وقال حسني لنفسه للمرة الثالثة: ما أشق ما تطالبنا به الحياة، الضعف والقوة، الحماقة والحكمة، النعومة والخشونة، الجهل والعلم، القبح والجمال، الظلم والعدل، العبودية والحرية، وأين أنا من هذا كله؟! لا همة ولا موقع يصلح للعمل ولا بقية من عمر، ولكني أحبك يا مصر، فمعذرة إذا وجدتني مع حبك أحب الحياة في ساعات وداعها الحمقاء!
20
وقفت السيارة أمام عش سقارة. غادرها في وقت واحد الأستاذ حسن حمودة ومنى زهران. مضيا إلى خميلة في الناحية الجنوبية من الحديقة، فجلسا تحت مصباح خافت يرسل نورا أزرق من خلال أوراق اللبلاب. جميلة كعادتها، ولكن ثبتت في أعماق عينيها نظرة حزينة. وكان يعتبر أنه تخطى العقبات الأساسية، فتبدى مرحا بقامته الطويلة، وبشرته العميقة السمرة، وثقته بنفسه التي تلازم حركاته وسكناته. ونظر إليها طويلا. وجعل يبتسم وكأنما يدعوها إلى الابتسام أيضا. وقال وهو يتنفس بعمق هواء الليل المعبق بروائح نباتية: المكان هادئ، بعيد عن الدنيا، ينتمي إلى عالم آخر.
فهمست: نعم.
وشعرت بأنها جاوزت الحد في الاعتراف بالسعادة، فاستدركت: ولكنا نحمل في قلوبنا هموم العالم الأول. - لك نصيب موفور من الهموم، ولكنك لست أتعس من على سطح الأرض، هل تدركين معنى خسارة ألف فدان في ثانية واحدة؟ ومصرع أب مهيب بأزمة قلبية، وتلويث سمعة أسرة كبيرة كريمة شاركت في حياتنا الوطنية منذ الثورة العرابية؟
وترددت وقتا قبل أن تتساءل: ترى ألا تعلم بأنني لا أعد صديقة للإقطاع؟
فابتسم بسماحة وقال: لا يدهشني ذلك بطبيعة الحال، فأنت من جيل الثورة، ولكن لعلك لا تعدين نفسك عدوة لثورة الطلبة؟ - هذا أمر مختلف. - ليكن، ولنعد إلى همومك الحقيقية، فأقول لك ألا ذنب عليك مطلقا! - ولكننا كما ترى، أما هو ...
فقاطعها بقوة: أكرر ألا ذنب عليك!
وأدنى وجهه حتى انعكس الضوء الخافت على جناحي أنفه، وقال: ستظل القبور مكتظة، وكذلك المستشفيات، ولن يمنعنا ذلك من أن نأكل ونشرب ونتزوج!
وتنهدت بصوت مسموع وتمتمت: كنا على وشك الهجرة!
Page inconnue