وتوالت السنوات، 1913، ثم 1914، ثم جاء ربيع 1914 حيث أزهرت الأشجار؛ البرقوق الشائك، ثم الزعرور البري، ثم الكستناء. أتذكر أيام الأحد فيما بعد الظهيرة عبر مسار جر القوارب، والرياح ترفرف على أحواض السمار، فتتمايل أغصانه معا في كتل كثيفة ومهيبة تبدو بعض الشيء كشعور النساء حين تداعبها الرياح. وأتذكر كذلك أمسيات شهر يونيو الطويلة، والممشى أسفل أشجار الكستناء، والبومة التي تنعق في مكان ما وجسد إلسي بجانبي. أتذكر كذلك شهر يوليو الذي كان شديد الحرارة في ذلك العام، والعرق الذي كنا نتصببه في المتجر، ورائحة الجبن والقهوة! وأتذكر حينها نسيم المساء العليل بالخارج، ورائحة زهور المنثور وتبغ الغلايين في الممر خلف المزارع، ومواطئ الأقدام حيث الغبار الرطب، وطيور السبد التي تحوم حول الخنافس الكبيرة.
يا إلهي! ما المغزى من أن نقول إن المرء عليه ألا يكون عاطفيا عند التفكير في فترة «ما قبل الحرب»؟ تلك الأيام تجعلني عاطفيا، وكذلك تجعلك إن تذكرتها. صحيح أنك إن أعدت النظر إلى أي فترة زمنية معينة، فستميل إلى تذكر اللحظات السعيدة؛ ينطبق الأمر نفسه حتى على أيام الحرب؛ لكن من الصحيح كذلك أن الناس في تلك الأيام كان لديهم ما ليس لدينا الآن.
أعلم أنك تسأل الآن عما كان لديهم وليس لدينا. إنهم ببساطة لم يكونوا ينظرون في المستقبل باعتباره شيئا يخافون منه. لا يعني ذلك أن الحياة كانت أكثر رغدا مما هي عليه الآن، بل كانت في الواقع أكثر قسوة؛ إذ كان الناس إجمالا يبذلون جهدا أكبر في أعمالهم، ويعيشون في مستويات أقل راحة، ويموتون بآلام أبرح. كانت الأيدي العاملة في المزارع تعمل لساعات طويلة مقابل أربعة عشر شلنا في الأسبوع، وينتهي بهم الحال وقد أصابهم العجز والاهتراء بمعاش تقاعد قدره خمسة شلنات، وقد يتحصلون على شلنين ونصف الشلن في بعض الأحيان من الأبرشية. أما ما كان يعرف بالفقر «المحترم»، فقد كان أسوأ؛ فعندما «أفلس» واتسون القصير - وقد كان تاجر أقمشة صغير في الطرف الآخر من هاي إستريت - بعد سنوات من الصراع، كانت أصوله الشخصية جنيهين وتسعة شلنات وستة بنسات؛ ومات تقريبا فور إصابته بما كانوا يقولون عنه «مشاكل في المعدة»، ولكن الطبيب أعلن أن سبب الوفاة كان الجوع؛ لكنه جاهد حتى النهاية. أما العجوز كريمب، مساعد صانع الساعات الذي كان ماهرا في عمله ومكث فيه سنوات الصبا والرجولة التي استمرت لخمسين سنة، فقد أصيب بإعتام في عدسة العين واضطر إلى الذهاب إلى ملجأ الفقراء. وكان أحفاده يبكون في الشوارع عندما أخذوه، وعملت زوجته خادمة في المنازل، وبعد جهود يائسة تمكنت من أن ترسل إليه شلنا في الأسبوع لمصروف جيبه. كنت ترى أشياء مروعة تحدث في بعض الأحيان. فالأعمال الصغيرة تتدهور أحوالها؛ والتجار المستقرون يتحولون تدريجيا إلى مفلسين محطمين؛ والناس تموت بآلام السرطان وأمراض الكبد المبرحة، والأزواج السكارى يعدون زوجاتهم كل يوم إثنين أنهم سيقلعون عن الشراب، وينقضون عهدهم كل يوم سبت؛ والفتيات يحطمن حياتهن بإنجاب الأطفال غير الشرعيين. كانت المنازل بلا حمامات؛ والجليد يملأ أحواض الغسيل في الشتاء فتضطر كل صباح إلى تكسيره؛ ورائحة الشوارع الخلفية كالقبر في الأيام الحارة؛ وكانت المقابر في وسط البلدة؛ فلا يمر يوم دون أن تتذكر مصيرك. ولكن ما الذي كان لدى الناس في تلك الأيام؟ إنه الشعور بالأمان، حتى عندما لا يكونوا في أمان. بالتحديد، كان شعورا بالاستمرارية؛ فكل منهم كان يعلم أنه سيموت، وأظن أن بعضهم كان يعلم أنه سيفلس، ولكن ما لم يكونوا يعلمونه هو أن وتيرة الأمور يمكن أن تتغير. ومهما قد يحدث لهم، ستستمر الأمور كما عرفوها. لا أعتقد أنه مما أحدث فارقا كبيرا أن ما يطلق عليه الإيمان الديني كان ما زال سائدا في تلك الأيام. صحيح أن الجميع تقريبا كانوا يذهبون إلى الكنيسة، على الأقل في الريف - كنت أنا وإلسي نذهب إلى الكنيسة بطبيعة الحال، حتى عندما كنا نفعل ما يصفه راعي الكنيسة بالخطيئة - وإذا سألت الناس عما إذا كانوا يؤمنون بالحياة بعد الموت، كانوا يجيبون عادة بالإيجاب. ولكنني لم أقابل أحدا قط أعطاني انطباعا بأنه يؤمن حقا بالحياة الآخرة. وأعتقد أن الناس، على الأغلب، لا يتعدى إيمانهم في مثل تلك الأشياء إيمان الأطفال ببابا نويل. لكن في فترات الاستقرار، تلك الفترات التي تبدو فيها الحضارة قائمة على أرجلها الأربع كالأفيال، لا تعني أمور كالحياة الآخرة شيئا لدى الناس. من السهل أن تموت إن كانت الأشياء التي تهتم بها ستبقى؛ فقد عشت حياتك، وأصبحت متعبا، وحان الوقت للذهاب تحت التراب، هكذا اعتاد الناس رؤية الأمر. كانت حياتهم تنتهي على المستوى الشخصي، ولكن أسلوب حياتهم مستمر؛ خيرهم وشرهم سيبقى خيرا وشرا. ولم يشعروا بأن الأرض التي كانوا يقفون عليها تتغير تحت أرجلهم.
كان أبي يفلس، ولكنه لم يعلم ذلك. وكل ما كان يراه هو أن الأوقات عصيبة للغاية، وأن التجارة تتضاءل أكثر فأكثر، وأن فواتيره أصبحت أصعب فأصعب في السداد. حمدا لله أنه لم يعلم قط أنه قد تدمر، ولم يفلس بالفعل قط؛ لأنه مات فجأة (وكان ذلك جراء إصابته بالإنفلونزا التي تطورت إلى التهاب رئوي) في بداية عام 1915. كان يعتقد حتى النهاية أنه بالادخار، والعمل الجاد، والعدل في المعاملات لا يمكن للمرء أن يصاب بشر. ولا بد أن هناك العديد من أصحاب المتاجر الصغيرة الذين كان لديهم مثل ذلك الاعتقاد، الذي أدى بهم ليس فقط إلى الموت مفلسين، ولكن حتى إلى الاضطرار إلى الذهاب إلى ملجأ الفقراء. وحتى لوفجروف السروجي، الذي كان يشاهد السيارات والشاحنات تمر أمام عينيه، لم يدرك أنه قد انتهى به الحال كحيوان وحيد القرن المشرف على الانقراض. وأمي أيضا؛ أمي لم يمهلها القدر لتعرف أن الحياة التي تربت من أجل أن تعيشها - حياة ابنه صاحب المتجر المحترم الذي يخاف الله وزوجة صاحب المتجر المحترم الذي يخشى الله في عصر الملكة الصالحة فيكتوريا - كانت قد انتهت بلا