بدوت مترددا في إلقاء التحية علي؛ لذا قلت لك: «ملك فرنسا السابق أصلع.»
كان هذا هو المثال الذي ذكرته لنا على عبارة ليس لها أي معنى؛ لأن موضوعها لا وجود له. لكنك رمقتني بنظرة اندهاش وحرج، وسرعان ما أخفيتها بابتسامة عملية. ماذا ظننت بي؟
فتاة ذكية مزعجة. •••
آر. ما زال بطني منتفخا قليلا. ليس عليه أي علامات، لكنني أستطيع أن أقبض على اللحم الزائد بيدي. فيما عدا هذا، كل شيء على ما يرام. عاد وزني إلى وضعه الطبيعي أو أقل منه بقليل، لكن مع هذا أعتقد أنني أبدو أكبر من سني، أعتقد أنني أبدو أكبر من فتاة في الرابعة والعشرين. ما زال شعري طويلا غير مصفف على الطريقة العصرية، بل هو في الواقع فوضوي المظهر. هل تركته كذلك لأجل ذكراك؛ لأنك لم تكن تحب أن أقصه؟ لا أدري.
على كل، فقد بدأت أمشي مسافات طويلة حول البلدة على سبيل التريض. اعتدت في طفولتي أن أذهب في الصيف إلى أي مكان أريده. لم تقيدني أي قواعد، ولم أفكر في مراعاة الفروق الطبقية بين الناس. ربما كان هذا لأنني لم أرتد أي مدرسة في هذه البلدة، أو لأن منزلنا يقع خارج البلدة في آخر الزقاق الطويل. خالجني إحساس بعدم الانتماء بينما ذهبت إلى إسطبلات الخيول المجاورة لمضمار سباق الخيول؛ حيث كان الرجال هناك إما مالكي خيول أو مدربين مستأجرين، أما بقية الأطفال الآخرين فكلهم كانوا صبية. لم أعرف أيا من أسمائهم، لكنهم جميعا كانوا يعرفون اسمي. بعبارة أخرى، كانوا مضطرين لأن يتحملوني لأجل أبي. سمح لنا بأن نضع الطعام والسماد خلف الخيل، وكنا نرى في هذا ضربا من المغامرة. ارتديت إحدى قبعات الجولف القديمة الخاصة بأبي، وسروالا قصيرا واسعا. كنا نصعد إلى السطح فيتصارعون ويدفع أحدهم الآخر، لكن لم يقترب مني أحد منهم. وبين الفينة والأخرى، ينهرنا الرجال طالبين منا أن نغرب عن وجوههم، وكانوا يقولون لي: «أيعرف أبوك أنك هنا؟» ثم يشرع الصبية يتمازحون بأصوات كأنهم يتقيئون، وكنت أعرف أنهم يسخرون مني بهذه الأصوات؛ لهذا كففت عن الذهاب إلى هناك. تخليت عن فكرة كوني فتاة الغرب الذهبي . ذهبت إلى المرسى وأخذت أنظر إلى القوارب التي تعبر البحيرة، لكنني لا أعتقد أنني بالغت وحلمت بأن أصبح عاملة على قارب. كذلك فإنني لم أخدعهم ليظنوا أنني أكثر من مجرد فتاة. ذات مرة، مال نحوي رجل وصاح قائلا: «مرحبا، هل نما عليه شعر أم ليس بعد؟»
قلت: «معذرة؟» لم أشعر بالخوف أو الإهانة قدر شعوري بالارتباك من اهتمام رجل بالغ يعمل عملا مسئولا بشعيرات تنمو بين فخذي، ومن اشمئزازه منها كما أوحى لي صوته بكل تأكيد.
تهدمت إسطبلات الخيل الآن، ولم يعد الطريق المؤدي إلى الميناء منحدرا كما كان، وصارت هناك صومعة حبوب جديدة تعمل بالآلات، وتقسيمات جديدة لضواح شبيهة جدا بضواحي البلدات الأخرى؛ ولهذا أحبها الجميع. ولم يعد هناك من يسير على قدميه في الطرقات الآن؛ فالكل يقود السيارات. أيضا تخلو طرقات الضواحي الجديدة من أرصفة للمشاة، والأرصفة الموجودة في الشوارع القديمة لم يعد يسير عليها أحد؛ لأنها مصدعة وغير مستوية بفعل الثلج، بل ومختفية تحت العشب والتراب. انطمر الطريق الطويل غير الممهد الذي تظلله أشجار الصنوبر بطول زقاقنا تحت أكوام من أعواد الصنوبر والشجيرات البرية وسيقان توت العليق البري. على مدى عشرات السنين، كان الناس يسيرون على هذا الطريق ذاهبين إلى الطبيب بعد أن يخرجوا من البلدة سائرين على امتداد قصير لرصيف المشاة على الطريق السريع (لم يكن هنالك امتداد آخر سوى ذاك الذي يؤدي إلى المقابر)، ثم يسيرون بين صفي أشجار الصنوبر في ذاك الجانب من الزقاق. كل هذا لرؤية طبيب يسكن هذا المنزل منذ أواخر القرن الفائت.
طوال فترة ما بعد الظهيرة، كان يرتاد العيادة جميع أنواع المرضى الصاخبين المثيرين للازدراء؛ أطفالا وأمهات وعجائز، أما المرضى الهادئون فكانوا يأتون فرادى في المساء. اعتدت وقتها أن أختبئ بجوار شجرة كمثرى محاطة بمجموعة من شجيرات الليلك لأتلصص عليهم؛ لأن الفتيات الصغيرات يحببن التلصص. اختفت شجيرات الليلك الآن، اجتثت لتسهيل عمل ابن بنت أخت السيدة بي في جز الأعشاب بجزازة العشب الكهربائية. كنت أتلصص على السيدات اللائي كن يتأنقن ، وقتها، لزيارة الطبيب. أتذكر طراز الملابس السائد في تلك الفترة؛ الفترة التي تلت الحرب مباشرة: التنورات الطويلة والأحزمة المربوطة بإحكام والبلوزات الأنيقة - وأحيانا كن يرتدين قفازات قصيرة بيضاء، حيث كانت النساء في ذاك الزمان يرتدين القفازات في الصيف أيضا، ولا يقتصر ارتداؤها على الكنيسة فقط، وكذلك القبعات لم تكن ترتدى في الكنيسة فقط - قبعات الباستيل المصنوعة من القش التي كانت تحدد الوجه، والثياب الصيفية ذات الأهداب البسيطة، من أعلى عند الكتفين في شكل حرملة صغيرة، ومن أسفل حزام يبدو كشريط يلف الخاصرة. وكانت الحرملة ترفرف مع الريح، فترفع السيدة يدها في قفازها المشغول بالكروشيه لتشيح الحرملة عن وجهها؛ وكانت هذه الحركة رمزا لجمال أنثوي يصعب الوصول إليه؛ لحظة تلاقي نسيج الثوب الرقيق بالشفاه الناعمة. ربما كان شعوري هذا نتيجة عدم وجود أم في حياتي، لكنني لم أعرف أحدا له أم تشبه هؤلاء السيدات. كنت أجلس القرفصاء تحت الشجيرات آكل ثمار الكمثرى الصفراء المنقطة وأتطلع غزلا في هؤلاء السيدات.
كانت إحدى معلماتنا في المدرسة تجعلنا نقرأ أناشيد قديمة مثل: «باتريك سبنس» و«الغرابان»، وكان في المدرسة إقبال على تأليف الأناشيد:
أسير في الردهة
Page inconnue