كانت ديبورا في الواقع أصغر من نويل بعام واحد، لكن ما من شيء فيها أوحى بأنها تلعب دور الزوجة المدللة صغيرة السن. كان كنت قد التقى بها بعد العملية الأولى التي خضع لها. كانت أخصائية علاج طبيعي لم يسبق لها الزواج، وكان هو أرمل. رآها امرأة هادئة رصينة، لا تهتم بالموضة وتحتقر التهكم - كان شعرها مضفرا في جديلة مرسلة للخلف على ظهرها. عرفت كنت على اليوجا، بالإضافة إلى التمرينات الموصوفة له طبيا، وأقنعته الآن بتناول الفيتامينات والجنسنج أيضا. كانت كيسة وغير فضولية لدرجة تكاد تصل إلى حد اللامبالاة. لعل امرأة من جيلها رأت أنه أمر مسلم به أن الجميع لديهم ماض غير قابل للتفسير وزاخر بالشخصيات المختلفة.
دعتهما سونيه إلى المنزل، فقالت ديبورا إنها ستتركهما معا، وإنها ترغب في البحث عن أحد متاجر الأطعمة الصحية (أخبرتها سونيه بمكان أحدها)، والتنزه على الشاطئ.
أول شيء لاحظه كنت في المنزل أنه بارد، بالرغم من أن اليوم كان صيفيا والشمس مشرقة. لكن المنازل في الساحل الشمالي الغربي المطل على المحيط الهادئ نادرا ما تكون دافئة مثلما تبدو. فما إن يبتعد المرء عن الشمس حتى يشعر على الفور بالرطوبة. ولا ريب أن الضباب وصقيع الشتاء الممطر قد دخلا هذا المنزل فترة طويلة من الزمن دون أدنى مقاومة من أصحابه. كان منزلا خشبيا كبيرا من طابق واحد، متداعيا لكنه لم يخل من مباهج الزينة؛ فقد احتوى على شرفة ونوافذ ناتئة من السقف. كان هناك الكثير من المنازل المشابهة لهذا المنزل في غرب فانكوفر حيث لا يزال كنت يعيش، لكن معظمها بيع كمبان متهدمة.
خلت الغرفتان الأماميتان الكبيرتان اللتان لم يفصل بينهما باب من أي أثاث، فيما عدا بيانو منتصبا في مكانه. تحولت الأرضية إلى اللون الرمادي في المنتصف لكثرة احتكاك الأحذية بها، بينما كانت الأركان مكسوة بمشمع داكن. امتد درابزين بطول أحد الجدران، وفي المقابل كانت هناك مرآة يكسوها التراب رأى فيها كنت انعكاس مرور شخصين نحيلين أشيبين يسيران معا. قالت سونيه إنها تحاول بيع المكان - الأمر الذي كان بإمكان كنت ملاحظته من اللافتة - وبما أن هذا المكان كان مخصصا لتدريبات الرقص، فقد فكرت أنه من الأفضل تركه على هذا الحال.
أضافت سونيه: «ربما يستطيع أحد تحويله إلى مكان جميل.» روت لكنت أنها قد افتتحت المدرسة في عام 1960، تقريبا بعد وصول الأنباء بوفاة كوتر بفترة قصيرة. كانت ديليا، والدة كوتر، عازفة بيانو. وظلت تعزف حتى قاربت التسعين عاما، وفقدت تركيزها (قالت سونيه: «معذرة، فالمرء يفقد اهتمامه بما حوله مع التقدم في السن»)؛ ولذا لزم على سونيه إيداعها في إحدى دور المسنين حيث تذهب إليها كل يوم لإطعامها، مع أن ديليا لم تعد تتعرف عليها. حاولت سونيه الاستعانة بآخرين للعزف على البيانو، لكنها لم تنجح. هذا فضلا عن أنها وصلت إلى مرحلة لم تعد تشرح للطلاب فيها الخطوات عمليا، وإنما تخبرهم بها شفهيا فقط. ومن ثم، رأت أنه قد حان الوقت للتقاعد عن هذا العمل.
اتسمت دوما سونيه بالرزانة وعدم الإفراط في الحديث. وفي الواقع، لم تكن ودودة إلى حد بعيد، أو هكذا ظن كنت. لكنها الآن لا تكف عن الثرثرة سريعا شأنها شأن كل من يعانون الوحدة طويلا. «سارت الأمور على ما يرام عند بدء العمل في المدرسة؛ فقد كانت كل الفتيات الصغيرات متحمسات وقتها للباليه، ثم اختفى كل ذلك فيما بعد؛ فالباليه فن منهجي للغاية كما تعلم. لكنه لم يختف بشكل كامل، ثم في الثمانينيات انتقلت عائلات شابة إلى هنا. كانوا أثرياء على ما يبدو. من أين أتوا بكل هذه الأموال؟ وكان من الممكن تحقيق النجاح مجددا، لكنني لم أستطع إدارة الأمور جيدا.»
أوضحت السبب بأنها ربما فقدت الحماس للمدرسة، أو لم تعد هناك حاجة إليها بعد وفاة حماتها.
قالت: «لقد كنا دائما صديقتين حميمتين.»
بدا المطبخ كحجرة ضخمة أخرى لم تملأها الخزانات والأدوات المنزلية على نحو ملائم. كانت الأرضية تكتسي ببلاط رمادي وأسود ؛ أو لعله أبيض وأسود، وتحول لون البلاط الأبيض إلى الرمادي نتيجة لمياه التنظيف المتسخة. اجتازا معا رواقا تصطف على جانبيه أرفف تصل في ارتفاعها إلى السقف مكدسة بالكتب، والمجلات الممزقة، وربما الصحف أيضا. فاحت من المكان رائحة ورق عتيق للغاية، وكسا الأرضية في هذا الرواق حصير من ألياف السيزال. ومن الرواق دخلا شرفة جانبية حيث تمكنا أخيرا من الجلوس. اشتمل المكان على أريكة وكراسي من الخيزران الأصلي التي كانت ستساوي مبلغا من المال، لو لم تكن متداعية. كانت هناك أيضا ستائر من الخيزران - ليست في أفضل حالاتها - مرفوعة لأعلى أو منسدلة حتى المنتصف، وفي الخارج ضغطت على النوافذ شجيرات لزم جزها. لم يعرف كنت الكثير من أسماء النباتات، لكنه عرف أن هذه الشجيرات من النوع الذي ينمو في التربة الرملية. اتسمت هذه الشجيرات بأوراقها القوية اللامعة؛ إذ بدت وكأنها نقعت في الزيت.
وعند مرورهما بالمطبخ، لاحظ أن سونيه قد وضعت غلاية على النار لإعداد الشاي. ألقت سونيه بجسمها الآن على أحد الكراسي، كما لو كانت سعيدة هي الأخرى بالجلوس أخيرا. رفعت يديها المتسختين ذات المفاصل الإصبعية الكبيرة.
Page inconnue