من الغنم لا زكاة فيها.
وذلك أن السائمة عندهم منطوق بحكمها، والمعلوفة مسكوت عنها، فوجب أن يكون حكم المعلوفة غير حكم السائمة.
وقد ذكرنا أن هذا ليس بصحيح، لأن ما نص على حكمه ثبت حكمه بالنص. وما سكت عن حكمه من المعلوفة لا يجوز أن يثبت فيه بذلك النص حكم مخالف لما نص عليه ولا مماثل له، وإنما يجب أن يطلب دليل حكمه في الشرع كسائر ما سكت عنه. وهذا فائدة تخصيص ما نص على حكمه.
ولحن الخطاب: هو الضمير الذي لا يتم الكلام إلا به.
وفحوى الخطاب: ما يعنهم من نفس الخطاب من قصد المتكلم بعرف اللغة (٢).
والحصر: له لفظ واحد إنما (٣).
_________
(١) أخرج نحوه النسائي في سننه ٥/ ٢٩.
(٢) انظر مفتاح الوصول ص ١١٢.
(٣) التعريفات ص ٧٨.
1 / 110