بقدر ما استطعت من الصف الخلفي، ألقيت نظرة خاطفة على الحضور. أعتقد أنك إن فكرت في الأمر، فستجد أننا من يخرجون في ليالي الشتاء لنجلس في قاعة تكثر فيها تيارات الهواء لنستمع إلى محاضري نادي كتاب اليسار (وأعتبر أنه من حقي استخدام «أننا» لأنني حضرت في هذه المناسبة) لدينا مقصد ما من ذلك. فنحن متمردو غرب بلتشلي. لا يبدو الأمر مبشرا للوهلة الأولى، ولكني أدركت عندما نظرت إلى الحضور أن فقط ما يقرب من نصف دستة منهم قد فهموا حقا ما كان يتحدث عنه المحاضر، على الرغم من أنه حتى تلك اللحظة كان يهاجم هتلر والنازيين لمدة ما تزيد على نصف الساعة. الأمر دائما هكذا مع مثل هذه الاجتماعات، حيث دائما ما يخرج نصف الحضور وليس لديهم أدنى فكرة عما كان يدور حوله الاجتماع. كان ويتشيت على كرسيه بجانب الطاولة يشاهد المحاضر بابتسامة تنم عن سعادته، وبدا وجه ورديا قليلا كزهرة إبرة الراعي. يمكنك مقدما سماع الحديث الذي سيلقيه بمجرد جلوس المحاضر، فهو الحديث نفسه الذي يلقيه في نهاية محاضرات الفانوس السحري لدعم مجموعة الميلانيزيون العرقية: «نعرب عن شكرنا ... لقد عكس رأي كل منا ... الحديث مثير جدا للاهتمام ... قدم لنا الكثير لنفكر فيه ... كانت الأمسية الأكثر إلهاما!» في الصف الأمامي، كانت تجلس الآنسة مينس شديدة الاستقامة، ورأسها مائل قليلا على أحد جانبيها كالطيور. أخذ المحاضر ورقة من أسفل الكأس وقرأ منها إحصائيات عن معدل انتحار الألمان. يمكنك بالنظر إلى العنق الرفيع الطويل للآنسة مينس أن ترى أنها لم تكن سعيدة، وأنها كانت تتساءل ما إذا كان هذا الاجتماع سيطورها فكريا أم لا، وأنها كانت تتمنى لو كانت تستطيع فهم موضوع الاجتماع. كانت السيدتان الأخريان تجلسان كقطعتي حلوى. وكان بجوارهما امرأة قصيرة بشعر أحمر تحيك كنزة. غرزة مستقيمة، ثم غرزة معكوسة، ثم غرزة ساقطة، ثم تحيك الغرزتين معا. كان المحاضر يصف كيف يقتل النازيون رميا بالرصاص بتهمة الخيانة، وكيف يخطئهم أحيانا الجلاد. كانت ثمة امرأة أخرى بين الحضور؛ فتاة بشعر داكن، وكانت إحدى معلمات المدرسة المحلية. وعلى خلاف الأخريات، كانت تستمع بالفعل، وكانت جالسة في الأمام بعينيها الكبيرتين المستديرتين المثبتتين على المحاضر وفمها المفتوح قليلا، وكانت منصتة ومستمتعة للغاية بالأمر.
وخلفها مباشرة، كان يجلس رجلان عجوزان من حزب العمال المحلي، أحدهما بشعر أشيب بقصة شديدة القصر، والآخر برأس أصلع وشارب متدل، وكان كلاهما مرتديين لمعطفيهما. تعرف هذا النوع من الرجال، الذين هم في حزب العمال منذ قديم الأزل، والذين يبذلون حياتهم من أجل الحركة العمالية. يستبعدهم أصحاب الأعمال طوال عشرين سنة، ويقضون عشر سنوات أخرى يستجدون المجلس المحلي لفعل شيء بخصوص الأحياء الفقيرة. ولكن كل شيء تغير فجأة، فلم تعد موضوعات حزب العمال القديمة تهم أحدا، ووجدوا أنفسهم زجوا على غير رغبتهم في أمور السياسة الخارجية - هتلر، ستالين، القنابل، المدافع الآلية، الهراوات المطاطية، محور روما-برلين، الجبهة الشعبية، حلف مناهضة الكومنترن - وهم لا يمكنهم فهم أي شيء فيها. أمامي مباشرة، كان يجلس أفراد من الفرع المحلي للحزب الشيوعي، وكانوا ثلاثة من الشباب صغيري السن للغاية. أحدهم لديه مال ويشغل منصبا كبيرا في شركة عقارات هيسبيريدز، وأعتقد في الحقيقة أنه قريب العجوز كروم. وكان الآخر