فباليأس يسلو عنك لا بالتجلد
فما أقام إلا خمس عشرة ليلة حتى دفن إلى جنبها.
وقيل في حكاية أخرى إنه اشتاق إليها بعد ثلاثة أيام من دفنه إياها، فقال: لا بد من أن تنبش، فنبشت، وكشف له عن وجهها، وقد تغير تغيرا قبيحا. فقيل له: يا أمير المؤمنين اتق الله ألا ترى كيف قد صارت؟ فقال: ما رأيتها قط أحسن منها اليوم، أخرجوها. فجاءه مسلمة ووجوه أهله، فلم يزالوا به حتى أزالوه عن ذلك ودفنوها. وانصرف، فكمد كمدا شديدا، حتى مات فدفن إلى جانبها.
وقد روى الأغاني أنه لما ماتت حبابة لم يستطع يزيد الركوب من الجزع ولا المشي، فحمل على منبر على رقاب الرجال. فلما دفنت قال: لم أصل عليها، انبشوا عنها. فقال له مسلمة: نشدتك الله يا أمير المؤمنين، إنما هي أمة من الإماء، وقد واراها الثرى. فلم يأذن يزيد للناس بعد حبابة إلا مرة واحدة، ولم ينشب أن مات كمدا.
فليس يشك من هذه الروايات في أن يزيدا كان مخلصا في حبه لهذه الجارية، ولكن ليس هناك ما يدل على إخلاصها. ولو أخلصت لما تركته يستهتر كل هذا الاستهتار، ويهمل شئون الدولة، وربما لو طالت مدتهما معا، لكان يؤدي كلفه بها، ولزومه إياها، إلى خلعه. وليس يقوم الجهل عذرا لحبابة؛ لأنها لم تكن مثل سائر النساء؛ فإن القيان كن يعلمن من الأدب ما ينير أذهانهن في مستوى الرجال معرفة بالتاريخ والأشعار، وكن يتقلبن في مختلف المعايش، فيكسبن بذلك تجارب قد لا يكسبها الرجال.
كثير وعزة
ليس يعرف متى ولد كثير، إنما المشهور أنه هلك في سنة 105 هجرية. وكان شاعرا مغلقا يقرن إلى جرير والأخطل والفرزدق، وكان غاليا في التشيع، يقول بالرجعة والتناسخ. وقد نسبه الأغاني، فذكر من جدوده امرأ القيس البطريق، وهذا يوهم أن أسرته كانت مسيحية قبل أن تدخل في الإسلام. وكان قصيرا دحداحا، وكان مع ذلك من أتيه الناس وأذهبهم بنفسه، قال بعضهم: «رأيت كثيرا يطوف بالبيت، فمن حدثك أنه يزيد عن ثلاثة أشبار فكذبه. وكان إذا دخل على عبد العزيز بن مروان يقول له: طأطئ رأسك لا تصبه السقف.»
وقد نشأ في البادية التي بين المدينة ومكة، ومدح الخلفاء، وجوزي منهم بالتحف والألطاف.
وكانت صاحبته التي كان يشبب بها، وأكثر أشعاره فيها، تدعى عزة. وقد روى القصاص قصته كما رووا سائر قصص المحبين في القرن الأول للهجرة، مثل جميل وبثينة، وقيس ولبنى، بشيء من التزويق والتحشية، حتى صار يشق على الناقد أن يستخلص الحب من العصافة. والعجب في هؤلاء الرواة أنهم يسندون قصة خرافية، لا يمكن أن تصدق، إلى أشخاص معروفين في التاريخ الإسلامي، حتى ليعجب الإنسان كيف وهم يزينون هذه الأباطيل بالأسانيد، ويدعمونها بنسبتها إلى الثقات، نقول كيف يوثق بهم في سائر ما نقلوه إلينا من حوادث التاريخ؟
وكان أول ما عرف كثير عزة، أنه مر بنسوة ومعه جلب غنم، فأرسلن إليه عزة وهي صغيرة، فقالت: يقلن لك النسوة بعنا كبشا من هذه الغنم وأنسئنا بثمنه إلى أن ترجع. فأعطاها كبشا وأعجبته. فلما رجع جاءت امرأة منهن بدراهمه، فقال: وأين الصبية التي أخذت مني الكبش؟ قالت: وما تصنع بها؟ هذه دراهمك. قال: لا آخذ دراهمي إلا ممن دفعت الكبش إليها. وخرج وهو يقول:
Page inconnue