فدهشت منى وتمتمت: الهجرة؟! - الحق أني جاوزت مرحلة التفكير، فاستقر رأيي على الهجرة. - ولكنك تنتظر فيما أعلم بعثة علمية؟ - لم ألق إلا المماطلة، ففكرت في الهجرة، ثم استقر رأيي عليها. - وكيف يتم لك ذلك يا أخي؟ - إني على وشك الانتهاء من بحثي عن الطفيليات، وسوف أرسله إلى زميل مهاجر بالولايات المتحدة ليعرضه على الجامعات، وبعض المراكز الطبية، ومن ثم أنتظر أن أدعى للعمل في إحداها، وهو ما حصل معه بالضبط.
فشهقت بقوة من شدة الانفعال وقالت: أهاجر معك!
ثم بثقة: إني متخصصة في الإحصاء، وأتقن الإنجليزية.
فابتسم الدكتور وقال: لأن نهاجر اثنين خير من أن أهاجر وحدي!
وعارض الوالدان الفكرة، ولم يدركا لها حكمة ما دام للشقيقين مستقبل مرموق في مصر، فقال الدكتور لوالديه: البلد بات مقرفا.
وقالت منى: وهو لا يطاق.
وأراد الأب أن يستثير عاطفتهما الوطنية، ولكن الدكتور علي قال بجرأة عدها الأب قاسية: لم يعد الوطن أرضا وحدودا جغرافية، ولكنه وطن الفكر والروح!
وتألم الأب الذي ينتسب إلى جيل 1919؛ جيل الوطنية المصرية الخالصة ، واستمع إلى ابنه بانزعاج، فخيل إليه أنه يطالع ظاهرة غريبة تستعصي على الإدراك والتفسير. وكان يسلم بأنه لا يستطيع أن يثنيهما عن عزم إن اعتزماه، فتساءل في جزع كيف يمكن أن يحتمل الحياة بدون وجودهما معه في وطن واحد على الأقل! وكانت منى تحب أباها كثيرا، ولكنها لا تكاد تتفق معه في رأي، وعجبت كيف أن هزيمة 5 يونيو فجرت وطنيته من جديد، فعادت سيرتها الأولى على حين أنها منيت بخيبة شاملة تدفعها باستمرار إلى تغيير جلدها خلية خلية. وهو ما حصل لعليات وسنية وغيرهما، وما حصل لشقيقها. وقالت مخاطبة الدكتور: إننا نحيا بلا هدف!
فقال لها بامتعاض: وأنا أحيا بلا حياة! - يجب أن نهاجر. - سنهاجر عند أول فرصة.
واعتبرت منى نفسها سائحة عابرة، فشعرت براحة نفسية لم تشعر بها مذ قطعت علاقتها بسالم علي. وسرعان ما ذاع الخبر بين صديقاتها وزميلاتها، وفي الأوساط التي تنتقل فيها. وراحت تحلم بحياة جديدة نقية توفر للفرد سبل التقدم والازدهار والأمن. وكانت عائدة من مكتبها عصرا عندما وجدت أمامها سالم علي في ميدان طلعت حرب. لم تكن مصادفة، ولم يحاول ادعاء ذلك، ولكنه مد لها يده، وهو يقول: علمت أنك ستهاجرين إلى الولايات المتحدة، فعز علي ألا أودعك.
Page inconnue