موظفا في أحد البنوك، حيث يصرف لي شيكات في بعض الأحيان. إنه فتى لطيف، بوجه مستدير يافع وتظهر عليه أمارات الطموح، وبعينين زرقاوين كالأطفال، وشعر أشقر للغاية حتى إنك قد تظن أنه عالجه بالبروكسيد. وهو يبدو في السابعة عشرة من عمره، ولكني أظنه في العشرين. كان يرتدي بدلة زرقاء رخيصة، ورابطة عنق زرقاء فاتحة تماشت مع شعره. بجوار هؤلاء الثلاثة، كان يجلس شيوعي آخر. ولكنه يبدو أنه من نوع مختلف من الشيوعيين، وأنه ليس من النوع الهادئ؛ لأنه ينتمي إلى من يسمونهم بالتروتسكيين. وكان الآخرون ينتقدونه باستمرار. كان أيضا صغيرا في السن، وشديد النحافة، وشديد السمار، وعصبيا، وكان وجهه ينم عن الذكاء. لا بد أنه يهودي. كانت نظرة هؤلاء الأربعة للمحاضرة مختلفة تماما عن نظرة الآخرين. لقد كنت تعلم أنهم سيقفون طالبين الكلمة في اللحظة التي يبدأ فيها وقت طرح الأسئلة. يمكنك أن تراهم يهتزون في جلستهم استعدادا للأمر بالفعل. وكان الشاب التروتسكي يتململ في جلسته من جانب إلى آخر استعدادا للبدء في طرح الأسئلة قبل الآخرين.
كنت قد توقفت عن الاستماع إلى كلمات المحاضر الفعلية، ولكن ثمة طرق كثيرة للاستماع. أغلقت عيني للحظة، وكان تأثير ذلك رائعا؛ إذ بدا كما لو أنني أرى الرجل بوضوح أكثر عندما أستمع إلى صوته فقط ، ولا أنظر إليه.
كان صوتا بدا كما لو أن بإمكانه الاستمرار لأسبوعين دون توقف. كان الأمر مريعا في الواقع، كما لو أن آلة أرغن يدوية تقذفك بالدعاية طوال الوقت. الأمر نفسه يتكرر مرارا وتكرارا. الكراهية، الكراهية، الكراهية. فلنتحد معا ونطلق حملة جيدة من الكراهية. الأمر يتكرر مرارا وتكرارا. يعطيك ذلك شعورا بأن شيئا يخترق جمجمتك ويدق في دماغك. ولكن للحظة، وبينما كنت مغمضا عيني، تمكنت من تحويل دفة الأمر ضده؛ فقد دخلت إلى جمجمته. كان شعورا غريبا، فقرابة الثانية كنت في داخله، حتى يمكنك القول إنني كنت هو. على أي حال، شعرت بما كان يشعر به.
رأيت الأمور من منظوره، الذي كان مختلفا تماما عن كل شيء قد يخطر على بال أحد. ما كان يقوله هو أن هتلر يسعى للقضاء علينا، وأن علينا جميعا أن نتحد ونشن حملة قوية من الكراهية ضده. قال ذلك دون خوض في التفاصيل وباحترام شديد. ولكن ما كان يراه هو شيء مختلف تماما؛ إذ كان يرى نفسه يحطم وجوه الناس بمفك؛ وجوه الفاشيين بالطبع. أعلم أن هذا هو ما كان يراه، فهو ما رأيته بنفسي في الثانية أو الثانيتين حين كنت بداخله. كان يحطم وجوههم! في منتصفها تماما! والعظام تغرز فيها كقشر البيض، وما كان وجها منذ لحظة أصبح مجرد لطخة مهولة تشبه قطع مربى الفراولة. كان يحطم وجوههم! واحدا تلو الآخر! هذا ما في ذهنه، في نومه وفي يقظته، وكلما فكر في الأمر، أعجبه. ولا بأس في الأمر؛ فكل الوجوه التي يحطمها هي وجوه الفاشيين. يمكنك سماع كل ذلك في نبرة صوته.
ولكن لماذا؟ التفسير الأكثر ترجيحا هو لأنه خائف؛ فكل إنسان عاقل اليوم قد أصبح قاسيا بفعل الخوف. وهذا هو مجرد رجل قد بصر بما يكفي لدرجة تجعله أكثر خوفا قليلا من الآخرين. هتلر يلاحقنا! أسرعوا! لنجلب جميعا مفكات ونتكاتف، وربما لو حطمنا ما يكفي من الوجوه فلن يحطموا وجوهنا. تعاونوا، واختاروا قائدكم. هتلر أسود وستالين أبيض، ولكن لا يزال من الممكن أن يكون العكس؛ لأنه في رأس الشاب الصغير هتلر وستالين واحد، كلاهما يعني مفكات ووجوها محطمة.