رجعة. الأيام كانت صعبة والتجارة في كساد، وكان أبي قلقا وكل شيء كان «متفاقما»، ولكنك كنت تستمر في طريقك كالعادة. نظام الحياة الإنجليزية القديمة لا يمكن أن يتغير؛ فدائما وأبدا كانت تعد المرأة المحترمة التقية بودينج يوركشاير ومعجنات الدامبلنج بالتفاح في أفران الفحم الضخمة، وترتدي ملابس تحتية من الصوف، وتنام على الريش، وتصنع مربى البرقوق في شهر يوليو والمخللات في أكتوبر، وتقرأ مجلة «هيلداس هوم كومبانيون» في فترة ما بعد الظهيرة، والذباب يطن حولها، في عالم خفي صغير ومريح من نوع ما حيث الشاي المغلي والساقان المتعبتان والنهايات السعيدة. لا أقول إن أيا من أبي أو أمي لم يتغيرا حتى النهاية؛ فقد اعترتهما لحظات من التذبذب وقليل من الإحباط، ولكن على الأقل لم يعيشا ليعلما أن كل شيء كانا يعتقدان فيه قد أكل عليه الدهر وشرب. كانا يعيشان في نهاية عهد، حيث يتبدد كل شيء في نوع من التغيير المريع، ولكنهما لم يعلما عن ذلك شيئا؛ فقد ظنا أن عالمهما خالد. إنك لا تستطيع لومهما؛ فقد كان ذلك ما شعرا به تجاهه.
أتت بعد ذلك أواخر شهر يوليو، وحتى بلدة لوير بينفيلد قد استوعبت حدوث تلك الأمور. ولعدة أيام، كانت ثمة ضجة عارمة وغامضة ومقالات رئيسية لا نهاية لها في الصحف، التي جلبها أبي في الواقع من المتجر لقراءتها بصوت عال على أمي، ثم تفاجأنا بالملصقات في كل مكان:
ألمانيا تنذر. فرنسا تستعد للقتال.
لعدة أيام (أربعة أيام، على ما أتذكر؛ فقد نسيت التواريخ الدقيقة) ساد شعور غريب بالاختناق، نوع من الانتظار الحذر، كاللحظة التي تسبق ضرب العاصفة، كما لو أن إنجلترا كلها كانت صامتة وتستمع. وأتذكر أن الجو كان شديد الحرارة. وكنا كما لو أننا لا يمكننا العمل في المتجر، على الرغم من أن الجميع في الحي ممن يدخرون خمسة جنيهات كانوا يتزاحمون على شراء كميات من المواد المعلبة والطحين والشوفان. كان الوضع كما لو أننا قد أصابتنا حمى شديدة جعلتنا غير قادرين على العمل، فكنا نتصبب العرق ونترقب الأوضاع. في مساء تلك الأيام، كان الناس يذهبون إلى محطة السكة الحديدية ويتصارعون كالشياطين على الصحف المسائية التي كانت تصل في قطار لندن. ثم في فترة ما بعد ظهيرة أحد الأيام، أتى صبي مندفعا إلى هاي إستريت ومعه صحف ملء ذراعيه، وخرج الناس إلى عتبات بيوتهم للصياح في الشارع. كان الجميع يصيح قائلا: «لقد دخلنا الحرب! لقد دخلنا الحرب!» أخذ الصبي قصاصة من الحزمة التي كانت معه ولصقها على واجهة المتجر المقابل:
إنجلترا تعلن الحرب على ألمانيا.
اندفعنا كلنا إلى الرصيف - المساعدون الثلاثة - وهللنا. كان الجميع يهتف مهللا. أجل، كنا نهلل. ولكن العجوز جريميت، على الرغم من أنه استفاد بالفعل من حالة الفزع من الحرب، كان لا يزال يحمل بعضا من مبادئه الليبرالية؛ وأعلن أنه «ضد الحرب» قائلا إنها ستكون صفقة فاسدة.
بعد شهرين، التحقت بالجيش. وبعد ذلك بسبعة أشهر، كنت في فرنسا.
Page inconnue