إنها الحرب! بدأت أفكر فيها مرة أخرى، فهي سرعان ما ستأتي لا محالة. ولكن من يخاف من الحرب؟ بعبارة أخرى، من يخاف من القنابل والمدافع الآلية؟ لعلك تقول: «أنت.» أجل، أنا، وأي شخص سبق أن رآها؛ ولكن ما يهم ليس الحرب، بل ما بعدها. هذا العالم الذي نغرق فيه؛ عالم الكراهية، والشعارات، والقمصان الملونة، والأسلاك الشائكة، والهراوات المطاطية، والخلايا السرية؛ حيث يضيء الضوء الكهربائي ليلا ونهارا والشرطة التي تراقبك حتى أثناء نومك، والمسيرات، والملصقات بالوجوه الضخمة، والحشود من الملايين الهاتفين للقائد حتى يظنون أنهم يقدسونه بالفعل؛ بينما هم في سريرتهم يكرهونه حد الغثيان. كل ذلك سيحدث، أم أنك تظن غير ذلك؟ أرى في بعض الأيام أن ذلك مستحيل، وأرى في أيام أخرى أنه أمر محتوم. في تلك الليلة، على أي حال، علمت أن الأمر كان على وشك الحدوث؛ إذ كان كل ذلك جليا في نبرة صوت المحاضر ضئيل الحجم.
ربما في نهاية المطاف ثمة أمل في هذا الحشد الضئيل الذي يخرج في ليلة من ليالي الشتاء للاستماع إلى محاضرة كتلك، أو على الأقل في الخمسة أو الستة الذين يمكنهم فهم الأمر. هؤلاء ببساطة هم في المواقع الأمامية لجيش ضخم، فهؤلاء هم بعيدو النظر؛ الفئران الأولى التي تعرف أن السفينة تغرق. أسرعوا، أسرعوا! الفاشيون قادمون! جهزوا المفكات يا فتيان! حطموا الآخرين وإلا فسيحطمونكم. هناك رعب شديد من المستقبل يجعلك تندفع مباشرة إليه كأرنب يغطس في حلق أفعى.
ماذا سيحدث لرجل مثلي عندما تسود الفاشية إنجلترا؟ الحقيقة هي أنه ربما لن يختلف الأمر كثيرا. أما بالنسبة للمحاضر وهؤلاء الشيوعيين الأربعة، فسيحدث ذلك فرقا كبيرا؛ حيث سيحطمون الوجوه، أو ستتحطم وجوههم، حسب من تكون له الغلبة. ولكن أبناء الطبقة المتوسطة العاديين مثلي سيستكملون حياتهم كالمعتاد. ولكن الأمر يرعبني، حقا يرعبني. وبدأت أتساءل عن السبب عندما توقف المحاضر عن الحديث وجلس.
تلا ذلك الصوت الخفيض الأجوف المعتاد للتصفيق الذي تسمعه عندما يكون الحضور خمسة عشر شخصا تقريبا فقط، ثم قال العجوز ويتشيت كلمته؛ وعلى الفور قام الشيوعيون الأربعة على أقدامهم معا، وخاضوا جدالا عنيفا للغاية دام لما يقرب من عشر دقائق، وتضمن العديد من الأمور التي لم يفهمها غيرهم، مثل المادية الجدلية ومصير البروليتاريا وما قاله لينين عام 1918. ثم قام المحاضر، بعدما شرب القليل من الماء، وقدم ملخصا جعل التروتسكي يتلوى على كرسيه، ولكنه أسعد الثلاثة الآخرين؛ واستمر الجدال العنيف بصورة غير رسمية لبعض الوقت. لم يتحدث أي أحد آخر، وانصرفت هيلدا والأخريان في اللحظة التي أنهى فيها المحاضر حديثه؛ فربما كن خائفات من أن يجمع أحد المال لدفع إيجار القاعة! أما المرأة ذات الشعر الأحمر، فقد بقيت جالسة حتى تنتهي من حياكة صف في كنزتها. يمكنك سماعها تعد غرزها همسا بينما يتجادل الآخرون. كان ويتشيت جالسا ويبتسم لمن يتحدث أيا من كان، ويمكنك رؤيته وهو يفكر في الإثارة التي يحدثها الأمر كله ويضع الملاحظات في ذهنه؛ وكانت الفتاة ذات الشعر الأسود تنظر إليهم واحدا تلو الآخر بفم شبه مفتوح؛ أما العجوز المنتمي لحزب العمال، فقد بدا كعجل البحر بشواربه المتدلية ومعطفه الذي كان متدثرا به حتى أذنيه، وكان ينظر إليهم متعجبا مما يدور حوله كل ذلك. وأخيرا، قمت وشرعت في ارتداء معطفي.
Page inconnue